14

9 4 0
                                    

[جودي]

لا أستطيع أن أصدّق ما أراه الآن. إنه حقّا صديق طفولتي، داني، يقف أمامي الآن. أنا و داني كنّا رفيقين منذ أيام المدرسة الابتدائية، و انفصلنا في نهاية المرحلة المتوسطة عندما انتقلت للعيش مع جدتي. لقد كنا نمضي الكثير من الوقت معا. كنت أخبره عن كلّ مخاوفي و كوابيسي و كان دائما بجانبي ليهدأ من روعي و يبدّل خوفي طمأنينة.

"من الرائع رؤيتكِ بعد كل هذه السّنوات. كيف حالكِ؟" نظراته البلهاء إليّ لم تتغيّر قط. "لقد كبرتي كثيرا.." مازال داني يتلفّظ بملاحظات غبيةٍ على ما يبدو.

"أنا بخير.. بأفضل حالٍ." أجبته دون أن أعي أننا محاطون بالعديد من الأشخاص الآخرين. للحظة أحسست بأنني عدت للماضي و غمرني ذلك الإحساس ببعض الحزن و الخوف و المشاعر المرتبطة بزمنٍ مضى..

"دعينا نستدرك ما فاتنا بعد انتهاء الاجتماع اليوم. أنا متشوق جدًّا لذلك." قال لي داني ثم أضاف بصوت مرتفع ليسمعه كل من في القاعة "أنا داني، مدير شركة النّسيج. أشكركم على استقبالنا هنا اليوم، و أتطلّع قُدُمًا لهذه الشراكة المباركة."

"مرحبًا بكم. تفضلوا بالجلوس رجاءًا" قال وائل الذي كان يبدو عليه بعض التّوتر و الانزعاج.

جهّزتُ ملفّ العقد و وضعته أمام وائل و احتفظت بالملفات الأخرى أمامي على الطاولة. قمتُ بإعطاء داني نسخة ثانية من العقد للاطلاع عليه.

تناقش الطّرفان مطوّلا في بنود العقد و في كل خلافٍ كانا يعودان إليّ (أو أحيانا لمحامي شركة النسيج) لفكّه حسب القانون التجاري الدّولي المعمول به حاليا.

انتهى الاجتماع أخيرا بعد قيام كلّ من وائل و داني بالتوقيع على العقد. تصافح المسئولان و تبادلا التهاني..

"بمناسبة هذه الشراكة أريد أن أدعوكم جميعا على العشاء الليلة. هناك مطعم إيطالي رائع قريب من هنا، لنلتقي هناك على الساعة السابعة." أعلن وائل موجها كلامه لداني و محاميه و سكرتيرته، ثم نظر إليّ قائلا "لا تذهبي للبيت بعد انتهاء الدوام، تعالي لمكتبي و سنغادر معا."

غادر داني بعد أن تبادلنا أرقام الهاتف على أمل أن نلتقي لاحقا مساء اليوم لنواصل حديثنا الذي استمرّ وائل في مقاطعته.

"إنها الثالثة الآن، علينا أن نعود للعمل. نراكم لاحقا." قال وائل مودّعا داني و من معه، ثمّ نظر إليّ قائلا "هيا، لنذهب."

"أخيرا وجدتك! إلى أين أنت ذاهب؟" صرخت امرأة خلفنا فتوقّف وائل فورا و علامات الفزع و الاشمئزاز باديةٌ على وجهه. استدرتُ تلقائيا نحو صاحبة الصوت و فوجئت لكونها تلك الآنسة التي اصطدمت بي سابقا اليوم.

"ما الذي تريدينه مني؟ أليس لديكِ عمل لتقومي به؟ لماذا تلاحقينني طوال اليوم؟" كان وائل منزعجا جدّا، لذلك قرّرتُ أن أواصل سيري و أن لا أتدخل في أمورهما الشخصية، لكنه أوقفني "انتظري جودي، أنا قادم معكِ."

"أيّتها الوقحة" سارت صاحبة اللسان السّليط نحوي "ارحلي من هنا فورا إن كنتِ تريدين الاحتفاظ بعملك!"

لم أكترث لتهديداتها تلك لأنّني حقا لا أهتمّ إن كانت قادرة على طردي من هذه الشركة.

"هل تهديد العمال بطردهم يمنحك الشعور بالرضا عن نفسك؟" ردّ عليها وائل. "لكن ما لا تعرفينه هو أنك لا تملكين الصلاحيات الكافية لطرد جودي من عملها."

"ما الذي تتحدث عنه؟ يمكنني أن أطرد من أشاء..."

"لماذا لا تسألين والدتك إذن؟" ختَمَ وائل كلامه و سحبني من يدي نحو المصعد. لا أعلم عمّا كانا يتحدثان أو من كانت تلك المرأة الوقحة، لكنّني كنت متأكدة أنني على الأقل لن أُطرد من الشركة اليوم..

جمعتُ كل الملفات المتعلّقة بالاجتماع مِن على مكتبي و حفظتها في أدراج الأرشيف. لم يتبقّ لي أي عملٍ لهذا اليوم. استرخيت قليلًا و استغرقتُ في التفكير..

لطالما حاولت جاهدةً أن لا أفكّر بتلك الكوابيس التي تراودني كل ليلةٍ و تعكّر نومي.. تجاهلتها لمدّةٍ طويلةٍ و لم أُعِرها أي اهتمام. لكن هذا لا ينفي وجودها و لا يجعلها تختفي. ربّما لأنّني لا أستطيع البوح بها.. لأنّني أعتبرها لطخةً سوداء لا يمكن لأيّ أحد سواي أن يراها. كتمتُ كل تلك الآلام و الأحزان و المخاوف في داخلي و لم أسمح لها بالظّهور علنًا.. ارتديتُ قناعًا لأخفي بشاعة ماضيَّ و مضيتُ قُدُمًا نحو مستقبلٍ مجهول كلّيّا.

ظهور داني فجأةً اليوم جعلني أفكر في كثير من الأمور. أمورٌ كنت قد دفنتها عميقا في داخلي و حاولت أن لا أتذكّرها أبدا. لقد كان داني شخصا مقربا جدا بالنسبة لي، لكنّه بالرّغم من ذلك لم يعلم سبب رحيلي المفاجئ منذ سنوات.

راسلتُه عندما رحلتُ و أخبرته أنّ والداي قد قرّرا إرسالي للرّيف فجأةً لكي أعيش مع جدّتي، لأنّها وحيدة و ليس لديها أحد يهتم بها. كانت تلك كذبةً بيضاء لأتهرّب من مصارحة داني بالحقيقة المرّة. غيّرتُ بعد ذلك رقم هاتفي و قطعت الاتصال بصديقي الوحيد بدون وداعٍ لائق. قطعتُ كلّ صلةٍ لي بالماضي أيضًا، بمنزلنا القديم المليء بالذكريات الحزينة و المؤلمة.. رحلتُ تاركةً كل شيء هناك إلّا كوابيسي التي ظلّت تلاحقني حتى اليوم...

طَرقاتٌ خفيفةٌ على الباب جعلتني أعود للحاضر.. نسيتُ تمامًا أنني هنا في مكتبي، جالسةٌ على هذا الكرسيّ المريح و غارقة في بحرٍ من الذكريات. بعد لحظاتٍ طلبتُ من الطارق الدخول بصوتٍ خافتٍ غير مسموعٍ و ضعيفٍ.. أنا كنت حقًّا أشعر بالضّعف الشديد. ذلك العبء الذي أحمله، ذلك الماضي، تلك الكوابيس، كلّ ما يحيط بي يشعرني بالضّعف.

فُتِح الباب و ظهر من خلاله رجلٌ طويل القامة عريض الكتفين يرتدي بذلةً زرقاء قاتمة اللون. وقعت عيناي على حذاءٍ أسود لامع يسير نحوي ببطء فانتابتني نوبة من الفزع.

'يبدو أنني لا أستطيع الانسجام مع الواقع بعد.. إن كان هذا كابوسا، فأنا أريد أن أصحو الآن!!'

"جودي! جودي!" هذا صوت وائل.. نعم إنه وائل..

"نعم.. آسفة. لقد كنت غارقة في أفكاري. لم ألحظ وجودك هنا." كيف أخلط هكذا بين الواقع و الخيال؟ لم أكن نائمةً حتّى و لم يكن هذا كابوسًا. لقد كنت أنظر إليه عندما عبر الباب، إلّا أنّني ظننته شخصا آخر، من عالم و واقع آخرَيْن...

"هل أنتِ بخير؟ لقد أرهَقتُك اليوم بالعمل.. آسف." قال وائل بلطفٍ شديدٍ و ابتسم، بادلته الابتسامة و طمأنته.

"أنا بخير. لا داعي للاعتذار يا سيدي، كل ما فعلتُه اليوم هو جزء من عملي فقط."

"وائل.. نادني وائل." اختفت ابتسامته و قال مصحّحا. "هيّا لنذهب الآن، ضيوفنا في انتظارنا."

حكايات منتصف الليل [Midnight Tales]Where stories live. Discover now