45

10 2 0
                                    

[جودي]

"لن يستطيع أي شخص أن يبعدكِ عني مجددا.." استلقيت بجانب أمي على فراش ناعم، اقتربت منها بحذر و كأنها قد تختفي فجأة، و ارتميت في أحضانها و استنشقت عطرها و أخبرتها كم اشتقت إليها.

"ألم تفتقديني أنت أيضا يا أمي؟" سألتُ حين تبين لي أنها لم تكن سعيدة لرؤيتي مجددا. "تكلمي معي أرجوك. أريد سماع صوتك فحسب.."

قامت بدفعي بعيدا عنها و أشارت إليّ بالرحيل.

"هل هذا كل شيء؟ لقاء صامت و حضن بارد؟ هل تكرهينني أنت أيضا؟ لهذا رحلت و تركتني وحيدة؟ لهذا لم تفكري كيف سأعيش بعدك؟ هل أنا ابنتك حقا؟" انهمرت دموعي رغما عني و بكيت بحرقة.. خارت قواي فوقعت أرضا و استمريت في البكاء كالأطفال..

كالحلم، اختفت أمي التي كانت واقفة أمامي منذ لحظات و بقيت وحدي من جديد. و لأن الأموات لا يعودون، جئتُ إليها بنفسي لكنها هجرتني ثانية.. هجرتني و كأنني لا أعني لها شيئا أبدا..

كان الأمر مزعجا في البداية.. حياة جديدة برفقة جدتي في مكان غريب حيث انتقلت حديثا. مدرسة جديدة و وجوه غير مألوفة، كنت وحيدة تماما لكنني لم أكن مستعدة لتكوين صداقات. تكون البدايات دائما متعبة و التقدّم بعدها يكون بطيئا و مزعجا و في كثير من الأحيان قد لا يحدث أي تطوّر أبدا.

مرّت الأيام و الأشهر و السنين و بقي كل شيء على حاله. أكملت المرحلة الثانوية و انتقلت إلى الجامعة و كان عليّ أن أحظى ببداية أخرى جديدة. كان انتقالي للمدينة عشوائيا و غير مخطط له إذ رحلت فجأة تاركة خلفي كل شيء.. إلا ذكرياتي الحزينة فقد كانت تلاحقني أينما ذهبت.

تغيرت الكثير من الأمور عندما انتقلت للعيش في المدينة فقد أصبحت لأول مرة مسؤولة عن كليا عن حياتي.. و لأول مرة أيضا اكتشفت أن حياتي بلا قيمة و لا معنى. بالرغم من ذلك قررت أن أستمر في العيش بهدوء و بعيدا عن العالم. قررت أن استأجر غرفة صغيرة بالقرب من كلّيتي و أن أبحث عن عمل بدوام جزئي لكي ألبّي احتياجاتي و أدفع فواتيري. كنت في الثامنة عشر حينها لكنني بدوت أصغر من سني فامتنع العديد من الناس عن توظيفي.

خلال أوّل شهر لي في المدينة، فقدت الأمل و كل رغبة لي في مواصلة الكفاح، لكنني لم أستسلم و قررت الاستمرار. لم تدم حماستي طويلا فقد اكتشف والدي الذي هجرني منذ سنوات أنني الآن وحيدة في هذا العالم المخيف فسنحت له الفرصة حتى يتقرب مني. و لأنه شخص ماكر، كنت أحترس منه كثيرا. لا أدري ما الذي دفعه للبحث عني و مراقبتي باستمرار و حتى اختطافي أحيانا.. كنت أعاني كثيرا كي أبقى خفيّة عن أعين جواسيسه.

ككلّ بداية، كانت الجامعة مكتضة بالوجوه غير المألوفة لكنني لم أعد أبالي، فأنا أساسا لم أعد أذكر أي وجه مألوف منذ زمن. اختفى جميع من عرفتهم من حياتي و صار العالم مليئا بالغرباء. لذلك لم أكن أبالي عندما أجلس وحيدة على المقعد الأخير  في قاعة المحاضرات أو حين أسير وحيدة نحو غرفتي المظلمة و الباردة مساء بعد انتهاء الدوام.. كل هذا كان شيئا عاديا بالنسبة لي.

حكايات منتصف الليل [Midnight Tales]حيث تعيش القصص. اكتشف الآن