"الفصل الخامس و العشرون"

718 17 2
                                    

"الفصل الخامس و العشرون"
كانت تختلس النظرات نحوه فتستشعر هالة الغموض المحيطة به تتسع أكثر فـ أكثر،.. بينما هي لا تقوى على إختراقها، و ذهنها الذي جمع تفاصيل عِدة عنه لا يتمكن ذهنها من إدراكها أو محاولة ربطهم ببعضهم البعض، ما أثار دهشتها حقًا هـو تلك المنطقة العجيبة التي انحرفت السيارة إليها، فشرعت تراقب من خلف زجاجها.. إنهُ الخراب بعينه، و هي التي كانت تعتقد أنها تسكن بأسوء المناطق، استكشفت أن هناك الأسوء.. و الأكثر سوءً، قطبت حاجبيها غير قادرة على مقاومة فضولها، و لكنها بصعوبة التزمت الصمت و هي تزم شفتيها، تلك المنازل المتهدمة، و منازل أخرى ذات عدة طوابق تكاد تجزم بأنها ستنهار من فورِها، القمامة الملقية وسط الطرق الضيقة فـ بعثت رائحة كريهة في الأرجاء، اقتاد السيارة بصعوبة جليّة وسط الطرق المتعرجة، حتى و أخيرًا بلغ العنوان المنشود، صف السيارة جانبًا ثم تناول نظارتهِ من اصندوق الداخلي الصغير، ليخفى عينيهِ خلفها، و قبل ترجلهِ تحدث للمرة الأولى منذ عودتهما من المشفى بلهجة آمرة:
- خليكي هنا
 و فور أن ترجل و دار حول مقدمة السيارة ليتمكن من بلوغ المنزل المكون من طابق واحد، كانت تترجل هي الأخرى لتتبعه و هي تردد بنبرة باردة:
- تمام
نظر نحوها شزرًا و هو يشير بعينيهِ للسيارة:
- اركبي يا بنت حسين
عقدت ساعديها أمام صدرها و قد عقدت حاجبيها قائلة باستهجان:
- عايزني أركب ليـه؟ أنا مش هستنى أما ترتكب جريمة و انت في حالتك دي!
و رفعت ذقنها للأعلى قليلًا لتقول بتصميم:
- هاجي معاك
تقوست شفتيه مستهجنًا ثم ردد:
- ماشي يا بنت حسين، اتنيلي ادخلي معايا
و التفت ليطرق عدة طرقات عنيفة على الباب، ثم أخفض نظراته قليلًا منتظرًا الرد، حتى أتاهُ الصوت الرقيق من خلفهِ:
- مين؟
ارتفعت أنظاره و هو يقول بصوتهِ الرجوليّ الصلد:
- يامن الصيّاد
وصلتهُ شهقتها العالية التي جاهدت لتكتمها بكفها، فـ التفتت "يارا" لتنظر نحوه مشدوهة و هي تسأل بفضول:
- مين دي.. حبيبتك؟
نظر نحوها من زاوية عينه شزرًا و لم يعقب على ترّهاتها، فـ ارتفع حاجبيها لإغاظتهِ و هي تهمس غامزة:
- عشان كدا مكنتش عايزني أنزل!
زفر حانقًا حين مر أكثر من عدة دقائق دون أن تفتح، فـ ارتفعت لهجتهِ التحذيريّة و هو يقول بنفاذ صبر:
- أُمنية.. لو مفتحتيش هكسر الباب!
استندت بظهرها للباب و هي تحاول الاتصال بخالتها عبر هاتفها الخلوي الصغير، و لكنها للأسف.. تعذر الوصول إليها، ضمت شفتيها معًا و قد شعرت بقلبها يكاد يهوي بين قدميها، و لكنها حاولت استجماع شتاتها، سحبت حجاب رأسها المنزليّ و أحاطت بهِ رأسها و هي تقبض على طرفه مستمدة القوة منه، ثم راحت تردد بصوتٍ قوى ظاهريًّا:
- عايز إيه تاني مننا يا يامن بيه؟
فـ خرج صوتهُ مبطنًا و هو يقول بلهجة حاسمة:
- هتفتحي و لا أفتح أنا بطريقتي
ثوانٍ.. بضع ثوان فقط و كانت تفتح الباب على مصراعيه، فـ افتر ثغره عن ابتسامة جليدية و هو يقول متسلحًا بقناع برودهِ الذي يجيد ارتدائه:
- ازيك يا أمنية؟
أخفت كفها عن مقبض الباب و هي تتشبث بأطراف حجابها، ازدردت ريقها و قد شعرت بجفاف حلقها، و لكنها تظاهرت بالقوة المصطنعة و هي تقول:
- جاي هنا ليه يا يامن بيه؟
ارتفع حاجبيه مستنكرًا و قد عدت ابتسامتهِ ابتسامة ساخرة قبل أن يتشدق قائلًا:
- مش هتقوليلي اتفضل
تنهدت بحرارة غير مدركة لنظرات الفتاة المجاورة له.. تلك النظرات التي راحت تتفحص ملامحها الجميلة و التي رأتها تكاد تفوقها جمالًا عِدة مرات، بل شعرت "يارا" أنها قبيحة الخِلقة بجوار تلك الرقيقة، انحنت نظرات" أُمنية" قبل أن تفسح الطريق لهما مغمغمة:
- اتفضل
دلف و هي تتبعه غير قادرة على صرف بصرها عن الفتاة، شرع "يامن" يلقي بنظرة شمولية للمكان من حولهِ قبل أن يلتفت نحوها و هي توصد الباب متسائلًا بنبرة بدت أكثر صلابة:
- خالتك فيـن؟
تهدل كتفيها يأسًا و هي تمضي نحوه مرددة بقنوط امتزج مع نبرتها الناعمة:
- عايز إيه تاني يا يامن بيه من خالتي؟.. عايز تهينها أكتر من والدتك هدى هانم الريحاني؟ خالتي سابت الشغل من قبل ما هي تطردها، فـ أرجوك تمشي من هنا
راح يحتل الأريكة المهترئة بأريحية مفرطة و هو يستند بساعده على حافتها، رفع ساقًا فوق الأخرى و هو ينتصب بكتفيه فيبدو أكثر مهابة، أخرج من جيب سترته الداخل قداحة و علبة سجائر، محاولًا إيجاد وسيلة لتفريغ تلك الشحنات الغاضبة المكبوتة بداخله، دس السيجارة بين شفتيه و أشعلها و هو يتأمل مطولًا تعبيراتها بنظراتٍ ذات مغزى أربكتها حقًا.. بل جعلت قلبها يخفق بعنف في صدرها و نبضاته الهادرة تتردد صداها في أذنيها، ازدردت ريقها محاولة التشبث بشجاعتها الزائفة، ثم راح يدس قداحتهِ الفضية في سترته و هو يسحب نفسًا عميقًا منها حررهُ معقبًا ذلك بقولهِا الجليديّ:
- شكلها برا.. معلش، هستناها!
....................................................................
- يعني إيه اللي بتقوله ده؟.. سفر إيه؟ هو خلاص مبقاش في عقل، ده على جثتي إن ده حصل
قالها "فارس" بغضبٍ جلّ على ملامحه التي تشنجت، بينما "عمر" قد زفر مختنقًا و أعقب ذلك بقولهِ الناقم:
- بعد اللي حصل لي بسببها فأنا مش ندمان ذرة ندم واحدة على اللي عملته!.. دي تستاهل الرجم
لكم "فارس" الجدار و قد مر أمام عينيهِ شريط حياته ، ثم ردد مشيرًا بسبابتهِ و كأنه لم يستمع لقولهِ حتى:
- أنا مش هسبيبه يعمل كده.. مش هيحصل لك زي ما حصل لي، مش هتشوف اللي شوفته، مش هسيبه يعمل كده يا عمر، على جثتي إن ده حصل
و أشار بسبابتهِ لنفسه و هو يردد بنبرة خالجها البغض:
- أنا عملت كده بإرادتي.. لكن من جوايا مكنتش عايز ده يحصل، لكن عملت كده عشان مقدرتش.. مقدرتش أعيش مع مرات أبويا!
و راحت نبرته ترتفع قليلًا و هو يردد متشنجًا:
- سنين و أنا متغرب عن بلدي.. سنين و أنا متغرب لوحدى، بحاول ألاقي لنفسي هوية ألبسها، بحاول ألاقي لنفسي كيان، بحاول ألاقي نفسي في أرض مش أرضي!
 أشاح بنظراته عن عينيّ "عمر" التي تابعته، ثم قال و هو يسحب سترته من أعلى ظهر المقعد و أثناء إرتدائهِ لها:
- مش هسمحله يا عمر.. هحاول بكل الطرق!
..............................................................................
انتبهت لنظراتهِ التي أشارت إليها بالجلوس فراحت تتخذ من الأريكة محلًا لها بجواره، ثم مالت عليه قليلًا لتهمس بنبرة فضولية:
- أول مرة أشوفك بتدخن، انت بتدخن من زمان و لا..
نفث دخان سيجارته من فمه و هو يقول مقاطعًا بلهجة شبه خافتة :
- مش ناوية تبطلي فضول!
نظرت نحو الفتاة التي تيبست بمحلها غير قادرة على الحراك، ثم أردفت متابعة سلسلة تحقيقها و كأنها لم تستمع للحديث الدائر:
- مين دي؟
تلك المرة انحرفت نظراته المستنكرة نحوها و هو يحدق بها ثم غمغم بكلماتٍ مبهمة و هو يحيد ببصره عنها، فـ ضيقت عينيها و هي تراقب حركة شفتيه:
- انت بتقول إيه؟
أبعد جسدها المائل عنه ليجبرها أن تعتدل في جلستها و هو يقول:
- بقول بطلي
فجلست و كأنها على مرجل، تتابع ما يحدث حولها و كأنها قادمة من كوكب آخر، لم تحبذ ذلك، حاولت ربط الأحداث ببعضها البعض و لكنها كانت تفشل، راحت نظراتها تتجه نحو الفتاة الشابة ثم عادت تميل عليه و هي تهمس بنبرة شبه ساخطة:
- مش صغيرة عليك شوية؟ أخطبهالك
نفخ مستهجنًا و هو يقول بصوتٍ ارتفع فجأة:
- استغفر الله العظيم!
اعتدلت في جلستها قائلة بعدم رضا:
- طيب خلاص، أوف
كانت قد تركتهما لتحاول الاتصال بها مجددًا و لكنها كانت تجد هاتفها مغلق، فـ عبست و هي تردد متوسلة:
- يا خالتي الله يخليكِ ابقى اشحني موبايلك، حرام عليكي
فـ أتاهُ صوتها من الخارج و كأنه استشف ما تحاول فعله:
- مش هتعرفي توصليلها، تليفونها مقفول
زفرت حانقة و قد تشربت بشرتها الحليبية بـ الحمرة الغاضبة فاصطبغ وجهها بها، مما زادها جمالًا قبل أن تخرج إليهما و هي تقول مندفعة:
- يا يامن بيه انت عايز إيه منها!.. مش خلاص سابت الشغل
بدا لها گشخص آخر تمامًا عن ذلك الشرس منذ قليل في المشفى، مما جعلها تسخط أكثر عن ذي قبل.. حيث أخفض ساقه و هو ينهض مستقيمًا في وقفتهِ، تبدلت تعبيراته للصلابة و هو يقول بنبرة ذات مغزى:
- أمنية.. من غير لف و لا دوران، سهير تعرف إيه عن هدى؟ تعرف إيه أنا معرفوش خلاها تسيب القصر بعد أكتر من 20 سنة!
حركت رأسها نفيًا و هي تقول بنبرة أقرب للبكاء:
- معرفش.. معرفش، معرفش حاجة!
فـ خرج صوتهُ صارمًا للغاية و هو يهدر بها:
- أُمنيــة!
تجمعت الدموع في مقلتيها و قد أجفل جسدها للحظة ، و لكنها ظلت تهز رأسها نفيًا و هي تتشبث بكلماتها:
- معرفش حاجة.. صدقني معرفش
أومأ و هو يعاود تنفيث النيكوتين فخلّف سحابة رمادية بينهما، ثم أردف بعدم اقتناع و هو يهم بالجلوس:
- هعمل نفسي مصدقك، هستناها!
و لكنه توقف حين صدح صوت طرقات على باب المنزل، فـ كفكفت" أمنية" عبراتها المنسكبة و قد شعرت بهلعها يتفاقم، كادت أن توفض نحو باب المنزل، و لكنه حجر جسدها بمحلهِ بصوتهِ الصارم القادم من خلفها:
- استني!
ارتفعت وتيرة أنفاسها و هي تتسمر بمحلها متابعة إياه، لم يبحث عن منفضة للسجائر و هو يعلم حق العلم أنه لن يجد، ألقى عقب السيجارة أرضًا و دعسها بقدمه أثناء مُضيّه نحو الباب، و أدار المقبض و هو جامد التعبيرات و الملامح حيث لا تتمكن من قراءة ما يخفي خلف أقنعتهِ التي يتناوب في ارتدائها، فور أن اجتذب الباب لينفتح استمع إلى تلك الشهقة المرتفعة المذهولة التي خرجت منها و هي تترك حقيبتها تسقط أرضًا، توسعت عيناها و هي ترى من كانت تفر منه منذ سويعات فقط في عقر دارها، فُغرت شفتيها اثر الصدمة الغير متوقعة، بينما نبضات قلبها المتلاحقة و كأنها طبول في أذنيها، كادت للحظة هوجاء بالتراجع و محاولة الفرار لولا صوتهُ و كأنه قرأ ما يدور بخلدها:
- هتهربي مني فين يا سهيـر؟
رمشت عدة مرات و قد شعرت بجفاف حلقها، انحنت لتلتقط حقيبتها التي أسقطتها، و علقتها على كتفها متشبثة بها و كأنها ستحميها منه، أحنت نظراتها عنه و هي تطأطأ رأسها محاولة استجماع أحرفها المتلعثمة:
- أنـ..ا.. أنا مـ..ش!
أفسح لها الطريق لتعبر بينما نظراته التي تحمل الكثير من المعاني بين طياتها تتابعها، و أشار بكفه و هو  يتشدق ساخرًا بصوتٍ اختلط بالجفاء:
- ادخلي يا سهير!.. دا بيتك برضو
دلفت "سهير" فانتفضت "يارا" فور رؤيتها، رمشت عدة مرات و هي تتابع خطواتها المرتجفة للداخل، حتى ارتفعت أنظار "سهير" لمواجهتها، زمت "يارا" شفتيها و قد حادت أولًا ببصرها عنها، بينما كان "يامن" يصفق الباب صفقة عنيفة، لربما ستتسبب في صدع إحدى جدران المنزل القابلة للتهاوي في أي لحظة، أجفل جسد "سهير" و نظراتها تنتقل نحو "أمنية" فهزت الأخيرة رأسها بقلة حيلة، أشار "يامن" للأريكة و هو يقول بصوتهِ الآمر:
- ما تعدي يا سهير، مالك؟ شوفتي عفريت
و انفلتت منه كلماتهِ الأخيرة محملة بنبرة متشنجة، فـ ازدردت "سهير" ريقها و هي تجلس على الأريكة، في حين تحركت "يارا" لتقف قبالته و قد تراءى لعينيها تلك الشرارة التي اندلعت بين مقلتيه، حذرتهُ من التمادي معها و هي تقول بخفوت حذر:
- بالراحة عليها شوية! دي ست كبيرة، و بعدين انت عايز إيه منها هي كمان؟
أجبرتهُ أن يعطف نظراتهِ المتقدة نحوها فحذرها و هو يرفع إحدى حاجبيها قائلًا:
- بنت حسين.. يا تخرجي منها، يا تروحي تعدي في العربية!
عبست قليلًا و هي تنقل نظراتها بين عينيه، ثم قالت متبرمة:
- تمام مش هتدخل، لكن مش هخرج، أنا مش عارفة انت ناوي على إيه
و بمنتهى الجفاء أردف و هو يومئ برأسه متوعدًا:
- كل خير
ارتفع حاجبيها استنكارًا، ثم همست متعمدة أن يصل صوتها إلى مسامعه بينما تمر من جواره لتقف في أقصى الأركان:
- انت و الخير متتجمعوش مع بعض في جملة واحدة يا صياد!
لم يتابعها بنظراتهِ، بل راح يتقدم نحو "سهير" المنكسة لرأسها و كأنها ارتكبت جرمًا، تعبث بتوتر لا يوصف في حقيبتها التي احتفظت بها أعلى حجرها، بينما هو.. راح يستند بجسدهِ إلى المنضدة الموضوعة أمام الأريكة، عقد "يامن" ساعديه، و هو يمعن في ملامحها، ثم ألقى بأول تساؤلاتهِ بينما يحاول سبر أغوارها:
- سيبتي القصر ليه يا سهير؟
الاتهام فقط هو ما التمستهُ بين طيات كلماتهِ، فراحت تردد و هي تستكمل عبثها في الحقيبة:
- أنا.. أنا مش ورا اللي حصل لك يا يامن بيه، و الله ربنا يشهد أنا..
قاطع كلماتها بنفاذ صبر و بلهجة محتدة:
- سهيــر! أنا سؤالي واضح.. سيبتي القصر ليه؟
لم ترتفع نظراتها إليه و هي تجيبه بارتجاف غلّف نبرتها:
- أنا.. أنا و هدى هانم حصل بيننا مشكلة، و.. و مكنتش أقدر أقعد أكتر من كده
أومأ بحركة خفيفة و هو يقول بخشونة:
- عظيم! ايه بقى المشكلة دي؟
حينها ارتفعت أنظارها لعينيه المظلمتين، رمشت عدة مرات و ما لبث أن أجفلت نظراتها و هي تقول بقوةٍ زائفة:
- مقدرش أقول
و كأنها أشعلت فتيل القنبلة، فـ انتفخت أوداجه و برزت عروق جانبي وجهه بوضوح من خلف تلك الحمرة التي اصطبغ وجهه بها، حلّ ساعديه ليلكم براحتهِ سطح المنضدة بجواره و هو يزعق بـ:
- سهيـــــر!
للحظة أجفل جسدها فانكمشت على نفسها، بينما كانت "أمنية" ترتجف و هي تحاول جاهدة لإخراجه من هنا:
- يا يامن بيه أر..
التفت يحدجها بنظرات گالسهام الراشقة و هو يحذرها متوعدًا:
- أُمنية!.. اطلعي من الموضوع
حاولت أن تسترقّهُ، فـ رددت بلهجتها الناعمة و هي تغضن جبينها و دموعها تكاد تترقرق في مقلتيها:
- يـ..يامن بيه!
أشاح بوجهه عنها بلا اكتراث و هو يعيد النظر لـ"سهير"، ثم أردف بلهجة شديدة آمرة:
- سهير.. حالًا هتقولي إيه اللي حصل بينك و بين هدى!
هزت رأسها نفيًا و هي تغمغم باختناق و قد فاضت عيناها بالدموع:
- مقدرش
جأر بها "يامن" محتدمًا:
- سهيـر
رفعت أنظارها إليه و قد انسكبت الدموع من حدقتيها، ظلت تهز رأسها بحركة هيستيرية معبرة عن رفضها و هي تقول بقلة حيلة:
- مقدرش يا بيه.. مقدرش، مقدرش!
تقبض كفاه و هو يستقيم بوقفته أمامها بقامتهِ الطويلة فشعرت بصغر حجمها بجواره، ذلك الذي كان يومًا يختبأ في أحضانها، ها هو اليوم يفرض جبروته أمامها و هي لا حول لها و لا قوة، أحنت بصرها و قد برزت شهقاتها بوضوح، فراحت تكمم فاهها، استشاط غضبًا و هو يهدر بها مستهجنًا:
- أنا جيت جمبك لسه عشان تعيطي!
و هي تتابع هز رأسها و تردد من بين نشيجها الذي تحاول كتمه:
- مقدرش!
حاولت "أُمنية" التدخل و قد شقت الدموع طريقها على وجنتيها، فخطت لتتقدم منها و هي تردد بأسى:
- خالتي!
امتنعت عن التقدم بواسطة ذراعهِ الفولاذيّ الذي بُسط أمامها، فانحرفت نظراتها نحو عينيه ليشير بهما قائلًا بتهديد صريح:
- لو خطيتي خطوة كمان مش عارف ممكن أعمل فيكي إيـه!
ازدردت ريقها و هي تقول بنبرة مرتجفة:
- خـ..خالتي مش..
قاطعها و هو يحيد ببصرهِ الملتهب عنها، قائلًا بلهجة محتدمة:
- أمنيـة، ارجعي ورا!
تهدل كتفيها قنوطًا، و مجبرة.. عادت بخطواتها للخلف و هي تنكس رأسها بتخاذل، تابعت "يارا" تأزم الوضع بأنفاسٍ مرتبكة، عضت شفتيها بتوترٍ جم و هي تخشى أن يحدث ما لا يحمد عقباه، راحت أنظارها تتجه نحوه و هي تحاول جاهدة ألا تتدخل.
عاد "يامن" لوضعيته الأولى مستندًا بجسده للمنضدة، محاولًا أن يكبت انفعالاتهِ الناتجة عن الكثير و الكثير مما يدور برأسهِ من أحلامٍ تختلط بوقائع حدثت، و من أفكار تعبث في ذهنه بتحرر، ظل كفيه متكورين و هو يناظرها بنفاذ صبر، صر على أسنانه مشددًا على عضلات فكيه، اهتز جانب صدغه بينما كان يردف من بين أسنانه المطبقة:
- سهيـر.. سؤال و إجابته توصلني صريحة!
ارتفعت أعينها الدامعة نحوه و قد تشوش بصرها، فـ تسلطت نظراتهِ المتوهجة على عينيها و قد التهبت بشرتهِ تمامًا، برزت عروق كفيه بوضوح، و اشتدت عضلات جسده بأكملهِ، تشنج و هو يقول محاولًا التشبث بآخر ذرات ثباتهِ:
- هـدى.. ليها يد في موت أبويا؟
سؤال واحد.. واحد فقط عرَّاها أمام نفسها، شعرت و كأنها صارت مكشوفة گـ كِتاب مفتوح يقرأه بمنتهى السلاسة، لو أن أحدهم أخبرها أن عقارب الساعة ما انفكت تتحرك لكانت أنكرت و بشدة و قد شعرت بعودتها للخلف.. شعرت و كأن العقارب دارت بالاتجاه العكسيّ فتعود يومًا.. و اليوم جرّ معه أيامًا.. فـ أسبوع.. فـ أسابيع.. فـ شهر.. فـ أشهر.. فـ سنة.. اثنين.. ثلاث.. سبعة عشر!.. سبعة عشر عامًا أمضاهما أمامها مضي السحاب بـ سؤالٍ واحد فقط!
تحجرت.. و تجمدت الدموع في مقلتيها و قد انسكبت آخر دمعاتها المترقرقة في مقلتيها، توسعتا و كأنهما ستخرجان عن محليهما، برودة عجيبة ضربت بأوصالها فارتجف جسدها اثرها، لم تكن تعلم أنهُ سيسألها هكذا!.. بهذهِ الصراحة و الوضوح، و كأنه يشك منذ زمن بالفعل، بينما هو قد قطع الشك باليقين حين تمكن بسهولة من تفسير ذلك التغير البادي على ملامحها الباهِتة، إنها تخفي حتمًا سرًا، لربما حتى ليس سرًا واحدًا.. لربما "سهير" تلك التي كانت في الماضي بديلة عن والدته و تعتبر مُربيته.. تخفي في جبعتها الكثير و الكثير عن عائلته، مجرد إدراك ذلك جعل دمائهِ تندفع بقوة في عروقه فشعر بها تكاد تنفجر، اشتدت قبضتا كفيهِ و قد نشبت النيران بين حدقتيه، حتى جأر فجأة بانفعال مُستهجن:
- سكتتي ليــه؟ انطقي!
بالرغم من ذلك التجمد الذي حاوطها من كل جانب.. إلا أن لسانها لم يجد سِوى بضعة أحرف ثابتة يُرتبها ليُطلقها:
- مقدرش!
و ثانية واحدة كان قد فقد آخر ذرات تعقِّله، فلم يجد سوى بضع أكواب المياه على المنضدة جواره، فـ دفعهم بكفه و هو يستقيم، ارتجفت أجساد ثلاثتهنَّ من الصوت المدويّ، بينما  هو ركل بعنفٍ المنضدة بساقهِ، ثم التفت نحوها ليقول بصوتٍ دوى في المنزل گالرعد:
- أنا هوريكي تقدري و لا لأ يا سهير!.. أنا هعرفك تقدري و لا لأ
تلك المرة حاولت أن تتحامل على تيبس ساقيها حتى وقفت أمامه، انهمرت الدموع مجددًا من حدقتيها و هي تقلص المسافات بينهما، ثم غمغمت محاولة استرقاقهِ:
- و الله يا بني انت مش فاهم حاجة، مش فاهم، و لا هتفهم أبدًا
فـ جأر بتشنجٍ غلّف نبرته:
- متقوليش ابني!
و انخفضت نبرته قليلًا و هو يصر على أسنانهِ حتى اهتز صدغيه و هو يرمقها بنظراتٍ نارية و قد بدت عيناه كـ جذوتين، بينما ينطق بشراسة:
- متقوليش ابني و انتي 17 سنة مخبية عني!
فـ استعطفتهُ و قد تضاعفت الدموع في عينيها حتى باتت صورته مشوشة و بنبرة مرتجفة متوسلة:
- يـ..يامن بيه!
التوى شدقيه بقسوةٍ جمة و هو يقول ساخرًا بنبرة حملت الكثير من الاتهام:
- دفعولك كام يا سهير؟ دفعولك كام عشان يشتروا سكوتك؟
هزت رأسها نفيًا و هي تني بصرها عنه قهرًا، فـ أخرج حافظة نقوده من جيب سترته و هو يخرج حفنة من الأموال و ألقاها في وجهها ورقةً تلو الأخرى و قد ارتفعت نبرته أكثر:
- دفعولك كـام؟ ألف.. ألفين.. تلاتة.. عشرة، مليــون!
و أغلق حافظة نقوده و هو يجأر بها بصوتٍ جعل جسدها يرتجف:
- ما تنطقي.. ساكتة ليـه؟ انطقي، انطقي قولي عايزة كام عشان تتكلمي!.. انطقي
و ارتفعت نبرته أكثر و هو يصرخ بكلمتهِ المستهجنة الأخيرة، فـ ارتفعت أنظارها نحوه و قد حاولت التسلح بالقوة الزائفة، لتنطق بغموضٍ مريب:
- الأيام بتدور.. الأيام بتدور، الحق هيظهر، و كل حاجة هتبان، الأيام بتدور يا يامن بيه!
تجاهل كلماتها و كأنها لم تكن و راح يهدر بها و هو يدنو مقلصًا المسافة بينهما قد شعر و كأنه على حافة الجنون:
- مين قتل أبويا يا سهير!.. مين قتل أبويا؟ حسين؟ هدى؟ و لا كمال؟!
ها هو يلقى بسبب آخر ليجعل جسدها يرتجف خوفًا، و لكنها راحت تتشبث بأطراف حجابها و هي تغمغم بثباتٍ زائف أثار حنقه أكثر:
- الأيام بتدور.. و الحقايق هتبان، الحق هيظهر، الأيام بتدور
صر بعنفٍ على أسنانه و قد شعر برغبة عارمة في الإطباق على عنقها، كوّر قبضته و هو يرفعها نحوها منتويًا لكمها، فتوسعت عينا "يارا" و هي تمضي نحوه محاولة ردعهِ، و لكنه كان قد سبقها و هو يلكم الحائط المجاور لـ رأس "سهير" فـ انتفضت الأخيرة و قد نهج صدرها علوًا و هبوطًا، زمجر غاضبًا و هم يدفع كل ما يقابله في طريق خروجه فـ أُصدر صوت التهشم المدوي، توقف لثوانٍ فقط عند الباب ليفتحه فبدا و كانه سيخلعه من مفاصلهِ، ثم التفت نحوها و هو يردد بقولهِ الشرس:
- اوعي تكوني فاكرة إنك هتعرفي تهربي؟ من بُكرة ترجعي لشغلك في القصر
و تابع و هو يشير لنفسه قائلًا بتهديد مبطن:
- و أنا عايزك.. عايزك بس تحاولي متجيش !
تابعت انحراف نظراتهِ المهددة نحو ابنة أختها فشعرت و كأن قلبها سـ ينخلع عن محله، حتى تأكد" يامن" من وصول رسالته، فـ خرج يحثّ خطاه و لسانهِ لا يكف عن السب.
بينما هي مررت النظرات فيما بينهما، لم تجد كلماتٍ تخفف من روعهما، فـ انسحبت مهرولة من خلفه محاولة استيقافه و هي تردد بلهجة متشنجة:
- صيّاد.. استنى ، استنى قولتلك!
و لما لم تجد ردًا منه سوى أنه كان يدور حول مقدمة السيارة ليستقل مقعده، اضطرت أن تُسرع خطواتها لتستبقه بخطوتين تقريبًا و هي تسد الطريق على بابهِ مانعة إياه من إستقلال السيارة، فـ حذرها بحاجبٍ مرفوع و باحتدام واضح:
- بنت حسيـن، حاسبي!
هزت رأسها نفيًا و هي تعقد ساعديها أمام صدرها و هي تقول بإصرار:
- لأ.. مش هحاسب
فـ جأر بها:
- بنت حسيــن، أنا مش ناقصك الساعة دي!.. حاسبي من وشي بدل ما..
فـ تحدته باحتداد و هي تحل عقدة ساعديها:
- بدل ما إيـه يا صياد بيه؟ هتعمل إيه؟ هتمد إيدك عليا؟ هتضربني؟ هتقتلني؟ هتعمل إيه؟
تلك النظرات المنبعثة من حدقتيه المضطرمتين، و بشرتهِ الملتهبة و كأن ما يسري بأوردتهِ جمرات لا دماء متوقدة، التوائة شدقه القاسية و تلك العروق البارزة بجانبيّ رأسه.. تعبيراته التي تدل على أنه يحمل في باطنهِ حمم بركانية.. و بركانهِ يكاد يثور بأي لحظة فـ قضي بحممهِ على ما حوله، و بالرغم من ذلك لم تهابه.. خاصة في تلك اللحظة، لم تسخر منه كونه قد اكتشف أن و بطريقًا أو بآخر قد يكون والدها بريئًا في وقتٍ كهذا، تحلّت بالصبر لئلا تفعل بالرغم من رغبتها في ذلك، ارتفع ذقنها و بعينيها استقرّت نظرة متحدية معلنة بها أنها ستكون في حربهِ.. لربما هو من أتى بها لأرض المعركة، و لكنها ستظل بها، و لا تعلم في أي صفٍ سـ تكون، أو بأي دور ستقوم، و لكنها حتمًا.. طرفًا فيها!
حذرها "يامن" بصوتهِ الأجش، من بين أسنانه المطبقة:
- بنت حسيـن!
لم يرف لها جفن و هي تقول بلهجة محتدة متعمدة الضغط على أحرف كلمتها:
- يـ..ا..ر..ا! يارا!
فـ تشدق ساخرًا و قد شاب نبرتهِ السخط التام:
- هنسيب بقى كل حاجة و هنقعد نتهجي اسم الهانم!.. مش كدا؟
و احتد و هو يأمرها قائلًا:
- حاسبي!
تيبست قدامها في الأرضية و هي تقول مؤنّبة بصوتٍ جاف:
- مش شايف انك زودتها معاها؟.. في حين إنها في سن والدتك
فـ التوى شدقيه ساخرًا و هو يقول بتهكم مبطن بمرارة حجبها ببراعة:
- والدتي؟.. هي فين والدتي دي؟
هدأت قليلًا و هي تنقل نظراتها بين عينيهِ ، ارتخت تعبيراتها المُشتدة و قد لاح أمام ناظريها تلك اللمحة المريرة التي مرت بحدقتيه، رمشت عدة مرات و هي تزدري ريقها، بينما استشعر هو تلك الغصة التي اقتحمت قلبه دون استئذان، تلك الدمعة التي لا يعلم كيف شقّت طريقها لعينيه، و لكنهُ أبى.. أبى أن تنسدل تلك الدمعة العالقة أمام عينيها، فـ أشاح بوجهه بعيدًا عنها و هو يقول بنبرة حاول التحكم بثباتها:
- حاسبي يا بنت حسين، خلينا نمشي من هنا!
ما جرحها حقًا هو أنها صارت تعلم كيف هي والدته.. و كيف أنها مجرد امرأة لعوب، و لكنها حاولت أن تضغط على جراحه النازفة، حاولت سكب الملح على جرحه الغائر متعمدة أن يأتيها بالمزيد من التوضيح، فعقدت ساعديها أمام صدرها و هي تقول بسلاسة متحدية:
- أيوة والدتك.. هدى هانم
تلك المرة انحرفت نظراته نحوها غير مدركًا لدمعتهِ التي انسكبت من بين عينيهِ من خلف الشعيرات الحمراء المتوهجة بهما، بينما يهدر باختناق:
- أم!.. أنا معنديش أم يا بنت حسين، أنا أمي ماتت و هي بتولدني!
تعلقت أنظارها بتلك الدمعة التي سقطت من بين عينيهِ و قد انعقد حاجبيها باندهاش، كيف اجتمع لفظ العبرة مع "يامن الصياد"؟.. لا تعلم!
لربما تلك العبرة لم تكن عبرة من كلمة.. أو من موقف، لربما عبرة واحدة أجازت عن سنوات عمره بأكملهِ، عمر تعايش معه بتفاصيلهِ الدقيقة، عمر انساب من بين انامله بينما هو لم يحقق بعد مغزاهُ الحقيقيّ من حياتهِ تلك، شردت بدمعته التي دفنت بين بصيلات ذقنه، فـ أخرجها جبرًا من شرودها بكاملتهِ الجافة التي ألقاها على مسامعها:
- دا اللي عيشت بقنع نفسي بيه، معلقتش نفسي بأمل كذاب و توقعات مش هتحصل، أقنعت نفسي بالحقيقة اللي اتفرض عليا أعيشها.. الحقيقة اللي بتوجع يا بنت حسين أرحم مليون مرة.. من أمل كذاب!
و أبعدها عن طريقه بينما هي متراخية اثر كلماتهِ التي أقلتها بمنتصف دوامة لا تعلم كيف ستجد لنفسها لها مخرجًا منها، حتى فتح باب السيارة و استقلها مخفيًا عينيهِ المتوهجتين خلف نظارتهِ ، و أدار المحرك و قد تيبست عضلات وجهه تمامًا عدا حاجبيه الذي تركهما معقودين فتسبب بتغضن جبينه، كفهُ على المقود و مرفقهِ الآخر يُسنده على حافة الزجاج المفتوح، بينما ينظر فقط أمامه، حتى و أخيرًا قررت أن تحلّ تيبسها ذلك، و تُذيب تجمد جسدها، فـ حررت زفيرًا حارًا من صدرها حمل معهُ الكثير، ثم التفت حول المقدمة، لتستقل السيارة دون كلمة أخرى تُقال!
..................................................................
دومًا ما تعود لجُحرها ذلك، صارت تدرك حقًا أنهُ قدرها الذي توجب عليها العيش معه، خطت بقدمها للداخل من خلفهِ و هي توصد الباب، فـ راح ينحني بجذعه قليلًا و هو يترك الأكياس البلاستيكيّة على المنضدة الصغيرة و قد التوى شدقيه ببسمة ساخرة متذكرًا كلماتها، و سريعًا ما تلاشت و هو يترك معها سلسلة مفاتيحه و هاتفه ، كاد أن يمضي نحو الغرفة و هو يخلع عنه سترته، فرددت مستوقفة إياه:
- صياد!
توقف منتصف الطريق و هو ينظر نحوها مغضنًا جبينه، فـ أردفت و قد تشككت:
- كل واحد مننا هينام في أوضة
فـ التفت و هو يقول بلا اكتراث:
- نامي في الأوضة اللي فيها حاجتك يا بنت حسين
فـ انحرفت نظراتها نحو الأكياس البلاستيكية و هي تقول مضيقة عينيها:
- مش هتاكل؟
لم يصله صوتها و قد بلغ غرفتهِ و دلفها، فـ رفعت عمدًا من نبرة صوتها و هي تقول بشكّ:
- مش هتاكـل؟
أتاها صوته الساخر:
- لأ.. حاطط فيه سم!
.................................................................
................................
.......................................................................
 
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now