"الفصل الثاني و الثلاثون"

682 15 0
                                    

"الفصل الثاني و الثلاثون"
كان الوقت عصرًا حينما استغلت عدم تواجده للتفحص الغرف واحدة تلو الأخرى، خاصة حين انعزلت في غرفتها و برفقتها شقيقتها، لربما قد دلفت معظم الغرف من قبل،.. غرفة الطعام، غرفة صالة الألعاب، و باقى غرف النوم، عدا غرفة واحدة.. غرفة بابها موصد بمفتاح لا يمتلكه إلا هُو، لذلك جعلتها تتشكك أنها المراد، فـ بيد أنها غرفة مكتبه الخاصة، تغضن جبينها باهتمام و هي تنتزع من خصلاتها دبوس شعر رفيع، و كما ترى في الأفلام البوليسيّة حاولت أن تفتح الباب بواسطتهِ و هي تدسه في الثقب بدلًا عن المفتاح، أكثر من مرة تحاول و لكن محاولاتها أجمع كانت تبوء بالفشل، زفرت حانقة و هي تضرب الأرض بقدمها عقب أن سئمت ذلك:
- أوف!
- بتعملي إيـه؟
انتفضت و هي تستدير إليه ساحبة الدبوس بكفها الذي خبأتهُ خلف ظهرها، استقامت في وقفتها محاولة لملمة شتاتها و هي تعقد حاجبيها حنقًا قائلة بتذمر:
- خضيتني!
أمعن النظر لها بعينيه المقتنصتين بينما يتقدم نحوها مال برأسه للجانب قليلًا و هو يدس كفيه بجيبيه مكررًا سؤاله الصلد:
- إيه اللي بتحاولي تعمليه؟
رمشت عدة مرات و هي تتجاوز سؤاله ، محاولة التمسك بتبرمها:
- ازاي.. ازاي تدخل كده من غير صوت، مش عارف إن "رهيف" موجودة!
تقريبًا يكاد يلتصق بها و قد قلص المسافات بينما يستند براحته للباب بجوار رأسها و هو يميل أكثر عليها و نظراته الثاقبة تلتقط توترها البيّن، ثم بصوت أجشّ سألها مجددًا:
- بتعملي إيه يا بنت حسين؟
ازدردت ريقها و هي ترفع ذقنها متظاهرة بالصلابة و هي تقول مضيقة عينيها:
- تقريبًا فهمتك.. لما بتكون متضايق مني أوي بتقول يا بنت حسين!
لم يجبها.. فقط نظراته المستوضحة الثاقبة مسلطة على عينيها، فحاولت الحفاظ على ثبات نبرتها و هي تردد بلا اكتراث:
- عادي.. كنت بتفرج على الشقة، و لاقيت الباب ده مقفول.. حبيت أعرف جواه إيه
و عقدت ساعديها أمام صدرها و هي تميل برأسها قليلًا لتناظره بتحدي واضح أثناء ترديدها المغزى:
- يا ترى بقى إيه اللي جوا مخليك قافل عليه!
بالرغم من حنقهِ الواضح إلا أنه أوامأ بحركة لا تكاد تلحظ و هو يقول بنبرة صقيعيّة:
- هعمل نفسي مصدقك يا.. يا بنت حسين
و أشار بعينيه للباب من خلفهما قائلًا بلهجة شبه مُشتدة:
- و افتكري إني قولتلك قبل كده.. فضولك الزايد عن حده ده.. مش كويس!
و أزاح كفه عن الباب و هو يرمقها بنظرة محذرة قبل أن يستدير ماضيًّا أمامها، فسارت في أعقابهِ بينما تضيق عينيها و هي تتخصر:
- إنت هنا من امتى؟
دلف لغرفة المعيشة ثم التفت و هو يسأل مراوغًا:
- اتغديتي؟
نفت برأسها و هي تقول بتبرم:
- قولتلك مبعرفش أطبخ
أشار للأكياس البلاستيكية و هو يتشدق ساخرًا:
- عارف، نادي صاحبتك و اتغـ...
و قبل أن يُتم كلماته كان ذلك الكائن اللطيف يلتصق بساقيه محتضنًا له بينما تهلل برقة واضحة:
- يامن
انحنت نظراته نحوها فلانت تعبيراته نوعًا ما بينما يمسح على خصلاتها الكستنائيّة، فـ تفاجأ بأنها مدت ذراعيها إليه و هي تقول بتدلل:
- شيلني!
تجعد جبينهُ أكثر فتعلقت أنظار "يارا" به و هي تهمس بخفوتٍ مشاكس بينما كان ينحنى ليحملها بين ذراعيه:
- عاقد الحاجبين!
التفت نحوها ليناظر شفتيها المتحركتين، ثم ارتفعت أنظاره الضائقة و هو يبعد وجهه عن مرمى أصابع الصغيرة:
- بتقولي إيـه؟
أرخت ذراعيها بجوارها و:
- و لا حاجة
 راحت أنامل "رهف" تتلمس لحيته مجددًا و هي تبتسم فالتفت نحوها تتعلق أنظارها بعينيه عن ذلك القرب، توسعت عيناها الزرقاوين بتعجب بينما تهمس و هي تحتضن وجهه بين كفيها الضئيلتين:
- يامن..  أنا بحب عينيك أوي، انت بتحب عيني؟
أومأ دون رد فانحرفت أنظار "رهف" تلقائيًا لـ "يارا" و هي تقول بتدلل واضح:
- بتحب عيني أكتر و لا عين يارا؟
انعطفت نظراته تلقائيًا لعينيها ليُمسك بنظراتها المتفرسة به، تحرجت "يارا" و هي ترمش عدة مرات و لكنها لم تقوَ على إبعاد ناظريها عن مرمى بصره، لولا أن الصغيرة أمسكت بذقنه لتدير رأسه إليها و هي تقول مكررة سؤالها:
- يامن.. رد عليا بقى، عيني أحلى و لا عين يارا؟
تنحنحت "يارا" و هي تتقدم منه لتبسط ذراعيها محاولة انتشالها من بين ذراعيه و أنظارها معلقة بـ "رهف":
- تعالى يا روڤي معايا و سيبي يامن يرتاح
تشبثت "رهف" تلقائيًا بعنقه و هي تقول بعبوس:
- لأ.. بس أنا عايزة أقعد معاه
- أستاذ "يامن"
التفت "يامن" إثر صوتها الصادح من خلفه بينما تتقدم منه ببطء محنية أنظارها المتحرجة عنه، بدت الجدية على ملامحه و هو ينحني ليترك الصغيرة أرضًا ثم يستقيم مجددًا و هو ينظر نحوها مستفسرًا، فغمغمت "رهيف" و هي تتوقف على مقربة و هي تعبث بكفيها بتوتر بيّن التقطه بسهولة:
- أنا بعتذر لحضرتك جدًا عن اللخبطة اللي عملتها في حياتكم، و يعني مش عارفة أشكر حضرتك ازاي!
تصلبه و صمته فاقما من ارتباكها، فحمحمت و هي ترفع أنظارها الحذرة نحوه ثم قالت بخفوت:
- يعني.. انا.. أنا هاخد رهف و همشي، و بعتذر جدًا لحضرتك مرة تانية
ارتفع حاجبي "يارا" و هي تتقدم منها مرددة باستنكار:
- تمشي فين؟ هترجعي بيتك
نفت "رهيف" و هي تتجه أنظارها إليها، ثم حررت زفيرًا عميقًا من أسره في صدرها و هي تعقب:
- لأ.. مقدرش أرجع البيت دلوقتي، أنا كلمت غادة صاحبتنا، أكيد فاكراها.. اتفقت معاها إني هقعد معاها كام يوم
خرج صوتهُ صلدًا مربكًا للأبدان و هو يقول بينما يدس كفيه بجيبه:
- تخرجي من هنا يبقى ترجعي بيتك، أو حد من أهلك.. غير كده مفيش خروج!
ارتفع حاجبي "رهيف" مشدوهة من ذلك القرار المتسلط، فنظرت نحوه و هي تقول بأسف:
- يا أستاذ يامن مينفعش أفضل هنا أكتر من كده، يعني.. مقدرش أتسـ..
- أنا قولت اللي عندي
تحرجت أكثر بينما تقول بتلعثم:
- ده كرم من حضرتك، و جميلك مش هنساه، لكن مينفعش أتسبب في متاعب ليكم
 انحرفت نظراته نحو "يارا" و هو يقول بلهجة جافّة قاطعة مشيرًا بعينيه:
- ردي على صاحبتك، أنا ماشي
نظرة امتنان شعّت من عينيها نحوه التقطها قبل أن يستدير، ثم التفتت نحو "رهيف" و هي تقول بنبرة جادة:
- هو بيتكلم صح يا رهيف.. زي ما قولتلك الصبح، انتي نسيتي كلامي؟
كادت تعترض بارتباك مضاعف:
- بـس..
ضغطت برفق على كتفها و هي تقول بخفوت:
- استني
 و راحت تتبعه حتى استوقفته حين كاد يخرج:
- يامن
التفت نحوها متسائلًا فرددت بامتنان جاد:
- شكرًا على موقفك مع رهيف
خرج صوته متصلبًا للغاية و هو يستدير بجسده نحوها:
- أنا متدخلتش.. لكن لو عايزاني أتدخل فـ..
قاطعتهُ و هي تضيق عينيها متعجبة:
- تتدخل؟
أومأ برأسه بينما يستطرد بلهجة غير قابلة للنقاش:
- لو هي متمانعش.. لكن لو الوضع اتطور هتدخل سواء وافقت أو لأ!
انعقد ما بين حاجبيها و هي تسأله بعدم فهم:
- اشمعنى؟
ارتدى نظارتهِ القاتمة ليخفي عينيه المتوهجتين خلفها و هي ينطق بلهجة قاتمة شابها بعض التهكم:
- عشان مش عايزها تبقى زي مراتي!
أخرج "يامن" حافظة نقوده، حينما كانت "يارا" تناظره بعمقٍ، محاولة سبر أغوارهِ، فـ أخرج "يامن" إحدى بطاقاته البنكية، و قدّمها إليها قائلًا:
- خلي دي معاكي
انحدر بصرها لما يعرضه عليها، و تناولتها منه، و بصرها لا يزال عالقًا عليها:
- إيه دي؟
- فـ أشار "يامن" إليها بعينيهِ، و هو يردد بصوتٍ جاد للغاية:
- أكيد في حجات هتحتاجيها و مش هتعرفي تطلبيها مني، خليها معاكي
ارتفع حاجبيّ "يارا" باندهاشٍ، و همت أن تعترض و:
- بـس..آ.
قاطعها "يامن" بجمود و هو يناظرها بشئ من السخرية:
- سيبك بقى من كرامتك اللي مش هتسمحلك و الكلام الفارغ دا و خلينا نتكلم جد، إنتي رسميًا مراتي يعني ملزمة مني
رغمًا عنها ابتسمت و قد تسلل إليها بعض الحماس:
- يعني أشتري أي حاجة أنا عايزاها؟.. صح؟
لاح على ثغر "يامن" شبح ابتسامة متهكمة و هو يجيبها:
- اشتري اللي نفسك فيه
و تبدلت نبرته للجديـة و هو يستطرد حديثه:
- واحد من الحراسة هيستلم أي حاجة تطلبيها و يطلعهالك
بدا الحماس جليّا على وجهها، و هي تنظر للبطاقة البنكيّة بأعين متسلية، ممنية نفسها بكل شئ ستقتنيه كان من العسير عليها أن تحلم به حتى، و قرأ "يامن" ما ارتسم على ملامحها، و تلك الابتسامة الساخرة لا تزال تلوح على محياه، متوقعًا أن يعود فيجد شتى الملابس و الأحذية و الحقائب و مساحيق التجميل و.. و..و، فرقع "يامن" أصابعه أمام عينيها لتتنبه له، حين تحدث و لم يجدها هنا معه، فرددت و هي ترفع حاجبيها مستوضحة:
- انت قولت حاجة؟
- بقولك شوفي صاحبتك عايزة إيه
و استدارت متأهّبًا للرحيل و هو يردد باقتضاب:
- سلام
- يامن.. يامن ، انت هتمشي؟
 انصرف من أمامها موصدًا الباب من خلفه و قد بدا أنه لم يستمع لنداء الصغيرة، فعبست و هي تتوقف بجوار "يارا" محدقة بالباب، تنهدت "يارا" بحرارة و هي تجثو أمامها لتمسح على خصلاتها برفق و هي تواجه وجومها:
- معلش يا روڤي مسمعكيش!
و عبثت بوجنتها و هي تسأل بمرحٍ زائف:
- انتي جعانة؟
أومأت "رهف" و هي تحنى أنظارها الحزينة عنها، فنهضت و هي تجتذب كفها معها:
- طب تعالى نشوف جابلك إيه
.........................................................
دقّت عقارب الساعة الخامسة و النصف صباحًا، حينما كان أفراد حراستهِ يسحون الحقائب من خلفهم، للمرة الأولى تقريبًا يراها تبكي أمامه.. بل و في أحضانه، تتشبث به بكل ما أُوتيت من قوة، ربت "عمر" برفق على كتفها و هو يحاول أن يبعدها بحذر عنه بينما يتبادل النظرات المشدوهة مع "فارس" الذي سئم ما تفعل:
- يا حبيبتي قولتلك هاجي في الإجازات، خلاص بقى!
ابتعدت لتقول من بين دموعها:
- ابقى كلمني على طول.. و متنساش تكلمني في الطيارة
أومأ و هو يقول:
- حاضر يا ستي.. هكلمك في الطيارة و أول ما أوصل هناك، و كل خمس دقايق هتسمعي صوتي، هزهقك مني، خلاص كده
أحنت نظراتها العابسة عنه و هي تقول باحتجاج:
- لأ
فـطبع "عمر" قبلة أعلى رأسها بينما كانت تستنكر:
- هتروح فين بمنظرك ده يا عمر؟ طب استنى على الأقل لما تخف!.. ده انت مش قادر تمشي
ابتعد عنها ليدقق بملامحها أثناء قوله المرح و هو يجبر حاله على الابتسام:
- و الله لو أعرف إن حادثتي هتأثر فيكي كده كنت عملت حادثة من زمان
رمقته بنظرة صارمة من بين دموعها و هي تمسح أنفها بمحرمة ورقية:
- انت فايق تهزر؟
ضجر "فارس" من تشبثها المطول به، فهتف من خلفهما بحنق واضح و هو يشير لساعة يده:
- مش يالا بقى بدل ما نتأخر، لسه الإجراءات يا عمر، المفروض زي دلوقتي تكون في المطار
أومأ "عمر" و هو يطبق جفنيه بحركة هادئة، ثم عاد يفتحهما و هو يقبل وجنة والدته قائلًا بهدوء ظاهري:
- خدي بالك من نفسك يا ماما
قالت "هدى" من بين شهقاتها:
- طب.. طب خليني آجي معاك المطار
اعترض "عمر" تمامًا:
- مالوش لزوم يا ماما، فارس معايا
و ترك قبلة أعلى كتفها متشممًا فيها رائحتها المميزة، ثم فر من أمامها مخفيًا ما يعتمل في صدره، دنا "فارس" منه ليعينه على السير نحو الباب، فتوقف "عمر" قليلًا و هو يلتفت ليشمل القصر بنظرات أخيرة لا تعبر عن طياتها، و ارتكزت أبصاره على والدته التي أشارت إليه مودعة و شفتيها متقوستين بحزن، عبرة واحدة توقفت على أعتاب جفنيه فحررها من أسرها ذاك بينما يشير إليها بحركة أخيرة و قد وصلهُ نحيبها الشبه مكتوم، ربتة خفيفة من "فارس" حثّهُ فيها على المضي قدمًا، فأومأ "عمر" و هو يحيد بأبصاره عنها و عن باحة القصر، و هو يسير برفقتهِ غير واعيًا أنهُ لا يترك قصرًا نشأ به و ترك أصواتهِ معلقة على جدرانه .. بل ينسحب من وكر الذئاب.
...............................................................
ساعتين..
 مجرد ساعتين حطّ بهما النوم على جفنيها، و استفاقت دون سبب محدد، و لكنها حالما نظرت في الساعة انتفضت في جلستها، و راحت تتحرك في أرجاء الغرفة مبدلة ثيابها بسرعة شديدة فارتدت كنزة بيضاء اللون رقيقة للغاية تصل حتى مرفقيها، فتسدل عليهما بتوسع رقيق تاركة تلك اللآلئ البيضاء على حافتيها، و من الأسفل بنطال من القماش الرقيق الذي انسدل على طول ساقيها، من نفس اللون، كل اقتنتهم البارحة بالطبع، و بحركة سريعة سحبت المشط لتصفف خصلاتها على عجل، تاركة لها منسدلة، و سحبت رابطتهِ لتلفها حول معصمها، ثم سحبت حقيبتها البيضاء لتنصرف من المنزل بأكملهِ، هبطت عبر المصعد، و توجهت نحو مدخل البناية ، و فور أن همّت بالخروج توقف أحد الرجال الأشداء البنية في وجهها و من خلفهِ رجال يقاربونه حجمًا و وصفًا بينما يقول بلهجة متشددة:
- ممنوع تخرجي يا فندم، الباشا مداش أوامر بكده!
زمت شفتيها وبضيق ثم قالت بلهجة جادة:
- طيب أنا عايزة أروح ليامن، ممكن توصلني!
انحنت نظراته عنها و هو يقول بتخاذل:
- آسف يا هانم، معندناش أمر بكده
سحبت شهيقًا عميقًا زفرته على مهل و هي تنظر نحوه باحتداد، ثم عقدت ساعديها أمام صدرها و هي تشمخ بذقنها:
- أظن يامن قالكم إن اللي أطلبه منكم تعملوه!.. مش كده؟
ازدرد ريقه و هو يومئ برأسه، فـ استعملت ورقتها الرباحة و هي تقول باستنكار:
- و هو قال مباشرة إن مينفعش توصلوني للمكان اللي عايزاه؟
- لأ يا فندم، لكن.. قال متخـ..
قاطعته و هي تبسط كفها بنبرة محذرة:
- تمام جدًا، و أنا بقولك هو عارف إني رايحاله! و قالي أطلب منكم توصلوني!
 و أخفضت نظراتها و هي تدس كفها في حقبتها لتهم بإخراج هاتفها و هي تقول بلا اكتراث ظاهريّ:
- و لو مش مصدق فأنا ممكن أتصل بيه بنفسي قدامكم و هو يقول ده!
 و احتدت نظراتها نحوهم و هي تمررها بينهم:
- لكن تستحملو اللي هيحصل لو قولتله إنكم رفضتم طلبي!
فسارع باسترضائها خوفًا من سخط رب عمله:
- لا لا يا هانم، الموضوع مش مستاهل
 و أشار لأحدهم ليحضر السيارة من مصف السيارات و:
- ثانية واحدة و العربية تكون جاهزة!
........................................................
إن أخبرها أحدهم من قبل أنها قد تستفيد من تسلط زوجها و تجبّره، بل و تعطى أوامرًا و تتصرف و كأنها ملكة.. لما كانت ستصدق من قبل، و لكنهُ صار واقعًا، ترجلت من السيارة صافقة الباب من خلفها و هي تتلفت حولها غير مدركة أي طريق تسلك، و ترجل من خلفها أفراد حراستها، شرعت تتلفت حولها بتوتر رهيب بينما الرياح العاصفة في ذلك الوقت تتلاعب بخصلاتها المتحررة، انتبهت إلى أحد الحراس الذي قال مشيرًا لإحدى السيارات البعيدة للغاية، و لكنهُ تشكك بها، فـ أردف:
- تقريبًا دي عربية يامن بيه يا هانم!
رمشت عدة مرات و هي تتجه بأبصارها نحو السيارة معيدة خصلاتها خلف أذنيها بإحدى كفيها، ثم أوفضت نحو السيارة محاطة بالحراسة، حتى بلغت السيارة و هي تلهث، انحنت قليلًا و هي تتفحصها جيدًا فتأكدت من ذلك، إذًا ما فكرت به صحيحًا.. إنه هنا، استقامت لتغير وجهتها نحو باب ذلك المدخل، أثناء تذكرها كيف علمت بذلك
«لم يكن من الصعب عليها أن تجد حسابهِ الشخصيّ على أحد مواقع التواصل الاجتماعي، فتواصلت معهُ كتابيّا عن طريقه:
- "أنا يارا"
- "عايزة إيه تاني؟"
-" طيارة عمر امتى؟"
- "و انتي مالك؟"
زفرت حانقة و لكنها عادت تنقر على شاشة هاتفها:
- "لو بجد عايز ميسافرش قولي طيارته امتى!"
فالتمست في كلماته السخرية التامة:
- " و انتي هتعرفي؟"
-"مش هأكد لك ده.. لكن هحاول"
-"مطار القاهرة الدولي.. مدخل "...."، طيارته الساعة 7"
- "انت قابلت يامن؟"
-"لأ، بتسألي ليه؟"
-"لا و لا حاجة، طلب أخير"
-"إيه تاني؟"
- "رقم موبايلك"
-"............."
و أضاف:
-"انتي ناوية على ايه بالظبط؟"
 -"أشكرك يا فارس بيه، سلام"»
توقفت في منتصف القاعة الواسعة تتلفت حولها هنا و هناك محاولة البحث عنه، و لكن من لفت أنظارها هما.. "عمر"، و "فارس"، رمشت عدة مرات و هي تبحث على مقربة منهم فلم تجد، فراحت تخرج هاتفها لتتصل به و هي تتوارى عن الأعين، بينما تتابعه و هو يخرج هاتفه ليجيب على اتصالها و هو يعقد حاجبيه متلفتًا حوله:
- ألو
سألته "يارا" باهتمام:
- شوفت "يامن"؟
سخر منها و هو يتخصر بكفه الآخر:
- و أشوفه فين؟..لأ بس واضح محاولاتك عشان تقنعيه! إحنا في المطار!
ارتباكها يتفاقم عن الحد و قد تهدل كتفيها قنوطًا، حررت زفيرًا عميقًا من صدرها و هي تستشعر فشلها بينما تحيد بأنظارها عن "فارس"، حتى تصلّبت بمحلها حين لمحته يقف بهيبته المعهودة، بملابسه الرسميّة السوداء، و نظارته القاتمة تخفى عينيه المتوهجتين، استطاعت أن تلتقطهُ من بين الآلاف، أغلقت على الفور المكالمة و هي تدس الهاتف بحقيبتها، بينما هو مرتكزًا ببصره على أخيه الذي ابتعد.. ابتعد للغاية برفقة "فارس" الذي توقف ليودعهُ عند نقطة محددة غير قادرًا على تجاوزها، وداعًا حارًا بينما "عمر" يخفى الكثير خلف قناع جمودهِ، كانت نظراتهِ التي لا تكاد تظهر ما يعتمل في صدره، بل أنها تخفيه بالكامل و تحتفظ فقط بصلابتها مسلطة على أخيه، للمرة الأخيرة.. حتى اقتطع مجال تواصلهُ البصري إليه ذلك البياض الذي حلّ أمامه فجأة، تغضن جبينه بدرجة كبيرة و قد توهجت حدقتيه بينما يخلع نظارته:
- انتي!
توسلتهُ و هي تقبض على ذراعه محاولة أن تثنيه عما يفعل:
- وقفه، وقفه يا يامن أرجوك
كزّ على أسنانه بعنف، ثم سأل من بين أسنانه المطبقة:
- إيه اللي جابك هنا، خرجتي ازاي؟
هزت رأسها نفيًا و هي تقول على عجل:
- مش وقته يا يامن
ضغطةً خفيفة على ذراعه منها تحثه فيها على المضي قدمًا:
- وقفه يا يامن، بسرعة.. قبل ما يفوت الأوان!
بحركة عنيفة نفض ذراعها عنه و هو يرفع أنظاره ليلقى نظرة أخيرة على أخيه، ثم استدار ليمضي مبتعدًا و كأن شيئًا لم يكن، بينما داخلهُ نار.. و النار صارت نيرانًا تلتهم ببطء أوردتهِ، كم يود لو يعود فيدفنهُ في أحضانه، كم كان يود لو أبرحهُ ضربًا و يبقيه جواره.. و لا يُقصيه عن حياتهِ في حالتهِ تلك، و لكنهُ يأبى الاستماع لقلبه.. يأبى إلا أن يستمع لعقلهِ الذي أقنعهُ أنه يفعل الصواب لأخيه، ليس لأنهُ أخطأ، بل لأسبابٍ أخرى.. يحتفظ بها لنفسهِ و بداخله، توقفت مبهوتة و هي تتابع رحيله من أمامها بأعين متوسعة شدوهًا، استشاطت غيظًا و قد شعرت بالدماء تندفع في أوردتها، فـ راحت توفض من خلفه حتى استوقفتهُ بحركتها المعتادة، كان قد أخفى عينيه القاتمتين خلف زجاج نظارتهِ من جديد، و حالما استندت بساعدها على صدره كاد يبعدها عن طريقه و هو يهدر بها بلهجة محذرة:
- حاسبي!
شددت من حركة ساعدها عليه و هي تقبض بنفس الذراع على ملابسه في حركة عجيبة منها بينما تقول و هي تغضن جبينها غيظًا:
- انت مش هتبطل بقى غرور؟ مش هتبطل تفكر بعقلك؟.. مش هتبطل تمثل دور البارد اللي مش هامه حاجة!
 و نقرت بسبابتها على موضع قلبه و هي تضيق عينيها مرددة باستهجان و قد تشربت وجنتيها حمرة غاضبة:
- مش هتبطل تخفى اللي جوا قلبك؟ مش هتبطل ترفض تفكر بيه و لو لمرة واحدة في حياتك
أبعد سبابتها عن صدره و قد تصلّبت ملامحه للغاية بينما يردد بنبرة محتدمة متعمدًا الضغط على أحرف كلماته:
- قلب إيه اللي بتتكلمي عنه؟ أنا قلبي مات من زمان يا بنت حسين، حاسبي من وشي!
و هم بدفعها و لكنها استوقفتهُ بحركتها المباغتة و هي تنزع نظارته القاتمة عن عينيه لتتبين لها نظراتهِ الملتهبة، أشارت لهما و هي تضيق عينيها، ناقلة نظراتها بينهما، ثم قالت باستنكار:
- عارف عينيك دول؟ انت ممكن تقدر تخدع أي حد بيهم.. إلا أنا، ممكن أي حد يبص جوا عينيك ميلاقيش غير غضب.. إلا أنا! يمكن أي حد أصلًا بيخاف يبص في عينيك!
و خفتت نبرتها قليلًا لتخرج نبرتها متيقنة و هي ترفع حاجبيها، محاولة التعزيز من وقع كلمتها المُؤكدة عليهِ:
 -إلا أنا!
تعمقت النظر نحوهما و هي تنقل نظراتها الصادقة بينهما ثم غمغمت بنبرة ثابتة و هي تهز رأسها بحركة خفيفة:
- أنا بس اللي شايفة الحزن اللي انت بتخبيه!.. أنا بس اللي شايفة ألم فراق أخوك اللي انت عيشت عشانه، مش ده كان كلامك؟
احتدت نظراته نحوها و قد توهجت بشرته أكثر، اهتزت عضلة من صدغهِ إثر إطباقه على أسنانه، و بزغت عروق جانبيّ عنقهِ بوضوح، و قد غزت الحمرة الغاضبة تقاسيم وجههُ و عنقهِ المتشنج عضلاتهِ، فتشبّعا بها، فرّق "يامن" بعسر فكيهِ ليردد من بينهما متشدقًا بقسوة:
- يبقى انتي محتاجة نضارة يا بنت حسين!
و بدت نبرته أكثر جفاءً و هو يقول متعمدًا التشديد على كلماتهِ الثابتة:
- أنا لا في عينيا حزن.. و لا ألم، و لا حاسس بحاجة أصلًا!
كشفتهُ سريعًا بقولها الساخر و هي تحنى رأسها للجانب قليلًا:
- بجد؟.. أومال بتعمل إيه هنا؟
للحظة تجمد و لم يجبها، فقط نظراته التي تفاقمت احتدامًا مسلطة عليها، فراح يسحب بعنف من أناملها نظارته الشمسيّة القاتمة، و هو يدفع ذراعها بكفه الآخر ليشدد من قبضتهِ على ساعدها و هو يسير ليسحبها عنوة من خلفه و هو يقول بلهجةٍ مضطرمة:
- امشي معايا
سارت بجواره محاولة موازاة خطواتهِ حتى تتمكن من لكم كتفه عدة مرات بكفها الضئيلة و هي تقول بلهجة مهتاجة بينما تتلوى بذراعها الآخر محاولة تخليصه:
- متهربش يا يامن، متهربش!.. اقف و واجهني!
فسحبها من ساعدها لتكون أمامه و هو يقف في منتصف الطريق، بينما يجأر بها مستهجنًا و قد بدا وجههُ ككتلةٍ من النيران المُسعّرة:
- انتي عايزة إيه؟
أشارت بكفها المحرر من خلفه و هي تناطحه بالرأس:
- عايزاك ترجع لأخوك!.. عايزاك ترجع و تاخده في حضنك و تقوله أنا مسامحك، عايزاك ترجع و تقوله مش هسيبك و انت مش قادر تمشي على رجلك، عايزاك لمرة تسمع لقلبك!
أشار تلك المرة لقلبهِ بسبابته و هو يهدر بلهجة محتدمة:
- أنا قلبي مات من زمان يا بنت حسين، افهمي ده
و تشنجت نبرته أكثر و هو يهتف:
- قلبي اتدفن مع أبويا في قبره.. خلاص؟
انحرفت نظراتها بين عينيه و قد بدا التأثر جليًا فيهما، بينما اشتدت نبرته أكثر و هو يشير بكفه عائدًا لذلك اليوم و قد حاول الحِفاظ على صلابة لهجتهِ:
- مات لما شوفت أبويا بيتقتل قدام عينيا و مقدرتش أعمل له حاجة!
إنهُ مريض.. مريض بإحساسهِ بتخاذلهِ في تلك الليلة، لذلك انتحل شخصية يكن فيها هو المتجبر المتسلط، محاولًا مواراة ضعفهِ خلفها، ذلك فقط ما دار برأسها بينما تحاول أن تبرر له و قد هدأت نبرتها قليلًا:
- مكنش في إيدك حاجة تعملها، ده عمره
لاح أمام عينيه تلك اللمحات من كابوسه ذاك، فـ اشتدت قبضته دون وعي على ذراعها و هو يدمدم ساخطًا:
- انتي مش فاهمة حاجة
و ترك ذراعها تمامًا ليسير مبتعدًا، فلم تستسلم، راحت تتبعه حتى توقفت أمامه مباشرة لتسد عليه الطريق، بينما تهتف متوسلة:
- الوقت بيفوت يا يامن، الوقت بيفوت أرجوك، سيب أي حاجة على جنب و خليك في أخوك، ابعده عن الموضوع
فكانت لهجتهُ غامضة و هو يقول مشيرًا بعينيه:
- لو كنتي فاهماني زي ما بتقولي كنتي عرفتي إني ببعده فعلًا!
توسعت عيناها غيظًا و هي تقول مستشاطة:
- ما انت بتبعده فعلًا.. بتبعدهُ عنك!
رمقها بنظرة ذات مغزى فحملقت به قليلًا و قد تفهمت نظرته، ارتخت للحظاتٍ تعبيرات وجهها، رمشت عدة مرات بينما تُغضن جبينها قائلة بتشككٍ:
- قصدك إنك هتأذي أخوك لو فضل هنا؟.. قصدك إنك خايف تأذيه فتبعده عن آذاك، صح؟
تأفف حانقًا و هو يشيح بوجهه الذي بدا گجمرة موقدة، بينما يهتف معربًا عن ضجره:
- الموضوع طول أوي يا بنت حسين، انتي..
ارتكزت ببصرها و هي تتطلع إليهِ على جانب وجهه، ثم سألت معاتبة بجفاءٍ و قد بدت لهجتها عميقة و هي ترفع ذقنها أكثر:
- و انت اللي بتحبه لازم بتبعده عنك؟
انحرفت نظراته نحوها متعلقة بزرقاوتيها المشتعلتين، فاحتدت نظراتها نحوه و هي تضيق عينيها مستوضحة بشئ من الاستهجان:
- هو ده بجد اللي في إيدك تعمله عشان اللي بتحبه؟ تبعده عنك ببساطة!
فكان ردهُ متصلبًا للغاية:
- أنا ناري بتحرق اللي بيلمسني يا بنت حسين!.. زي ما حرقتك كده!
و أنهى الجدال بإخفاء عينيه خلف نظارته القاتمة بعد أن منحها نظرة أخيرة من عينيه المتوقدتين، ثم مر من جوارها متجاوزًا إياها ليمضي نحو سيارته، و اتخذ محلهُ بها خلف المقود، بينما هي تقف متجمدة بمحلها غير قادرة حتى على الحراك، كزّت على أسنانها غيظًا و قد اندفعت الدماء في عروقها، فشلت.. فشلت فشلًا ذريعًا في إقناعه تلك المرة، زفرت حانقة و هي تحك عنقها بأظافرها عدة مرات و قد شعرت و كأن هنالك ما يُطبق على صدرها، حتى انتبهت إلى صوت آلة التنبيه بالسيارة الذي صدح من خلفها، فالتفتت لتنظر نحوه بسخطٍ تام، ثم تحركت بتشنج واضح لتحتل مقعدها خلفه صافقة الباب بعنف من خلفها معربة بذلك عن غيظها المتفاقِم.
.............................................................
جابت الوسط ذهابًا و إيابًا و هي تذرف دموعها الحارقة، و هو يجلس متجمدًا بمحله غير قادرًا على تهدئتها، دافنًا وجهه بين كفيه حتى سئم صوت نحيبها المكتوم، فرفع نظراته إليها و هو يتنهد بحرارة ثم قال بلطف:
- يا عمتي إهدى بس شوية، صدقيني هتكون كويسة، هيبقى حصلها إيه يعني
توقفت لتلتفت إليه لتحدق به من عينيها الحمراوين و هي تردد بلهجة ملتاعة:
- مبتردش عليا يا راشد!.. أعمل إيه؟ مبتردش عليا، أكيد عملت حاجة في نفسها! أنا غلطانة، أنا غلطانة إني عرفتها
استقام واقفًا و هو يقول بضجر:
- يا عمتي لازم كانت هتعرف، بس بصراحة بقى بنتك معندهاش عقل، مبتعرفش تفكر، و متسرعة!
غمغمت بلهجة نادمة:
- أنا اللي غلطانة، لازم أعمل أي حاجة أحاول أمنع بيها الفرح ده!
أشار "راشد" بكفه أثناء قوله المستنكر:
- هتمنعي ازاي يا عمتي؟.. ده جدتي بتحضر للفرح و لا كأنه أول فرح هيتعمل في الدنيا!.. قوليلي هتقنيعها ازاي؟
دنت منه لتتلمس كتفه باستعطاف مغمغمة بتوسل واضح و عينيها لا تكفان عن ذرف الدموع:
- اتصرف يا راشد، اعمل أي حاجة، حاول تقنعها يا راشد
زمّ "راشد" شفتيه ثم أردف بضيقٍ:
- صعب يا عمتي.. حاولت كتير، صدقيني، لكن للأسف، جدتي رافضة أي كلمة مني، حتى بابا حاول معاها، مفيش فايدة
ابتعدت عنه خطوة للخلف و هي تتلفت حولها مغمغمة بحيرة:
- أعمل إيـه؟ أنا لازم أروح أشوفها!
أطبق برفق على عضديها و هو يقول بصوت رخيم:
- اهدي شوية يا عمتي، انتي بالذات مش هينفع!
و أحنى ناظريه عنها ليقول بلهجة ثابتة:
- أنا هروح أشوفها بنفسي يا عمتي
.................................................................
ما يُقارب النصف ساعة صافًّا السيارة بذلك الطريق القريب من المطار، ضجرت من ذلك و لكنها ردعت نفسها بصعوبة عن سؤالهِ، لم تمنع حالها من اختلاس النظرات إليه بينما تجلس متجهمة عاقدة ساعديها، حتى لاحظت انحراف نظراتهِ بعدما كانت مُثبتة على نقطة ما، فتغضن جبينها و هي تتبع نظراته بعينيها، حتى انحلت عقدة جبينها دهشة، بينما هو كان يسلط فقط أنظارهِ على الطائرة التي شرعت تخترق طبقات الجو محلقة للأعلى بزاوية معينة، فغرت شفتيها بعدم تصديق و هي تُسلط أنظارها عليه متأملة ملامحه التي تغيرت.. تغيرت بالنسبة إليها فقط، تغيرت في ناظريها للتأثر بينما في الحقيقة كان وجهه كما اعتادتهُ صلدًا متحجرًا لم يبد عليه أي تغيير، إنهُ فريد للغاية، تكتشف كل يوم.. بل كل دقيقة و كل ثانية تمر بها برفقتهِ خِصلة جديدة من خصالهِ الخفيّة، ما هذا الذي يفعله بنفسه حقًا؟.. ذلك فقط السؤال الذي دار بخلدها، بينما هو لم ينتبه إلى تحديقها الصريح المُطول به، بل ظلت نظراته عالقة على الطائرة يتتبعها، هنالك.. في الأعلى يقبع رفيق دربه الوعر و شقيقه الأوحد، هنالك يقبع من يشعر بالذنب حياله لاعتقاده أنه فشل.. فبدلًا من أن يستنسخ صورة من والده بداخل الفتى، استنسخ صورته المستنسخة قبلًا من عمه، أراد أن يبعدهُ حقًا عنه و قد شعر أنه أفسده، و كلما ارتفعت الطائرة أكثر.. كلما شعر بأنهُ يفقد قِطعة إضافيّة من روحه الممزقة، كلما حلقت أكثر في عنان السماء.. كان هو يهبط إلى أسافل الأرض، أطبق جفنيه لثوان محاولًا استعادة اتزانهِ الداخليّ، حتى انتبه إلى صوتها و كأنها تحاول أن تضغط على جراحه النازفة:
- احنا بنعمل إيه هنا؟
فتح عينيه ليستعيد نظراته المحتدة قبل أن يدير المحرك ليقتاد السيارة بعيدًا و هو يغمغم بخفوت يحمل الكثير في طيّاته:
- و لا حاجة
.................................................
- رهيف.. رهيــف
كانت تلك نبرتها المتعالية و هي تنادي على رفيقتها فور دلوفها، تشككت في أنها لربما تكون قيد نومها، أوصدت الباب من خلفها و لكن تغضن جبينها حين انتبهت إلى ورقة الملاحظات اللاصقة الصغيرة الورديّة اللون على الباب من الداخل، انتزعتها برفق و هي تحدق في كلماتها:
- مش عارفة أشكرك إزاي يا يارا، صدقيني جميلك ده مش هنساه، يامن قال مش همشي من هنا غير على بيتي أو بيت حد من أهلي.. أنا عند عمي، متقلقيش عليا، هكون كويسة، مش هقدر أرجع بيتي آسفة، لكن أنا هحاول أكلم ماما و أفهمها بهدوء زي ما نصحتيني، و اشكري جوزك بالنيابة عني، مقدرش أسبب ليكم متاعب أكتر من كده!
كزت على أسنانها و هي تطبق جفنيها مغمغمة بغيظ:
-رهيــف! أوف، انتي غبية
و عادت تحدق في كلمات الشكر المطولة و هي تهتف مستنكرة:
- جميل إيه؟ أنا عملت حاجة أصلًا!
و وجدت نفسها تخرج هاتفها لتحادثهُ، و حالما انتبهت إلى ابتداء المكالمة تحدثت بقنوط شابهُ الغيظ و هي تتحرك للداخل:
- يامن.. رهيف خدت رهف و مشيت!.. راحت لعمها
أتاها صوته الصلب:
- عارف!
تغضن جبينها و هي تردد مستنكرة:
- بجد؟..كنت عارف؟
ارتفع ثغره ببسمة مستهزئة بينما يردد بسخرية مبطنة:
- أكيد مش هتنزل من بيتي من غير ما يكون عندي علم!
و صمت هنيهه و قد تصلبت تعبيراتهِ من جديد، و هو يقول بثباتٍ شبه مهدد:
- و لا إيه؟
أربكها.. و نجح بأن يفعل ببراعة عجيبة، ازدردت "يارا" ريقها بتوترٍ متفاقِم، رمشت عدة مرات محاولة تفادي وقع كلماتهِ عليها، نزحت تلك الفكرة بعُسر عن ذهنها في تلك اللحظة، ثم قالت:
- طب أعمل إيه؟ أسيبها؟ أنا خايفة عليها! ابن خالها ده مش سهل، كانت بتحكيلي عنه كتير
تحجرت نبرته أثناء قوله:
- متخافيش..اتنين من رجالتي حواليها!
مشهدًا كان غائبًا عن ذاكرتها منذ مدة استعادتهُ بتفاصيلهِ الجمّة الدقيقة عقب كلمته الأولى، بل عدة مشاهد لا مشهدًا واحد كان يحاول بها أن يُهدئ من روعها، رمشت عدة مرات و قد التزمت الصمت و ذهنها لا يكفّ عن الثرثرة، حتى تقلصت المسافة ما بين حاجبيه و هو يقول بلهجة مؤكدة:
- و قولتلك لو الوضع اتطور هتدخل.. سيبيها تهدى
سحبت شهيقًا عميقًا زفرته على مهل أثناء قولها المستاء:
- طيب
عمّ الصمت بعدها، لم ينهي المكالمة في وجهها، و لم يتحدث أيضًا، و هي لا تجد ما تقول، فقط أنفاس كلاهما تصل إلى بعضهما البعض، حتى حاولت كسر ذلك الحاجز بقولها المُوضح، و هي تقبض جفُونها:
- عايزة أوضحلك حاجة، أنا محاولتش أتدخل في حياتك زي ما بتقول، أنا كنت عايزة أصلح بينك و بين أخوك و بس
- يارا!
تنبهت خلاياها إلى ندائهِ المفاجئ، خاصةً أنه نطق اسمها و ذلك نادرًا ما يحدث، فغمغمت بتلقائية شديدة:
- نعم؟
- حضري شنطتك!
...........................................................
.........................
..............................................................................
 
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Donde viven las historias. Descúbrelo ahora