"الفصل الثامن"

737 16 0
                                    

"الفصل الثامن"
لم يتسلل الارتياح البسيط إلى نفسهِ سوى بحلول الآن.. عقب تلقيهِ العناية اللازمة و توافر الخدمة التي تليق بشخصهِ بين أرجاء تلك المشفى الخاص ، كان الطبيب قد أنهى الفحوصات اللازمة ، فـ ترك غرفته بالعناية الفائقة و خرج ليجده أمامه فتحدث و قد افترّت شفتاه على ابتسامة هادئة :
- قبل ما تسألني عن حالته أحب أطمنك يا فارس بيه
فترك زفيرًا حارًا من صدره أعقبه بـ :
- يعني هيبقى كويس؟
- مكدبش عليك .. الحالة كانت متدهورة، خاصةً بعد المادة السامة اللي اتزرعت في المحلول ، لكن الحمد لله
ربت " فارس" على كتفهِ عدة مرات و هو يتمتم ممتنًا بخشونة:
- شكرًا يا دكتور
فـ أجابه بابتسامتهِ البشوش :
- الشكر لله أولًا يا فارس بيه
فتمتم بخفوت و هو يدس كفه بجيبه:
- الحمد لله ، هو هيفوق امتى ؟
فلم يُقدم له الإجابة التي تريحه حيث قال:
- قريب ان شاء الله
فـ امتقع وجهه قليلًا و هو يردد بضيق :
- طب أقدر أشوفه ؟
زمّ شفتيه و هو يردد بنبرة هادئة :
- يستحسن بلاش ، عايزين نوفر له الراحة التامة ، لكن لو حضرتك مُصر ، ممكن تتدخل مع مراعاة لبس الهدوم المعقمة عشان مننقـ..
فزفر حانقًا وهو يقاطعه :
- خلاص
أومأ برأسهِ و هو يردد متفهمًا :
- حضرتك مـ..
فقاطعهُ ذلك الصوت الغليظ :
- دي غرفة " يامن الصياد"
التفت كلاهما نحو مصدر الصوت ، فردد " فارس" متسائلًا و هو يشملهُ من رأسهِ حتى أخمص قدميه ثم ردد متهكمًا و هو يعقد ساعديه أمام صدره :
- و مين حضرتك ؟
فـ أشهر الأخير بطاقته أمام عينيه و هو يردد بنبرة صلبة:
- مباحث
تسلطت نظرات " فارس" على بطاقة الأخير لثوانٍ معدودة ثم أعاد النظر إليه و هو يحل عقدة ساعديه ، ثم مرر نظراته على من حوله ، التفت الضابط نحو الطبيب و هو يردد بصوتٍ صارم :
- عايزين نستجوب المريض .. امتى هيفوق؟
فـ أجابه الطبيب بصوتٍ رصين:
- لسه مش عارفين يا باشا
زمّ الأخير شفتيه متبادلًا النظرات مع كاتب المحضر و الضابط الآخر ثم أردف بنبرة حاسمة:
- استجوابه أمر مفروغ منه، أول ما يفوق هنكون هنا
أومأ برأسه متمتمًا بتفهم :
- أكيد
تغضن جبين الضابط و هو يُسلط بصره على " فارس" ثم أردف بنبرة أقرب للتهكم :
- و البيه يبقى مين ؟
استشعر استخفافه بهِ فـتجهمت ملامحه و هو يردد بصوت قاتم :
- فارس.. فارس الصياد
ضيّق عينيه مرددًا بتشكك :
- كنت موجود وقت وقوع الجريمة؟
وارى ارتباكه عنه ببراعة و هو يردد بنبرة متصلبة :
- مش بالظبط
ارتفع حاجبه الايسر استنكارًا و هو يعقد ساعديه معًا مستوضحًا :
- يعني ؟
تأفف و هو يجيبه بضجر :
- يعني وصلت بعد ما الجريمة حصلت .. القاتل كان هرب
أشار بكفهِ و هو يردد بنبرة جادة :
- هنستدعيك في النيابة، محتاجين أقوالك حتى لو مشوفتش القاتل
قاطعهُ "فارس" بضجرٍ:
- ان شاء الله ، عن اذنك
قالها ثم تركه متهربًا من أسئلة أخرى قد تثير الشكوك ، هو إلى الآن .. لم يتوصل إلى حل أو مخرج ، مشط المكان بحثًا عن " عمر" فلم يجد له أثرًا ، زفر مختنقًا و هو يتذكر المواجهات الأخيرة بينهما ، ثم شرع يبحث عنه و قد أثاره القلق حيالهِ.
.......................................................................
حتى الآن لم تتمكن من استدارك حرف واحد مما تفوّهت بهِ ، صوتها ممتزجًا مع شهقاتها المتتالية ، و أحرفها تبعثرت وسط نشيجها المستمتر ، تكاد تجزم أنها المرة الأولى التي ترى بها رفيقتها بتلك الحالة الشبه منتهية ، قدمت إليها كوبًا من الماء و هي تتوسلها :
- طب عشان خاطري بلي ريقك بس و اهدى شوية ، أنا مش فاهمة حاجة من اللي بتقوليها !
دفعت كفها برفقٍ و هي تهز رأسها نفيًا ، فتنهدت " رهيف" بحرارة و هي تُسند الكوب على الطاولة المستطيلة أمام الأريكة ، ثم جلست بجوارها و هي تربت على كتفها محاولة بث الهدوء في نفسها :
- طب عشان خاطري اهدي شوية ، خلاص ؟
استندت " يارا" بمرفقيها على ركبتيها ، ثم دفنت وجهها في كفيها و هي تستكمل نحيبها ، فـ زمّت "رهيف" شفتيها بضيق و هي تمسد على ظهرها ، استشعرت تلك اليد الضئيلة التي تجتذب ثيابها فنظرت نحوها لتجدها تهمس بخفوت:
- رهف.. هي يارا كمان باباها سابها عشان يشتغل كتير و يجيب لها لعبة ؟
فسايرتها في تفكيرها البرئ:
- مش عارفة يا روڤي.. احتمال
فـ نظرت نحوها و قد لوت شفتيها بحزنٍ ثم تمتمت :
- طب مش تعرفي يارا بتحب لعبة إيه ؟ ممكن أجيب لها السا ؟
ضمّت شفتيها معًا متظاهرة بالتفكير ثم أردفت:
- ممممم.. أنا عندي فكرة أحسن.. تروحي تنامي عشان يارا ممكن تكون مش عايزة تحكي قدامك عشان مش تزعلك
نقلت الصغيرة بصرها إلي " يارا" ثم تهدل كتفيها و هي تتمتم بقنوط :
- ماشي .. بس على شرط !
داعبت " رهيف" خصلاتها و هي تتمتم مستوضحة:
- شرط ايه ؟
دنت من أذنها لتهمس بصوتٍ خافت :
- أول ما يارا تقولك هي ليه زعلانة ، تقوليلي .. ماشي ؟
- اتفقنا
نهضت الصغيرة عن جلستها ، ثم دنت من " يارا" لتربت على ركبتيها متمتمة بحنوٍ طفولي :
- يارا مش تزعلي .. أنا همشي عشان مش تزعلي
فـ لم تجد منها ردًا سوى شهقاتها ، احتل الوجوم ملامحها و هي ترفع نظراتها لـ " رهيف" التي أشارت إليها لتومئ برأسها ، ثم استدارت مهرولة في اتجاه غرفتها ، تنهدت " رهيف" بحرارة ، ثم نهض لتجلس على ركبتيها أمامها ، انتزعت كفيها عن وجهها و هي تردد بصوتٍ جاد :
- يا يارا أرجوكي بطلي تقلقيني أكتر من كده ، قوليلي ايه اللي حصل
استشعرت ملمسًا غريبًا بكفها و كأنها طبقة سائلًا قد جف ، فـ تجعّد جبينها و هي تخفض نظراتها لتشهق بهلع أدبرتهُ بقولها المذعور:
- يارا .. انتي كويسة ؟ الدم ده جه منين ؟
فرفعت نظراتها إليها و هي تردد بنبرتها المتلعثمة المختلطة مع نشيجها :
- قتلته يا رهيف .. قتلته !
لحظاتٍ من الصمت المهيب و قد شعرت بأطرافها تتثلج تمامًا .. فـلم يردد لسانها الشبه متشخب سوى بـ :
- مين ؟ انتي بتقولي ايه ؟
- يامن!
........................................................................
 كانت قد استشعرت ثقلًا على جسدها يُعيق حركتها ، بالإضافة إلى ذلك الدفء المنبعث إلى جسدها ، قاومت بصعوبة شعورًا حثها على فتح عينيها و ودت روحها لو تظل هكذا و قد تسلل شعور الأمان الذي افتقدتهُ إليها ، و لكن سريعًا ما ذهب ذلك أدراج الرياح حين اقتحم أذنيها ذلك الصوت المتكرر ، حاولت أن تتجاهل .. لحظاتٍ و عمّ الصمت ، لكن سريعًا ما عاد الصوت أعنف مما كان ، فتحت عينيها ثم رمشت بهما عدة مرات حتى اتضحت الرؤية المشوشة ، تغضن جبينها حين اصطدمت نظراتها بوجههِ فهمست متعجبة :
- حسين !
تململ في نومتهِ اثر صوت الطرقات العنيف على باب المنزل ، و لكنه ظلّ مطبقًا لجفنيه ، أزاحت ذراعه بصعوبة عنها و قد انتفضت معتدلة في جلستها ، تلك الطرقات العنيفة كانت كافية لبث الهلع في نفسها ، لكزته بعنفٍ في ذراعه و هي تحثه على الاستيقاظ :
- حسين .. قوم
زفر و هو يجيبها بصوتٍ متحشرج :
- نامي يا حبيبة بقى ، أنا زهقت من عمايلك دي ، و قبل ما تسألي معرفش انتي جيتي هنا ازاي ، تلاقيكي بتمشى و انتي نايمة
فهدرت به بعدم استيعاب :
- انت قصدك ايه ؟ قوم شوف مين اللي على الباب
اعتدل في جلسته عاقدًا حاجبيه و هو يردد بعدم تركيز :
- على الباب ؟
فرددت متذمرة :
- انت مش سامع ؟ قوم شوف في ايه ؟
فتأفف و هو ينهض عن الفراش قائلًا بحنق :
- طيب .. هي الساعة كام ؟
نظرت نحو ساعة الحائط فتفاقم قلقها و هي تجيبهُ :
- 2 و ربع !مين اللي بيخبط على الباب الساعة دي ؟
أثارت كلماتها قلقهِ هو الآخر ، كاد يتفوه بكلماتٍ أخرى لولا الطرقات التي أثارت استفزازه ، فـ نفخ متذمرًا و هو يقول مستنكرًا:
- في حد يخبط كده الساعة دي
خطى نحو الخارج حتى بلغ الباب فـ أدار المقبض ليتفاجأ بمن تدفعهُ دفعةً عنيفة و هي تلج مقتحمة المنزل هادرة بأعلى صوتٍ لديها :
- عملتوا ايه في ابني يا حسين ؟ ابني عملتوا فيه ايه ؟
قطب حاجبيهِ و هو يردد متعجبًا :
- ابنك ! احنا مالنا و مال ابنك يا مدام مرفت ؟
- ابني اللي حاول يرجعلكوا بنتكو الـ×××× اللي متربتش
احتقن وجهه بالدماء الغاضبة و اضطرمت النيران في حدقتيهِ و قد شعر بالدماء تغلي و كأنها على موقد في أوردتهِ ،أشاح كفهِ و هو يردد مستهجنًا :
- خدي بالك من كلامك يا ست ميرفت ، أنا بنتي متربية أحسن تربية
ضربت كفًا بالآخر و هي تبتسم بسخرية :
- متربية أحسن تربية! دي بنتك سيرتها بقت على كل لسان !
 كانت "حبيبة" قد استعمت إلى صوتها الجهوري ، توهجت جذوتي حدقتيها و اتقدت النيران بصدرها و هي تستمع كلماتها المهينة لابنتها غمغمت بكلماتٍ ساخطة وهي تنزح الغطاء عنها :
- لا يا ميرفت انتي زودتيها أوي !
 نهضت عن الفراش ، خطت نحو باب الغرفة و أثناء ذلك كانت تسحب حجاب رأسها المنزلي و ترتديه ، ولجت خارج الغرفة و هي تردد بتشنجٍ و قد احتلّ التجهم وجهها :
- قطع لسان اللي يجيب سيرة بنتي بكلمة
التفتت " ميرڤت" لتحدجها بنظراتٍ متوهجة ، رفعت سبابتها و هي تصيح بها محذرة :
- انتي بالذات تخرسي خالص.. لسه ليكي عين تنطقي بعد اللي حصل ، منك لله انتي و بنتك
فـ استهجنت حديثها :
- انتي بتقولي ايه يا ميرفت ، حد جه جمبك
زفر " حسين" و هو يضرب كفًا بالآخر ثم ردد بحنق :
- لا حول و لا قوة إلا بالله ، روحي يا ست ميرفت شوفي جوزك و عيالك بدل ما ترمي الحق علينا
لم تكن تكتفِ ببضع كلمات لاذعة تلقيها في أوجههن ، فخطت نحو باب الشقة المفتوح ، و أخت تهدر بأعلى صوت لديها باهتياج :
- يا عالم تعالى شوفوا ، بيطردني من بيته عشان بسأله عن ابني ، ضيعوا ابني بسبب بنتهم !
البعض نائمًا فـ استيقظ اثر طرقاتها العنيفة منذ قليل و أثارهم الفضول لمعرفة ما يحدث ، و البعض الآخر هاجدًا ليلهُ ، فـ تسابق سكان البناية بأكملها للتجمع بـ المنزل لمعرفة ما يدور ، فرددت احداهن و هي تشمل " حبيبة" بنظراتٍ لم تعجب الأخيرة قط :
- هو في ايه يا حبيبة ؟ مال بيتكم كده مش على بعضه ؟
أشاحت " ميرفت" بكفيها عدة مرات و هي تستكمل مسرحيتها :
- تعالوا يا ناس اتفرجوا .. ابني ضيعوه منهم لله ، و كله بسبب بنتهم ، لأ و كمان بيبجحوا و بيدافعوا عنها ، أشوف فيكو يوم يا ظلمة
تهامز الجميع فيما بينهم بأصواتٍ خافتة.. بعضها وصل إلى مسامع " حبيبة":
- مين دي ؟
- هي بتقول ايه ؟
-  هي قصدها مين ؟ ولاء ؟
- لأ يارا .. انتي مسمعتيش بفضيحتها !
توهجت عينا " حبيبة" و هي تردد باستهجان :
- انتي بتقولي ايه ؟ فضيحة إيه دي اللي بتتكلموا عنها ؟ هتكذبوا الكذبة و تصدقوها !
فكان رجلًا يتحدث لآخر :
- لا حول و لا قوة إلا بالله ، ده الراجل لسه راجع من غربته!
تهكّم منه قائلًا :
- فاته بيضرب نفسه بالجزمة ، شوف يا عم مش ملاحق على فضايح بناته
زمت احداهن شفتيها و هي تنظر نحوها بنظراتٍ خبيثة قبل أن تُلقي بـ كلماتها في الوسط :
- انتي مفكرة ايه يا حبيبة ، دي بنتك يارا العمارة كلها بتحكى و بتتحاكي عليها ، ده احنا بعيننا شايفين الراجل اياه شايلها بعد ما أبوها طعنها بسبب فضايحها !
ثم وجهت نظراتها نحو " حسين" قائلة بتبجح :
- و لا ايه يا أبو ولاء ؟ أظن اننا مبنكذبش
عمّ الصمت المريب على المنزل بأكملهِ عقب كلماتها ، فغرت " حبيبة" شفتيها و قد تثلجت أطرافها و شعرت بصقيع يعصف بها ، تحول بصرها نحو " حسين" الذي كان عاد بظهرهِ للخلف منسحبًا من تلك المواجهة ، دافنًا وجهه بين كفيه مستندًا بمرفقيه على ركبتيهِ بشكلٍ أثار أعصابها و كأنه يُثبت بأفعالهِ تلك التُهم الكاذبة الموجهة نحو ابنته ، أصابها القنوط بعدما تخاذل عن الدفاع عن ابنته أو حتى رد اعتبارها ، لم يُشكّل ذلك فارقًا لديها ، شملتهُ بنظراتٍ مزدرية و قد استجمعت رباطة جأشها ، تشبعت بشرتها بـ حُمرةٍ فاقعة و هي تردد بصوتٍ ثابت و قد عقدت ساعديها أمام صدرها :
- حسبي الله و نعم الوكيل في كل واحد اتكلم على بنتي و جوزها بالشكل ده !
انقشع الصمت تمامًا عقب كلماتها ، فـ ازداد التهامس و التلامز بين الجميع ، بينما كانت تردد احداهن باستنكار ساخر :
- جوزها !
فـ أجابتها بنبرة واثقة و قد تسلطت نظراتها المتقدة عليها :
- أومال انتي مفكرة ايه ؟ طبعًا جوزها
ثم وزعت النظرات بين الجميع قبل أن تردف بتهكم و قد التوى ثغرها بابتسامة ساخرة :
- مش تباركولنا ، يارا بنتي اتجوزت شاب بسم الله ما شاء الله عليه رجل أعمال ..  يامن يوسف الصياد .. غني عن التعرفة !
فرددت احداهن متشككة و هي ترفع حاجبيها :
- يعني الشاب ده جوزها ؟
فلم تكن لتصمت المرأة التي ألقت بقنبلتها في الوسط .. حيث رددت متهمة :
- ما تبطلي بقى يا حبيبة ، الكذبة دي مكشوفة أوى ، شوفيلك غيرها !
شعرت " ميرفت" و كأن مخططاتها بالكامل تتهاوى و تجرفها الرياح ، فـ كزّت بعنفٍ على أسنانها و هي تردد بتهكمٍ ساخر :
- أومال هتقول ايه ؟ ما لازم تقول كده !
حلّت ساعديها و قد فاض بها الكيل ، فـ أشاحت بكفها في وجهها و هي تردد متشنجة :
- دي مش كذبة .. دي الحقيقة ، يارا بنتي اتجوزت و الحمد لله
فوجه أحد الرجال حديثهُ نحو " حسين" الذي ظلّ على وضعيته :
- أومال ايه اللي حصل ده ؟ طعنت بنتك ليه يا حسين ؟
سلطت " حبيبة" نظراتها المستهجنة على " حسين" الذي لمك يتحر قيد أنملة ، فرددت نيابة عنه :
- مشكلة حصلت بين جوز بنتي و أبوها ، و بنتي حاولت تفصل بينهم ، السكينة جت فيها !
حك أحدهم بطرف اصبعه ذقنهُ و كأنهُ يثير ذهنه للتذكر ، و سريعًا ما صاح بجدية :
- يوسف الصياد .. مش ده اللي اتهموك بقتله يا حسين
أزاح " حسين" كفيهِ عن وجهه ليُحدق بـ " حبيبة" بنظراتٍ ساخرة ، و كأنهُ يبلغها بالفشل الذي تبوء اليهِ محاولاتها بالدفاع عن ابنتها ، فـ حادت ببصرها عنه و هي تردد ببرود :
- هي دي المشاكل اللي بين حسين و يامن ، الدفاتر القديمة اتفتحت ، سبحان الله ، البنت اللي حبها .. طلعت هي نفسها اللي اتهموا أبوها بقتل أبوه ، لكن الحمد لله هو مسابش بنتي بسبب مشاكل ملهاش معنى ، ما كلكم اتأكدتوا ان حسين ملوش دخل و انه طلع برئ من التهمة دي!
فـ أجابتها " ميرفت" محاولة رد اعتبارها :
- كفاية كذب يا حبيبة ، كلنا عارفين ان بنتك متجوزتش !
- و انتو بطلوا افتراء بنتي اتجوزت .. بس كل حاجة جت بسرعة ، معملناش فرح ، كان كتب كتاب على الضيق بسبب ظروف حصلت مع جوز بنتي !
مررت النظرات المتقدة فيما بينهم ثم هدرت معاتبة بجفاء جليّ :
- حد نفسه يتهم بنتي تهمة تانية ؟
فلم تجد سوى الصمت ردًا ، فهزت رأسها استنكارًا و هي تحدق في أوجههن ثم أردفت بنبرة مستهجنة :
- بنتي اللي اتربت في وسطكم ، اللي متربية بينكم و على ايديكم ، هقول إيه بس .. حسبي الله و نعم الوكيل !
فـ طأطأ الأغلب رؤوسهم خجلًا ، البعض تهامس بكلمات اعتذار ، و البعض الآخر رحل متبجحًا بدون كلمة واحدة تعرب عن اعتذارهِ معللين أن ما حدث ما هو إلا مجرد مسرحية استمتعوا بمشاهدتها ، لم تكن الألسن لتكف عن الحديث بتلك المواضيع التي تُسَلَّى بها أنفسهم المريضة ، طردت " حبيبة" زفيرًا حارًا من صدرها و هي تقذف " ميرفت" بنظراتٍ ناقمة ،كادت أن تنسحب من الوسط لولا " ميرفت" التي قبضت على مرفقها و هي تردد بتشنجٍ :
- بقولك ايه يا حبيبة ..المسرحية اللي عملتيها دي متفرقش معايا ، انا عايزة ابني
نفضت ذراعها بعيدًا و هي تجيبها بنبرة ساخطة :
- و أنا مالي و مال ابنك يا ميرفت
لوت شفتيها بتبرمٍ قبل أن تردد :
- ما هو لو الجدع اياه جوز بنتك فعلًا ، مليون في المية انتي عارفة هو فين !
صاحت بها بنبرة مهتاجة :
- و جوز بنتي ماله بابنك ؟ انتي اتجننتي يا ميرفت ؟
- أنا اللي اتجننت و لا انتو اللي عايزين تجننوني ، ابني مش عارفاله طريق جرة و ...
فارت الدماء في أوردتها و هي تردد بنبرة ساخطة:
- و أنا و عيلتي ذنبها إيه ؟ روحي شوفي ابنك بعيد عني !
فلم تتراجع عن إصرارها:
- أنا متأكدة ان جوز بنتك عمل في ابني حاجة
نفذ صبرها تمامًا فـ أشاحت بكفها :
- يــوه ، عندك دليل على كلامك ده ؟ بأمارة ايه بتتهمي جوز بنتي ؟
أدركت أن العرض قد انتهى و أنها قد وصلت إلى مفترق الطرق ، استشاطت غضبًا و قد شعرت أن دفة الحق قد وُجهت نحو " حبيبة" و عائلتها ، شعرت النيران تضطرم بين جوانحها ، كزت على أسنانها ثم تمتمت بنبرة تحمل من الضغينة ما فاض :
- متفكريش انك نفدتي ، أنا مش هسكت غير لما ابني يرجعلي !
فربتت بشئٍ من اللين على كتفها و هي تردد بازدراء :
- روحي يا ميرفت شوفي ابنك بعيد عن عيلتي ، روحي شوفي أخويا اللي محتاجك أحسن !
فهددتها بقولها و عينيها تحمل بحورًا من الشر تجسد بنظراتها المسلطة عليها :
- الأيام بيننا يا حبيبة ، بكرة نشوف مين اللي هيضحك في الآخر ، و بنتك دي أنا عارفة ازاي أخد حقي منها !
دفعت كف الأخيرة بعنفٍ عن كتفها ، شملتها بنظراتٍ مهينة قبل أن تضبط حجاب رأسها الذي فسد عقب ما افتعلته ، استدارت لتمضي نحو الباب و فور أن خطت بقدمها خارج المنزل التفتت لتردد بقلبٍ مفطور على فقدان ابنها:
- منك لله انتي و بنتك و عيلتك كلها ، مش هتشوفوا يوم عدل بعد النهاردة ، اللي قدامك دي خسرت ابن و التاني هخسره بسببكم ، من النهاردة مش هتشوفوا غير المر و القهر ، هتبكوا بدل الدموع دم
حولت بصرها نحو " حسين" ثم مررت النظرات نحوها مجددًا ، ربتت على صدرها و هي تردد بنبرة مريبة :
- و بكرة تفتكروا كلامي !
سحبت مقبض الباب لتصفعهُ صفعةً عنيفة شعرت " حبيبة" و كأن جدران المنزل اهتزت اثرها ، حتى أن جسدها انتفض من محله ، اضطرب تنفسها و كلماتها تتردد على أذنيها ڪسوطٍ تُجلد به ، شعرت ببرودة تتسرب إلى أطرافها ، فـ ازدردت ريقها و هي تحاول جاهدة التحكم بثباتها الانفعالي ، سلطت نظراتها الساخطة على " حسين" و لم تمنع شفتيها من التفوّه بـ :
- عمري ما كنت أعرف انك أناني بالشكل ده
نهض عن جلستهِ و تقدم نحوها فاستدارت لتخطو نحو غرفتها ، فاستوقفها و هو يقبض على مرفقها مُديرًا جسدها إليه مرددًا بتبجح :
- كنتي عايزاني أعمل ايه يعني ؟ انتي شايفاني لاقي حاجة أعملها أو أقولهـ..
اجتذبت ذراعها منه و هي تقول بنبرة مهتاجة :
- بس.. بس كفاية ، أنا زهقت من طريقتك دي ، انت محاولتش تدافع عن بنتك بكلمة
نقرت بسبابتها على كتفهِ نقرتين أثناء قولها الساخط :
- انت واحد ضعيف.. ضعيف مش بيهمك غير كلام الناس و صورتك قدامهم ، لكن بنتك .. تموت عادي .. في داهية ! مش كده ؟
تغضن جبينه و هو يردد مستنكرًا :
- انتي بتقولي ايه ؟
بسطت كفها بجوار رأسها و هي تصيح :
- بقول الحقيقة .. بقول حقيقة جوزي اللي لسه بكتشفها كأني أول مرة أشوفه ، كأنك حد تاني مش حسين اللي أعرفه ، مش حسين اللي بعت الدنيا عشانه ، مش حسين اللي اختارته و كنت فاكرة أنه هيكون أفضل أب لبناتي !
فانفجر كـ البركان في وجهها و هو يقبض بعنفٍ على ساعدها:
- بناتك بناتك .. اسمهم بناتنا ، بناتنا مش بناتك ! مش عشان عيشتوا من غيري يبقي مليش وجود مش عشان انتي اللي ربيتهم بقوا بناتك مش بناتي ، مش عشان اضطريت أهج و أسيب الدنيا كلها يبقوا بناتك مش بناتي
فهدرت بهِ بتشنجٍ :
- متخرجنيش عن شعوري ، انت معملتش حاجة تثبت بيها وجودك في حياتهم من يوم مارجعت ، كل يوم أقول هيعقل .. هيرجع حسين اللي أعرفه ، لكن انت لا بتعقل و لا بترجع عن أفكارك
أشارت بسبابتها إلى نفسها و هي تحدجه بنظراتٍ متحدية متعمدة الضغط على كل حرفٍ تتفوه به :
- بنتي.. بنتي رمت نفسها في النار عشانك ، و انت مكلفتش نفسك حتى تدافع عنها بكلمة كانت هتفرق لو خرجت منك انت مش مني لأن انت الراجل ، لأنك أبوهم .. أبوهم حتى لو مش بتعمل حاجة تثبت بيها ده !
نفضت كفهُ عن ساعدها و هي تشلهُ بنظراتٍ مزدرية ، ثم تمتمت بنبرة متريثة :
- تعرف.. للمرة الأولى في حياتي .. أنا ندمانة !ندمانة اني اخترتك انت
تحولت حدقتيهِ لجذوتين من النار و هو يهدر محذرًا :
- حبيبة !
فتركت قولها قبل أن تستدير و تلج لغرفة ابنتها :
- كنت غبية
 وصفعت الباب خلفها ، فكور قبضته و هو يلكم الجدار بعنفٍ مزمجرًا بغضب تجلي بوضوح على تقاسيم وجهه ، دلفت لتجد ابنتها تتابع ما يجري من خلف الأبواب بدون أن تتدخل ، تقدمت " حبيبة" منها و هي تشملها بنظراتٍ محتقرة ثم بادرت القول بسخرية :
- شوفتي أبوكي؟ شوفتي ازاي دافع عن أختك قدام الناس ؟ شوفتي أبوكي اللي مبطلتيش تدافعي عنه ؟
فـ نكست رأسها و هي تحدق بأصابع قدميها خزيًا ، فاستطردت " حبيبة" حديثها المتشنج :
- بس معلش.. أنا السبب ، انا اللي معرفتش أختار الأب اللي يفق جمب بناته ، حقكم عليا
فرفعت نظراتها إليها و قد عقدت حاجبيها متمتمة بعتاب :
- يا ماما بـ..
 ابتعلت كلماتها حين استمعت إلى صوت الطرقات العنيفة على باب المنزل ، فزمجرت " حبيبة" معربة عن نقما على ما يحدث :
- لا دي زودتها أوي ، مكفاهاش اللي عملته راجعة تعمل ايه
خطت مجددًا نحو باب الغرفة فحاولت " ولاء" استيقافها ، وقفت أمامها تُشكّل حاجزًا و هي تردد بارتياع :
- يا ماما سيبك منها ، انتي عارفة انها مش في وعيها ، سيبي بابا يتصرف معاها
فدفعتها دفعةً عنيفة ارتد جسدها اثرها و هي تهدر بها آمرة :
- حاسبي يا ولاء ، قال أبوكي يتصرف ، و هو من امتى كان اتصرف !
أدارت المقبض لتلج للخارج فـ كان قد استبقها للباب ، كانت تقف خلفهُ تمامًا حين كان يُدير المقبض متحفزة للرد الصارم عليها.. عسى أن تكف عما تفتعلهُ و تقوله بحق ابنتها ، و لكن الطارق خالف توقعاتها تمامًا ، تراخت تعبيراتها المشدودة لتحتل الصدمة تقاسيم وجهها ، و لم يكن هو أقل منها شدُوهًا ، بل كان مُحملقًا بهوية الطارق ، حتى استمع إلى صوته الأجشّ :
- ده منزل يارا حسين الحديدي ؟
 فلم يتلقَ ردًا منهما ، ظلت الأبصار شاخصة نحو أفراد الشرطة ، شعرت " حبيبة" و كأن دقات قلبها كـ الطبول تكاد تصم أذنيها من فرط علوها ، فغر " حسين" فاه و تخشب لسانهُ فلم يقوَ على الرد ، فعاد الضابط يردد سؤاله بنبرة أكثر غلظة ، ازدرد " حسين" ريقهُ و هو يلتفت نصف إلتفاتة لينظر لزوجتهِ نظرة ذات مغزى فبادلته بنظراتٍ مذهولة غير مستوعبة ، أعاد النظر إليه و هو يومئ برأسهِ قائلًا بصوت متلعثم خرج بصعوبة من بين شفتيه :
- أيوة يا حضرت الضابط .. خير ؟
- معانا أمر ضبط و احضار ليها !
...................................................................
.......................
.............................................................
 
 
 
 
 
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Tempat cerita menjadi hidup. Temukan sekarang