الزهرة الرابعة و الستون : الوَطَنُ.

406 49 5
                                    

عندما أدركَ نفسهُ كانَ الهدوءُ يُهيمنُ على محيطهِ، لا شيءَ سوى صوتُ تدفقِ المياهِ يتخللُ مسامعهُ، فتحَ عينيهِ البنفسجيتينِ بصعوبةٍ و أولُ ما أبصرهُ هوَ تلكَ السماءُ الرماديةِ المشبعةِ بالسحب، اعتدلَ في جلوسهِ متمسكًا برأسهِ و جالَ بنظرهِ في المكانِ بهدوءٍ، خلفهُ تلكَ الشجرةُ سوداءُ الجذعِ حمراءُ الأوراقِ ذات الجذورِ العريضةِ و التي يجلسُ على أحدها و حولهُ تلكَ البحيرة حمراءُ اللونِ تكادُ تمتدُ حتى الأفقِ لولا تلكَ الغابة التي تحدها و الجبالُ خلفها، و على إحدى ضفافها قلعةٌ رماديةٌ داكنةٌ على الطراز الغربي فأخذَ يتأملها بشرودٍ و قد مرّ شريطُ ذكرياتهِ السعيدةِ منها والحزينةِ داخلَ جدرانها

التفتَ نحوَ تلكَ الجنيةِ الصغيرةِ التي تنامُ قربيًا منهُ فأخذَ يهزُّ رأسها بسبابتهِ قائلًا : استيقظي ميرا.. حانَ وقتُ الذهاب.

اعتدلت ميرا بدورها لتتثائبَ بينما تفركُ عينيها الناعستينِ ثُمَ حَلقت تنظرُ إلى المكانِ حولها عَن كثبِ فقالت : أهذهِ بحيرةُ الدم، إنها تبدو أغربَ على أرضِ الواقع !.

همهمَ راين مجيبًا بينما يغمرُ يديهِ في تلكَ البحيرةِ مشكلًا بهما كأسًا بينما أردفت هيَ : و شجرةُ الدمِ أصغرُ من الشجرة العظيمة بكثير معَ أنها كبيرة...

رفعَ راين كفيهِ المليئان بالدماءِ مقربًا إياهما من فمهِ فردَّ موافقًا : معكِ حق...

ارتشفَ من تلكَ الدماءِ جرعة تلوَ الأخرى دفعةً واحدة ثُمَّ زفرَ بعمقٍ قائلًا : تبًا !، أشعرُ و كأنني عدتُ إلى الحياة !

ميرا : أيكفيكَ هذهِ الكمية الصغيرة ؟، بعدَ كُلِّ تلكَ المدةِ دونَ دماء ؟.

أجابَ : ليسَ هُناكَ متسعٌ منَ الوقت... الأولوية لبياتريس !.

زفرت ميرا بقلةِ حيلةٍ ليردفَ : لا بأس، سأشربُ بالقدرِ الذي أشاءُ داخلَ القلعة !.

ميرا : ماذا عن والدك ؟.

زفرَ بضيقٍ ليجيب : لنأمل أن لا يكونَ هُناك فقط.

ابتسمَ لها مردفًا : اجلسي على كتفي ميرا.

استجابت ميرا مِن فورها فتلولبت الرياحُ حولَهُما لتتكثفَ تحتَ قدمي راين رافعةً إياهُ إلى الأعلى فحلقا وصولًا إلى القلعةِ فهبطَ راين أمامَ جدرانها

حدقَ راين بها مجددًا ليهمسَ لنفسهِ قائلًا : لَم تتغير و لو قليلًا هاه..

هوَ بللَ شفتيهِ مزدردًا ريقهُ بينما قبضَ كفهُ بشدةٍ لتلاحظَ ميرا قبضتهُ المرتجفة فحلقت نحوها تمسكُ بها بيديها الاثنتين

حدقَ بها راين بدهشةٍ لتقولَ هيَ : ابذل جهدكَ !.

ابتسمَ لها ليسحبَ كفهُ من بينِ كفيها بهدوءٍ ثُمَّ يربتُ على شعرها بسبابتهِ هوَ همسَ محدقًا بوابةِ القلعة قائلًا : حقًا عليَّ شكرُ الشخص الذي استبدلَ الحراس بجهاز الحراسة.

أحنت ميرا راسها إلى الجانبِ قائلة : لِمَ ؟.

ابتسمَ راين بهدوءِ لتعصفَ الرياح أعلى البوابة مدمرَةً تلكَ البلورات التي تطفو فوقها قائلًا : لأنهُ يسهلُ تعطيله !.

فزعت ميرا قائلة : مـ مهلًا لو انكسرَ هذا الشيء سيطلقُ إنذارًا !!

رغمَ هذا لَم تُكسر البلورات فحدقت بها بتعجب ليجيبَ راين : تعطيله !، لا تدميره، كيفَ بحقِ الجحيم تظنينَ أني نجحتُ في التسلل من القلعة كُلَّ ليلةٍ عندما كُنتُ طفلًا ؟.

مدَّ يديهِ نحوَ قضبانِ البوابة الحمراء بترددٍ بينما يزدردُ ريقهُ تباعًا و ما إن كادَ يلمسها حتى استوقفتهُ ميرا محذرة : مهلًا !.. أواثقٌ أنتَ كونَ أختكَ لن تكونَ كأخيها ؟.

ابتسمَ راين مجيبًا : لا بأس.. لا ماري و لا لوكا أشخاصٌ سيئون.

أمسكَ راين بأحدِ القضبانِ يدفعُ البوابةَ إلى الأمامِ ببطءٍ لتصدرَ صريرًا عاليًا، أخذَ نفسًا عميقًا و حدقَ بتلكَ الحديقة التي تلونت بورودٍ بيضاء، حمراء و سوداء فعضَّ على شفتهِ السفليةِ متحاملًا على نفسهِ

قالت ميرا مهونةً : راين.. هذهِ الزهور و تلكَ الزهور أمرانِ مختلفان تمامًا.

رفعَ أسنانهُ عن شفتهِ فاتحًا فاهُ قليلًا فازدردَ ريقهُ ليقولَ بصوتٍ مرتجف : معكِ حق.. أجل..

دخلَ القلعةَ بخطواتٍ بطيئة متوجهًا نحوَ غرفتهِ السابقة، دفعَ ذلكَ الباب البني ليطلَ على تلكَ الغرفة سوداء و ذهبية التصميم

قالَ : لَم أتصور أن تكونَ نظيفة بهذا الشكل...

خطا إلى الداخل و أوج من الذكريات يجتاحُ عقلهُ، وقفَ أمامَ السريرِ يتلمسهُ متذكرًا حينَ أفاقَ بعدَ تلكَ المأساة التي حلت بتلكَ القرية و وجود أليكسي قربهُ، توجهَ نحوَ ذلكَ الدرج الذي فتح قبلَ مائةٍ و تسعةٍ و عشرونَ عامًا و حملَ تلكَ السكين الفضية نفسها التي حملها قبلا بنيةِ إنهاء حياتهِ و هو يفكرُ كم أنهُ كانَ محظوظًا بوجودِ أليكسي وقتها ليمنعهُ عن ذلك، وضعَ السكينَ مكانها متلمسًا سطح المكتبِ بشرودٍ حتى انتشلهُ صوتُ صريرِ الباب يفتحُ من شرودهِ معيدًا إياهُ إلى الواقعِ، التفتَ إلى البابِ فإذ بهِ يبتسمُ بلطفٍ فورَ رؤيتهِ لمن يقفُ على عتبتهِ

flores pueblo - قيد التعديلWhere stories live. Discover now