"الفصل الثامن و العشرون"

709 15 0
                                    

" الفصل الثامن و العشرون"
كانت تكتم شهقاتها بشق الأنفس و هي تحملق من الزجاج المجاور لها، منذ أن هبط بها و هو لا ينبس ببنت شفة، فقط يعاونها على التحرك بعدما شعرت بتيبس ساقيها، انتفض قلبها بين أضلعها و هي تستشعر مرارة الظلم اللاذعة، غُصة علقت بحلقها فـ آلمتها أكثر، ودت لو أنها تجهش بكاءً عسى أن يخفف ذرة من لوعة روحها، و لكنها تماسكت بصعوبة جمّة، فقط تلك العبرات التي تنهمر من عينيها بصمت تام، بينما هو.. حالتهِ لا توصف، لا يعلم كيف تمكن من السيطرة على نفسه و كبت غضبه عنها فلم يدكّ عنقها، ظل وجهه متجهمًا و محتقنًا بالدماء، تلك الشعيرات المحمرة خلف الهالة البيضاء بعينيهِ الخضراوين كانتا واضحتين للعيان، غابتا عينيهِ و گأن النيران اندلعت فيهما، كفاه متقبضتان على المقود و كأنه سيهشمه، اهتزازة صدغيه من حين لآخر تُنبأ بأنه يكز على أسنانه بعنفٍ بالغ، لم ينبس ببنت شفة منذ أن أخرجها من وكر الذئاب ذلك، للحظة لعن نفسه كونه كان غبيّا لذلك الحد الذي جعله يمتثل لمطلبها ظنّا منه أنه يحاول التخفيف عنها، بينما في الواقع كان يعلم حق العلم أن ذلك سـ يحدث، لذلك و باللحظة الأخيرة قبل خروجهِ تذكر قسيمة زواجهِ.
نهنهاتٍ خافتة صدرت عنها فـ أججت نيرانه أكثر، حاول قدر الإمكان كبت غضبه، و لكنه لم يتمكن، فـ إذ بهِ يجأر بها بصوت أفزعها و جعل جسدها ينتفض محله:
- مالك؟ مش مبسوطة ليه؟ مش كان نفسك تزوريهم؟
فـ تركت العنان رغمًا عنها لشهقاتها لتتعالى بينما تحاول جاهدة السيطرة على ارتجافة جسدها و هي تحدق في الزجاج بجوارها، فـ أتاها صوتهُ المستهجن:
- ما تردي!
تقوست شفتيها و هي تطبق جفنيها محاولة كتم شهقاتها المرتفعة و هي تنتحب بأنين مكتوم، فـ زفر أنفاسه الحانقة و هو يشدد من قبضته على المقود، عنّف من ضغطه على عضلات فكه و هو يحاول استعادة صلابته، ثم أردف بصوت صارم:
- خلاص خلصنا.. اهدى بقى!
حينها لم تهدأ، التفتت إليه لتقول من خلف دموعها الكثيفة التي شوشت رؤيتها باهتياج مستنكر لقسوته المبررة:
- و أنا أعرف منين إن ده هيحصل؟ أعرف منين إنها هتعمل كده فيا! انت بتحاسبني على إيه مش فاهمة!
فـ زأر بها محتدمًا:
- على غبائك.. بحاسبك على غبائك، بس تصدقي.. أنا اللي غلطان اني سمعتك و مشيت و را كلام عيلة زيك!
فـ نفذ صبرها تمامًا، راحت تهدر به من بين نشيجها:
- أيوة أنا غبية، غبية عشان مش عارفة حقيقة اللي حواليا!.. و لا قادرة حتى أخيل بشاعتهم!
انحرفت نظراتهِ المتوهجة نحوها، فـ نظرت لعينيه مباشرة و الدموع تنسل من عينيها، ثم انخفضت نبرتها قليلًا مع هدوء ثورتها و هي تقول بتحسر:
- غبية عشان بثق في ناس مش المفروض أثق فيها، و غبية عشان كنت فاكرة ان اللي حواليا بشر!
أبعد نظراته عنها ليحدق في الزجاج الأمامي و هو يقول بجفاء متعمدًا الضغط على كلماته:
- لو كنتي سمعتي كلامي مكنش ده حصل
حاولت أن تبرر لهُ موقفها بقهر متريّث من بين دموعها:
- انت مش فاهمني، أنا كنت عايزة أشوف خالي!.. لا أكتر و لا أقل، كنت عايزة أطمن عليه
سحبت نفسًا عميقًا حاولت به السيطرة على نوبة بكائها لفظته على مهل ثم أعقبت ذلك بقولها الشَجِن:
- هو الوحيد اللي وقف جمبنا.. هو الوحيد اللي كان بيسأل علينا في غياب أبونا!
و راحت أنظارها تتجه نحوه و هي تقول مستوفضة:
- إحنا عيشنا 3 بنات من غير راجل أو سند لينا، و خالي هو كان السند ده!
و اختنقت نبرتها مجددًا و هي تقول و قد تشنجت قليلًا:
- هو اللي كان السبب في رفضي لخـ..
و تداركت نفسها قبل أن تلفظ اسمه:
-لابنه!
يود لو يخرسها بأي شكل كان، و لكنه لا يملك سوى الإطباق على فكيه حتى ترتعش عضلات صدغيهِ، بينما أنظاره لا تنحرف إليها، فقط محدقًا بالطريق أمامه و كأنه لا يستمع إليها، و لكنها راحت تبتسم بسخرية و هي تقول متهكمة من بين شهقاتها الخافتة التي انفلتت منها بين الحين و الآخر:
- تخيّل! أبوه هو اللي كان بيحذرني منه!
تجلت المرارة على ملامحها و هي تنظر نحو زجاجها لتردد بنبرة مكلومة:
- لكن متخيلتش إن..إنه بشع بالشكل ده!
فـ حذرها بصوت خفيض يحمل ما يكفي من الصرامة من بين أسنانه المطبقة:
- كفايـة!
نظرت نحوه و كأنها تود لو تتوسله ليتركها تسترسل، و لكنه لم يمنحها نظرة واحدة، فـ أطبقت جفنيها مبتلعة بصعوبة غصة عالقة في حلقها، بينما تعود برأسها للخلف مستندة للمقعد، أراحت رأسها و الدموع تنسدل بصمت مرير من بين جفنيها المُطبقين، تقوست شفتيها بحزنٍ بالغ و هي تقول مغمغمة بإنهاك روحي أكثر منه جسدي:
- أنا تعبت أوي
راح يختلس النظرات نحوها و قد التقطت أذناه كلماتها الهامسة، فـ تنهد بعمق و هو يكاد يضعف مجددًا أمامها، يكاد لو يضمها بين أحضانه لرغبة هو نفسه غير مُدرك لها، لا يعلم لمَ.. و لكنه أبى أن ينصاع و خاصة تلك المرة.. تعمّد أن يطرق على عظامها الضعيفة بيد من حديد فتقوى قليلًا.. إنها هشّة، هشّة للغاية أمام أي ظرف تقابله، حينًا تظهر قوة زائفة خارجية، و حينًا لا تظهر سوى الضعف، يريدها أن تتماسك قليلًا، أن تستجمع شتاتها، و تتخلى للحظة عن تفكيرها الساذج و الـ"غبي" كما يدعوها دومًا، فـ هي بالفعل تمثل له مثال حي للغباء و عدم القدرة على التفكير.
.........................................................
مالت قليلًا بجذعها للأمام لتضع قدحها الذي كانت ترتشف منه، ثم عادت تستقيم بجلستها لترفع نظراتها نحو المتشنج الجالس قبالتها بينما تقول بجزع:
- يعني إيه؟ مفيش حل؟
كان ممتعضًا للغاية و هو يقول:
- مش عارف يا عمتي.. مش عارف جدتي في دماغها إيه عشان تورطنا ورطة زي دي!
زفرت حانقة من ذلك الوضع و هي تدلك جبينها في محاولة فاشلة منها للتخفيف من حِدة ذلك الصداع، بينما بدا "راشد" مهتمًا و هو يحملق بها مستوضحًا:
- رهيف عرفت؟
انتفضت و كأن مسها صاعقة و هي تقول بفجع:
- عرفت.. انت.. انت بتتكلم جد؟ عرفت ازاي
انحنى قليلًا ليربت على ركبتها في محاولة منه لتهدئتها و هو يقول:
- اهدي بس يا عمتي.. أنا بسأل!
تنفست الصعداء و هي تضع كفها على صدرها:
- حرام عليك يا راشد، خضيتني!
فـ تنمّر عليها قليلًا و هو يقول مداعبًا:
- سلامتك من الخضة يا حبيبتي، أومال هتعرفيها إزاي و انتي عاملة كده؟
نظرت نحوه مغتاظة و هي تردف:
- انت فايق تألس يا راشد! دي مصيبة، انت عارف انها مش بتطـ..
و ابتلعت كلماتها متحرجة من ذلك، فـ تضاحك أثناء قوله و هو يعود بظهر للخلف:
- مش بتطيقني يا عمتي.. عارف، كملي كملي و لا يهمك
فـ راحت تسحب قدحها مجددًا لترتشف منه بضع رشفات و هي تقول محدقة به:
- و الله يا ابني لو عليا فـ أنا أجوزهالك من الصبح، مش عارفة هلاقي أحسن منك فين
و أحنت بصرها عنه لتقول بضيق متفاقم:
- بس هي اللي مش بتفهم
فـ هوّن "راشد" عليها قليلًا بقوله:
- يا عمتي ريحي نفسك.. مش حكاية مش بتفهم، احنا أساسًا مش متفاهمين من صغرنا
فـ أجبرها بقولهِ على الضحك و لمحات من الماضي القريب تعاد أمام عينيها:
- يــا يا راشد.. طول عمركم ناقر و نقير!
و تلاشت بسمتها عقب أن خبى صوت ضحكاتها و هي تعبث بقدحها بتوتر أثناء لإفصاحها المرتاب له:
- أنا خايفة يا راشد.. خايفة من ردة فعلها جدًا
و أحنت نظراتها عنه مستأنفة بألم شاب نبرتها:
- رهيف من أول ما باباها اتوفي و هي حساسة جدًا، أي حاجة بتحزنها و بتسبب لها تعاسة مش طبيعية، أنا خايفة على بنتي!
مال مجددًا بجذعه للأمام ليكون أقرب إليها و هو يربت على كفها متنهدًا بحرارة:
- متخافيش يا عمتي، إن شاء الله نلاقي حل
...............................................................
أينما تبحث لا تجد شيئًا يوجهها، خزانة الملابس الصغيرة بخباياها و منضدة الزينة بأدراجها أجمع، أسفل الفراش و أسفل مرتبته المهترئة و بين تفاصيله، حتى أنها عادت للخزانة مجددًا لتبحث في جيوب قِمصانها و جلابيبها، و لكن محاولاتها أجمع باءت بالفشل، زفرت و هي تترك جسدها يتراخى على طرف الفراش عقب أن أعادت كل شئ إلى نِصابه، أخذت تدلك جبينها بكفها و هي تتنهد بحيرة مدمدمة:
- و بعديـن؟ و لا أي حاجة، طب أعمل إيه!
 و تجلى الجزع في نبرتها و هي تهز رأسها نفيًا عدة مرات:
- أنا ماليش غيرك يا خالتي.. ماليش غيرك و دي ناس متتقدرش، مش عايزة أخسرك يا خالتي
أطبقت جفنيها و هي تتمدد بجسدها بإنهاك على فراشها متشممة عبقها العالق بهِ، بينما لسان حالها لا يتوقف عن القول المتحيّر:
- يا تري مخبية إيه يا خالتي!
..................................................................
تلك المرة الخامسة تقريبًا التي يرفض فيها مكاملتهِ فيرتفع رنين الهاتف مجددًا، تلك المرة فرغ صبره تمامًا فسحب الهاتف و هو يجيب هادرًا باستهجان:
- انت غبي يا ابني و لا مبتفهمش؟ مية مرة أكنسل و بردو بترن
فـ برر له"فارس" بنبرة مستشاطة:
- عايزك في موضوع مهم، انت فيـن؟
اختلس نظرة نحوها ليجدها على نفس حالتها فأوضح له بغموض:
- عندي كام حاجة بخلصها، انت عايز إيـه؟
ردد "فارس" بينما يمرر أنامله بين خصلاته فيعيد ترتيبها أو تخريبها لا يعلم:
- موضوع مهم، انت فين بالظبط
فـ حنق أكثر من أسلوبه:
- انت علقت.. ما عرفت إنه زفت مهم، ما تقول و تخلصني!
أجابه بامتعاض:
- مينفعش.. عايز أشوفك
عاقدًا حاجبيه بينما يقول مستفسرًا بعدما سبق قوله بزفرة حانقة:
- انت فين؟
- في الشركة
رفع ساعده عن المقود ليلقى نظرة في ساعة يده، ثم قبض عليه مجددًا و هو يقول بخشونة بينما يرفع أنظاره:
- استناني.. ساعتين تلاتة بالكتير و أكون عندك
توسعت عيناه قليلًا عن الحد الطبيعي بينما يقول متعجبًا:
- ساعتين تلاتة ليه؟.. انت فين بالظبط
سئم سؤاله المتكرر الفضوليّ، فـ بلا تعقيب أغلق المكالمة في وجهه و هو يلقي بالهاتف على صندوق السيارة الداخلي مطلقًا سبة خافتة، دقائق تقريبًا و كان يغلق المحرك بعدما صف السيارة أمام مدخل بنايتهِ، حينها فقط سمح لأنظاره بالتدقيق بها، ليجدها ساكنة على وضعها، تغضن جبينه أكثر و هو يدنو منها بجسده، ثم مال أكثر عليها ليتأكد مما تشكك منه، فقُطع الشك باليقين حالما أصغى لانتظام أنفاسها، فـ حُلّت عقدة حاجبيه قليلًا و هو يعود ليتأمل ملامحها، تنهيدة عميقة حررها من صدره بينما يقول:
- دايمًا بتخالفي توقعاتي يا.. يا بنت حسين!
بالفعل كان يتوقعها ستعود لسيرتها الأولى تثور به قبل أن يتركها مجددًا مبررة أنها لم تخطأ، و لكن راح توقعه هباءً، فـ ها هي ساكنة أمامه بينما هو يتأملها فقط.. سار بعينيه على طول عنقها البضّ و تلك الخفقات تستدعيه ليحتويها بشفتيه، بينما شفتيها المغريتين المستفزتين لرجولتهِ ترتعشان قليلًا فـ تفاقم من تأجج مشاعره، وجنتيها المتوردتين و جفنيها المنطبقين فـ حرماهُ حق التمتع بماستيه، أنفاسها الدافئة تلفح بشرته و كأنها تعلن عبورها حدوده، كان قريبًا للغاية.. قريبًا للحد الذي جعله يضرب بكل شئ عرض الحائط، و يود فقط لو يختطف قبلة يتذوق فيها شهدها المغريّ، و كادت شفتاه تلامسان شفتيها لولا أنها تململت في نومتها، فـ ابتعد من فورهِ و قد استيقظ من غفوتهِ تلك، تقبض كفاه على المقود بينما يعود برأسه للخلف و هو يلعن تهوره ذلك، ماذا يحدث؟.. لا يعلم، لا يعلم لمَ هي تحديدًا من تتمكن من سحبه لذلك المنحدر، و لكنه يظل في قوقعة إيبائه، كلمة واحدة لُفظت من بين شفتيه و شدد من ضغطه على أحرفها:
- إيّاك يا يامن.. إيّاك!
..................................................................
ها هو مجبورًا على حملها بين ذراعيه فتضاعف تأجج مشاعره أكثر، كاد أن يوقظها و لكنهُ استصعب أن يفعل، فـ اضطر أن يحملها بين ذراعيه.. خصلاتها تلامس عنقه و كفها يتشبث بسترته، بينما رأسها يستند على كتفه الأيسر و كفها الآخر استكان على كتفه الأيمن، و الأكثر عذابًا له أنفاسها الحارة التي تلامس بشرته فتعصف بقلبهِ الذي تساقطت ثلوج تموز بين أروقتهِ فـ بدت و كأنها تبعث مشاعرًا دافئة تضمّه بها لتزيح عنه ذلك الجليد الذي أصابه، بينما هو كما هو دومًا.. ثابتًا صلدًا و هو يتحرك بها حتى غرفتها، لم يبدُ عليه التأثر كـ عادته بينما هو يتحرق بين محاولاتهِ لكبح جماحه، و أخيرًا تحرر من تلك المعاناة حين انحنى ليضع جسدها على الفراش، و كاد يغادرها لولا أنها فتحت عينيها على حين غِرة و هي تقول بجزع متشبثة بهِ فـ ظلّ على كثب منها:
- أنا فيـن؟
لمَ تحديدًا في تلك الساعة انتقت الاستفاقة؟ ألم تجد وقتًا أكثر مناسبة؟ أم أنها تتعمد إحراقهِ بتلك النيران التي تضطرم في داخله، ازدرد ريقه بينما يحاول الابتعاد بعينيه عنها في محاولة فاشلة منه لإطفاء تلك النيران أثناء قوله الأجشّ و هو يخلص نفسه من تشبثها العجيب ذلك:
- معايا
رمشت عدة مرات و هي تستعيد ما مرت به، ثم همست و هي تعتدل قليلًا في جلستها، بينما كان قد انتصب و همّ بالمغادرة التي أشبه بالفرار في حالتهِ، فـ استوقفته و هي تقول بتيه:
- هو إيه اللي حصل
فـ ردد بقوله الهادئ محاولًا بث الطمأنينة في نفسها:
- محصلش حاجة، كل حاجة عدت، أنا ماشي
فسألته بحاجبين مرفوعين:
- و المفروض اني هقعد هنا؟
كان قد بلغ الباب فتفهم مغزى سؤالها، التفت و هو يقول بنبرة جادة قبل أن يدير المقبض:
- الحراسة تحت.. مش عايزك تخافي من حاجة، و قريب هيكون في خدم معاكي
 و كاد ينصرف لولا أنها استوقفته بارتياب، و هي تعتدل في جلستها:
- حراسة؟.. ليه؟ عشان خايف أهرب
و قبل أن يخطو خارجًا التفت مجددًا ليردد بلهجة صقيعيّة:
- ما قولتلك لو كنتي فين هجيبك يا.. يارا!
عقدت ساعديها أمام صدرها و هي تسأله باستنكار:
- أومال الحراسة دي ليـه؟
تلاشت ابتسامته لتحل الصلابة محلها و هو يقول بنبرة ثابتة متعمدًا الضغط على الأحرف الأولى:
- حاليًا مفيش حد ميعرفش إنك مراتي ، مينفعش تفضلي من غير حراسة!
خفق قلبها بعنفٍ في صدرها و هي تحل عقدة ساعديها، ثم مضت نحوه لتقف أمامه مباشرة و هي تقول بجزع:
- قصدك إيه بالظبط؟.. حياتي في خطر
تنهد بضجر معقبًا:
- لأ.. لكن مينفعش فرد من عيلة الصياد يكون من غير حراسة!.. ده الطبيعي، و لازم تتعودي على كده!
انعقد حاجبيها تمامًا فتجعد جبينها و هي تزم شفتيها باحتجاج و قبل أن تتحرك شفتيها لتتلفظ كلماتها المعترضة كان يستوقفها بقولهِ الضجر:
- أجلي خناقاتك لوقت تاني.. لأني مش فاضي!
و انصرف تاركًا لها خلفه.
.....................................................................
أشارت إليه لتنبهه و هي تنادي بصوتها الرقيق:
- يامن الصياد!
تحفزت خلاياه و هو يدنو من مكتب الاستقبال و هو يومئ بإيماءة خفيفة تكاد لا تُلحظ، فـ ناولتهُ المستند الطبيّ و هي تقول بصوت ناعم مقوسة شفتيها بابتسامة صغيرة:
- اتفضل يا فندم
لا يعلم كم مضى من الوقت في انتظاره لذلك، استخدم نفوذه ليتم بأسرع وقت تمكن منه الأطباء، فـ تناوله منها على عجل، و ملامح وجهه لا تعبر عن شئ، بينما داخله يتحرق لمعرفة النتائج ، و بأنامل متحفزة، فتح المستند الطبي ممرًا عينيه على الكلمات بترقب، حتى تنفس الصعداء، نسبة التطابق ضئيـلة للغاية.
العينيتين.. إحداهما حصل عليها من خصلة والدتهِ الشقراء التي سقطت على كتف سترته و اكتشفها بنفسه فأتت تلك الفكرة إليه ، أراد قطع الشك باليقين، فلم يكن ليترك الوساوس بأن تنهش من ذهنهِ أكثر، بالرغم من عدم منطقية ما يفكر به، إلى أنه اكتشف أن والدتهِ أبشع مما كان يتصور، فـ كان واجبًا عليه أن يتيقّن، حتى لا يترك مجال للشك .. و الخصلة الأخرى التي كان يسيرًا الحصول عليها من "يارا" أثناء غفلتها في السيارة.
هنا فقط ارتخت ملامحهِ المتشنجة قليلًا، أخرج هاتفه من جيبه متأففًا من ضجر الأخير، ثم استدار ليجيبه باقتضاب تام و هو يغلق المستند:
- ألو
أتاه صوته المغتاظ:
- النهار هيطلع و انت لسه مجيتش!
فـ أجابه بغموض قبل أن ينهى المكالمة قاطعًا الحديث:
- جــاي!
..............................................................
ضرب براحتهِ على سطح مكتبه بتعنف شديد و هو يهدر بتعنت منهيًا الجِدال الذي طال بينهما:
- فارس.. أخويا و أنا حر فيه! مات الكلام
فـ أجابه باحتدام مماثل:
- لأ مماتش.. أنا مش هسيبك تعمل كده في أخوك
فـ أشار بسباته و هو يقول باهتياج:
- هو اللي عمل كده في نفسه لما مشى ورا كلام أبوك و أمه و اقتنع بيه! لما راح افترى على مراتي و قال كلام محصلش!
فـ أجاب "فارس" متشدقًا بغيظ:
- محصلش!.. إنت مصدق نفسك، ما أنا و انت عارفين كويس أوي.. إن البت هي اللي قتلتك!
حذره بسبابتهِ بينما يرفع حاجبه الأيسر:
- مسمهاش بت!
فـ سخر "فارس" من ذلك و هو يلوى شفتيه متأففًا:
- الهانم يارا قتلتك.. كده كويس!
رمقه بنظرة مستشاطة و هو يستند بجسده لمقدمة مكتبه عاقدًا ساعديه أمام صدره محاولًا إنهاء الجدال بصرامتهِ المعهودة و الجفاء قد شاب نبرته:
- فارس.. من الآخر، انت ملكش دخل، أخويا و أنا حر معاه، خلصانة
كان قد وصل لأقصى درجات سخطه بينما يقول بلهجة محتدمة:
- و أبويا؟.. ميخصنيش؟ مليش دخل بيه
فـ كان رده باردًا للغاية و هو يقول:
- انت عمرك ما اعتبرته أبوك.. متضحكش على نفسك
تغضن جبينه و هو يصر على أسنانهِ غيظًا، احتقن وجهه بالدماء الغاضبة، بينما يضيق عينيه و هو يقول مستهجنًا:
- يامن انت مش حاسس بنفسك؟
و بدا الازدراء جليّا في نبرته:
- انت بتبيع عيلتك عشان دي!
خرج "يامن" تمامًا عن طور هدوئه و قد اصطبغ وجهه بحمرة الغضب، بينما يقول باستهجان جليّ:
- عيلتي؟ هي فين عيلتي دي يا فارس؟ و أنا من امتى كمال كان من عيلتي!
سحب" فارس" شهيقًا عميقًا زفره على مهل و هو يقول:
- تمام.. تمام بعترف إن أبويا كان قاسي معاك زمان، مبنكرش ده!.. بعترف إني أنا نفسي كنت مش راضي على عملته و مش راضي على جوازه من مرات عمي.. بعترف إنه كان غلطان
و بدا الاستنكار جليّا في نبرته و هو يدنو منه متسائلًا:
- لكن المرة دي غلطه إيه يا يامن؟ غلطه إنه كان عايز ينتقم من اللي وصلتك لهنا!
أشار "يامن" بكفه و هو يكشر عن أنيابه مستهجنًا:
- لما يعوز يسجن مراتي يبقى مش غلطان؟ لما يروح يزق ابن الـ..... على مراتي يبقى مش غلطان؟ لما يضيعها يبقى مش غلطان!
و هدر بجملتهِ الأخيرة و قد ارتفعت نبرته فيها أكثر و قد بدا خارجًا عن السيطرة أثناء استرساله:
- لما يطعن أبويا في ضهره و يخـ.....
كزّ على أسنانه بعنف ممتنعًا عن استئناف كلماته فـ عقد "فارس" حاجبيه و هو يستفسر باهتمام مرتاب:
- انت بتقول إيه؟ مين زق مين على مراتك؟ هيضيعها إزاي يعني؟ و ماله و مال عمي؟ انت بتقول إيه؟
تكورت قبضتيه و هو يغمغم ساخطًا من بين أسنانه المطبقة يزجره:
- كفاية يا فارس، انت مش فاهم حاجة يبقى كفاية! الأحسن تخرج نفسك برا المواضيع دي، انت لو دخلت في الدوامة اللي أنا فيها صدقني هتندم!
حاد "فارس" ببصره عنه و هو يقول متمسكًا بقراره:
- أنا مش هسيبك تعمل كده في أبويا يامن عشان واحدة متسواش حاولت تقتلك!
احتدمت الدماء في أوردته و هو يناظره بأعين متقدة أثناء قوله المحذر:
- خد بالك من كلامك!
فـ راح يسترسل و كأنه لم يستمع:
- يا يامن الله يخليك ارجع لعقلك، البت بتضحك عليك، ده إنت لو شوفت المسرحية اللي عملتها عليا في المستشفى مش هتصدق إنها نفسها اللي حاولت تقتلك!.. البت دي هتضيعك يا يامن، هتضيعك و انت مش حاسس!
فـ استهجن قوله بشدة و هو يشهر بكفه بينما أعينه المتوهجة متسلطة على عيني الأخير:
- مش دي نفسها اللي كانت صعبانة عليك و عايز تحسسني بالذنب، إيه اللي اتغير، و لا أبوك لعب في عقلك انت كمان!
فـ نظر "فارس" نحوه و هو يقول عاقدًا ساعديه أمام صدره و هو يومئ قائلًا:
- تمام.. منكرش إنك غلطت معاها، و منكرش إني كنت متعاطف معاها في الأول، و منكرش إن حتى بعد ما حاولت تقتلك و بعد تمثيليتها اللي عملتها عليا و مثلت دور المظلومة صدقتها
و عاد يحل ساعديه و هو يقترب منه مشيرًا بسبابته لجواره و كأنه يشير إليها قائلًا:
- لكن كشفتها على حقيقتها لما حاولت تقتلك في المستشفى.. البت دي أبوها بيوجهها يا يامن، أبوها عايز يخلص منك
فـ كشّر "يامن" عن أنيباه و هو يستقيم بوقفتهِ مرددًا بازدراء:
- طب ما أنا عارف إن أبوها اللي عايز يقتلني يا غبي، مش هي!
و مضى من جواره و هو يُخرج قداحته و علبة سجائره حتى توقف أمام الحاجز الزجاجي مستخرجًا سيجارة، دسّها بين شفتيه و أشعلها، ثم أخذ ينفث دخانه منها بينما "فارس" يقف خلفه مشدوهًا و هو يدنو منه:
- من امتى و انت بتدخن؟
أزاح "يامن" السيجارة عن شفتيه بإصبعيّ السبابة و الوسطى و نظراته مسلطة على الحاجز بينما يتشدق ساخرًا:
- من امبارح!
تغضن جبين "فارس" و هو يقف بجاوره و حاول سحبها من بين أنامله و هو يقول متأففًا:
- طب اطفيها، مش لازم و انت في حالتك دي، و بعدين السجاير دي إدمان، لو كترتها مش هتعرف توقفها
أبعد "يامن" أنامله عن مرمي كف الأخير و هو ينظر نحوه بنصف التفاتة مشيرًا بعينيه بحركة آمرة:
- ارجـع
زفر "فارس" و هو يبتعد عنه قليلًا بينما يهز رأسه استنكارًا و هو يتأمله:
- انت بتعمل كده ليه في نفسك؟ انت بتعذب نفسك ليه؟
لم يجد منه استجابة و كأن ما قاله لم يكن بينما الأخير ينفث دخان سيجارته ببرود، فـ ضجر "فارس" و هو يقول:
- تمام.. نرجع لموضوعنا
 دس كفيه بجيبه و هو يقول متهكمًا:
- انت بقى عايز تقنعني بإيـه مثلًا؟ لما انت عارف إنه حسين مش مصدق ليه إنها هي اللي حطيتلك سم في المحلول!
أزاح "يامن" السيجارة عن شفتيه و أجاب بينما ينفث الدخان من فمه:
- لأني شوفته بعيني!
تقلصت المسافة ما بين حاجبيّ "فارس" و هو يسأله:
- هو مين ده؟
سحب نفسًا عميقًا من سيجارته و هو ينظر أمامه بنظراتٍ فارغة أثناء قولهِ الصلد:
- حسيـن!!
...................................................................
....................................
.................................................................
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now