|||01|||

3.4K 229 25
                                    


كانت تمُوج، يمينا ثم شمالا ويمينا ثم شمالا وإلى الأمام -أو ذلك ما تخيّلت أنه الأمام، فوضعيّتها الحاليّة بالنسبة لما حولها مازالت لغزا لها.

حين فتحت عينيها قابلها السواد التامّ ؛ لم تُميّز أي شكل من السقف أو السماء التي فوقها لدرجة أنها شكّت في فقدان بصرها، لكن حركة بسيطة من ذراعها للأعلى أكّدت لها أنها ما زال بإمكانها الرؤية وأظهرت لها أن بشرتها تتوهّج وسط تلك العتمة.

نظرة أخرى لجسدها بيّنت أنه يتوهّج أيضا تحت الثوب الناصع الذي غطّاها من صدرها حتى قدميها.

تبادر إلى سمعِها صوت مياه تلطم سطحا صلبا مرارا وتكرارا، وتماشى ذلك مع تموّجها فعرِفت أنها على متن قارِب ما.

ببطء رفعت نفسها ممسكة بحافّته ثم قلّبت عينيها بحثا عن أي شيء يُلمّح لها أين هي مُتّجهة، لكن لا شيء غير الظلام الدامس، ولسبب ما، كانت خائفة من النظر وراءها.

ريح باردة داعبت خصلاتِها فلاحظت هيئة ما في الاتجاه الذي صدرت منه، إلا أنه لا مجال لها لتخمين ما هيّتها لمدى بُعدها عنها.

أمضت لحظات في هدوء تامّ، لا يملؤها غير زفير الهواء وصوت الماء، إلى أن استيقظت غريزتها ودفعتها للالتفات خلفها حتى تعرِف ما الكيان الذي معها. ويا ليتها لم تستيقظ...

كان موشّحا بالسواد لا يظهر من جسده أو ملامحه شيء، يرتدي ثوبا حالِكا يُغطّيه بأكمله وينبعث منه ضباب باهت كنفس دافئ في يوم بارِد.

لم تجرؤ على التحدّث معه -لم تدري إن كان يملك تلك القدرة أصلا- فقط اكتفت بالتحديق فيه بينما حرّك ذراعيه ليُجدّف بعصا طويلة يقود القارب نحو وجهة مجهولة.

العديد من الأسئلة راودتها؛ أين هي الآن؟ كيف وصلت إلى هناك؟ ماذا حدث قبل ذلك؟ وإلى أين يأخذها هذا المخلوق المُريب؟

لقد تعلّمت عدم الانصياع للحياة والتساؤل عن معنى كل شيء... لكن فيما سيُفيدها هذا إن لم تُسيطر على قدرِها؟

لمُدة -ثوانٍ كانت أم أبديّة، لا مجال لها لتعرِف- بقيت على تلك الحال إلى أن اصطدم القارب بجسم صلب أجبره على التوقف عن الحركة وأعاد انتباهها للأمام أين انتصب على الرمال السوداء عمود مُشتعِل بنار زرقاء.

لم ينطق المخلوق لكنّها عرِفت أن هذه هي محطّتها.

حاولت الترجّل وكادت تقع في المياه الباردة فظهرت يد من العدم تشبّثت ثم سارت بها إلى الشاطئ بخطوات شبه ثابتة.

حين وقفت أخيرا على أرض مستوية، نظرت إلى صاحبها فاستقبلها بابتسامة عريضة تكشِف عن أنيابه الحادّة.

«ه-هذا أنتْ!».
نطقت مُتفاجئة.

«أجل. أهلا بكِ في بيتك، آسترايا».
وشبك ذراعيهما ليقودها وسط الطريق الذي أنارته الأعمدة التي اشتعلت للتوّ.

وجوده كان مختلِفا هذه المرة، ليس سرابا كما تعوّدت في أحلامها، بل كيانٌ عظيم القوّة موجود بهيئة ملموسة حقيقيّة يُبهِرها ويُسيطر على كافة أحاسيسها حتى أنها نسيت بلل ثوبها وبرودة الرمال تحت قدميها الحافيتين.

«ما هذا المكان؟».
طرحت أحد أسئلتِها.

«خمّني».
أجابها بغموض وخطا إلى صخرة مرتفعة بعض الشيء وهي تتبعه.

الضباب الذي كان يُشوش تفكيرها بدأ ينقشع تدريجيا لتُحاول التخمين كما أمرها.

هي في مكان مظلم مع سيّد الظلام، هناك برودة غير شديدة وهدوء طاغٍ حتى أنها لا تسمع دقّات قلبِها... ولا أحد هنا.

«ع-عالم الأموات...؟».
اهتزّ صوتها صدمة ورهبة من استنتاجها.

«أُفضّل اسم "العالم السفليّ"، أنسب وأكثر غموضا».
ورفعها إلى صخرة أخرى فأخرى حتى وصلا إلى مسار مستوٍ ثم سلالم متعددة.

«ماذا أفعل هنا؟ لقد كنتُ في... الحديقة الملكيّة! لِيو! ميكا! ماذا حدث لهما؟».
تذكّرت فجأة آخر ما حدث لها قبل أن تصل للقارب فهلعت خوفا على صديقها وتوأمها، لكنه لم يسمح لها بالتوقف وواصل المسير بثبات.

«لم يُصِبهما شيء، أنتِ فقط من يهمّني».
قلَب عينيه على انفعالها.

«ماذا تقصد؟».
استفسرت بقلق لكنه لم يُجبها.

كانا قد وصلا لنهاية الدرج وإلى غرفة دائرية واسعة، جُدرانها الزجاجية عكست صورتهما بينما سارا إلى المنتصف أين توضّع سرير كبير.

وقفا إلى جواره وجعلها تنظر إليه بوضع وجهها بين إبهامه وبقية أصابعه ثم انحنى لمستوى طولِها.

«أنتِ آسترايا، حاملة نور النجوم ؛ كل الآلبستارز الذين كانوا على الأرض هم حاليا بداخِلك ولهذا تتوهّجين وسط ظلام العالم السفليّ. أما عن سبب وجودك هنا، فقد أصبحتِ منارة تستقطب الأرواح لذا تنتمين هنا بالتحديد كي تُرشديها إليّ».
تفسيره زاد من فضولها لكنه لم يُضِف إليه حتى يُجيب بقية أسئلتِها.

«نامي الآن».
وبذلك دفعها برفق على السرير لتُغمض عينيها قبل أن يلمس رأسها الوسادة وتغطّ في نوم خالٍ من الأحلام.

----

----

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.
سِيلا ✓حيث تعيش القصص. اكتشف الآن