"الفصل الثاني"

785 14 1
                                    

" الفصل الثاني"
نحنُ نهوى التشبّث بالأمـل.. و لو كُنا ندرك أنه واهٍ.
________________________________________
رائحة الأدوية و المعقمات تَفوح بالأرجاء ، تأوهات المرضى الممتزجة مع معدلات ضربات القلب المُرتفعة لـ مرافقيهم ، احداهنّ  تبكي و تنوح غير راضية  بـ قضاء الله ، و أم أخرى شعرت بانتزاع روحها منها اثر إبلاغها بـ وفاة صغيرها أثناء العملية الجراحية التي أُجريت له،.. هناك سيدة تتخذ من القرآن الكريم أملًا لها و هي تقرأ به بخشوع ، و كأنها تستمد من حروفهِ المباركة قوة تزرعها بخلاياها و تتنفس كلماته الحاملة معها جبرًا لـ شروخ روحها ، و يُنبئها بأن هنالك معجزة سـ تحدث جراء ثقتها به و تمسكها بـ أملٍ و لو ضئيل ، فقط لأنها تعلم أنه الله  ، حتى أنها لم تدرِ بـ انسياب الدموع من مقلتيها كـ الشلالات ،   قلق .. خوف .. اكتئاب.. بكاء.. نشيج مستمر و القليل من يتفائل ، أمانٍ دسوها جميعًا بين همهماتهم بالدعاء عسى أن يستجيب المولى ، و بالرغم من كونها مشفى ضئيًلا إلا أنها ابتلعت بداخلها بين جدرانها متعددة .
حالة من الهرج و المرج سادت بها عقب علمهم بهوية المُصاب بالرغم من كونها مشفى ذو امكانيات محدودة نوعًا ما.. كان الأقرب اليهم فلم يكن لهم خيارًا غيره ، تم استدعاء كبار الأطباء للعمل على انقاذ من على شفى حفرة من الموت ..كما تم اعلام الشرطة من قبل ادارة المشفى بما حدث معللين بأنها سياسية المشفى
..................................................................................................
ترجلت عن السيارة و هي ترفع نظارتها الشمسية فوق خصلاتها ثم سارت على الممر عدة خُطوات لتصل إلى باب القصر ، و على بعد مسافة شاسعة ، لكز إحدى الحارسين الآخر و هو يتمتم متوجسًا متابعًا إياها بناظريه:
- مش المفروض نعرفها ؟
هز الآخر رأسه بالرفض و هو يردد معنفًا:
- انت اتجننت ؟ دي هتطردنا فيها !
احتلّ الوجوم وجه الأول و هو يقول بقنوط:
- انت هتقول فيها ؟ ما كده كده مطرودين ، استلمنا الشغل امبارح و هنتطرد النهاردة !
زفر الأخير حانقًا و هو يردد بتذمر:
- عايز أعرف إزاي حد وصل للباشا و احنا متزحزحناش من هنا!
تقوست شفتيّ الأخير متبرمًا و هو يردد بضيق بالغ :
- استحالة ، ده أكيد حد من جوا القصر و هنتدبس احنا !
تنغض جبينه و هو يتنظر نحوه باهتمام ثم ردد مستفسرًا :
- قصدك ايه ؟ ان حد من الخدم هو اللي قتل الباشا ؟
هز رأسه بإيماءة بسيطة قائلًا:
- أيوة .. ده شئ أكيد ، يا ابني احنا متحركناش من هنا ، و بعدين مش شايف الحراسة اللي جوا .. افرض القاتل ده فلت مننا ، طب هيفلت من الباقي إزاي ؟
استحوذت كلماتهِ على اهتمامه بالكامل ، فـ فرك ذقنه باصبعي السبابة و الإبهام لـ ثوانٍ ثم أرخى ذراعه و هو يقول بتريث:
- تصدق معاك حق ، استحالة اللي عمل كده يكون حد من برا ، بس هيكون مين ؟
تفاجأ بالأخير يلكزه بشئ من اللين و هو يردد لجذب انتباهه:
- انت عارف ممكن يكون حد من عيلته نفسها !
ارتفع حاجبه استنكارًا ثم تمتم معاتبًا بجفاء:
- يا ابني اتلهي و وطي صوتك .. حد من العيلة إيه انت كمان ، عايز تلبسنا مصيبة!
فـ أصرّ على رأيه و هو يردد موضحًا:
- اسمعني بس .. مش يمكن تكون مراته ؟
فـ لكزه بعنفٍ في كتفه قائلًا باحتجاج:
- انت اتجننت؟ انت أصلًا تعرف مراته ؟
أشار اليه قاصدًا تهدئته ثم ردد بتروٍ :
-  اهدي بس و اسمع اللي هقوله..واحد من الحرس اللي كانوا هنا قبلنا و الباشا طردهم كان صاحبي.. و حاكيلي كل حاجة ، قالي إن الباشا و مراته مبيطيقوش بعض .. باينها بنت غريمه ، بينهم مشاكل متتحلش و قتل و دم ، بيقولو ان أبو البنت قتل أبو الباشا ، يعني أبوها قاتل و هي هتبقى زيه !
ارتفع حاجبيه و اتسعت عينيه و هو ينظر له بذهولٍ ثم ردد مشدوهًا:
- انت متأكد من اللي بتقوله ده ؟
هز الأخير رأسه بإيماءة و هو يتمتم واثقًا :
- بقولك صاحبي ، و كان شغّال هنا من زمان ، و عارف اللي فيها !
فـ حك الآخر جبينه بـ كفهِ و التفت لينظر نحو القصر الشامخ بذهول ثم ردد بتحيّر :
- يعني مراته هي اللي قتلته ؟.. يا ترى البيت ده وراه أسرار إيه تاني ؟
............................................................................................
تفصّد جبينها عرقًا و أخذت رأسها تهتز بهستيرية بـ النفي و هي تحاول مجابهة ذلك الكابوس الذي أرهق ذهنها و استنزف طاقتها ، تضاعف معدّل تنفسها ، و استوطن الذُعر ملامحها حتى باتت تتمنى لو تتمكن من الاستيقاظ بأسرع ما يُمكن ، استشعرت تلك الأيدي التي تربت على كتفها مُحاولة ايقاظها و لم تتبيّن تلك الكلمات التي تفوّه الشخصُ بها، و ما هي إلا لحظاتٍ و كانت تشهق بصوتٍ مسموع هلعًا و هي تنتفض مُعتدلة في جلستها ، نهج صدرها علوًا و هبوطًا ، استشعرت دقّات قلبها تكاد تصم أذنيها ، حتى أنها كانت تسمع ضرباتهِ بوضوح أكثر من اللازم و لكنها لم تتفهم كيف ، لم تُرهق ذهنها أكثر ، بل أنها اطبقت جفنيها و هي تحاول تنظيم معدّل تنفسها متمتمة بـ ذعر :
- ده كان كابوس .. كابوس انتي معملتيش حاجة ، محصلش حاجة !
حتى انتبهت إلى يدٍ تُربت مجددًا على كتفها و هي تردد بصوتٍ جاد :
- يا مدام انتي كويسة ؟
فتحت عينيها و التفتت گالملسوعة لتنظر نحوها بـ عدم فهم ، ازدردت ريقها و هي تهمس بتخوفٍ جلّ بوضوح على ملامحها :
- انتي مين ؟ أنا .. أنا فين ؟
.......................................................................................
كان قهرها نابع من داخلها و احساسها صادق و تلك الدموع التي تنهمر بلا توقف على وجنتيها ، مرّت ذكريات مضت أعوام حاملة لغبار القتل لـيُعكر صفوها ، ذكريات لذلك الصغير الذي كانت مهمتهُ نثر البهجة بين جدران قصر شُيّد بالدماء و الحقد ، بين ثنايا أشخاص لم يفقهوا للرحمة معنى ، و لكن أتت الدنيا عليه بالمعنى الحرفي لذلك ، غبار الدماء وصل إلى ربيعه فـ غيّم سمائه مُخبأ شمسًا تكاد ترى أنها لن تُشرق مجددًا ، سبعة عشر عامًا عانى فيها و مازال يُعاني ، تناست وقاحته الدائمة معها و ظلّت فقط تلك الذكريات التى لفحت وجهها كـ نسماتٍ هادئة محاولة تلطيف جُرحها ، عندما كان يترك فراشهُ الوثير ليلًا_ و بدون علم والدته_ و يأتيها لـتقص عليهِ القصص قبل نومها ، حتى أنه أيامًا كان يغفو بأحضانها مستسلمًا لأمان لم يجده بين أحضان والدةٍ سلبتهُ حتى حق احتضانها ، و تستيقظ باكرًا ثم تُسارع بـ اعادتهِ لغرفته متفادية كلماتٍ لاذعة من سيدتها ، حينما كان يناديها بـ " سهر" اختصارًا لاسمها ، كانت تعتقد بالبداية أن لسانهُ يتلعثم و تتبعثر حروفهِ حين ينطق باسمها نظرًا لصغر سنه آنذاك ، و لكنها اكتشتف فيما بعد أنه أطلق اسمًا يُناديها به هو .. هو فقط ، أغدقت عليهِ من الحنان محاولة تعويضه عن ذلك الأذى النفسي الذي تُلحقه والدته به ليلًا ونهارًا ، تذكر دائمًا حين كان يرتمي في أحضانها مُطلقًا عنان دموعه و هو يقص عليها كيف أبرحتهُ والدته ضربًا حين أسقط رُغمًا عنه احدى المزهريات الأثرية ، بالرغم من عدم اقتناعها و ادراكها أنها اتخذت من ذلك حجة مقنعة لمعاقبتهِ ، بالفعل كانت تتحجج دومًا لمعاقبهِ ، هي تجهل السبب ، كيف لأم أن تزرع عقدة نفسية بذلك الشكل في طفلها ، تخجل حتى من اطلاق لقب الأم عليها و يكون ظلمًا لأم حقيقة تُعاني لصالح أطفالها و ليس تتسبب في معاناتهم ، في تلك الآونة كانت تخفف عنه و تنجح ، و لكن بعد موت والده كانت مسلوبة الاختيار ، أُجبرت على عدم التدخل في شؤونهم و لم تتمكن أن تحميه من بطشهم خاصة حين كان " كمال" والده البديل.
شهقت شهقات متتالية و هي تهز رأسها استنكارًا لما آلت اليهِ حاله ، سبعة عشر ربيعًا لم يتذوق بهم للسعادة طعمًا و بـ عشر سنواتهِ قبلهم كانت تُعكر والدته صفوه دومًا ، أي أنه لم يحيا مُطلقًا حياة طبيعية كـ باقي الأطفال ، لم يتمتع بيوم واحد في حياته ، لا تعلم لمَ قدره بتلك الصُعوبة ، و لا تعلم لمَ دومًا تنتشل الحياة السعادة من بين راحتيهِ عنوة ، كانت تبكي بدون توقف و هي دافنة وجهها بين كفيها ، مستندة بـ مرفقيها إلى الطاولة ، حاولن باقي الخادمات التهدئة من روعها و لكن لم تتمكن احداهن من التخفيف عنها و :
- انتي يا غبيــة ، سنتين بناديكي ، ايه اطرشتي و لا السن أثر عليكي ؟
رفعت " سهير " عينيها الحمراوين لـترمق تلك المتلبدة المشاعر بنظراتٍ حانقة تشبعت بالضغينة ، و لم تشعر بنفسها و هي تنتصب في وقفتها و تمضي نحوها لتشن هجومًا عليها قابضة على كتفيها و هي تهدر بها بنبرة ساخطة:
- مات .. ارتاحي يا هدي ، ارتاحي ، قتلتيه يا هدى بعمايلك ، ابنك مات يا هدى و انتي ولا هنا ، يامن مات !
سريعًا ما غلت الدماء في عروقها و قد احتن وجهها بالدماء، حاولت الخادمات أن يفصلن بينهن و لكنهن فشلن أمام اصرار الأخيرة ، كما حاولت " هدى" دفعها و هي تهدر بـ نبرة ناقمة :
- ابعدي عني يا مجنونة ، انتي اتهبلتي ؟
ازداد اتساع حدقتيها و قد احمرت الشعيرات الدموية بهما ، فـ هزت جسدها بعنفٍ و هي تهدر بنبرة متشنجة :
- ابنك مات و انتي و لا هنا ، منك لله يا شيخة ، معاشش يوم في حياته بسببك ، حسبي الله و نعم الوكيل فيكي ، عمرك ما كنتي و لا هتكوني أم أبدًا.. أبدًا !
فـ قبضت بعنفٍ على كفيها و شحَذت كامل قواها لتدفعها بعنف للخلف و هي تزأر بـ :
- انتي بتقولي ايه يا مجنونة انتي ؟ انتي مستحيل تقعدي ثانية زيادة في بيتي ، أن ما وريتك يا حقيرة مبقاش أنا هدى الريحاني
- اولعي .. في داهية أصلًا ، أنا فضلت هنا عشان خاطره و بس ، عشان يامن اللي عمرك ما اعتبرتيه ابنك ، منك لله يا هدى ، منك لله أنا بنفسي همشي من البيت الـلي اتبنى بالدم !
فرّت الدماء تمامًا من عروقها اثر كلماتها الخطيرة ، و تحولت حُمرة وجنتيها الغاضبة إلى صفرة شاحبة ، تجمدت في محلها و فغرت شفتيها و دقّات قلبها تكاد تصم أذنيها ، ان تفوهت تلك السيدة بكلمة أخرى لا تعلم ما سـ يكون مصيرها ، لم تتمكن من رد اعتبارها و هي تستمع لكلماتها المُهينة بأذنيها :
- زمان سكتت عشان تهديداتك لكن دلوقتي لأ ، مفيش حاجة هتخوفني ، أنا هقول كل حاجة و ..
- سهيــــر !
التفتت لتنظر نحو ذلك المتجمد بجوار باب المطبخ تلك النظرات جعلت الخوف رغمًا عنها يتغلغل إلى داخلها فـأثبط عزيمتها ، إلى أنها لم تتخلَ عن موقفها ، حاولت التظاهر بالصلابة فـ احتفظت رُغم ارتعاد فرائصها بنظراتها المتوعدة ، اتخذت من سرهما أداة دفاعية لتُضاعف بها قوتها ، شملتهُ بنظرات ازدراء متأففة ، ثم التفتت نحو " هدى" المتجمدة في محلها و كأن على رأسها الطير ، ثم رفعت رأسها بـ شموخ و هي تتمتم بنبرة قوية :
- اللي فات بيتعاد تاني ، زي ما خسّرتي أم ابنها هتخسري ابنك ، بس للأسف انتي مش هتحسي و لا هيفرق معاكي ، ابنك اتقتل زي ما ...
فجأر " كمال" مقاطعًا بنبرة ارتجف جسدها اثرها :
- سهيـــر
شعرت " هدى" و كأن أطرافها تتثلج ، و لكنها حاولت أن تتسلح بوجود زوجها فـ ازدردت ريقها و حاولت تنظيم أنفاسها المضطربة اثر حالة الهلع التي عايشتها و مازالت منغمسة بها ، فـ أشارت لـزوجها و عقدت حاجبيها متظاهر باكفهرار وجهها و هدرت بتجهم :
- انت ساكت عليها يا كمال ، طلعها برا ، بــرا !
كانت نظراتهُ الثاقبة مسلطة على " سهير" فشعرت و كأنها تقدح شررًا ، خشت أن تنزرع بذرة الذعر بأرضها مجددًا فـ لا تتمكن من اجتثاثها ، فـ تعمدت أن تمرر النظرات المستخفة بينهما ، ثم أجبرت قدميها على اقتيادها و هي تنظر من زاوية عين لسيدتها التي لم تعد و تمتمت بتهكم :
- أساسًا همشي من نفسي يا .. يا هانم !
اضطرت أن تمر من جواره لتمرق للخارج و لكنه اجتذب ذراعها بعنفٍ و أجبرها على النظر لعينيهِ اللتين باتتا گجمرتين من جحيم ، ازدردت ريقها بتخوف و قد ذكرتها نظراته بنظرات " يامن" ، لقد نجح بالفعل أن يغرس بداخله بعض صفاتهِ و لكنها تثق بكونها مجرد صفات ظاهرية لم تتوغل فـ تأخذ من دواخله محلًا ، نقلت نظراتها القوية بين عينيهِ و هي تتمتم بنبرة ناقمة :
- متفكرش اني هسكت كتير يا .. يا كمال بيه ، لو حصل له حاجة مش هسكت ، كل الأسرار هتتقال ، كل المستخبي هيبـ...آآآه
اشتدت قبضته القوية على ذراعها و قدحت عينيه شواظًا من النار و هو يرمقها بنظراتٍ مهددة أكثر من كونها مُحذرة ، تأوّهت بخفوتٍ فـ ردد بنبرة قاتمة:
- متنسيش نفسك يا سهير انتي خدامة ! مجرد خدامة ملهاش كلمة و لا حد هيصدقها
و كأنه سكب ملحًا على جروحها الغائرة التي لم تجد رتقًا لها حتى الآن،اندلعت النيران بين صمامات قلبها ، شعرت بالجمرات تسري في أوردتها ، و لكنها لم تُعرب، و رددت بنبرة حانقة:
- اللي فات متدفنش يا باشا ، اللي فات لسه عايش جوايا ، لسه فاكرة كل حاجة و ...
أطبق أكثر بكفهِ على ساعدها ، و تضاعفت شراسة نظراته المهددة و هو يردد بنبرة ذات مغزى :
- اللي فات انتي دفنتيه بإيدك يا سهير ، انتي وافقتي تدفنيه ، خلاص مات .. و اللي مات مبيرجعش ، و إلا..
التوى جانب ثغره بابتسامة قاسية و هو يتابع بلؤم :
- و إلا هيكون في تمن لده .. و لا انتي ايه رأيك ؟
تجمعت الدموع في مقلتيها رغمًا عنها ، احساس الذنب گخناجر تنغرس واحدًا تلو الآخر ، عدة مشاعر اختلطت عليها فلم تجد ردًا لقوله ، نقلت نظراتها الدامعة بين عينيه القاسيتين و ذكرياتها تمر أمام عينيها و كأنها وليدة هذه اللحظة ، ذكرياتٍ لم تكن بالحميدة و لم تترك داخلها سوى قهرًا تضاعف مقداره بمرور السنون ، حاولت أن تتسلح بقوة زيّفتها فاجتذبت ذراعها بعنفٍ من قبضته ، ثم مررت النظرات الحاقدة بين كلاهما و هي تردد بنبرة فاترة :
- لو يامن بيه حصل له حاجة أنا ..
فـ أتمّ " كمال" كلماتها المنتقصة بنبرة محذرة :
- انتي مش هتعمل حاجة ، مش هتعرفي تعملي حاجة يا .. يا سهير !
زمّت شفتيها بضيق ، هي تعلم حق العلم بأنهم ما هُم إلا شياطين .. مجرد شياطين متلبسين عباءة بشر ، لن تتمكن من التفوه بحرف من بحر ما تعلمه ، و لكنها ستتخذ منه أداة لتكون درعًا لها من بطشهم اثر تهديداتها الجريئة ، فلم تجد ما تتفوه بهِ ردًا على جحودهم سوى :
- حسبي الله و نعم الوكيل فيكم .. حسبي الله !
استدارت مجبرة ساقيها على المضي قدمًا لتصعد خلسة للأعلى مُنفذة أمر "فارس" الذي أتاها اتصالهِ ، حيث ستنزح عن السكين البصمات تمامًا ، ثم تجمع ثيابها و أغراضها بأقصى سرعتها ، ثم تبتعد عن ذلك القصر الذي حمل خلف جُدرانهِ الشامخة أسرارًا مريبة .. أسرارًا تدرِيها جيدًا واحدًا تلو الآخر ، أسرارًا ان كُشف عنها الستار ستتزلزل الأرض من تحت أقدام القصر، تتصدع أساساتهِ و ستتهدم جدرانهِ ، سينهار بالمعنى الحرفيّ لذلك ، و قد حسب الجميع أنه لن ينهار يومًا .
.....................................................
انقباضة قوية عصفت بفؤادها و هي تتلفت حولها لتستكشف أنها بين جُدران غرفة بالمشفى ، لم تتمكن من السيطرة على حالة الارتباك التي تملكتها فـ عادت تنظر نحوها متمتمة بـ اضطراب :
- هو .. هو محصلوش حاجة .. محصلوش حاجة صح ؟
ضيقت الأخيرة عينيها و هي تُتمتم بعدم فهم :
- هو حضرتك تقصدي مين ؟
- جوزي !
كلمة انطلقت بعُفوية للمرة الأولى من بين شفتيها ، فـ ارتبكت مشاعرها أكثر و قد ضرب ذهنها عدة مواقف ردد فيها كلمة " زوجتي" أمامها و كأنه متباهيًا بانتصارٍ أحرزه عليها ، حاولت أن تنفض تلك الأفكار عن ذهنها حينما سألتها الممرضة بـ لا اكتراث:
- معرفش حضرتك مين جوزك ده ، حضرتك جيتي ..
التقطت أنفاسها مقاطعة إياها بتهدج:
- يـ.. يامن الصيّاد ، اسمه يامن الصيّاد .. ، قوليلي إنه مش هنا ، هو .. هو محصلوش حاجة ، هو مجاش هنا ، صح ؟
ارتفع حاجبي الأخيرة بعدم تصديق و هي تردد بتعجبٍ :
-  حضرتك مرات يامن الصياد اللي في العمليات ؟
و كأنها سكبت دلوًا من الثلج فوق رأسها فـ شعرت بأطرافها تتثلج من فرط الصدمة ، اتسعت مقلتيها بـ هلعٍ بالغ و تلقائيًا كممت فاهها لتكتم شهقةً مذعورة كادت تنفلت منها ، تغضن جبين الممرضة تعجبًا ثم تمتمت بحذرٍ و هي تتأمل حالتها :
- حضرتك كويسة يا مدام ؟
هزت رأسها نفيًا عدة مرات و سُرعان ما تدفقت الدماء الغاضبة إلي وجنتيها ، فـ أزاحت كفها عن شفتيها لـتنتزع الإبرة الطبية بعنفٍ عن كفها الآخر ، فـ اتسعت مقلتي الممرضة ذهولًا و حاولت أن تستوقفها و هي تبسط كفها إليها مرددة باستنكار جلي :
- يا مدام بتعملي إيـ..
تفاجأت بها تدفع كفيها بعيدًا عنها بعنفٍ و هي تردد بتشنج :
- انتي كذابة ابعدي عني ، هو محصلوش حاجة أنا عارفة .. كذابة كلكم كذابين !
أخفضت ساقيها و بصعوبة استطاعت أن تستقيم بوقفتها ، فـ حاولت الممرضة أن تُعيدها محلها و هي تهتف باستهجان و قد تلونت وجنتيها بحمرة غاضبة :
- يا مدام كذابة إيه بس ، مش جوزك اللي اتطعن بسكين.. هو في العمليات دلوقتي ، و انتي  مينفعش تشوفيه
و كأنها تتعمد أن تكوي رُوحها بـ تروٍ ، فـ ازداد تجهم وجهها و هي تدفعها بعنفٍ ليرتد جسدها للخلف بضعة خطوات ، ثم انطلقت تلتهم المسافات بينها و بين غرفة العمليات .. توقفت لثلاث دقائق تقريبًا تسترشد عن محلّها من احدى الممرضات في الرواق ، و ما لبثت أن استجمعت شتات نفسها لتستأنف ركضها ، ذكرى تلو الأخرى تُهاجم رأسها ، تفاصيل الكابوس الذي رأته .. و الذي لم يكن كابوسًا بالمعنى الحرفي ، متى رأته في صغرها ؟ لا تتذكر ، تُحاول أن تبحث بين أروقة ذهنها عن ذلك اللقاء القصير و الذي رأت تفاصيله بدقة و كأنها تُشاهد عرضًا سينمائيًا ، يدهُ التي بُسِطت اليها لتجتذبها مساعدًا لها على الوقوف ، اعتذارًا لم تعتقد أنه بحياته قد تفوّه بهِ أو أن كلمة " آسف" ضمن كلمات قاموسه و لكنها تشك أنها مُحيت تمامًا منه ، تلك المحارم الورقية التي امتدت اليها ، تعمقه النظر لعينيها و ذلك الإطراء الذي تفوّه به ، و لكن ما لبث أن تحول بالفعل إلى كابوس حينما بدا و كأن أحدهم يتلاعب بالمؤشرات ليجلب نهاية ذلك المشهد السنيمائي فـ  تلك الجريمة الشنيعة التي لم تُصدق أنها ارتكبتها .. باتت خفقات فؤادها گالطُبول و قد تباطأت خطواتها رويدًا رويدًا حينما وقع أبصارها على شخصين تعرفهم حق المعرفة أمام غُرفة العمليات .. " عمر" الذي كان يجلس دافنًا وجهه بين كفيهِ على احدى المقاعد المعدنية ، و " فارس" الذي كان يقف مُلصقًا ظهره بالجدار و مستندًا برأسهِ عليه مُطبقًا جفنيه ، وجودهما لا معن لهُ سوى أن من على شفى حُفرة من الموت بداخل الغرفة ما هو إلا زوجها ، و لكنها لم تقتنع بعد ، يستحيل أن ترتكب جريمة كتلك ، تسمّرت بمحلها و قد شعرت بعضلات ساقيها تُشل فلم تقوَ على أن تخطُو خطوة إضافية ، و كأنه استشعر وجودها فـ التفت برأسهِ لترى شرارات الغضب تُقدح منهما ، وصل غضبهُ إلى ذروته و هو يراها سالمة معافاة لم يصبها مكروه في حين أن رفيقه بالداخل لا يعلم هل لفظ أنفاسهِ الأخيرة بعد أم لا ، كزّ بعنفٍ على أسنانه و تحول وجهه بالكامل إلى كتلة لهيب متّقدة ، على الفور مضى نحوها بخطواتٍ واسعة لفتت انتباه " عمر" فرفع نظراته إليه ليجده يتجه نحوها و وجهه لا يُنذر بالخير مُطلقًا فـ هتف باسمهِ مُناديًا عليه عدة مرات و هو ينتصب في وقفته ليتبعهُ  ، بينما قد وصل الهلع بها منتهاه و هي تراهُ يتقدم نحوها گليثٍ يكاد يلتهم فريسته ، و لكنها لم تره هو .. بل رأت شخصًا آخر ذو عينان بدتا گغاباتٍ اتقدتا بشواظٍ من نار ، ارتسم الذُعر بوضوحٍ على ملامحها ، حاولت أن تراجع عدة خطوات للخلف متفادية هُجومه المحتم، و لكن بـ ثانية واحدة كان الأخير يقبض بعنفٍ على ذراعها ليجتذبها إليه بعنفٍ و هو يهدر بـ شراسة :
- هندمك يا يارا ، ابن عمي اللي بين الحياة و الموت جوا بسببك هندمك على اللي عملتيه فيه ، سامعة !
لم يكن صوتهُ الشرس الذي حفظتهُ عن ظهر قلب ، كان صوتًا مُغايرًا كان مألوفًا و لكنه حتمًا لم يكن صوته ، و فجأة شرعت ملامحه تتغير تدريجيًا.. حتى تحول تمامًا إلى شخصٍ آخر غيره ، أدركت أن ما رأتهُ كان وهمًا نسجهُ عقلها ببراعة ، شعرت أنها على حافة الجنون ، ارتفع حاجبيها بعدم تصديق لما حدث توًا أمامها ، و لكنه انتشلها من أوج شرودها و هو يهز جسدها بعنفٍ مُطبقًا بكفيهِ أكثر على ذراعيها مُتعمدًا إيلامها :
- سامعة ؟ هتندمي على اللي عملتيه ، لو حصل له حاجة مش هسيبك عايشة !
تضاعف شحوب بشرتها و ارتجفت شفتيها و هي تتمتم بتلعثمٍ خافت :
- أنا .. أنا معملتش حاجة ، مـ.. مكنش قصدي و ..
 كور قبضته بعنفٍ ثم رفعها مُقبلًا على لكمها و هو يهدر بها بنبرة عنيفة :
- بـس اخرسي .. مش طايق أسمع صوتك ده
شهقت بفزعٍ و هي تنكمش على نفسها و لكن لم تصل قبضتهُ إليها حيث قبض " عمر" على كفه ممتنعًا إياه عن التهور و هو يهتف مستنكرًا :
- اهـدى يا فارس ، احنا مش ناقصين!
فـ زمجر غاضبًا و هو يُطبق أكثر على أسنانه و نظراتهُ الحامية مُسلطة عليها متعمدًا أن يسكب الرُعب في أقداح فؤادها ، و بدلًا من أن يلكم وجهها لكم الجدار بقوةٍ عسى أن يُنتقص مقدار اللهيب الذي عمّ صدره به ، فـ نهج صدرها علوًا و هبوطًا ، نظرت إلى " عمر" .. ذلك الذي عهدتهُ نقي القلب دومًا ، العديد من المواقف أظهر فيها انسانيته على عكس تلك الذئاب البشرية التي يعيش معها، و لكنها صُعقت حين رأت به ذات النظرات على الرغم من اختلاف لون العيون.. تلك النظرات التي كانت تراها دومًا بعينيّ أخيه حين يغضب ، انه بالفعل يُشبهه في الشكل بدرجة كبيرة، استعطفتهُ بنظراتها عسى أن يلين لها ثم تمتمت بتردد :
- أنا .. أنا مش
تفاجأت بهِ يقبض على ذراعها بعنفٍ لم تعهدهُ منه يومًا ثم أجبرها على الاستدارة و تقدم عدة خطوات ليصحبها معهُ و هو يردد بفتور :
- ايه اللي جابك هنا ؟ مش كفاية اللي هببتيه ؟
حاولت أن تتملص من قبضته و هي تردد بتوسل :
- أرجوك افهمني ، أنا .. أنا عارفة انك الوحيد اللي هتفهمني و ..
تسمر في مكانه و التفت اليها ليهدر بها بشراسة :
- أفهم ايـــه ؟ قتلتي أخويا قدام عيني و لسه ليكي عيني تدي مبررات ؟
فـ استمعت إلى صوت " فارس" يقترب من خلفهم و هو يردد باحتجاج متوعد :
- مش هتاخدها يا عمر ، مش هتهربها مني .. البت دي هتفضل هنا !
شعرت و كأنها صارت نباتًا هشيمًا تذروه الرياح و تبعثرهُ ، و حيدة في مهب الريح ، لا أحدٍ يتفهم موقفها و لا سيقف أحد بجوارها ، ظلت تمرر نظراتها القانطة بين كلاهما .. حتى انتبهت إلى  الباب يُفتح ليدلف الطبيب خارجه و هو ينزع القناع الطبي عن وجهه ، فـ توترت أنفاسها و هي تتركهم لتوفض متحركة نحوهُ ، تغضن جبين " فارس" و ارتفع حاجب " عمر" استنكارًا ، وجه كلاهما نظرهما إليها لـ يتفاجأن بخروج الطبيب من غرفة العمليات فمضيا نحوهُ على الفور، كانت هي الأسرع في الوصول إليه ، التقطت أنفاسها بصعوبة و هي تسأل بعينين زائغتين:
- هو .. هو كويس صح ؟ قـ..قول إنه كويس ارجوك !
تروّى الطبيب حتى تحلّق الجميع حوله فـ ردد " عمر" متلهفًا:
- يامن كويس ؟
ردد " فارس" بنبرة جادة و هو يتمعن النظر لملامح الطبيب:
- ايه اللي حصل يا دكتور ؟
زم الطبيب شفتيه متمتمًا :
- للأسف الحالة مطمنش!.. الطعنة في مكان خطر جدًا، و المريض فقد دم كتير!
......................................................................
.............................
...............................................................

في مرفأ عينيكِ الأزرق Tempat cerita menjadi hidup. Temukan sekarang