الفصل الثاني : جرح من الماضي.

2.1K 84 4
                                    

نهض من الفراش يرتدي بنطاله مطالعا مريم النائمة بعمق عدل وضع الغطاء عليها و خرج الى الشرفة يطل منها على الحديقة سامحا للهواء البارد بضرب صدره العاري فيفشل رغم ذلك في إطفاء نيرانه التي اندلعت منذ سنين.

أسند عمار ذراعيه على سور الشرفة و تلك الذكريات تهاجم عقله دفعة واحدة كأنها شريط فيديو مسرَّع يعرض حياته أمامه ، بداية من وفاة أمه و انهيار والده و كرهه العجيب له ثم زواجه ، انعزاله عن بقية العائلة إلا عن زوجة أبيه سعاد المرأة الحنونة و عن جدته ، مرور السنوات وهو يتمنى أن يلمح نظرة واحدة فقط من أبيه و جهوده ليجعله يحبه ومع ذلك رأفت بقي يتجاهله لسبب يجهله و أخيرا إرساله إلى مدرسة داخلية بعيدة مئات الكيلومترات عن مكان سكنهم و بقائه وحيدا وسط الغرباء ....

راح بجمود يشعل سيجارة وراء أخرى ينفث دخانها ببطئ في الفراغ و عيناه لا تقلان احتراقا عنها ، و بكاؤه وهو صغير يمر عليه بتفصيل وكأنه يعايش تلك اللحظات مجددا .... " بابا متسيبنيش هنا انا بخاف ومش عايز اقعد لوحدي .... طنط سعاد علشان خاطري خليني ارجع معاكو .... بابا مجاش يزورني ليه ..... متبعدونيش عنكو انا خايف .... "

و فجأة جال بذاكرته كابوسه الدائم .... المشهد الذي رآه في صغره منذ ما يقارب ال 20 سنة ولم يستطع نسيانه أبدا ... تلك المرأة ذات العيون الزيتونية وهي تحضن رجلا مجهولا و تخبره أنها تحبه هو فقط و أجبرت على الزواج من غيره ، ثم تقبله و تغلق باب الغرفة تاركة طفلا في العاشرة من عمره يراقب ما يحدث بصمت معتقدة أنه لا يفهم شيئا ....

شهق عمار يسحب الأكسجين لرئتيه ثم التفت خلفه و رآها ، نائمة بسلام و شعرها الغجري الكثيف يفترش الوسادة ، كتفيها الظاهران من الغطاء عاريين و فستانها و قميصه ملقيان بإهمال على طرف السرير ، مظهرها هذا أغراه و أشعل رغبته بها من جديد و بدون شعور تذكر أول مرة رآها فيها ....

منذ سنتين ونصف تقريبا تمت دعوته لحضور حفلة تخرج إحدى الجامعات الخاصة و لبى هو الدعوة و ألقى خطابا على الطلاب برسمية حتى رآها ، كانت جالسة في الصف الثاني تطالع شهادة التخرج و على وجهها ابتسامة حالمة جذبته بسكونها الغريب و شعرها المنسدل الذي تعتليه القبعة السوداء و سمرتها الناعمة لقد كان الطلاب جميعهم منتبهين لخطابه ما عداها ، لم ترفع وجهها قط و عندما فعلت اصطدمت بنظراته الثاقبة و ارتبكت ثم نهضت مغادرة القاعة مخلفة وراءها صوت رنات أدرك فيما بعد أنها ناتجة عن خلخال ترتديه.

سأل عنها ، و عرف أنها فتاة من طبقة متوسطة والدها كان من أشهر الصحفيين مولع بالكتب و يعشق السفر و كتابة المقالات المختلفة و أثناء تجواله يوما ما في إحدى القرى تعرّف على إمرأة تنتمي لقبيلة "النَّور" من غجر مصر ، أحبها و تزوجها رغم الرفض الذي طاله من عائلتيهما و إستقرا في قريته الريفية مع أهله حتى وافتهما المنية ، و عاشت إبنتهما مع عمها الذي تكفل بها لسنين طويلة قبل ان يرسلوها الى هذه الكلية بمنحة جامعية نظرا لتقديراتها العالية.

نـيـران الـغـجـريـةWhere stories live. Discover now