"الفصل السابع و الأربعون"

786 18 0
                                    

" الفصل السابع و الأربعون"
يكاد يُطيح بالأخضر و اليابس عقب صبر نال منهُ رويدًا رويدًا.. و لكنه كان يتحمّل فقط لتلك الضربة القاسمة التي سيوجهها لـ "يامن"، و لكن تلاشى كل شئ، و تبدد گالسراب من أمامهِ.. بفضلِها.
 الوسط تبعثر.. شظايا متناثرة هنا و هناك و كل ما بغرفة معيشته قد تهشم و تحطّم إثر حالة الهياج الشديدة التي تمكنت منه، فترك غضبه المكبوت يطفُو على السطح، تسلطت عيناهُ على جهاز حاسوبهِ الذي تهشّم و تلك الذاكرة تتخذ محلها بهِ و قد انكسر جزءً منها، بينما هو جالسًا على الأرضيّة مستندًا بظهرهِ لأحد الأرائك المقلوبة رأسًا على عقب، الدماء تُقطر من كفيهِ، وجهه أشبه بنيزك مُضطرم.. أطبق "نائف" أسنانهِ أكثر و هو يتذكر فعلتها الغادرة تلك، و تلك اللحظات التي مرت عليه حين فتح محتوى الذاكرة بتلهف شديد و هو يعتقد أنهُ سيتمكن من دعس "يامن" بسهولة.. فمجرد أن يخبره بأن زوجتهِ هي من أسلمته تلك الذاكرة، كان سيُهدم حياتهما و زواجهما رأسًا على عقب، و لكن تلاشى تلهفهِ، و تبدّل بالسخط المهتاج حين وجدها فارغـة، فارغة بالمعنى الحرفي
راح ينهض عن الأرضية و هو يتنفس بمعدل سريع و صدره ينهج علوًا و هبوطًا و هو يسبّها بأبشع الألفاظ:
- آآه يا ***** يا بنت الـ*****، أنا تعملي فيا كده! و رحمة الغالية لأوريكي يا يارا!
...............................................................
تأففت من تلك الطرقات الصاخبة على باب منزلها فحثّث خُطاها و هي تغلق روبها المنزليّ محكمة إياه فوق قميصها، حتى توقفت أمام الباب فأدارت المقبض بوجهٍ متجهم.. و سريعًا ما تلاشى التجهم عنه ليحل الارتياب و هي تجدهُ أمامها بكامل أناقتهِ و طلّته المهيبة، ازدردت ريقها و هي ترمش عدة مرات محاولة التماسُك:
- ولـ..ولاء مش هنا
أومأ "فارس" برأسه و هو يدلف فتنحت للجانب عفويًا لتسمح لهُ بالعبور، كان يدس كفيه بجيبيه، ثم التفت إليها ليحدجها بنظرات قاتمة بينما هي تقف ثابتة.. أو محاولة التظاهر بأنها كذلك، بينما قلبها يكاد يخرج عن أضلعها من فرط هلعها، و بثانية واحدة كادت تفرّ من المنزل و لكنهُ و كأنه قرأ ما جال بخاطرها، حيث أوفض نحوها مجتذبًا لها من عضدها للداخل و هو يصفع الباب بعنف، رمقها بنظراته المتوهجة، ثم دفعها بعنف للداخل حتى ارتد جسدها فسقط أرضًا، انفلتت منها صرخة مرتاعة، تراجعت بظهرها للخلف و هي تنظر نحوهُ بذعر و هو يتقدم نحوها، حتى اصطدم جسدها بالجدار، فاعتدلت مستندة بظهرها إليه، و فور أن حاولت الوقوف كان يسد الطريق بجسدهِ الصلب عليها، فصارت محتجزة بين الحائط و بينه، ضمّت "وداد" ساقيها لصدرها و هي تنظر نحوهُ بارتعاد لم تتمكن من إخفائهِ، ثم قالت من بين لهاثها:
- انت.. عايز مني إيـه؟
انحنى "فارس" عليها قليلًا و هو يحدجها بنظرات شرسة فاقمت ما بها من هلع، ثم همس بلهجة أشبه للفحيح:
- سـؤال.. سؤال واحد
رمشت بعينيها عدة مرات و هي تحاول السيطرة على ارتجافة جسدها، ازدردت ريقها و هي تنظر نحوه بترقّب، بينما كان يقول بلهجة قاتمة و هو يمرر أناملهِ الخشنة على وجنتها ببطء:
- مين اللي زقك على ولاء؟
أجابته بذعر و هي تطبق جفنيها بعنفٍ:
- مـ..محدش، ولاء صاحبتي، و اتقابلنا في كافيه، اتعرفت عليها من هناك
أومأ برأسه بحركة متريثة و هو يقول متفهمًا:
- كافيه..آآه!
نهج صدرها علوًا و هبوطًا و قد انفلتت منها صرخة متألمة حين دفن كفهُ بين خصلاتها ليجتذبها منها مجبرًا لها على الوقوف على ساقيها، ثم أردف من بين أسنانهِ المطبقة:
- اسمعي يا بت انتي.. و رحمة الغاليين إن ما نطقت لاكون منطقك بطريقتي
حاولت تخليص خصلاتها من قبضته و هي تشعر به يكاد يقتلعه من جذوره مرددة بصوت مبحوح:
- آآه،.. قولتلك محدش، صدقني
فردد متوعدًا و أنظارهِ الملتهبة تلتهمها:
- يعني مش هتنطقي؟.. خلاص أنطقك بطريقتي
اجتذب خصلاتها أكثر حتى التوى عنقها للأسفل.. قرّب شفتيه ليهمس لها أمام ثغرها و أنفاسهِ تحرق بشرتها:
- انتي وقعتي مع الصياد يا حلوة.. و الصياد مبيرحمش!
فرددت من بين صرخاتها و هي تحاول الفكاك منه:
- أديك قولتها.. الصياد مبيرحمش، سيبني بقى، أنا مجيتش جمبها.. سيبني
ضيّق عينيه و هو يشمل وجهها بنظراته المشتعلة ثم ردد متشككًا:
- قصدك إيه يا بت انتي؟
رمقته بنظرات متألمة و قد بدأت الدموع تتجمع في مقلتيها، فلم يكترث لها، بل أنهُ حرر خصلاتها ليُطبق بكفهِ على عنقها و هو يهدر بها باهتياج:
- قصـدك إيــه؟، انطقي، انطقي قبل ما روحك تطلع في إيدي
شعرت بقبضتهِ تسحق عنقها و كأنه سيتهشم فيه، ضربت بكفيها المتكورين على كفه و هي جاحظة بعينيها غير متوقعة أن تجد نهاية كتلك.. حاولت التحدث علّهُ يتركها لحال سبيلها:
- سيبـ..سيبني، هتكلم.. هتكلم بس سيبني، هموت في إيدك
فشدد أكثر من إطباقه عليه و هو يردد بلهجة محتدمة:
- مش سايبك غير ما تنطقي، مين اللي زقك عليها!
اصطبغ وجهها بالزُرقة و قد شعرت برئتيها تفرغان من الهواء، و كأن عروقها تكاد تنفجر و هو يشدد من قبضته عليهِ، فدمدمت بصعوبة من بين أسنانها:
- أبـ..أبوك
كلمة واحدة كانت كفيلة ليُرخى أناملهِ التي تركت آثارًا عميقة عن عنقها، عيناهُ توسعتا بغيظٍ و هو يجتذبها مجددًا من خصلاتها و قد تفاقمت شراستهِ:
- انتي بتقولي إيـــه؟، أبويا مين يا بنت الـ******
سعلت عدة مرات و قد انسدلت دموعها على وجنتيها مرددة بلهجة متحشرجة:
- و رحمة أمي ما بكذب، كمال الصياد هو اللي.....
و فور أن نطقت اسمه كان يقبض على فكها بكفهِ الآخر و هو يهدر بها محتدمًا:
- اخرسي.. اسمه ميتنطقش على لسان الـ***** ده
أغرقت دموعها التي فاضت كفه و هي تقول بصعوبة و أنفاسها تتهدج:
- و الله.. دي الحقيقة، هو.. هو اللي زقني عليها، كان.. عايز يضيعها، ويخليها مُدمنة،.. و كنت هديها أول جرعة لما.. لما كنت عندي لكن.. لكن ملحقتش!
........................................................................
و عقب جلسة استحمامية نعمت فيها بهدوءٍ خارجي.. كانت النيران تنشب بداخلها ، ارتدت ثوبًا يصل لساقيها من اللون البني القاتم و خرجت من المرحاض و هي تجفف خصلاتها بينما تمضي نحو منضدة الزينة ، تركت المنشفة بعيدًا و هي تزفر حانقة عندما وقعت عيناها على انعكاس صورتها ، سحبت الفرشاة و شرعت تُمشط خصلاتها السوداء ، شردت و قد استعاد ذهنها تلك اللحظات الحميمية، فدوى صوت نبضها في أذنها ، شعورًا مريبًا تملك منها فـ أطبقت جفنيها بسكونٍ عجيب ، تلمست شفتيها بأطراف أناملها..لم تُنكر أن تأثيره كان طاغيًا عليها..كـ شخصيتهِ تمامًا ، و فجأة استنكرت ما تقوم به ، عبست و هي تقذف بالفرشاة بعنفٍ فوق منضدة الزينة فـ أصدرت صوتًا مزعجًا ، اجتذبت رابطة شعرها و رفعتهُ گذيل حصان لتقوم بعقدها أثناء قولها المُستهجن:
ـ اتجننتي!..انتي نسيتي ده كان مين و لا عمل فيكي ايه
انتهت من عقد خُصلاتها فـ أخفضت كفيها لتستند لحافة منضدة الزينة و تمعنت النظر لملامحها و قد احتلّ الوجوم صفحة وجهها :
ـ معلش..المرة دي كانت غلطة مستحيل تتكرر ، انتي مكنتيش في وعيك!
دفنت وجهها بين كفيها و هي تتمتم محاولة التبرير :
ـ غلطة يا يارا.. غلطة مش محسوبة
و مضت تسحب احدى رواياتها التي تقتنيهم عبر الانترنت بيُسر بالغ، و جلست فوق " الشزلونج" .. و طفقت تمرر عينيها على الكلمات بلا تركيز ، فـ اذ بصورتهِ تنبثق أعلى الكلمات على حين غرّة ، عيناهُ الغامضتان اللتان تُشبهان جنانًا نشبت بها نيرانًا مُتقدة ، و يعتليهما الحاجبين الكثيفين معقودان گمسطرة مُستقيمة دومًا ، أنفهِ المعقوف و خصلاتهِ السوداء ، رُسمت أمامها بـ الدقة المتناهية ، فـ أخذت تُحدّق بها ، فـ استعادت لحظاتٍ بدت و كأنها وليدة اللحظة ، مشاعرًا عايشتها لم تكن تتخيل أن تحظى بها معهُ هو ، أحلامًا.. لم تكن حتى كـ تلك التي رسمتها.. لحظاتٍ أشبه بحلمٍ جميل استيقظت منه على واقعها المؤلم ، مُتأرجحة بين مُرادها و مراد قلبها ، طردت زفيرًا حارًا من صدرها و هي تصفع دفتيّ الكتاب بحنق و تركته ، نهضت عن محلها و لكنها غيّرت مسارها حتى الكومود لتسحب هاتفها عقب أن استمعت إلى رنينهِ، ابتسامة متسعة ظافرة احتلّت ثغرها و هي تنقر زر الإجابة، ثم ببرود شديد بادرت:
- نائف، إزيـك؟
فـ أتاها صوتهُ المستنكر من فورها:
- بتلعبي بيا يا يارا! .. أنا يتلعب عليا من حتى عيّلة متسواش!
اتقدت عيناها و هي تعنفه و قد غلت دمائها:
- احترم نفسـك يا نائف أحسن لك
فهدر بها مستهجنًا:
- بتبيعيني أنا عشانه؟ بتبيعيني عشان يامن
فغمغمت ساخطة و هي تقوّس شفتيها:
- شكلك نسيت يا نائف.. هو يبقى مين
و وجدت نفسها تُقرّ بذلك بثقة شديدة:
- جـوزي، يبقى جوزي
 و عبثت بأظافرها ببرود شديد و هي تتابع بلهجة صقيعيّة:
- أكيد مكنتش متوقع إني هخونه بالطريقة دي، أو إني ممكن أتسبب له في الخسارة اللي كنت عايزها عشان خاطر واحد واطي زيّك!
فـ أجاب "نائف" من بين أسنانه المطبقة و هو يطيح بإحدى قطع الأنتيكة:
- آآه يا بنت الـ****** يا******
و أتبع سبابهِ اللاذع بقولهِ:
- و ديني و ما أعبُـد لاندمك
و قبل أن تستمع للمزيد من السباب كانت تنهى المكالمة و قد أصابها الغثيان المفاجئ، نظرت للهاتف باشمئزاز و هي تغمغم بلهجة ناقمة:
- انسان قذر
و تركت هاتفها جانبًا.. ثم أوفضت نحو الشرفة ، أدارت المقبضين بشكلٍ عكسي فـ انفتح البيابين ، دلفت للداخل و دنت من سورها ، ثم استندت بمرفقيها عليه و هي تُمشط المكان من حولها ، حتى شخص بصرها حين وقع عليه ، تعلقت نظراتها به غير قادرة على صرفها ، حيث كان يقف بالأسفل يتحادث باقتضابٍ للسائق، استجمعت سريعًا شُتاتِها فـ استشاطت غضبًا من حالِها ، ضربت السور بقبضتها بعنف ، ثم التفتت و كادت تنسحب من المُحيط لولا أن كلمةً اخترقت مسامعها فوقعت عليها وقع الصاعقة. .فـ تسمرت و قد دوى صوت نبضها في أذنيها ، ازدردت ريقها و قد لاحت تعبيرات التوجس على ملامحها ، حاولت الاستماع لحديثهِ و لكن لم يصلها سوى همهماتٍ غير مفهومة نظرًا لبعد المسافة فلم تنتظر.. على الفور أوفضت نحو الخارج تاركة الغرفة بأكملها.
 هبطت الدرجات ركضًا حتى أنها كادت تتعثر لأكثر من مرة ، حتى و أخيرًا بلغت الباب الخشبي للقصر ، فتحتهُ و ولجت للخارج تسرع خطواتها ، حتى وصلت على بعد مسافةٍ منه ، توقفت تلتقط أنفاسها اللاهثة ، و لكنها لم تنفك تتحرك و قد رأت السائق يُسلمه مفاتيح السيارة ، توسعت عينيها و هي تمضى نحو السائق الذي سار بشكلٍ عكسي ، و ما ان رآها حتى توقف احترامًا و هو يتمتم بلباقة:
ـ صباح الخير يا هانم
فرددت بتهدجٍ و قد توقفت لثوانٍ و التمعت عينيها ببريق غريب:
ـ هو رايح القاهرة..؟
رفع السائق كتفيه و قد تعجب لسؤالها:
ـ مش عارف يا هانم
فتركتهُ فورًا و هي تمضي خلفه تتبعه ، كان يسير بـ خطواته الواسعة قاصِدًا سيارته بينما يرتدي نظراتهِ الشمسية السوداء ، نادتهُ باسمهِ علّهُ يتوقف:
ـ يـامن!
دوى صوتها في أذنيه.. صوتها الرقيق الذي خالجتهً اللهفة لم يكن ليمر مرور الكرام على روحه التي اشتهت قُربها خاصة عقب أن تعرف إلى كل ذرة فيها.. أرادت الالتفات إليها ، و لكنهُ ألجمها بقسوةٍ ، متظاهرًا بالجفاء الذي اتخذ من تقاسيم وجهه مُستقرًا ، استطرد سيرهُ غير مُباليًا لها ، تعمّد أن يكون جافًا ليثبت لنفسه قبل أن يثبت لها إن شيئًا لم يكن ، و أن مشاعرًا لم تترعرع تجاهها بين طيّات قلبه ، و أن ما حدث لم يكن سِوى حقه الشرعيّ و فقط، عادت "يارا" تُناديه بصوتٍ أعلى و قد اعتقدت أنه لم يُصغِ إلى صوتها ، هرعت نحوه و هي تهدر باسمهِ و لكنه لم يلتفت، حتى و أخيرًا صارت مجاورة له ، فـ تمتمت بتهدجٍ محاولة التقاط أنفاسها اللاهثة :
ـ انت نازل القاهرة ؟
و كأنها ذرة غبار عبرت من إمامهٍ و مضت و لم تترك اثرًا ، لم يُكلف نفسه الالتفات أو التوقف، تابع طريقه فـ اضطرت أن تهرول أمامه متجاوزة إياه بثلاث خطوات تقريبًا و هي تسير بشكلٍ عكسي ، ثم جعّدت جبينها و هي تتمتم باستهجان:
ـ هو أنا كلبة بتتكلم.. ما ترد عليا ، إيه الغرور اللي انت فيه ده؟
فـ أجابها بصوتٍ حالك من بين شفتيه القاسيتين و لم يعطف حتى نظراته نحوها من خلف زجاج نظراته القاتمة:
ـ عايزة إيه؟
ـ نازل القاهرة ؟
أجابها باقتضاب:
ـ ليه؟
ـ أنا بسألـ...آآآه!
و بسبب سيرها العكسي بذلك الشكل تعثرت قدمها و كادت تسقط تنكفأ على وجهها لولا أنهُ قبض على مرفقها جاذبًا إياها نحوه و قد تيبست قدماه فـ حال دون سقوطها ، نهج صدرها علوًا و هبوطًا و هي تنقل نظراتها بين عينيه اللتان لم تتبينهما بسبب نظارتهِ تلك ، فنفض ذراعها بعيدًا محدجًا إياها من خلف زجاج نظراته ثم ردد بصوتهِ الأجشّ:
ـ عايزة إيه يا يارا؟
تسمرت قدماها و هي تستجمع رباطة جأشِها.. اهتاجت و قد التهب لون بشرتها :
ـ طالما مجاوبتش بـ آه أو لأ..يبقى رايح
فتمتم بصوتٍ آمر، متعمّدًا أن يبزغ الضجر في صوتهِ:
ـ لخصي!.. أنا مش فاضي
امتدت أناملها فجأة و قد تضايقت من تلك النظارات التي تحجب عينيه و بتأففٍ رددت:
ـ اقلع الزفتة دي كمان خليني أشوف عينيك و أنا بكلمك!
حُلّت عقدة حاجبيهِ، فارتفع حاجبهِ الأيسر استنكارًا لفعلتها بينما كانت تتمتم مُضيقة عينيها و هي تغرس نظراتها بين مقلتيهِ :
 - مش هسمحلك تسيبني و تروحلها فترجع زي ما رجعت لي قبل كده، مش هسمحلك تكررها تاني يا يامن، مش هستحمل أسمع منك كلام اللي قولته!
أمعن النظر لملامحها بشرتها الملتهبة، زرقاويها الملتهبتين ، أنفها المحمر، و انجرفت نظراتهِ حتى شفتيها المُكتنزتين ، خشى أن ينحدر نحو ذلك السفح مُجددًا ، ازدرد ريقه كابحًا جماحه بصعوبة، أصرف بصرهُ عنها ليتابع سيرهُ ، فغلت الدماء في أوردتها و هي تندفع بعنفِ حتى كادت عروقها تنفجر ، سارت خلفه و هي تصيح باستهجان من ذلك البرود الظاهري و لم تتمكن من كبح سؤالها:
ـ انت ازاي بارد كده بعد اللي عملته؟
و لم تجد أي استجابة ، فـ كزت بعنفٍ على أسنانها و هي تتمتم حانقة :
ـ انت..انت اكتر انسان بارد شوفته في حياتي ، مش عارفة ازاي محتفظ بجمودك و كأن حاجة محصلتش.. أحب أفكرك لتاني مرة إني مكنتش في وعيي..اللوم عليك انت ، انت اللي استغليت عدم ادراكي ، انت.. انت أحقر انسان شوفته في حياتي ، أنا.. أنا بكرهك.. بكرهـ...!
و قبل أن تُتمم كلمتها كان قد التفت على حين غرة مُحيطًا خصرها بذراعهِ فـ التصقت رُغمًا عنها بصدره ، و كان مصير كلماتها جوفهِ من جديد و قد التحمت شفتاهُ بشفتيها في قبلةٍ أسرتها ، قبلة أيقظت شعورًا لم يُخمد بعد بها ، و أججت نيران رغبتهُ بها بداخله ، طالت قبلتهِ محاولًا أن يروي اشتياقهِ من خلالها.. و لكن اشتهائهِ لقربها و الالتحام بروحها كان قد بلغ منتهاه و قبل أن يتهور أكثر، ابتعد قليلًا ليجدها شاخصة البصر، فاغرة لشفتيها ، افترّت شفتيهِ بابتسامة ساخرة و هو يحرر خصرها قليلًا ليسحب نظارتهُ من بين أناملها التي تراخت فكادت تُسقطها ثم تمتم مُتهكمًا و أنفاسهِ الدافئة تطوف حول بشرتها:
ـ مطلبتش منك تحبيني!
رمشت بعينيها عِدة مرات و قد تيبس لسانها و تبعثرت كافّة الأحرف عليه ، تثلجت أطرافها و أصاب الصقيع أوصلها و كأن أحدهم سكب دلوًا من الثلج فوق رأسها ، بينما كان قد تراجع خطواتٍ للخلف، و مضي مستكملًا طريقهُ إلى السيارة التي كانت تقع على بعد خطواتٍ منهما ، و استقل مقعده بها ، جامدًا گلوح الثلج ، نظراتهِ جدارٍ فولاذي لم يبد عليه أي تأثر ، و لم تنحرف نظراته نحوها حتى و هو يُدير المحرك ، و انطلق مبتعدًا بالسيارة مُخلفًا ورائهُ سحابةً من الغبار الكثيف...و هي!
محملقة بطيف السيارة الذي بدأ يتلاشى ، تلمست شفتيها بأناملها غير مستوعبة ما حدث توًا.. و سرعان ما تدفقت الدماء باستفاضة حتى وجنتيها ، و غلت الدماء بعروقها گالحميم ، فضربت الأرض بقدمها مجددًا.. لم تُبادله قبلته ، و لكنها لم تنفر قربه أيضًا و تركته يستعمر مشاعرها من جديد ، و ضُربت بوعودها بألا يمسّها من جديد عرض الحائط ، و لم تشعر بنفسها سِوى و هي تغمغم ساخطة:
ـ سافل!..أكتر انسان سافل شوفته في حياتي!
......................................................................
إطارات السيّارة تلتهم الإسفلت من أسفلها، مخالفة مروريّة جديدة سجلها غير مباليّا، الأفكار تعصف برأسهِ، والده الذي كان ناقمًا على "يامن" لزجّهِ خلف القضبان هو من كان سيتسبب بضياع تلك الفتاة التي لم ترتكب إثمًا واحدًا نحوه، لمَ؟.. لا يعلم، و لكنهُ سيعلم حتمًا عقد العزم على أن يفعل، و بأسرع وقت.
و لنفوذهِ الذي بدأ يتوسّع لدى فترة تواجدهِ، و كونه فردًا من عائلة الصيّاد، كان يسيرًا عليه أن يقابله في ذلك التوقيت.. فبعد قيادة متهورة منه لا يعلم كيف لم يصطدم بسيارته، إلا أنهُ بالنهاية كان يجلس بمكتب مأمور السجن الذي رحّب بوجوده، رفع سماعة الهاتف فور أن جلس "فارس" و هو يعرض عليهِ:
- تحب أطلبلك إيه؟
أشار "فارس" بإصبعيه إليه و هو يقول بتجهُّم واضح:
 - متشكر.. مش عايز حاجة
فترك السماعة مجددًا ، أشار إليه و هو يقول بلهجة جادّة:
- ثواني و هيكون موجود.. ارتاح
لم ترتخِ عضلة واحدة من عضلات وجه "فارس" و هو ينقر بسبابتهِ بحركة ثابتة على سطح المكتب، مترقّبًا تواجد والدهِ بفارغ الصبر، عاد بظهرهِ للخلف مطبقًا جفنيه بقوة، حتى انتفض معيدًا فتحهما حين انفتح الباب على مصراعيه ليدلف العسكريّ ممسكًا به، تهللت أسارير "كمال" و هو يراهُ أمامه، فانفرجت شفتيه هامسًا:
- فارس
نهض "فارس" من فورهِ عن جلسته، فنهض المأمور بدوره و هو يقول بصوت غليظ:
- هسيبكم براحتكم شوية
 و أشار للعسكريّ الذي أدى التحية العسكرية، ثم ولج خارجًا فتبعهُ المأمور، و أوصد الباب، دنا "كمال" من "فارس" و هو يضمّ جسدهِ الصلب بين أحضانهِ قائلًا:
-وحشتني يا ابني.. بقالك كتير مجتش تزورني
كان متيبسًا، لم يبادلهِ عناقه و لم يتحرك، فتغضن جبين "كمال" و هو يبتعد قليلًا لينظر نحوه متسائلًا، ليجده يحدجه بأنظار عجيبة.. يراها للمرة الأولى في عينيهِ نحوه، نظراته المتقدة و وجهه المتجهم و الذي اصطبغت فيه بشرته البيضاء باللون الاحمر القاني جعلهُ يقول مستوضحًا:
- مالك يا فارس؟ في حاجة حصلت؟
فنطق بكلمة واحدة خرجت متشنجة مغلفة بالاستهجان:
- ليــه؟ ليه يا بابا؟ ليـه تعمل فيها كده؟ عملتلك إيه عشان تعمل كده؟
حدّقت عيناهُ، لم يرمشا و هو يسألهُ و نبضاته تكاد تصُم أذنيه:
- ميـن؟، انت بتقول إيـه؟
فجأر بهِ متشنجًا و عروقه تبزغ أكثر من جانبيّ رأسهِ:
- ولاء.. ولاء يا بابا، البنت اللي عمرك ما قابلتها حتى! عملت فيها كده ليــه؟ أذيتك في إيه عشان تعمل كده؟
حينها رمش بعينيهِ و هو يسأله و قد ارتخى ذراعيهِ عنهُ ليظلّا جوارهِ:
- انت عرفت؟
أشار "فارس" بعينيه و هو يقوس شفتيه:
- ليه يا بابا؟ ليــه؟.. رد عليا
 حينها منحهُ نظرة باردة من طرف عينهِ، ثم مضى ليرتخى بجسده على أحد المقعدين و هو يقول بلهجة صقيعيّة لم يكن يتوقعها "فارس":
- حساب قديم بصفيـه، متشغلش بالك بيها
تقبض كفيه و هو يستدير ليضرب سطح المكتب بهما و هو يهدر بتشنج:
- حساب إيه ده اللي بتصفيه معاها؟ عملت فيك إيه عشان يبقى في بينكم حساب
حكّ "كمال" بإبهامهِ ذقنه النامية و هو يقول بينما يتهرب منه بأنظارهِ:
- مش لازم الحساب بنصفيه من الشخص نفسـهُ، ممكن نختار اللي أغلى عليه من نفسه و ننتقم منه
و ارتكزت عينيهِ اللتان أُظلمتا في عينيّ ابنه الذي لم يرَ قبلً تلك النظرات المُعبئة بلهيب الانتقام فيهما، بينا كان "كمال" ينطق:
- عشان نضمن إنه يعيش العمر كله يتعذب.. عشان يبقى الانتقام الصح
و حاد بنظراته و هو يقول متشدقًا:
- زي ما يامن عمل كده بالظبط، هو اللي علمني كده، أنا فعلًا كنت غلطان لما كنت عايز أقتل بسهولة
و بدت لهجتهِ مشتعلة تعكس ما يعجّ بهِ صدره و هو ينطق:
- الموت ده راحـة.. راحة مش عايزه يطولها
ضيّق "فارس" عينيه و هو يسألهُ مزمجرًا:
- عايز إيه من حسين يا بابا؟ في إيه بينك و بينه يخليك تعمل كده؟.. حساب إيه ده اللي عايز تصفيه؟
- متشغلش بالك بيه كتيـر، لأنك مش هتعرف
ضرب "فارس" براحتهِ التي بسطها أعلى المكتب و هو يميل بجذعهِ عليه غارسًا نظراته بين عينيه:
- عايز تصفي حسابك تصفيه من حسيـن، لكن ولاء محدش هليمس منها شعرة يا بابا، انت فاهـم؟
ضحك.. ضحك كما لم يضحك من قبل و قد دوى صوت كركرتهِ في الوسط حتى أدمعت عيناه و اهتزّ منكبيه، بينما "فارس" يُطبق على أسنانهِ مشددًا على عضلات فكيه و هو يناظره باحتداد واضح، ريثما انتهى الأخير و هو ينزح بطرف إصبعهِ دمعتيه اللتان توقفتا على أعتاب عينيهِ و هو ينظر نحوه، فسألهُ "فارس" محتدمًا:
- مش عارف قولت إيه ضحكك أوي كده
مال "كمال" عليه هو الآخر و نظراتهِ تنحرف بين مقلتيّ "فارس" و هو يغمغم:
- عشاني شايف "يامن" قدامي.. "يامن" اللي قالي نفسك كلمتك دي قبل كده عشان بنت حسين التانية
ضاقت عينا "فارس" حتى باتتا أكثر احتدامًا بينما كان "كمال" يعود بظهرهِ للخلف و هو يضرب كفًا بكف:
- مش عارف عاملينلكم إيه بنات حسيـن!
و نظر نحوهُ ساخرًا و هو يبستم متهكمًا:
- حتى انت وقعت وقعته! وقعت في بنت حسين التانية
فحذرهُ "فارس" من التمادي و قد اشتدّت عضلات عنقهِ:
- بابــا
عقد "كمال" حاجبيه استنكارًا و هو يُتمتم:
- إيـه؟ قولت حاجة غلط
و أشار إليه و هو يستطرد هازئًا و مقوسًا شفتيهِ:
- مش شايف نفسك هتاكلني عشان خاطرها إزاي؟
فكانت نبرة "فارس" قاطعة و هو يقول:
- بابا.. من الآخر، البنت دي مسؤوليتي، محدش هيقرب منها و لا هسمح لده إنهُ يحصل، خلص الكلام
 و استقام في وقفتهِ، ثم استدار لينصرف تاركًا له يتابعه بأنظارهِ المحتدة التي طفت على السطح عقب ذلك البرود الذي التزم به، تكورت قبضتيه و هو يقول متوعدًا:
- و رحمة أبويا لأوريك يا حسين انت و بناتك، هخليكم تبكو بدل الدموع دم، بس اصبروا، أنا صبرت كتير، و خلاص قربت أوصل.!
...........................................................
- حيّرت قلبي معاك.. و أنا بداري و أخبي، قولي أعمل إيه و يّاك، و لا أعمل إيه و يّا قلبي، بدى أشكيلك من نــار حُبي، بدي أحكيلك على اللي في قلبي، و أقولك على اللي سهرني و أقولك على اللي بكّاني، و أصورلك ضنا روحي... و عِزة نفسي مانعاني و عزة نفسي منعاني
مُستندة بمرفقها للطاولة و هي تتكأ بوجنتها لراحتها و قد شعرت و كأنها ستبكي، و حقًا ترقرقت العبرات في مقلتيها و ذكريات الأمس تلاحقها لا تقوى على إلجامها، و لا تقوى على السيطرة على تلك الخفقة الثائرة في قلبها، أتعترف بما يجول في قلبها؟ أم ترفض، أتعترف بغيرتها.. أم تظل تحتجّ؟ أتعترف بأنها لا تخشى سوى من أن يكُون عايش تلك اللحظات مع حبيبتهِ السابقة، و أنها لا تخشى من احتماليّة قتلهِ لها كما أفضى "نائف" القول البارحة، إنها لا شئ بالنسبة إليه، تعلم ذلك.. و لكنه صار الكثير بالنسبة إليها، لربما ليست هي المرأة الوحيدة في حياتهِ، و لكنه الرجل الأوحد بحياتها.
ماذا تفعــل؟ شعور الضياع محيطًا لها حتى أنها لا تتمكن من التفكير بشكل صحيح أو ترتيب أفكارها، ما مصيرها؟ ما مصير حياتها معهُ؟ أهما في مفترق الطرق؟ أسـ يتركها حقًا عقب أن نال مبتغاهُ منها بيسر بالغ، أسيُقصيها من حياته فور أن أسلمت لهُ؟.. مجرد التفكير بذلك يجعل تعاني أكثر و أكثر
- يارا..!
انتفضت في محلها و هي تلتفت متنفسة بمعدل سريع فهدأها العجوز بقولهِ:
- اهدي يا بنتي، في إيـه؟
رمشت بعينيها محاولة استجماع شُتاتها و قد شعرت بقواها قد خارت تمامًا، راح العجوز يسحب مقعدًا و اعتلاه و هو يدقق في ملامحها، ثم قال:
- مالك يا بنتي؟ بقالي كتير بنادي عليكي وانتي مش هنا خالص
فوجدت نفسها تسألهُ بوضوح شديد و بلا مراوغة:
- عم منصور،.. هو يامن كان يعرف واحدة قبلي؟
تغضن جبين العجوز و هو يشير بكفه المجعد:
- واحدة؟ معرفش يا بنتي.. معنديش خبر عن المعلومة دي أبدًا
و ضاقت عيناهُ و هو يسألها:
- هو ده اللي مخلي عقلك مش في راسك؟
تنهدت "يارا" بحرارة و هي تحنى بصرها، ثم استأذنهُ لتنهض عقب أن جثى شيئًا على صدرها:
- أنا هطلع أرتاح شوية في أوضتي يا عم منصور، عن إذنك
 و سارت تجُرّ خلفها أذيـال القنوط.
صعدت "يارا" لحجرتهِا، ألقت أولًا نظرة عابرة على حمامتها البيضاء، التي كانت تتلقى علاجها، و التي احتجزتها في قفصٍ حديدي كي لا تفرّ بارحة إياها، و النظرة العابرة.. طالت و أضحت أكثر عُمقًا.
حمامة بيضاء مثّلتها، و قفصٍ جسّد جدران أسرها، لم يكن الأسر الفعليّ سجنها، الأسر بات هُـو، و ليس المحل الذي تركها بهِ؛ أُسرت بهِ.. و ما لها منهُ مطلقًا لسراحها، و أنّى لها بهذا و قد أطبقت الأغلال على قلبها  بلا هوادةٍ دون عنقها، و قُيّدت بملء إرادتها.. قيـدًا لن يُحل وثاقهِ ما حيّيت، و هي گالحمامة.. سقطت في الشرك الذي لم ينصبه حتى، و لم يعبأ بها، لم يبالي بها، و تركها عقب أن نالها، و عقب أن أضحت بهِ متيّمة، لا تقوى على فراقهِ، سفحتها الأشواق و انحدر بها العشق لأسفل سافلين.
و على الرغم من كونهِ لم يبالغ في الفراق، حتى أن كلمة فراق لا تجوز أن تطلق على رحيل منذ بضعة ساعاتٍ فقط، إلا أنها ظنّت أنها فقدتهُ تمامًا، فقدته و فقدت نفسها في سبيل حربٍ ظنّت أنها ستنتصر بها، و إذ بها تنسحب من المواجهة الأولى، تاركة لهُ ساحة الحرب.
خطت "يارا" نحو القفص الحديديّ، و فتحت بابهِ الصغير، بسطت كفيها لتتناول الحمامة بين راحتيها، و ضمت جسدها برفقٍ بين أناملها، استشعرت ملمسهِ الحاني أسفل أناملها، تطلّعت إليها بعينين التمعتا بالعبرات الملتاعة، ثم مضت نحو الشرفة المفتوح بابيها، و قد تطايرت الستائر أعلاها، عبرت "يارا" الخطوات الفاصلة بينها، حتى أضحت بداخلها، دنت من السور، و نظراتها عالقة على الحمامة، دمعةً عابرة انحدرت على وجنتها و قد شقّت أعتاب جفنيها، و الدمعة المترددة جرّت دموعًا حتى بات كالفيض الغزير، أحنت "يارا" رأسها على الحمامة، لتطبع بشفاهِها قبلة ناعمة على ريشها، ثم ارتفعت أنظارها عنها و هي تقوس شفتيها ببسمة باهتة، مررت إبهاميها على الحمامة للمرة الأخيرة، ثم بطول ذراعيها، رفعتهما و هي تحرر أناملها برفقٍ عنها، فشرعت الحمامة تخفقُ بجناحيها متمتعة بتلك الحرية التي نالتها توّا و قد أُطلق سراحها، و حُطّم قيدها، راقبتها "يارا" بأعين تشوشّت لدى سيل الدموع الجارف، فرمشت لتزيح العبرات العالقة بين أهدابها، فتبيّنت لها الحمامة و هي تشقّ سبيل الحريـة، متمنيّة لو كانت مثلها، تُحطّم قيود قلبها، و تُفتت قضبان أسرها، تهلـك عِشقًا استوطن فؤادها،  و ما لها هي من موطنٍ.
و بدون سابق إنذار، كانت شهقاتها تنفلتُ منها تِباعًا، شهقة تليها أخرى نبعت من صميمها المعبّأ بهِ، و كأنهُ احتلّ كل ذرة بوجدانها، فقدت آخر ذرات تماسكها مستشعرة تيهها العظيم، دفنت وجهها بين كفيها منخرطة في نوبة من البكاء المرير، ندمًا على ما فقدت من أجل من لن يتذكرها فيما بعد، لربما حتى يمحيها تمامًا من ذاكرتهِ ريثما تنتهي تلك الفترة المؤقّتة، و يُقصيها من حياتهِ.
........................................................................
سارت من خلفهِ محاولة مجاراة خطواته الواسعة و هي تضمّ دفتر ملاحظاتها و بعض الملفات بينما تقول مرحبة به لتواجده مجددًا في مقر الشركة عقب أن تركها منذ وقت طويـل تاركًا كل شئ لمديريهِ:
- حقيقي مش مصدقة إن حضرتك متواجد معانا النهاردة، ألف مبروك يا فندم
دلف "يامن" و سار نحو مقعدهِ، ثُم اعتلاه و هو ينتصب بكتفيه، راح يفتح حاسوبه بينما يقول بلهجة صارمة دون أن يرفع نظراته إليها:
- اطلبيلي قهوتي يا مروة ، و حضري اجتماع لمجلس الإدارة بعد نص ساعة
أومأت برأسها و هي تترك الملفات أعلى سطح مكتبه:
- حاضر يا مستر يامن، أي أوامر تانية؟
- تــؤ ، على مكتبك
همّت " مروة" بالانصراف و لكنها توقفت و هي تلتفت نحوهُ مجددًا قائلة بنبرتها الرقيقة:
- مستر يامن.. في واحد جه و طلب يقابل حضرتك ضروري
ظلّ جبينه مجعدًا بلا اكتراث لما تقول و هو مسلطًا لنظراته على شئ ما في شاشة حاسوبهِ بينما يقول بعدم اهتمام:
- ميـن؟
ارتفع كتفيها و هي تقول مُعبّرة عن حيرتها:
- هو راجل في الخمسينات تقريبًا ، و يمكن إيطالي، ملامحه غربية.. بيتكلم عربي مكسر، و لما سألتهُ عن اسمه رفض يقولي.. قالي بلغيه إني سألت عليه
هُنا ارتفعت أنظارهِ الثاقبة نحوها و هو يسألها:
- كان هنا امتى؟
ضمّت شفتيها معًا، ثم قالت و هي تخفض رأسها لمفكرتها لتتيقن من أفكارها:
-تحديدًا يوم 24 يا فندم،.. يعني تقريبًا أول امبارح
أشار لها "يامن" بعينيهِ آمرًا بصوتهِ الأجشّ:
- خلاص.. روحي انتي
- حاضر
و برحت مكانها منصرفة، فور أن أوصدت الباب من خلفها كانت نظراتهِ تنحرف نحو حاسوبهِ و قد شغل ذلك الشخص _ الذي تكهن أنه نفس الشخص الذي ودّ لقائهِ في الحفل_ جزءً من تفكيرهِ و حنقه بآن واحد.. و قد شعر و كأنهُ يتلاعب به بطريقته تلك، نفخ في غيظ و أنظاره تنحرف نحو الحاسوب و قد شغل شيئًا آخر تفكيرهِ، و حرك أناملهِ على شاشة الحاسوب و كاد ينقر على إحدى المجلدات لولا هاتفهِ الذي أوقفه، فأخرجه ليجيب اتصالهِ و عيناهُ الغامضتين مسلطتين على الشاشة:
- أيوة يا فارس
وجدهُ يردد دون أي مراوغات:
- يامن.. لو عايز أرجع الشغل..هترجعني؟
تقلّصت المسافة ما بين حاجبيّ "يامن" و هو يعود بظهر للخلف رافعًا ساقيه أعلى مكتبه:
- الشركة مفتوحة ليك في أي وقت.. بس إيه اللي غيّر قرارك؟
كانت نبرته غامضة بالنسبة لـ"يامن" و هو يقول متجاهلًا سؤالهِ:
- خايف منك.. خايف تكون كل حاجة في دماغك صح!
ردد "يامن" و المسافة بين حاجبيه تكاد تنعدم:
- قصدك إيـه؟
- قصدي ان أبويا يستحق فعلًا إنه يتسجن!.. انت كنت صح!
نقر "يامن" بسبابتهِ على سطح مكتبه و هو يقول متشدقًا:
- إيه اللي خلاك تقول كدا؟
زفر "فارس" و هو يمرر أنامله بين خصلاتهِ متسائلًا:
- مش هترجع؟
- أنا في الشركة
توسعت عيناهُ و هو يسأله:
- بجـد؟ انتو رجعتم؟
- تـؤ، أنا بس
تغضن جبين "فارس" و هو يقول متعجبًا:
- أومال مراتك فيـن؟ سايبها لوحدها؟
تقوست شفتيّ "يامن" و هو يقول بلهجة مشتدة:
- ما تخليك في حالك أحسـن
- طب أنا جايلك.. مسافة السكّة
...............................................................
گان ضيفًا لطيـفًا لأحلامها، فتحت عينيها متوقعة أن تراهُ أمامها وسط الظُلمة المحيطة بها من كل حدبٍ و صوب.. و لكن دونًا عن ذلك كان هنالك نصلٌ موجّه ناحية عنقها تحديدًا، نصل انعكس بريق ضوء القمر الخافت الذي تسلل من النافذة عليهِ فبرق ضويّهُ في عينيها، و ريثما كانت تحاول الاستيعاب كاد يهوي مخترقًا النصل جسدها، لولا أنها تنحت بجسدها و لا تعلم كيف تمكنت من أن تدفعهُ لتسقط أرضًا و هي تصرخ بهلعٍ، و دونًا عن أن يطعن النصل منتصف عنقها.. كان يطعن الوسادة من خلفها، التفت ذاك الملثم و هو ينتزع النصل فلم تقوَ ساقيها على حملها.. زحفت بجسدها للخلف و هي تصرخ حتى بحّ صوتها، حتى غيّر مسارهِ إليها، و شرع يدنو منها ببطء مميت.
أوردتها تشعر أن الدماء تنسحب منها، و قلبها الذي يثب في صدرها هلعًا تكاد تجزم بأنهُ سيخرق أضلعها، و دون أن تُدرك حتى لم تكن تنادي سوى عليهِ، عساهُ يأتي فينقذها من موتها المحتوم، حاولت استجماع شجاعتها الخائرة من بطئهِ ذلك و كأنه يتلذذ بتعذيبها، فنهضت مستندة على الأرضيّة الصلبة و شرعت تهرول ناحية الباب محاولة أن تفتحهُ و هي تطرق عليه بأقصى قوة لديها، و العجيب هو أن المفتاح كان متروكًا بالباب ، و كأنها وجدت كنزًا.. طفقت تدير المفتاح، ثم هرولت للخارج و هي تصرخ بأعلى صوت لديها تزامنًا مع دقات قلبها التي تكاد تصُمّ أذنيها:
- يامـن، يامــــن..!
تلفتت للخلف لتتأكد من عدم تتبعهِ لها، ثم شرعت تهبط على الدرجات و صدرها ينهج علوًا و هبوطًا و هي تصرخ دون قنُوط:
- يامـــن
حتى اصطدم جسدها بجسد صلب فور أن أنهت الدرجات..، شعرت و كأن قلبها سيتوقف عن النبض من فرط هلعها، و لكن فور أن صدحت الأضواء و رأتهُ واقفًا أمامها حتى ارتمت في أحضانهِ  دون وعيّ منها و هي تقول من بين أنفاسها اللاهثة:
- عم منصور.. الحقني يا عم منصور، هـ..هيقتلني يا عم منصور
فقط بضع دقائق.. و كانت الحراسة بأكملها تملأ القصر هنا و هناك محاولين إيجاد ذلك الذي نجح باختراق الحراسة بأكملها وصولًا لسيّدة القصر، و لكن باءت المحاولات أجمع بالفشل، و لم يتمكن أحدهم من إيجادهِ، و كانت هي تقف بالأسفل بين ذراعيّ العجوز محاولة الاحتماء بهِ، و لكنها انتفضت حالما رأت أحدهم أمامها و هي تقول عاقدة حاجبيها بهلع شديد:
- لاقيتوه؟
هز الأخير رأسه و هو يحنى أبصارهِ عنها بتخاذل:
- للأسف لأ يا هانم
تجلى الذعر أكثر على وجهها الشاحب و هي تقول بارتعاد:
- يعني إيـه؟ يعني.. يعني مش هنعرف مين؟
بسط الحارس كفهُ بهاتفها و هو يقول بلهجة جادة:
- اتفضلي يا هانم
تغضن بينها و هي تسحبه بينما تنظر نحوه باستفسار عاقدة حاجبيها و لم تسعفها حتى لسانها لسؤالهِ، فكان يجيبها مُوضحًا:
- موبايل حضرتك كان بيرن فوق
و ما هي إلا ثوانٍ و كان صوت رنين هاتفها يرتفع من جديد، رمشت بعينيها عدة مرات بينما العجوز يسألها:
- ميـن يا بنتي؟ يامن؟
انسحبت من بينهم دون إضافة حرف و هي تقف منزوية على نفسها مجيبة إيّاه بتهدج:
- أيوة يا نائف.. الحقني، أنا.. كنت هموت، واحد كان هيقتلني
و لم يصلها سِوى صوت ضحكاتهِ المتشفيّة، لم يُسعفها ذهنها كثيرًا في تلك اللحظة تحديدًا فأطبقت عينيها بسئم و هي تقول:
- انت فاكرني بضحك عليـك؟ أنا بتكلم جد
خبى صوت ضحكاتهِ، و لكن تلك اللمعة الظافرة بعينيه لم تتلاشَ و هو يقول:
- طب ما أنا عارف يا روحي، عجبتك مُفاجأتي؟
- هاه!
عيناها متوسعة عن آخرهما حتى كادتا تخرجان عن محجريهما، دقات قلبها تنخفض و كأنها ستوشك على فقدان وعيها في أيّة لحظة، و لكنهُ كان يستطرد بلهجة شامتة:
- مالك يا روحي؟.. روحتي فين كده؟
و تلاشى ذلك تمامًا ليحل الشراسة محله و هو يسألها:
- و لا كنتي فاكراني هسيبك بالسهولة دي بعد اللي عملتيـه؟ مش نائف الدمنهوري اللي يتعمل فيه كده يا يارا!
رمشت بعينيها عدة مرات و هي تسألهُ بتيهٍ تام:
- انـ.. انت يا نائف؟
فنفى برأسهِ و هو يقول باستنكار زائف:
- كدا بردو يا يارا! أنا يهون عليّا أقتلك بإيدي؟ مش للدرجة دي
و ابتسم بخبث مُظهرًا أسنانهِ الصفراء من خلف شفتيه و هو يقول:
- أنا بإشارة من صبعي أوديكي ورا الشمس يا حبيبتي.. دي مجرد قرصة ودن ليكي
و أردف بلهجة قاتمة و قد أظلمت عيناه:
- و أنا قرصتي و القبر.. احذري، لأن مبقاش أنا نائف الدمنهوري لو سيبتك عايشة، هخليكي تشوفي الموت كل يوم لحد ما تطوليه على إيدي يا حبيبتي
و أنهى المكالمة تاركًا لها.. لم تقوَ على استيعاب ما يحدث، و لم يكن بمقدورها فعل أي شئ، ظلت جاحظة العينين محاولة تقبّل ما غمست نفسها فيهِ.. و ما هي إلا ثوانٍ و حلّ الظلام محلّ كل ما أمامها، و اختل توازنها مستسلمة لحالة فقدان الوعي التي انتشلتها من الواقع.
الشمس بدأت رحلتها اليوميّة في الشروق محتلة كبد السماء، حينما كانت تجلس على الأريكة ببهو القصر مستندة برأسها على صدرهِ متشبثة بملابسهِ بكفها من فرط هلعها بعدما استفاقت من اغماءتها القصيرة، و هي تهذي ببضع كلمات غير مفهومة، بينما هو يقرأ المعوذتين على رأسها و هو يمسد على خصلاتها بهدوء محاولًا تهدئتها، حتى اخترق أنفها رائحة عبقهِ الرجوليّ، فابتعدت من فورها لتلتفت بجذعها، و فور أن رأتهُ يقبل عليها لم تتمالك نفسها، راحت تناديهِ بصوتها المرتعد و هي تنهض عن محلها لتوفض نحوهُ مستعينة بذلك الكمّ الهائل من الخوف المبرر بداخلها، حتى التقاها بنقطة في المنتصف بين ذراعيهِ، تشبثت بعنقه و هي تدفن رأسها فيه و هي تقول يتهدج:
- كنت.. هموت، كان هيقتلني يا يامن.. كانت هموت على إيده
يكاد يجتذبها من خصلاتها من شدة غيظهِ منها، أبعدها "يامن" عنهُ بقسوة و هو يقبض على عضدها بينما ينظر لعينيها مباشرة هادرًا باهتياج شديد بالرغم من معرفتهِ الإجابة على سؤالهِ:
- ميـــن؟ ميــن انطقي؟
التقطت أنفاسها بصعوبة و هي تنقل نظراتها المكلومة بين عينيهِ، ثم نطقت بعُسر بالغ:
- نائــف
يكاد يُهشّم أسنانهِ من فرط إطباقهِ عليها و هو يحدجها بنظراتٍ نارية ملتهبة، اشتدت قبضتهِ القاسية على ذراعها فأشعرتها بالخوف بالفعل.. هي أرادت أن تجد بين أحضانهِ ملاذها، و لكنها لم تجد منه سوى قسوة و جفاء، عكس ما توقعت تمامًا، وجدتهُ يقول و قد برزت عروق جانبيّ رأسهِ متقدمًا في خطواتهِ:
- امشي معايا
 ناداه العجوز و قد عقد حاجبيه متعجبًا من حالته الغريبة:
- يا بني دي كانت...
زجرهُ "يامن" بقولهِ دون أن يلتفت نحوه:
- مش عايز حد يتدخـــل يا أحدب
و مضى ساحبًا لها من خلفه و هي تتعثر في خطواتها بينما تصعد الدرجات، تشبثت بسترتهِ و هي تتوسلهُ بينما الدموع تترقرق في مقلتيها:
- يامن متسيبنيش.. كان هيقتلني صدقني
و جدتهُ يطبق أكثر على ذراعها و هو يجتذبها معهُ لغرفتهِ عابرًا الرواق فور أن أنهى الدرجات و هو يزأر بها بصوت أعلى من ذي قبل:
- امــــشي
و گأن أشواكًا حادة تنغرس في منتصف فؤادها، لم تتمكن من استيعاب ما يحدث، توقعت أنهُ سيدفنها في أحضانه و يحاول تهدئتها، توقعت أنها ستركن إليه عقب تلك اللحظات العسيرة التي مرّت بها، و لكنها كانت مخطئة، و لم تنتبه سوى و هو يدفعها داخل غرفته بينما يدلف من خلفها صافقًا الباب بعنفٍ.. كانت ضعيفة للغاية و هي تحاول أن تفسر لهُ بقهر:
- أنا معملتش حاجـة، و الله كان هيقتلني، أنا معملتش حاجة
فسحبها تلك المرة من ساعدها و عيناهُ مسلطة على عينيها، محدّجًا إياها بنظرة متأججة و هو يقول بلهجة قاتمة:
- مبسوطــة؟ مبسوطة دلوقتي باللي عملتيه في نفسـك؟ مبسوطة باللي حصل لك و انتي بتدخلي في اللعبة الـ**** دي!
عقدت حاجبيها بعدم فهم و الدموع تنسدل من بين جفنيها كالشلالات بينما تقول برجاء:
- أنا مش فاهمة حاجة من اللي بتقولها يا يامن.. أرجوك تفهمني، أنا كنت هموت ، انت مش عايز تفهمني ليـه؟
صمت.. صمت هنيهة و هو يزمّ شفتيه متأملًا ملامحها، ثم قال باستهجـانٍ تام و هو يشير بكفهِ:
- استفدتي إيه؟ استفدتي إيه من إنك تديله الفلاشة فاضيـة؟.. انطقي!
.............................................................
........................................
..................................................................................!
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now