"الفصل الرابع و الأربعُون"

1.7K 34 7
                                    

اننا نتحدث عن كانون الثاني "يناير" حيث السماء المتكدسة بالغيوم تُنذر بهطول وشيك للأمطار ، صباحًا كئيبًا لم يبعث الأمل الى أيهم  و لم يُبشر بالخير ، نسمات الهواء لفحت وجهه و هو يقف متصلبًا أمام المخزن الذي لم يعد كذلك .. بل صار بقايا متفحمة ، شرعت الأفكار تتناطح برأسهِ فهو يعلم جيدًا أن المخزن لم يكن خاويًا ، خشى أن يكون ما يفكر به صوابًا ، تقدم منه أحد الضباط فتبادل معه الحديث بعقلٍ شارد ، ثم استأذنه للرحيل ، أغلق زر سترته و هو يُلقى نظرة أخيرة عليه ، ثم استقل سيارتهُ خلف المقود و اقتادها مبتعدًا عن ذلك المكان بأكمله ، باءت محاولته المائة للوصول اليه بالفشل .. لا يدرى أين اختفى هكذا في جنح الليل ، زفر بحنقٍ و هو يضغط بكفيهِ بقوةٍ على المقود و عقد حاجبيه بضيق ثم شرع يُسجل له رسالةً صوتية قائلًا بنفاذ صبر :
- انت فين من امبارح ؟ المخزن اتحرق يا يامن ، لو اللي في دماغي صح تبقى مصيبة !
ألقى الهاتف على المقعد المجاور ، و عاد يحدق بالطريق أمامه بأعين ثاقبة و هو يغمغم بكلماتٍ تنم عن سخطهِ
............................................................................
جمد بصره على طيفه الذي تجسد أمامه ، مستندًا بجسده الى مقدمة سيارته في مكانهِ المعتاد عند ذلك التل عاقدًا ساعديه أمامه صدره ، حاد ببصره عنه متفاديًا تلك النظرات التي قذفه بها و مع ذلك لم يشعر بذرة ندم واحدة لما افتعلهُ ، انه حتى كان يستحق ما هو أكثر بأسًا ، لا يعلم كم مر عليه من الوقت فلم يشعر حتى بأن الصباح قد أقدم منذ مدة ، ارتفع بصره نحو السماء الملبدة بالغيوم و قد احتمت الشمس في ملاذها خلف احدى الغيمات ، هو كان متأكدًا من كونه " كمال" خاصة بعد كلماتها.. و لكنه أراد لو يتيقن و قد حدث ، تحولت مقلتاه لجذوتين من الجحيم و توهج وجهه بنذيرٍ غير مبشر مُطلقًا ، انتصب في وقفته متجنبًا النظر لطيفه ثم استدار ليستقل السيارة خلف المقود و اقتداها الى حيث أراد أن يسترسل تنفيث مقته به .
................................................................
ارتفع كفيه أمام وجهه ليقرأ سورة الفاتحة ثم مسح بكفيه على وجهه كان يعتقد أنه سيلجأ اليه و لكنه  أخطأ ..مما جعل الشكوك تترسخ أكثر بذهنهِ ،فـ كيف سيلجأ اليهِ بعدما أزهق أكثر من روح ، عقد كفيه خلف ظهره ، سلط بصرهُ على اللوح الرخامي و الذي دُون عليه اسمه ، طرد زفيرًا حارًا من صدره متمتمًا :
- وحشتني يا عمي ، وحشتني !
حرر كفيه لينزح ذرات التراب عن اسمه و تنهد بشوق متمتمًا :
- انت كنت أبويا التاني
ارتفع جانب ثغره بابتسامة مريرة و هو يتابع :
- على العكس .. أبويا ميستحقش لقبه أصلًا ، و أمي ..
دس كفيه بجيبيه مسترسلًا بسخرية مريرة :
- أمي ..مش عارف عملت فيا كده ازاي ! ازاي قدرت تسيبني في وسطهم ؟
أطبق جفنيه متمتمًا بآسى :
- مش عارف أقولك ايه ، بس.. أنا آسف .. كان المفروض أفضل مع يامن من بعدك مش أسيبه ليهم و أهرب ، لو يامن فعلًا عمل كده ..
ابتلع كلماته بداخل جوفه متنهدًا بحرارة ، و راح ينظر للأفق البعيد و ذهنهِ لا يكف عن اختلاق آلاف السيناريوهات .
.................................................................
غلت الدماء في أوردته و هو يُلقى بالهاتف فوق سطح مكتبه ، انتصب في وقفته و ضرب ببطن كفهِ على سطحهِ و هو يردد من بين أسنانه المطبقة :
- روحت فين يا ×××××
مرر أصابعه بخصلاته و هو يردف بنبرة ساخطة :
- تبقى كارثة .. كارثة لو كان يامن عرف !
ثم شخصت أبصاره لثوانٍ و ازدرد ريقه باضطراب ، أخذ يذرع الغرفة ذهابًا و إيابًا و هو يتمتم بارتباك جلّ على ملامحه :
- الكارثة الأكبر لو عرف ان أنا اللي وراها ، لو اللي بفكر فيه صح فده واد ابن ××××× هيقول عليا من أول ضربة !
......................................................................................
كان تواجدهُ بتلك الحالة في مقر الشركة سببًا لارتفاع نسبة التوتر و التوجس لدى أغلب العاملين بالشركة ، حيث كانت عيناه متقدتين وجهه متوهجًا بحمرة الغضب تجنب الجميع التحدث ببنت شفة اليه خلال طريقه لغرفته ..اقتحم غرفته باندفاعٍ و هو يزأر بـ :
- كمــــال
انتفض الأخير في وقفته و التفت يحملق به مرددًا بارتباك :
- في ايه ؟
تفاجأ به يجتذبه بقسوة قابضًا على تلابيبه و هو يهدر بنبرة أشد بأسًا :
- مراتي خط أحمر يا كمـال ، سامعني ؟
شخصت أبصاره نحوه و هو يزدرد ريقه بارتباكٍ متمتمًا بشدوه :
- قـ..قصدك ايه ؟
فـ إذ به يدفعه بعنفٍ ساحبًا بحركة خاطفة احدى الأقلام من فوق سطح المكتب ليرتطم ظهره بالجدار و هو يزأر بشراسة :
- انت فاهم قصدي كويس ، بلاش نلف و ندور على بعض
ارتخت تعبيراته المشدودة و قد ارتسمت ابتسامة شيطانية على ثغرهِ و هو يردد :
- تمام ، خلينا نتكلم بصراحة ، لو ناسي فأنا بفكرك ..دي بنت حسين ! يعني تقدر بسهولة تكسره عن طريقها
تضاعف توهج وجهه و أطلقت عيناه شررًا مستطر ، حرر احدى كفيه عن ياقته ليضغط بشراسة على عنقه بساعده قاصدًا خنقهُ و هو يجأر بـ :
- و لو ناسي فأنا أفكرك ان دي مراتي !
شحب لون وجهه و قد تعلقت عيناه بنظراته التي كادت تلتهمه حيًا ، فضغط باصبعه على القلم ليبرز سنه الحبري و رفعه مقربًا له من عينه و مال أكثر عليه و نظراته تقدح شررًا مرددًا بنبرة ساخطة من بين أسنانه المطبقة :
- مراتي هتطلع من اللعبة الو×××× دي ، و إلا متلومش غير نفسك
فرغ صدره تقريبًا من الهواء و عجز عن التنفس بصورة طبيعية ، تسلطت عيناه على السن الحبري الذي يكاد يلتصق بها ، فازداد اتساع عينيه ، و لكنه لم يكن ليتخلى عن موقفه البارد فافترّ ثغره بابتسامة جليدية و هو يردد ببرود قاصدًا استفزازه :
- طب ما انت اللي دخلتها من الأول ، جاي دلوقتي تدافع عنها ؟ و بعدين مش لايق عليك جو مراتي و بتاع ، أنا و انت عارفين انت متجوزها ليه ، فبلاش تعمل فيها الزوج المخلص أوي !
كز بعنفٍ على أسنانه مشددًا على عضلات فكيه ، خاصةً نظراتهُ التي أعادت ذكرياتهِ السيئة تقتحم جدران ذهنهِ ، حدجه بنظرات تكاد تفتك به ثم ابتعد عنه ملقيًا بالقلم الحبري على الأرضية و جاذبًا اياه من تلابيبه بقسوة ، دنا من النافذة ساحبًا اياه خلفه و فتحها فتنغض جبين " كمال" و هو يسأل غير مستوعبًا :
- انت بتعمل ايه ؟
فـ إذ به يدفعه بجفاء و بدون ذرة ندم واحدة ليختل توازنه و يسقط عن النافذة الشركة من ذلك الإرتفاع الشاهق .
.......................................................................................
اقتاد سيارتهُ عبر الممر الرخامي و صفها في منتصفه ، ثم تركها للسائق ليصفها بالجراج ، تحرك نحو الداخل و لكنه تسمر في مكانهِ اثر نداء " عمر" من خلفه فالتفت اليه ليجده جالسًا بالحديقة ، تحرك نحوه و تهالك جسده على احد المقاعد ، فتمعن " عمر" النظر في ملامحه و هو يتمتم مخمنًا :
- شكلك مش لاقيه ، صح ؟
عاد برأسه للخلف مُطبقًا جفنيه و هو يردد بنبرة منهكة :
- مش لاقيه ، اتصلت بيه مليون مرة و هو قافل تليفونه
قبض " عمر" على شفتيه و هو يردد :
- عارف ممكن يكون فين ؟ عند...
فنظر له متنهدًا بقنوط :
- روحت قبر عمي ، مش هناك
حك مؤخرة رأسه و هو يتمتم بتوتر :
- أنا بدأت أقلق ، هو يامن ممكن يعمل كده فعلًا ؟
طرد زفيرًا حارًا من صدره أعقبه بـ :
- مش عارف ، المشكلة اني مش عارف !
دس كفيه بجيبيه مردفًا بفتور :
- يامن من أول ما حسين ظهر و هو مش قادر يتحكم في انفعالاته ، و ده مخوفني !
فارتفع حاجبيه باستغراب :
- يعني هو مقتلش اللي قتل بابا.. هيقتل ناس عشان خطفو بنت اللي قتل بابا ؟
كان رده صائبًا بشكل غريب ، حملق فيه " فارس" مطولًا قبل أن يسترسل بتنهيدة :
- في حاجة غلط ، ده مش يامن اللي أعرفه !
.................................................................................
رصت الأطباق التي تحوى مختلف أنواع الأجبان و الألبان فوق حامل معدني ، ثم حملته بحذرٍ و انتقلت نحو الأعلى حيث غرفة رب عملها ، طرقت الباب عدة مرات فلم تتلقَ ردًا ، فأدارت المقبض و دلفت للداخل تنغض جبينها حين رأت الغرفة خاليةً منها ، حانت منها التفاتة نحو الشرفة و تنهدت بحرارة و هي تُغير وجهتها نحوها جذبت الباب الزجاجي بشكلٍ عكسي لينفتح ثم انتقلت للداخل ، سرت رجفة في جسدها لم تتمكن من السيطرة عليها ، جحظـت عيناها هلعًا و ارتخى كفيها عن الحامل المعدني ليسقط الحامل و ما فوقه  متهشمًا محدثًا دوي مريب ، انفلتت منها صرخة و هي تستدير بجسدها لتوفض للخارج هادرة بهلعٍ :
- فـارس بيه !
.....................................................................................
هوى قلبهُ في قدميه و قد أدرك لثانية أنه قد وافته المنية و انتقل الى ربه و إذ به يُطبق بقوةٍ على معصمه ليحول دون سقوطه و بعث اليه بنظراتٍ لا حياة فيها ، فـ ارتجف جسده رعبًا و هو يردد مستنجدًا :
- يامن .. ايه اللي بتعمله ده يا ابني ؟
فقست نبرته أكثر و هو يُتمتم بتوعد :
- مراتي محدش هيلمسها و لا ييجي جمبها ، لو حصل لها حاجة مش هرحمك يا كمال .. مش هرحمك !
ازدرد ريقه و هو يتمتم متلعثمًا :
- انـ.. انت ناسي دي .. دي بنت ميـن .. مـ.. متنسا..متنساش حق أبو..
فقاطعه  هادرًا  بصوتٍ خلع فؤاده :
- قسمًا بالله أقتلك .. هقتلك لو فكرت تيجي حمبها
حملق به بصدمةٍ و قد شعر بالدماء تفر من عروقه ثم تمتم بذهولٍ جلّ على ملامحه :
- هـ.. هتقتلني عشانـ .. عشانها ؟
فلم تلين ملامحه بمقدار ذرة و هو يتمتم بنبرة حالكة :
- أقتلك و أقتل مليون غيرك لو حد فكر ييجي جمبها ، و من غير ما يرف لي جفن !
تنغض جبين " كمال" و هو يتمتم بامتعاض :
- هتقتل عمك عشان البت دي ؟
تحولت عيناه لجمرتين من الجحيم و برزت عروق جبينه و نحره بوضوحٍ و أرخى قبضتهُ عنه قليلًا مهددًا بإفلاته هو يردد بصوتٍ قاتم :
- خد بالك من كلامك! مراتي أحسن منك و من مليون زيك !
انخلع قلبه فزعًا و قد رآى في عينيه لا يوجد ذرة تردد واحدة فتشبث به بكل ما أُتي من قوةٍ و لانت ملامحه و هو يستعطفه :
- تمام ، تمام ، بس طلعني ، ده .. ده أنا بردو عمك!
حدجه بنظراتٍ محتدمة قبل أن يستطرد بنبرة شرسة :
- اللي هيلمس منها شعرة واحدة أنا همحيه من على وش الدنيا ، حتى لو كان انت !
أومأ برأسه العديد من المرات و قد استشعر آلامًا عظيمة بذراعه و كتفه حيث كان ثقله بالكامل مسلطًا عليهما ، فردد بهلعٍ :
- طيب ، بس طلعني
و على مضض ..بسط كفه الآخر ليتشبث به " كمال" بصعوبة ، ثم سحبه للأعلى و دفعه بعنفٍ للداخل ليتهالك جسد " كمال" على الأرضية و هو يتنفس بصعوبة و قد تلاحقت أنفاسه اللاهثة ، فانحنى أمامه ليردد بنبرة ثابتة و عيناه تُطلقان شواظ من النار :
- مراتي هتطلع برا الانتقام الـ××××× ده ..محدش هييجي جمبها ،  المرة دي اديتك فرصة ، و انت عارفني مبديش فرص كتير
استقام " كمال" في جلسته و قد زاغت نظراته فتظاهر " يامن" بأنه ينزح ذرة تراب غير موجودة على كتفه و هو يتمتم بنبرة أشبه للفحيح :
- و يا ريت تضيعها يا كمال .. يا ريت !
تسلطت نظراته التي تكفي بزرع الرعب في أشد القلوب بأسًا عليه و ضغط بقوةٍ على كتفه يكاد يخلعه عن محله و هو يستطرد بنبرة قاسية لا حياة فيها :
- بس أحب أعرفك تجهز كفنك قبلها ، لأن فرصك عندي خلصت !
جحظت عيناه و هو يستشعر مدى تجبره ، انتصب " يامن" في وقفته و شمله بنظراتٍ مزدرية ، ثم استدار بجسده ليمضي عدة خطوات للأمام ، فاستجمع " كمال" رباطة جأشه ليردد باستنكار :
- هتقتل عمك عشان بنت حسين ؟
فتسمر في مكانه و التفت نصف التفاتة ليردد بنبرة ثابتة :
- تخصني !
حانت منه التفاتة نحوه ليردف بنبرة أشد بأسًا :
- و أظن انت عارفني .. مبسامحش في اللي يخصني !
ثم التفت لينظر أمامه بنظراتٍ مُظلمة و مضى نحو باب الغرفة ليخرج منها صافعًا الباب بعنفٍ خلفه ، انتفض " كمال" اثر الصوت ، فازدرد ريقه بصعوبة ثم حرر رابطة عنقه قليلًا و حكه و هو يردد بنبرة متلعثمة :
- يخربيتك يا يامن ، ده ..ده انت مترددتش للحظة و كنت هموت فعلًا ................................................................................
انتصب في وقفتهُ و قد تنغض جبينه و هو ينظر في اتجاهها ، بينما تسلطت نظرات " عمر" المشدوهة عليها و هو يقول :
- في ايه يا سهير ، مالك بتصوتي كده ليه ؟
التقطت أنفاسها بصعوبة و قد عجزت عن التفسير فردد " فارس" بنفاذ صبر :
- اتكلمي يا سهير .. في ايه ؟
كان جسدها بالكامل يرتجف .. أشارت بكفيها المرتعشين للأعلى ليتغضن جبين " فارس" بدرجة كبيرة و هو يرفع نظراته للأعلى لتشخص أبصاره نحوها ، بينما شهق " عمر" بعدم تصديق و أشار اليها يستوقفها و :
- لا لا ، يارا ، استني !
حملق بها " فارس" غير مُصدقًا ما انتوت فعلهُ .. حيث كانت تقف أعلى سور الشرفة و تكاد تثب من الأعلى ، أوفض نحوها ليكون موازيًا لها و هو يردد بصوت جهوري :
- يـــارا ، بطلي الجنان ده و انزلي !
هزت رأسها نفيًا و هي تُجيب بمرارة :
- لأ .. أنا هخلصكوا مني ، كفاية بقى .. مبقتش قادرة أستحمل كل ده !
امتدت قدمها للأمام قليلًا فاستوقفها بنبرة متوترة :
- لا لا ، يارا ، يارا ، اهدى لو سمحتى ، اللي بتعمليه ده مش هيفيدك ، صدقيني !
نظرت نحوه بتحسر و هي تتمتم بقهر :
- بابا لدلوقتي فاكرني اتجوزتهُ برضايا ، بابا محاولش يخلصني منه ، أنا .. أنا اللي حاولت أحميه بكل الطرق .. بس هو .. هو محاولش حتى يخلصني من السجن ده !
افترّ ثغرها بابتسامة ساخرة و هي تتمتم بتهكمٍ مرير :
- عارف ليه ؟ عشان فاكرني اتجوزته عشان فلوسه ! تخيل .. لما بابا يفكر فيا بالشكل ده و انا .. و أنا عملت كل اللي أقدر عليه عشان أدافع عنه و ..
فقاطعها بنبرة جادة :
- مين قالك كده ؟ باباكي و عيلتك بتحبك ، انتي بس ..
تجمعت الدموع في مقلتيها و انهمرت الدموع من عينيها بلا توقفٍ ، اختنقت نبرتها و هي تتابع بنبرة متشنجة :
- مش محتاج حد يعرفني ، بابا محاولش حتى يشوفني ، محاولش يعمل حاجة عشان يخلصني منه ، كلكم السبب في اللي حصل لي .. محدش حاول يساعدني ، حتى انت !
ارتبكت ملامحه الى حدٍ كبير و هو لا يعلم ماذا يتوجب عليه فعله ، فـ حانت منه التفاتة لـ " عمر" و لكزه بعنفٍ في كتفه و هو يردد بنبرة خافتة :
- اتصرف .. اعمل أي حاجة و أنا هلهيها هنا !
أومأ برأسه و هو ينسحب بحذر كي لا تُلاحظ بينما كانت تتمتم بقهرٍ :
- أختي عملت حادثة بسببي الله أعلم كانت هتعيش و لا لأ ، ماما ملهاش ذنب تستحمل كل ده لوحدها
تابعت بنبرة خالجتها المرارة :
- تعرف أنا ليه هربت ؟ هربت عشان قالي .. عشان قالي انه بابا عمل حادثة ، كنت هموت من الخوف عليه
قست تعبيراتها و هي تردف :
- و في الأخر تطلع لعبة عاملينها كلكم ،كلكم شياطين ، كلكم شبه بعض ، مش عايزة أعيش مع شياطين زيكم ، خلاص مش قادرة أكمل .. تعبت من كل حاجة ، الأذي جالي من أقرب الناس ليا ، كلكم أذيتوني ، كلكم !
هز رأسه نفيًا عدة مراتٍ و هو يردد مشيرًا بكفيه :
- بصي ..كل حاجة هتتصلح صدقيني ، كل حاجة
هزت رأسها بهيسترية و هي تبكي بكاءً حارًا هادرة بنبرة امتزجت مع نشيجها :
- مفيش حاجة بتتصلح ، كل حاجة بتتعقد أكتر و أكتر ، ليه يتحكم عليا أعيش مع أكتر واحد بكرهه في الدنيا ، حطم كل حاجة فيا .. أحلامي البريئة و حياتي الهادية حطمني أنا ..كان عايز يدمرني و يقضي على اللي بقى مني ، سرق مني كل حاجة حلوة في حياتي ، خلاها جحيم مش حياة !
ثم خطت بقدم لتكون في الهواء و سحبت شهيقًا عميقًا زفرته على مهل أعقبته بـ :
- أنا حاولت أهرب كتير لكن معرفتش .. مفيش مفر من كده ، ده الحل الوحيد
تحفزت حواسه و هو يردد متلهفًا :
- لا لا ، يارا ، استني ، اسمعيني بس لو سمحتي
انفرج ثغرها بابتسامة مريرة و دموعها لا تتوقف عن الإنسدال :
- في كل الأحوال مكنتش عايشة من أول ما دخل حياتي و أنا من غير روح .. عشانه حرقها ببساطة ، داس عليها و على قلبي و كمل طريقه و ملتفتش و لو لمرة !
أخذ يحتسب بنظرة من عينيه المسافة فوجدها تكفى لقتلها ان نفذت تهديدها ، فـ ارتبك أكثر و هو لا يعي كيف يتصرف و لكن جحظت عيناه فجأة و شخصت أبصاره نحوها حين حسمت أمرها و قد فات الأوان .. حيث وثبت من الأعلى .
..................................................................................
أنّت بخفوتٍ و هي تقوم بتقشير حبة البطاطس حيث و بلا قصدٍ منها جرحت اصبعها بالسكين ، زفرت بضيقٍ و هي تلقي بها في الصحن ، انقباضةً قوية اقتحمت فؤادها لا تعلم مصدرها ، فتلمست موضعه بأطراف أصابعها و هي تستشعر ذلك الألم الكائن بصدرها ، أطلقت زفيرًا حارًا من صدرها ، ثم بسطت ذراعها لتبعد الصحن جانبًا ، استندت بجبيها على سطح الطاولة و هي تهمس بمرارة :
- يا تري فيكي ايه يا بنتي !
استشعرت ذلك الملمس الحاني و هي تربت برفقٍ على ظهرها فرفعت نظراتها اليها لتجدها ابنتها الكُبرى ، افترّ ثغر "ولاء" بابتسامة هادئة و سحبت لها مقعدًا مجاورًا لتعتليه هي تتمتم :
- هاتيه يا ماما ، أنا هعمله بدالك
ثم سحبت الصحن ليكون أمامها فرددت " حبيبة" بنبرة واهنة :
- استني غيري السكينة
تنغض جبين "ولاء" و هي تنظر للنصل ثم رفعت نظراتها اليها متمتمة بقلق:
- ايه ده يا ماما ، انتي اتعورتي ؟
فنظرت لجرح اصبعها متمتمة بشرود :
- مش مرتاحة يا ولاء ، مش مرتاحة
خفق قلبها بعنفٍ في صدرها و هي تتمعن النظر اليها ، التقطت محرمة ورقية أعلى الطاولة ثم سحبت كفها اليها ، و نزحت الدماء عن اصبعها و هي تردد محاولة مواراة ارتباكها :
- ليه بس بتقولي كده يا ماما ، اتفائلي ان شاء الله خير
تسلطت نظراتها على نقطةٍ في الفراغ و همست لنفسها بعدم اقتناع :
- مش حاسة !
..................................................................................
لحظاتٍ عصيبة مرّت على الجميع تسمر فيها " عمر" بمكانه و اتسعت حدقتاه بصدمةٍ ، سلط بصره على " يامن" الذي شرع يدنوَ منه بخطواتٍ حذرة محاولًا عدم لفت انتباهها فتلتفت مما يؤدي الى سقوطها من حركتها المفاجأة ، و في اللحظة الأخيرة و التي وثبت فيها من الأعلى كان ذراعاه يطوقان خصرها ليحول دون ذلك و تراجع بها للخلف لتلامس قدماها الأرضية ، هاجت و ماجت و هي تتلوى بجسدها محاولة التملص منه متمتمة بتشنج :
- لا لا ، سيبني ، أنا مش عايزة أعيش .. مش عايزة !
فضمها أكثر ليلتصق ظهرها بصدره و دفن وجهه في خصلاتها ليخترق عبقها المميز أنفه ، أطبق جفنيه متمتمًا بخشونة :
- ششششش ، اهدى
أخذت تخدشه بأظافرها في ساعديه مسببة له سحجات و خربشات ظفرية عميقة و هي تهدر محاولة الفكاك منه :
- سيبني في حالي بقى ، دي حياتي أنا و أنا عايزة أنهيها !
فـ أجابها باصرار بالرغم من خفوت نبرته و هو يهمس بجوار أذنها :
- قولتلك لا ، مش هتسيبيني بالسهولة دي ! مش من حقك تنهيها !
تركت العنان لدموعها و شهقاتها لتتعالى ممتزجة مع أنّاتها المتألمة ، استشعرت ذلك الثُقل الذي جثى فوق صدرها ليعوق تنفسها ، ارتخت ساقيها و جسدها بالكامل فلولا ذراعيه لكانت افترشت الأرضية ، تمتمت بنبرة امتزجت مع نشيجها :
- مش عايزة أعيش .. مش عايزة أكمل ، مبقاش عندي طاقة أكمل حياة مش عايزاني ، كل حاجة معانداني .. كل حاجة جاية عليا ، الدنيا دي أبشع مما كنت أتصور ، مش عايزة أكون فيها ، هسيبلكم كل حاجة و أريحكم مني !
عاد برأسهِ للخلف مُطبقًا جفنيه و هو يُحكم قبضته عليا ، اختنق صدره و أدمت كلماتها فؤاده ، بينما أدمعت عينا " عمر" تأثرًا بكلماتها ، أردفت و هي تتمتم باستنكار مرير :
- ليه عمل كده فيا ؟ ليه ؟ أنا عملتله ايه عشان .. عشان يعوز يدبحني بالشكل ده
كزّ بعنفٍ على أسنانه مشددًا على عضلات فكيهِ يود لو يُعيد احيائهِ كي يستكمل دائرة تعذيبهِ ثم يُزهق روحه من جديد ، استعرت النيران مجددًا بصدرهِ عقب اخمادها أمس ، مال برأسه عليها ليستند بذقنه الى كتفها و هو يردد من بين أسنانه المُطبقة :
- انسيه ! انسي اللي حصل ، حقك رجع ، يا ريت لو كنت أعرف أرجعه تاني !
أخفضت نظراتها تدريجيًا لتنتبه الى ذراعيه المُطوقان لها فهدرت بتشنجٍ و هي تُحاول التملص منه :
- انت ماسكني كده ليه ؟ سيبني ، متلمسنيش انت شبهه و زيه في كل حاجة ، كلكم أسوأ من بعض ، انت العقل المدبر لكل حاجة !
أرخى احدى ذراعيه عن خصرها ليقبض على فكها برفق مُديرًا وجهها اليه و سلط نظراتهُ مباشرة لعينيها و هو يردد بصوتٍ جاف :
- مش أنا .. بطلي تتهميني بحاجة عمري ما هفكر أعملها
نظرت له بضغينة تعكس مشاعرها ناحيته رفعت كفها لتقبض على كفه تزيحه عن فكها و هي تردد بنبرة حاقدة :
- مفيش حد في الدنيا بيكرهني قدك ، انت الوحيد اللي تقدر تعمل كده !
نظر لها مطولًا بنظراتٍ غير مفهومة بالنسبة اليها ، عادت تتلوى بجسدها و هي تحدجهُ بنظرات كارهة متمتمة بتشنجٍ :
- ابعد عني !
نقل بصره بين زرقاوتيها ثم حرر ذراعه عنها لتبتعد عنه مستديرة لتظل في مواجته ، فهدر بها بنبرة جامدة :
- انتي عايزة ايه ؟
كورت قبضتها لتلكم صدره بعنفٍ مرددة باهتياج :
- عايزاك تختفي من حياتي بقى ، عايزاك تختفى !
قبض على معصمها برفقٍ و تطلع اليها بنظرات جامدة فرفعت نظراتها لتصطدم عيناها الدامعتين مع عينيه الجليديتين ، حاد ببصره عنها و كأنه يبحث عن شئٍ ما حتى وجده بجوار قدمه اليسرى انحنى ليسحبه فتسلطت نظراتها عليه معتقدة أنه سيُنهي حياتها به اثر تطاولها عليه ، و لكن كانت الصدمة حينما بسط كفه به و هو يتمتم بنبرة ثابتة :
- اقتليني !
فغرت شفتيها بعدم استيعاب و هي ترفع نظراتها المدهوشة اليه فلم تجد ترددًا فيهما ، بل كانت نظراته جادة لأقصى حد ، أرخى قبضته عن معصمها و بسط كفها بنفسه و هو يضع السكين بها قائلًا بنبرة صارمة :
- يالا مستنية ايه ؟ لو ده هيريحك فـ اعملي ده ، اقتليني و خدي حريتك ، اتخلصي من سجنك !
ظلت محملقة به بعدم تصديق ، بينما اتسعت عينا " عمر" و هو يتابع ما يحدث بأعين مذهولة ، و لكن اطمأن داخلهُ قليلًا فهو يعلم أنها ذات قلب طيب لن تفعلها مُطلقًا ، بينما نقل " يامن" نظراته بين عينيها التي تحجرت الدموع فيهما من صدمتها ، فـ زأر بها بشراسة :
- يالا !
تلك النظرات الجامدة التي أشبه بالجليد ، الوجه الصارم الذي گ الجدار الفولاذي ، عادت ذكرياتها تتجسد نصب عينيها منذ الوهلة الأولى التي رأتهُ بها في منزلها حيث أوشك على ازهاق روحها بلا هوادة ، ثم هروبها من المنزل و اللجوء اليه علها تفهم ما اُقحم فيه والدها ، اختطافها ..تهديده لها بقتلهِ العديد من المرات.. و اجبارها على الزواج به ، ثم تلك الخطة المحكمة التي نصبها لها كـ من يوقع طائر في الشرك لاصطيادهُ ، حتى تلك اللحظة التي أوشك والدها بهِ أن يُنهي حياته فـ أنقذته لتتلقى الطعنة بدلًا عنه ، و أخيرًا .. كما اعتقدت أن يكون هو العقل المدبر  و الذي وضع خطة محكمة لاقتيادها لذلك الذئب الذي أوشك على نهش لحمها  ، نشبت النيران بصدرها من تلك الذكريات الغير سارة بالمرة ، فتّشت بين دهاليز ذهنها عسى أن تتذكر حسنة واحدة له ، و لكن هيهات ، توهج وجهها بالدماء الغاضب و احمرت الشعيرات الدموية بعينيها ، كزت بعنفٍ على أسنانها و هي تنظر له ببغض و إذ بها تقبض بكفها على السكين و رفعت ذراعها لتغرس نصل السكين بمنتصف صدره ، فوق تلك الندبة التي تركت أثرًا بجسده منذ طفولتهِ ، ظلت تعبيراتهُ صلبة و كأن شيئًا لم يكن ، و لكن لانت نظراتهُ نحوها و هو ينقل نظراته بين عينيها فلم يجد غير الحقد بهما ، و گأنها لم تكتفِ ، فنزعت نصل السكين لتغرسه مجددًا و قد شحنتهُ بكمية الحقد و البغض الذي زرعتهُ بداخلها تجاهه حتى خرجت أنّة موجوعة من بين شفتيه و نظراته مُعلقة بها و گأنه يُشبع مقليه برؤياها للمرة الأخيرة ، فهدرت به بنبرة ناقمة و هي تغرسها أكثر بصدرهِ :
- مــــــــوت بقى .. مــــــــــوت !
.......................................................................................
" و إنْ قَبعت المنايا في أحضانك فـ أهلًا بها ..محظوظٌ أنا إن أدركني الموت بين ذراعيكِ "
............................................................
................
ـ إلى اللقاء مع الجُزء الثالث من رواية " في مرفأ عينيك الأزرق"



في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now