9 - حكايات ليلية

3.5K 284 69
                                    


إذا انقشع السحاب عن وجه البدر، وبدت نجوم أكثر من أن تعد، كل ما تحتاجه، رفيق رقيق يسليك في ليلتك
*******

عاد ثلاثتهم إلى منزل الفاروق وبعد أن تنازل بهاء عن العشاء عاد إلى شقته التي تقع على أطراف العاصمة المسماة بـ(الزهراء)، أمّا البقية، فتناولوا عشاءهم بتعب وإرهاق، خلد كُلًّا من الفاروق وبولس إلى النوم أما كين فلم يغمض له جفن.

بعد أربع ساعات بطيئة وثقيلة من ذلك، نهض الفاروق من فراشه، فسأله كين: لم استيقظت؟ إن الليل لا يزال في الخارج.

أجابه الفاروق وهو يتثاءب: أنت تعلم، لقد عشت في حرب لمدة أربع سنوات، وهذه المدة كفيلة في جعل أعتاد على النوم القصير، بالنسبة إليّ فقد نمت كفاية، ماذا عنك كين؟ لِمَ لَم تنم؟ أهناك أمر يشغل عقلك؟

قال كين بعينين حزينتين: نعم، الكثير في الحقيقة.

أخرج الفاروق زجاجة حافظة للحرارة بدت بدائية سكب كوبين من القهوة، ثم جلس على الأرض بجانب كين متدثرا بغطاء من الفرو، قال وهو يشارك كين الغطاء ثم يعطيه كوب القهوة خاصته: أخبرني عنها.

قال كين ببطء وهو يهز كوب القهوة: إحداها، الأغنياء.

ارتشف الفاروق رشفة من قهوته ثم قال: ما بهم؟
- إنهم كُثُر.
- وهل تلك مشكلة؟
- مشكلة عظيمة، حيث أنني منهم مذ كنت صغيرًا، أنا أملك كل شيء، أملك الألعاب والخدم والمال، لكنني لا أشعر بالسعادة.

"أبي دائم الانشغال، وأمي أيضا، إنها لا تنفك عن الذهاب مع صديقاتها لمختلف الأماكن، وحينما كنت في السابعة أو الثامنة كان الجميع يقول لي: أنت محظوظ، يال سعادتك، أتمنى لو كنت مكانك، لكنني.." سكت قليلا ثم قال: لم أفهم يومًا مقصدهم.

كان الفاروق ينصت بصمت فقال: أتعرف لم؟

- لأنني استطعت أن أرى ما خلف تلك الأقنعة المزيفة، ما خلف ذلك البرزخ المصنوع من الأموال، أبي فاقد العقل جرّاء الشراب، أمي المتوترة، الشجارات التي تحصل بينهما، كانوا يغرقون في الأموال والأموال ويجعلونها الصورة التي تعكسهم في المجتمع، سعداء، تلك هي الصورة.

أمّا في وسط هذا، كنت أنا أعيش، خلف اسوار باحة قصر والدي، وفي أحد الأيام، اجتزت تلك القضبان الحديدية.

ركضت بأقصى ما لدي، ركضت وركضت، حتى وصلت إلى المتنزّه، حينها التقيت بولس وكاكاو.

كان بولس مبتسما، بينما أنا، لم يكن لدي أي معنى عن تلك الابتسامة.

جلست على إحدى المقاعد لدقائق وبينما كان بولس ينظر إلى قلت له بعصبية: أنت، العب معي.

سكت قليلا ثم أكمل بابتسامة: بولس ذلك الأبله، كيف له أن يوافق على اللعب مع شخص عرض عليه ذلك بتلك الطريقة، ألم يفكر بأنني قد أتسبب له ببعض الأذى؟

لعبنا معا قليلا وحينها خطرت ببالي فكرة، لم لا أجعله صديقي؟ وحينها سيكون ملكي، قلت بكل ما أوتيت من قوة: أيمكننا أن نصبح أصدقاء؟

رغم أنني استنفدت كل شجاعتي في تلك العبارة إلا أن بولس فاجأني برده البسيط، نعم.

سكت كين لوهلة ليرتشف شيئا من قهوته ثم قال: اقترحت على بولس الذهاب لركوب الدراجات، فوافق على الفور، لا زلت أذكر كيف كانت نظرته عندما أخرجت تلك البطاقة الائتمانية الذهبية للبائع حينما قررت أن أشتري دراجة لي ذلك اليوم.

ركب بولس دراجته ببساطة بينما تسمرت أنا في مكاني، سألني بولس عن السبب فقلت، ساعدني على الركوب.

لم يخطر لبالي يوما أن الأشخاص قادرون على ركوب الدراجة بدون مساعدة أحد، تنهد بولس وانحنى ليثبت لي الدراجة لكنني أخطأت الفهم فقمت بالصعود على ظهره ثم على الدراجة، اعتقد أن ذلك هو سبب قول بولس أنني كنت أعامله كخادم.

ضحك الفاروق من قول كين ثم قال: هذا مثير أكمل.

أكمل كين: لم نلعب طويلا فقد عثر علي خدم أبي بكل سهولة، ورغم أنني نلت توبيخا كبيرا على ما فعلت لكنني لم آبه، لقد تعرفت على الحياة الطبيعية للتو.

كنت قد نسيت ما يحدث في منزلي لكن الشجارات المتكررة أعادتني إلى صوابي، في ذلك اليوم فهمت، أن العالم الخارجي مختلف عما يكون في داخل أسوار ذلك القصر.

فتمنيت، تمنيت أن يفنى كل الأغنياء والمتكبرين في هذا العالم وإلى الأبد.

قال الفاروق بنبرة عميقة: أعتقد أن هذا سيحدث.

صرخ كين: لكنهم موجودون منذ الأزل لا يمكن أن يفنوا، لا يمكن.

قال الفاروق بهدوء: سيستيقظ بولس اهدأ.

هدأ كين قليلا فقال الفاروق: قبل آلف السنين، وقبل الكثير من القرون، في مصر القديمة، عاش شخص يدعى بقارون، كان ذلك الشخص، يملك من الأموال ما لم يملكه غيره في ذلك الزمان، وفي كل يوم كان يخرج ليتفاخر بما عنده من أموال، أما الناس فقد اختلفوا وتفرقوا إلى فريقين، أشخاص تمنّوا ما عند قارون وأناس آمنوا بالله وعرفوا أن الله لن يهمله بل أنها مجرد مهلة يختبره بها، وفي أحد الأيام، استيقظ الناس ليجدوا أن القصر قد اختفى وحلت مكانه حفرة عميقة، أدركوا أن الله قد خسف به وبداره الأرض، كان الله قد عاقبه.

ابتسم كين وقال: أتمنى أن يحدث هذا لكل الأغنياء في هذا العالم.

أنهى الفاروق قهوته فوقف ونفض الغبار عن ملابسه وقال: لقد حدث للكثيرين بالفعل.

سأل كين: وكيف تعرف عنهم؟

قال الفاروق: القرآن والسنة ولا شيء غيرهما.

قال كين بتردد: وهل .. تحكي لي المزيد بعد قليل؟

ابتسم الفاروق وقال بمرح: نعم، كلانا لن ينام على أية حال.

أعد الفاروق له قهوة سوداء أخرى ثم بدأ يقص على كين قصص الأنبياء والرسل، ولم يتمكن كين من عدِّ أكواب القهوة التي شربها الفاروق.

*******

بلانسياWhere stories live. Discover now