"مقدمة إفتتاحـية"

76K 1.5K 95
                                    

- مُـقدمة إفتتاحـية :-

رحلتي كانت قاسية للغاية، وإقامتي على الأرض لم تكن سوى أحد معاني التعاسة.. كُنت أُشبه نفسي دائمًا بدُميتي التي لا تتحرك سوى بين أصابعي، لا حركة لها إلا بـ إرادتي.. وأنا أيضًا كنت هكذا، لا حراك لي سوى بين أيديهم.. لُعبة، ولكنها تحيا وتتنفس.
_________________________________________

إننا نتحدث عن ليلة قام بها إعصار شديد ضرب المدينة وجعل زواياها وقلبها گقطعة من العجين الليّن.. هطلت الأمطار الرعدية بغزارة، حتى أن هيئة الأرصاد قد أشادت للمواطنين بـ التزام المنازل لعدة أيام لـ استمرار العاصفة.. ولكن حظهِ العَثر إنه عاد لأرض الوطن أخيرًا قبيل أن تتوقف حركة الطيران في الدول المجاورة أيضًا ولكنه تعطّل بـ إجراءات المطار الروتينية المملة..
كل ذلك لم يساوي شيئًا في ناظره وهو يعلم إنه سيرى زوجته وابنته الوحيدة بعد غياب دام عام ونصف خارج البلاد من أجل العمل والكفاح وكسب المال، ترى هل كبرت طفلته كثيرًا عن آخر مرة رآها فيها؟.. يتوق لرؤية ملامحها، كم تغيرت؟.. وزوجته الحبيبة، الفترة الأخيرة كانت فاترة وجافة للغاية بسبب غيابة المستمر عنها منذ أن تزوجا، لا يعيش معهما سوى أيام وأسابيع ثم يعود للسفر والغياب مرة أخرى، لذلك قرر إنها ستكون العودة الأخيرة، وقد حزم أمتعته وأعدّ نفسه على هذا الأساس.. على أن يكون في مصر منذ الآن وللأبد.
جلس في سيارة الأجرة التي كانت تتحرك ببطء وقد ارتفع منسوب المياه، ينظر كل بضع دقائق لساعة اليد مشتاقًا ملهوفًا.. حتى دخلت السيارة لأحد الأحياء الشعبية وبدأت تشق شارع خلف الآخر لتصل إلى البناية العتيقة التي يمتلكها "إبراهيم الجبالي" وشقيقهِ "حسن الجبالي" گورثة شرعيين بعد وفاة والدهم "حماد الجبالي".
ومن بعدها استقر فيها "إبراهيم" مع زوجته وابنته بينما اتخذ "حسن" لنفسه مسكن آخر يبعد عن الحي الشعبي الذي لم يطيق بتاتًا المكوث به بعد أن تزوج بـ إحدى فاتنات الطبقة المخملية، والتي أنجبت له من الذكور اثنين تؤام، فـ اختار الإبتعاد عن الحي وعن أهله وأقاربه في سبيل نيل رضاها ورضا عائلتها العريقة التي لم ترى "حسن" لائقًا بهم أبدًا، ولكن ابنتهم تحبه، فـ أُجبر الجميع على تقبلّه.

ترجل "إبراهيم" عن سيارة الأجرة بعدما أعطى للسائق مبلغ وفير.. ودفع الباب الحديدي ببطء كي لا يصدر صريرًا فـ تشعر به زوجته، صعد الدرج ووقف يخرج مفاتيحه.. فتح الباب بحرص شديد، وقبل أن يهمّ لإدخال حقائبه استمع صوت ذكوري خشن.. أنقبض قلبه وخطى للداخل وهو يحاول تدقيق مسامعه ليصدق حدسهِ، كان صوته يأتي من المرحاض.. بينما كانت زوجته في غرفة نومهم، وقف على مقربة منهم يراقب ما يحدث بـ أعين مصدومة بعيدًا عن محطّ أنظارهم ، حتى وجد الرجل يخرج شبه عاري وتستقبله زوجته بالمنشفة.. فـ أنحنى ينهال عليها بقُبل عديدة وهو يداعبها بكلماته الإيحائية، فخرجت منها ضحكة مرتفعة ليسحبها هو من بعدها إلى الغرفة ويصفع الباب.
تمسك "إبراهيم" بالعمود لئلا يخور ويسقط فاقدًا وعيه بسبب أزمة قلبية سيعاني منها من فرط الصدمة، ولكنه سقط في الأخير رويدًا رويدًا وقد انحنى ظهرهِ گالذي يحمل العار على كاهله، أحس بسنوات حياته التي أفناها من أجلها ومن أجل ابنتهم قد تناثرت في الهواء وأصبحت هباءًا لا معنى له.. وكلما تعالى صوتهم وضجيجهم، كلما تحممت دمائهِ وغلت وكأنها ستنفجر.
زحف "إبراهيم" على الأرضية حتى وقف على ساقيه، وانتقل نحو الباب، خرج منه وأغلقه بهدوء، ثم بدأ بنقل أشيائه وحوائجه للطابق العلوي، حيث كانت شُقة والده الراحل والتي بقيت كما هي بفراشها وأثاثها القديم.. ترك أشيائه ودلف للمرحاض متعجلًا، وضع رأسه أسفل صنبور المياه لتبرد، ولكنها لم تهدأ، بل ازدادت سخونتها وصوت ضحكاتها ترن في آذانه گأنها أبواق مزعجة تصيب الأذن بالصمّ.. ابتعد عن المياه وهو يلهث وخرج مسرعًا منتويًا على فعله شنيعة گفعلتها، ولكنه وجد إضاءة أحد الغرف مفتوحة وطفلتهم تنام على الفراش.. ارتجف قلبه، ودخل بـ رويّة ليجدها تغوص في سبات عميق، مدّ يده المبتلة ومسح على شعرها وهو يرتجف.. وجلس بجوارها وهو يتأمل وجهها الملائكي.. كيف لها أن تخونه وتخون ابنتهم التي لم تتجاوز العشر سنوات بعد، كيف تتركها هكذا وتفعل فعلتها الفحشاء بالأسفل وعلى فراشهم الذي جمعهم!؟.
إنها تستحق الإعدام.. بل إنه حكم عليها بذلك بالفعل.

~دُمية مطرزة بالحُب~Where stories live. Discover now