"الفصل الثاني و العشرون"

746 18 0
                                    

"الفصل الثاني و العشرون"
إنـهُ ذلك الوقت المميز.. حيث يشرع صوت الآذان المحبب للنفس شق ذلك السكون المُطبق، و خشوعِ المؤذن يجعلك تشعر و كأنك تعيش بركنٍ من الجنة.. وقت الفجـر، دقائق عِدة مضت و كان الرعد يجأر بصوتهِ المهيب، و ثوانٍ و كان البرق يشق بذيوله صفحة السماء الحالكة، منذران بهطول وشيك للأمطار.
أول ما سقطت أنظاره عليه حين رمش عدة مرات لتتضح الرؤية تدريجيًا كانت هي، و كأنها بالفعل في إحدى أحلامه و ليست حقيقة ملموسة، تغضن جبينه و هو يخفض نظراته لتلك الأغطية الثقيلة، فـ راح يزيحها عن جسده بحركة شبه متشنجة، استشعر فور أن حاول الحراك ليجلس مستقيمًا تلك الآلام التي داهمت منتصف صدره، و عِظامه بالكامل، بالإضافة لألام رأسه الناجمة عن اصطدام رأسه بمقود السيارة، لم يتمكن ذهنه من تحليل ذلك الكمّ من الأحداث المخزنة به، تلافى التفكير بأي شئ و وضع كلٍ جانبًا، و راح يتأمل ملامحها، و إن كان حلمًا.. فيكفي أنها سالمة على الرغم من كل شئ، هطل المطر بغزارة و راحت الرياح تتلاعب بالستائر أعلى النافذة، فـ نظر يسارًا و هو يضيق عينيه غير مستوعبًا أين هو، تأمل الأثاث الوردي المحيط به من كل حدب و صوب بأعين ضائقة، و بنظرات متصلبة، تحرك بصعوبة ليجلس على طرف الفراش مخفضًا ساقيه، تأوه متألمًا و هو يفتح أزاز قميصه المخضب بدمائه حتى منتصف صدره، فكان الشاش الطبي المغلف لجرحه، شعر بتيبس عضلاته ، و لكنه استجمع قواه لينهض مستقيمًا و قد بعثرت الرياح ما بالغرفة و صفيرها المميز يدوي وسط ذلك السكون ، مضى بخطى بطيئة نحو النافذة، و أزاح الستائر عنها ليغلق ضلفتيها بحركة شبه عنيفة ، ثم اجتذبها لتسكن فوقها، و عاد ثانية نحو الفراش، جلس تلك المرة على طرفهِ المقابل لها، تسلطت نظراته نحو كتابها الذي تحمله بين كفيها، فسحبه بهدوء من بينهما، و راح يسنده على الكومود، مال بجذعه عليها و هو يعدل من وضعية عنقها فلفحت أنفاسها الدافئة وجهه و قد سرت قشعريرة بجسدها و بشرته الخشنة تلامس بشرة عنقها الملساء، تشنجت عضلات وجهها قليلًا، رمشت بعينيها عدة مرات حتى تتضح الرؤية لديها، فكان على كثب منها، ضيقت عينيها بعدم استيعاب، ثم التوى ثغرها ببسمة صغيرة لم تصل لعينيها فبدت و كأنها ترى منامًا لطّف ما بها قليلًا، راحت عينيه تتأملان وجهها بتفاصيله الدقيقة حتى بلغ شفتيها المحتفظتين بابتسامتها، ارتفعت نظراته مجددًا حتى عينيها حين غمغمت بلطف:
- ساعتك معايا متقلقش
تغضن جبينه بعدم فهم لما تلقيه على مسامعه، فـ اعتدلت في جلستها و هي تستند برأسها على كفه المحيط لعنقها، سحب كفه الآخر و ترك ذلك و قد توسدته مطبقة جفنيها، و لكنها ظلت محتفظة بتلك البسمة التي تزين ثغرها و هي تغمغم بكلماتٍ غير مفهومة، انحنى مائلًا عليها محاولًا التقاط أي من كلماتها و لكن تعسر عليه فهم ما تتفوه به، ترك زفيرًا حارًا من صدره و هو يسحب بصعوبة كفه من أسفل رأسها محاولًا ألا يُقلق منامها، ثم التفت ليحسب إحدى الأغطية و نهض منحنيًا بجذعه عليها ليدثر جسدها به بحذر، فتململت مجددًا و هي تسترسل غمغمتها، استشعر ذلك الثقل بجفونه، فـ جلس مستقيمًا مستندًا برأسه إلى الوسادة من خلفه، و انطبق جفنيه بلا إرادة منه، مجددًا.
.............................................................................
هجدت ليلها و لم تتمكن من أن تحظوَ بدقائق قليلة من النوم، دموعها الحارقة تغرق وسادتها التي تدفن وجهها بها لتكتم شهقاتها، لم تكن تتوقع بالفعل أن تكون كذلك.. لديها إعاقة بساقة لن تتركها ما حييت، كانت تعتقد أنه مجرد كسر بسيط سيزول أثره مع مرور الأيام، و لكن بيد أنها كانت مخطئة حينما تذكرت زيارتها القصيرة للطبيب، و الذي أعلمها فيها بأن عِظامها الضعيفة ستتطلب وقتًا أطول حتى تعود لسابق عهدها، و لكنها اعتبرت كلماته و كأنها ستعيش هكذا أبد الدهر، و لم تقتنع بكلماته و اعتبرتهُ يحاول كذبًا طمأنتها، فـ ما كان منها إلا أن تفاقم شعورها بالنقم على أختها المتسببة بتلك الحالة التي انحدرت إليها، بالإضافة إلى ما تسببت به لوالدها .
..........................................................................
انتفض جسدها اثر ذلك التربيت الحاني على كتفها، توسعت عيناها و تهدجت أنفاسها و قد هلعت، و لكن هدأ ما بها و هي تلتفت لتجد وجهها الحنون، تنفست الصعداء و هي تتلمس موضع قلبها الثائر فرددت "حبيبة" عاقدة حاجبيها:
- مالك يا حبيبتي؟.. متخافيش، دي أنا
ازدردت ريقها و هي تبرر مرتبكة:
- أنا.. انا اتخضيت بس
أحنت رأسها لتترك قبلة حانية أعلى خصلاتها، ثم عبثت بها و هي تردد بوداعة:
- طب قومي يا حبيبتي صلي الفجر
رمشت عدة مرات و قد شعرت بتثاقل جفونها، ثم غمغمت مستوضحة و هي تجعد جبينها:
- الفجـر؟! هـو أذن؟
أومأت "حبيبة" قائلة:
- أيوة يا حبيبتي، يالا قومي متكسليش
نظرت "حبيبة" صوبه لتتفاجأ بذلك الكم من الأغطية، فظل جبينها مجعدًا و هي تسألها بعدم فهم:
- إيه كل البطاطين دي؟ هو إيه اللي حصل
انحرفت نظرات"يارا" نحوه فعبست و هي تغمغم محتجة:
- هو كشف نفسه إمتى ده؟
و انحنت قليلًا لتتمكن من تلمس جبينه براحتها، فـ حملقت" حبيبة" بها بشدوه من تلقائيتها، رددت "يارا" و هي تبرر لها غير مدركة نظراتها:
- أصل حرارته علت فجأة، و أنا لاقيتك نايمة معرفتش أعمل إيه، عطيته خافض للحرارة و عملتله كمادات، و زي ما عودتينا لما حد بيجيله حمى بنغطيه عشان يعرق
و أزاحت كفها و قد تركت زفيرًا حارًا من صدرها، ثم رفعت نظراتها إلى والدتها و هي تقول مسترسلة:
- حرارته خفت شوية، هو ممكن تعلى تاني؟
أنّبتها "حبيبة" قائلة:
- كنتي صحيني يا حبيبتي، عملتي كل ده لوحدك؟.. انتي أساسًا تعبانة
أجفلت "يارا" نظراتها و هي تبرر بتنهيدة مطولة:
- مش عايزة يحصل إي حاجة تخليني أحس بالذنب ناحيته، أنا بحاول أصلح غلطي على قد ما أقدر، حتى غلطي انتي ملكيش ذنب فيه عشان أمرمطك معايا
مسدت "حبيبة" على خصلاتها و هي تردد بحنو خالجهُ الشجن:
- أنا عارفة إن قلبك طيب يا حبيبتي، و عارفة كويس إن عمرك ما تعملي كده غير لما كوني اتعرضتي لحاجة
و تبدلت نبرتها إلى اللوم و هي تغمغم:
- مش ناوية تقوليلي يا يارا؟
أشاحت بنظراتها بعيدًا عن عينيها ثم رددت باغتاظٍ ناقم:
- محصلش حاجة يا ماما، انتي ليه محسساني إن اللي شوفته مكانش كافي!
و قبل أن تهمّ "حبيبة" بالرد، قالت "يارا" مشيرة بعينيها في شئ من الاحتداد، و قد احتل العبوس قسماتها:
- بلاش تتأخري على الصلاة  يا ماما
تنهدت "حبيبة" بحرارة ألهبت صدرها و قلبها المكلوم، ثم أومأت و هي تردف بأسى:
- ماشي يا حبيبتي، هصلي و آجي تاني أطمن عليكي
هزت رأسها بإيماءة خفيفة و هي تتابع رحيل والدتها التي ترتدي إزار الصلاة، تنفست بعمق و هي تعيد خصلاها خلف أذنيها، شعرت بذلك الدفء المتسلل لجسدها، فـ غضنت جبينها و هي تخفض نظراتها لتجد ذلك الغطاء الثقيل يُدثرها، هزت رأسها استنكارًا و هي تتلمس حافته ثم دمدمت:
- إيـه ده؟
و شرعت تبحث عن كتابها حولها حتى وجدته أعلى الكومود، فـ ظل جبينها مجعدًا و هي تهمس متذكرة:
- الكتاب ده إيه اللي جابه هنا؟.. أنا فاكرة كويس جدًا إني كنت بقرأ فيه و بعديـن.. و بعدين مش فاكرة حاجة، يبقى أكيد نمت و أنا بقرأ!
أزاحت عنها الغطاء و هي تخفض ساقيها لتستقيم بوقفتها، أنّت عضلاتها بسبب نومتها الغير مريحة إطلاقًا، فمطت ذراعيها بتكاسل محاولة إزاحة ذلك التيبس عنها، ثم دنت منه و هي تنحني عليه و عادت تدثره جيدًا و هي تردد بصوتٍ خفيض متبرم:
- متعب حتى و انت مش في وعيك!
و ما ان انتهت استقامت و هي تستدير لترحل متجهة صوب المرحاض الخارجي لتتوضأ، و لكنها لمحت بطرف عينها الشباك المنغلق، فـ مضت نحوه و هي تردد مشدوهة:
- و انت اتقفلت إمتى؟.. لأ كده كتير، ده اللي أكيد محصلش!
التفتت نحو جسده و دنت بخطواتها منه، ثم انحنت عليه لتردد بلهجة جادة:
- انت سامعني؟.. انت فوقت و أنا نايمة، صح؟
و لكنها وجدته صلبًا لم يتحرك قيد أنملة، و لم يهمس بشئ، فاستقامت و هي تتوسط خصرها بذراعيها مسلطة لنظراتها الضائقة عليه، التفتت لتنصرف بخطواتٍ شبه بطيئة مغمغمة لنفسها:
- معقول تكون ماما؟
و اقتنعت بتلك الفكرة فأومأت برأسها و هي تردد بلا اكتراث:
- ما اكيد ماما يعني!
.............................................................
و كيف يحظى حتى ببضع ثوانٍ من النوم عقب ما قيل؟.. كان يجوب غرفتهِ شرقًا و غربًا و هو يردد ثائرًا:
- هتجنن!.. يعني إيـه يا بابا؟ هـا؟ يعني إيـه اللي بتقوله ده؟ أنا و رهيـف؟ ازاي؟
أنّبه "متولي" الجالس على طرف الأريكـة:
- يا ولدي اجعـد عاد، خيلتني!
زفر" راشـد" حانقًا و هو يجلس مجاورًا له قائلًا بتبرم:
- أديني قعدت، ها؟.. هتقول إيـه؟
أشاح "متولي" بكفه و هو يغمغم بامتعاض:
- و هجول إيه يعني بعد جول أمي يا ولدي؟
فردد "راشـد" مستنكرًا تخاذله:
- يعني حضرتك موافق يا بابا؟.. موافق على المصيبة دي؟
عاتبه "متولي" و هو ينظر لحدقتيه مباشرة بنبرة مشتدة:
- عايزني أخالف كلام أمي اللي مهعرفش لسالها جد إيـه و تودعنا يا راشد؟
تهرب من حصار نظراته و هو يبرر بصوت محتد:
- و الله يا آبا لو عليا فـ أنا أنفذ اللي تقوله بالحرف!..لكن مش كده يا بابا! أنا عايز أتجوز واحدة أكون بحبها! رهيف! ملقتليش غير رهيف؟
ربت "متولى" على فخذه محاولًا تهدئته و هو يجفل نظراته:
- البت تناسبك يا ولدي، لايجين على بعض، مش زي ما هتجول مش..
قاطعه باحتدام و هو يهب واقفًا:
- مش إيه يا بابا؟ أنا و رهيف لو فضلنا في مكان واحد لمدة خمس دقايق ممكن نقتل بعض! هو انت مش عارفنا يا آبا؟
فـ وقف" متولي" باستقامة و هو يقول بلهجتهِ الصارمة:
- راشـد، أنا صحيح موافجتش على كلام أمي، لكن مهكرسلهاش كلمة، و انت كذلك، اللي أمي جالته هو اللي هيُحصُل و بـس
و أشار بكفه و هو يستأنف حديثه:
- مكسرتلهاش كلمة طول ما أنا عايش، هاجي لآخر أيامها و أكسرهالها عشانك! و عشان كلامك المايص دهِ! حب إيه و كلام فاضي إيه اللي هتتكلم عنه!.. ده أنا اتجوزت أمك من غير ما أشوفها حتى
تشدق "راشد" ساخرًا و هو يحك عنقه بحركة منفعلة:
- يا ريت يا آبا!.. يا ريتني هتجوز واحدة مشوفتهاش قبل كده، أهو أرحم من رهيف!
قال" متولي" و هو يضرب على كتفه عدة مرات بقوة ببرود و كأنه لم يستمع لقولهِ:
- مبروك يا ولدي، عرسك لا هيتعمل كيفه في البلد من جبل و لا من بعد، الناس هتمشي تحكي و تتحاكي عليه
و همّ بالانصراف و هو يردد بلكنتهِ:
- الفجر أذن مسمعهوش و لا إيـه؟ هستناك نصلي سوا في المسجد
و رحل موصدًا الباب من خلفه، فتابعه"راشد" بنظرات حانقة عاقدًا ساعديه أمام صده، ثم قال متذمرًا:
- خلاص أوام جوزتني!.. لأ و تحكي و تتحاكي، يتحاكوا على وقعتي السـودة!
و رفع أكفه للسماء و هو يهتف بنبرة شعّت بغضًا:
- منك لله يا رهيف! انتي إيـه يا شيخة ورايا و رايا؟.. حلفانة ما تسيبيني!
"راشـد"
وحيـد والده الذي توفت والدتهِ أثناء ولادتها له، حيث كانت مريضة سكر، لذلك ليس گعادة الشُبان في بلدتهِ، فـ عائلتهِ من أعظم العائلات و أكثرها سيطًا في البلدة، فعاش حياتًا مُرفهة، لم يجبره "متولي" على شئٍ قط، فلم يعمل بالأراضي الزراعية گغيره، و إنما استكمل تعليمه في "القاهرة" كما ابتغى تمامًا، فترة تواجد بالقاهرة أثرت عليه و على صفاته قلبًا و قالبًا.
ملامحه الشرقية الوسيمة جعلت الفتيات بجامعته يتهاتفن عليه، حيث كان يمتلك بنية قويّة و أكتاف متباعدة، عينين سوداويـن حادتين، يعتليهما حاجبين كثيف، و شفتين غليظتين، و أنفٍ معقـوف، و ما كان يضيف إليه وسامة تلك اللحية الخفيفة التي يحتفظ بها.
هـو و "رهيف" تمامًا گقُطبين متنافرين، لا يتواجدان بـ ذات المكان إلا  اندلعت حروبًا حامية الوطيس بينهما.
..................................................................
استعانت بالمقصّ لتقصقص صورتهِ المرفقة بمقالٍ من  آخر جريدة تم تحريرها في الأيام الماضية، جالسة على الأرضيّة، من حولها تناثرت الأوراق و الصور التي استعانت بالطابعة التي تملكها لتطبعهم عن هاتفها، فأضحت الصور الإلكترونيّة، أوراق أمامها، و منتشرة من حولها.
تنفست "ولاء" بعمقٍ و هي تترك المقص جانبًا، و رفعت الصورة نصب عينيها لتتأمل تقاسيمه دارسة لها، لا تدري ما ذلك المنحدر الذي تسفح روحها إليه، و لكن ما تدريه هو أنها تحسّ بشعورٍ لطيف، گبودار  انجذاب عميقٍ، و إن لم يكن من حقّها، فستسعى بشتى الطرق ليكون.
فـ هي "ولاء"..
التي اكتسبت صفاتٍ من والدها لم تتمكن والدتها من السيطرة عليها بالتربية ، و أعلاهُم مرتبة.. الغيرة و الأنانيّة التامة، شعورًا حاولت "حبيبة" دحرهُ عنها منذ زمنٍ بعيد، و لكنهُ حيا ببساطة و ترعرع في أعماقِها منذ ذلك الحين، منذ أن اعتقد أنها لن تتمكن السير بشكلٍ طبيعيّ من جديد، فشعرت و كأنها خسرت ساقها، و ليس ما أصابها مجرد تعرّج، فـ أضحت كشخصٍ آخر، تبغض أختها، و إن كان شعورها لا ينبعُ من أعماق قلبها، و لكن الشعور الأمثل تجسّد بحقدها على ذلك الـ"فارس"، كلاهما تسببا لها بتلك الأزمة، و راحت الأفكار تعبثُ في ذهنها، و الشيطان يُوسوس لها.. "يارا" الآن زوجةً لأحد أهمّ رجال الأعمال، و خُيل إليها أنها لن تتخلص من تلك العلاقة ، بل ستنمو و تنمو، و بيد أنها لن تنتهي.. بل و كأن بوادر الحُب تطفو على سطح علاقتهما، بذلك الحدث المريب الذي بزغ من العدم، فـ ستضحى عقب أيّامًا معدودة.. ذات مكانة لن تبلغها هي، مع زوجٍ تتمناهُ أي فتاة، و تتهاتف عليه منذ اللحظة الأولى التي تسقط فيها أعينها عليه.
تلمست "ولاء" بأطراف أناملها تلك الصورة الخاصة بهِ، مرورًا على ملامحهِ الوسيمة، فاستشعرت قلبها يقرعُ بعنفٍ بين أضلعها، طردت "ولاء" أنفاسها الملتهبة عن صدرها، فـ قد مرّ ما يقارب اليومين و هو برفقتها.. يتنفس الهواء الذي تتنفسه، يسكن الغرفة المجاورة لها، و تجلس أختها ليلًا نهارًا برفقتهِ، لا تتركه سوى لدقائق معدودة، و هي.. تختلس النظرات من بعيد إن فُتح الباب على حين غرّة، أو تقتنص فرصة أو فرصتين تمتدّ فيها استراقها لرؤيتهِ عن كثبٍ لدقيقتين على الأكثر، على الرغم من كونهُ قريبًا للغاية.. إلا أنهُ يبعد عنها مسافاتٍ شاسعة لا تُقدّر.
 أطبقت جفونها، و قد استشعرت نغزة في منتصف قلبها، فضمّت الصورة لأحضانها و هي تنطق من بين شفتيها بقنوط:
- أنا ممكن أكون مكانها، كان ممكن أكون مكانها دلوقتي!
و دحرت الصورة قليلًا، لتفرّق جفونها، متطلعة إليها بأعين برقت بوميضٍ لامع، ثم رددت متوعّدة بإصرار:
- لكن ملحوقة.. هي و لا حاجة بالنسبة لك، و أنا هكون!
............................................................
بعد أن حُرمت حقها في فرض سيطرتها على الكوكب بسبب تلك الغيوم التي راحت تواريها عن الأعين، تمكنت ببراعة أن تحتل محلها من جديد، نجم الشمس.. شرع يتخذ محله بخيلاء في السماء الصافية على غير المعتاد، و كأن الزهور و الأشجار الباسقة تُلقى التحية على ملكتهم، فراحت تومئ برأسها بحركة خفيف مُغترة، تُنبأ الجميع بأن غِيابها اللحظيّ لا يعني أنها لن تعود، ألقت بردائها المتجسد في تلك السنابل الذهبية التي راحت تتثني في خطواتها حتى بلغت صفحاتُ البحار ، فتلألأت مانحة بريقًا يخطف الأنفاس قبل الأعين، و كأنها تعين البحار على ما تحمله من هموم الأنفس التي لا تجد لنفسها ملجأ سِواه.
طفقت أشعتها البرتقالية الحانية توفض نحو شباك الغرفة الموصد، و بسبب تلك الستائر ورديّة اللون لم تتمكن من فرض سيطرتها على المكان، بل بعثت بريقًا جذابًا للداخل، و مرت و كأنها تربت على كتفها، و تجلس بجوارها تستمع إلى تلاوتها الشجيّة، ترتدي إزار صلاتها، و تقرأ ما تيسر لها من القرآن الكريم، ملجأها الوحيد، آياتهِ تكفى وحدها لتغرس بين خلاياها أملًا، و تتنفس بأحرفه المباركة التفاؤل، و لكنها في ذات الآن.. كانت دموعها تنسكب من مقلتيها فراحت تشوش رؤيتها، غصّ صدرها بالبكاء، فـ أغلقت المصحف لتسنده على الكومود و شهقاتها تتعالى، أحنت بصرها عنه و هي تردد من بين نشيجها:
- يا رب! يا رب اظهر الحق من الباطل!
و انخفضت نبرتها و هي تغمغم بشجن:
- لو حسين اللي قتله عمري ما هسامح نفسي و لا هسامحه، يا رب تظهر القاتل ده، و تنتقم منه أشد انتقام يا قادر يا كريم
خفتت شهقاتها قليلًا و هي تنزح دموعها، و سحبت نفسًا عميقًا لتسيطر على نوبة بكائها، و لكنها لم تتمكن من كتم شهقاتها التي انفلتت منها من حين لآخر، مالت بجذعها عليه و هي تمسح برفقٍ على وجنته، تلمست جبهته لتطمئن إلى عدم ارتفاع حرارته مجددًا عقب يومين عانى فيها منها.. ليست مرتفعة للغاية، و لكن جسده نوعًا ما دافئًا، فنهضت لتحضر صحنًا ملئ بالماء و قطعة قماشية، و راحت تعصرها قبل أن تضعها على جبينه مغمغمة بنبرة حزينة:
- كل ما أبص لك أفتكره، سبحان الله
و تنهدت بحرارة و هي تحنى بصرها:
- ربنا يرحمك يا يوسف، ربنا يرحمك و يغفر لك، سيبتك عشان تلاقي واحدة تحبك و تسعدك، لكن حسبي الله، اخترت واحدة مشوفتش في شرها
نزحت القطعة القماشيّة لتتمكن من عصرها داخل الصحن، و هي تردف قائلة:
- يا ترى شوفت إيه في حياتك يا يوسف؟ يا ترى كنت مرتاح معاها؟.. و هترتاح معاها إزاي و هي.. و هي كانت بتحب جوزي!
يومين لم يستمع فيهما لأي شئ.. يومين مضا لم تنجح أي أحاديث خارجية بانتشالهِ من وسط أحلامه المتداخلة و الغير مفهومة و التي أرهقت ذهنهِ و تفكيره، و لكنه اليـوم كان يستمع لها،.. منذ كانت تقرأ القرآن لهُ و هو يستمع لها بآذانٍ صاغية، حتى أتت تلك الكلمة التي استُثيرت من أجلها حواسه، حتى غمغمت "حبيبة" ساخرة و هي تضع القطعة القماشية على جبينه مجددًا:
- يا ترى كان بيحبني أصلًا؟.. و لا هي كانت حب حياته و انا اللي اتخدعت فيه!
لم يكن يدرك أنهُ ينتمى لأصلٍ قذر كهذا، و لا يعلم كيف لم يتركها والده مسبقًا و يقصيها عن حياته، والده الذي لم يكن يترك فرضًا، الذي كان دائم الذكر، يحتفظ بـ وردٍ يومي من القرآن لا يتركه يومًا، والده.. لم يكن يستحق تلك التي لا تهتم سوى بنفسها و رغباتها، إنهُ حتى يخجل من حقيقة ذلك..حقيقة كونها والدته.
تذكرت "حبيبة" شيئًا ما، فـ التفتت و هي تنظر صوب الباب المنغلق، عقدت جبينها و هي تنادي بأعلى صوتٍ لديها:
- ولاء.. يا ولاء، اطفي على الرز يا ولاء
دقائق مرت لم تتلق بها استجابة منها، فتأففت و هي تنهض تاركة القطعة القماشية بالصحن، رددت و هي تتلمس جبهته:
- معلش يا ابني، ثواني و راجعالك!
و تركته و انصرفت.. الدماء تلتهب بـ أوردتهِ و كأنها على مرجل، و وجهه قد تحول لكتلةٍ من الجمر المتقد، اشتد ضغطه على أسنانه فارتعش صدغيه، و تكوّر كفيه قابضًا على أصابعه بقوة حتى ابيضت مفاصلها، و بالرغم من ذلك لم يُفرق جفنيه بعد.
 لم تنتبه "حبيبة" إلى ابنتها المُقتنصة خروجها، حتى سنحت لها الفرصة و أخيرًا، تلفتت حولها بحذرٍ لتدلف للغرفة بخطواتها المتعرجة، و راحت تدنو من فراشه، يومين مرا و هي تختلس نظراتها إليه، تلك الدقائق المُختلسة التي تقضيها برفقتهِ لا تعلم لمَ تجد بها ذلك الشعور اللذيذ، توقفت أمامه تمامًا و هي تتأمل ملامحه الوسيمة، تنهدت بحرارة و قد تحركت أناملها بلا إرادةٍ منها لتلمس تلك الخصلة التي سقطت أعلى جبينه، ثم أخفضت كفها حتى يتلمس بشرة وجنته، شعّت عينيها بغضًا و هي تتمتم مستشعرة شعورها بالنقص:
- ليه هي؟.. ليه هي تاخد إنسان يحاول يبعد عنها أي حاجة تأذيها؟ ليه تاخد إنسان فيه كل حاجة، فلوس و شهرة و مركز و الناس كلها تخاف تقرب منه، ليه هي تبقى ملكة في قصرك و أنا لأ؟
راحت أناملها تداعب بصيلات لحيتهِ النابتة قليلًا و التي أضفت وسامة إلى وسامته، حتى شعرت بالدماء تفر من عروقها حين اشتدت تلك القبضة على معصمها، جمدت في مكانها و قد شعرت بقلبها يهوي بين قدميها، رفعت نظراتها إليه لتجده يُفرق جفنيه لتطل نظراته المطلقة شواظًا من خلفها، لم تدرِ حتى ما حدث، و لم يُسعفها عقلها حينما اجتذبها بعنفٍ من معصمها لتسقط أعلى الفراش و اعتلاها و هو يترك معصمها ليطبق بشراسة مريبة على عنقها، خـرج صوته جهوري و هو يهتف بنبرة شعرت بها تهز أرجاء الغرفة:
- عملتي فيها إيـه؟
نهج صدرها علوًا و هبوطًا من فرط هلعها، انتفض جسدها من أسفله و أسنانها تصطك ببعضها البعض، دوى صوت نبضاتها الهادرة في أذنيها، فـ أطبق أكثر على عنقها و هو يجأر بشراسة:
- انطقـــي!.. عملتي فيها إيـــه؟
تبعثرت الأحرف من على لسانها، فـ جمعتها بصعوب لتتكون كلماتها متلعثمة و قد جحظت عيناها:
-مـ..معملـ..معملتش حاجة، هموت.. هموت حاسب
خرج صوته محتدمًا و هو يهدر بـ:
- مراتي فيــن؟ انطقي، هي فيـــن؟
شهقة خرجت منها سلبت انتباهه بالكامل، و حالما شعر بملمس كفها أعلى كفه انحرفت نظراته نحوها، حاولت تخليص أختها من قبضته و هي تردد بهلعٍ ارتسم على صفحة وجهها:
- بتعمل إيـه يا مجنون؟ حاسب هتقتلها!
ارتخى كفه بإرادتهِ عنها، فـ عاونتها" يارا" على النهوض ، سعلت الأخيرة و هي تحاول إلتقاط انفاسها متلمسة عنقها، ثم غمغمت بحشرجة و هي تعقد حاجبيها و بتأفف زائف:
- جوزك ده إيـه؟ كان هيخلص عليها
ربتت "يارا" على كتفها و هي تردد محاولة التبرير:
- معلش يا ولاء، امشي انتي دلوقتي، انتي عارفة إنه مش في وعيه
تركتها و انصرفت بخطواتها المتعرجة للخارج فتابعتها نظراته الشرسة التي تكاد تلتهمها حيّة، أخرجته من حالته و هي تدنو منه مرددة بحنق:
- تقدر تقولي إيه اللي عملته ده؟.. أختي كانت هتموت في إيـدك؟
ارتخت عضلات "يامن" و جسده بالكامل ، استشعر ذلك الصداع المميت الذي عصف برأسه فترك جسده بوضعٍ مستقيم مستندًا للوسادة من خلفه و هو يتلمس ذلك الشاش الطبي المُلتفّ حول جبينهِ، أطبق جفنيه و هو يسأل بنبرة ناريّة:
- أنا فيـن؟
ارتفع كتفيها و هي تغمغم بعفوية:
- في بيتي!
فتح جفنيه و هو يحدق بها بنظرة أربكتها و أعقب ذلك بقولهِ المحتدم:
- نعم!
رمشت عدة مرات و هي تغمغم متسائلة:
- في إيـه؟
همّ بالنهوض عن الفراش و هو يهتف بصوتٍ مستهجن:
- أنا و الحديدي مينفعش تنتفس نفس الهوا !
استوقفته و هي تتشدق بسخرية:
- لا ما هو مش هنا، من ساعة ما جينا هنا و هو طفش و سابلك البيت تشبع بيه!
لم يتسلل الارتياح لداخله مطلقًا، و لم ترتخِ تعبيرات وجهه التي تشنجت ثانية، كاد يمرر أنامله بين خصلاته التي تساقطت على جبهته فـ اصطدم كفه بذلك الشاش الطبيّ المحيط لموضع جرحه، حنق و هو ينتزعه بشراسة ملقيًا له بلا اكتراث ، فرددت و هي تعقد حاجبيها:
- انت بتعمل إيـه بالظبط؟
تلمس جرح جبهته و هو يلتفت صوبها ثم ردد باستهجان:
- ده إيه ده كمان؟
جلست أعلى المقعد المجاور له و هي تشرح بإيجاز:
- انت مش فاكر؟.. ده من حادثة العربية!
بدا غير قادرًا على تجميع شتات أفكاره، فنظر نحوها مُطالبًا بتفسير، هزت رأسها بعدم فهم و هي تسأله:
- مش فاكر؟.. جرحك كان بينزف، و تقريبًا دوخت فجأة و معرفتش تسوق، فـ.. فـ العربية خبطت في الشجرة
رمش عدة مرات و الذكرى تمر أمام عينيه متزامنة مع سردها البسيط، فاحتقنت الدماء في عروقه، راح ينظر نحوها من طرفهِ متشككًا ، و وارى ببراعة نبرة القلق و هو يغمغم بصلابة:
- حصل لك حاجة؟
ضيقت عينيها استنكارًا من سؤاله ثم قالت نافية:
- لأ
فـ أنبها بخصوص ذلك مرددًا بنبرة حانقة:
- ما انتي لو مكنتيش رغاية و مبتبلعيش ريقك مكنتيش شوشتيني!.. كنت هوقف العربية لولا حضرتك
ارتفع حاجبيّ "يارا" استهجانًا، ثم غمغمت محتجّة على حكمه الظالم:
- الله!.. و أنا مالي؟ كنت هعرف منين إنك دايخ؟ كنت قولتلي
و صمتت هنيهة ثم تابعت دون أن تترك له فرصة الحديث:
- و لا أنا كنت بنجم و لا بشم على ضهر إيدي مثلًا!.. أنا دخلي إيه باللي حصل مش فاهمة
انزعج "يامن" من صوتها و كلماتها المتواصلة فهدر بها باغتياظ:
- خلاص خلصنا!.. ابلعي ريقك شوية
تجاهل نظراتها المستنكرة و هو ينظر حوله ثم تابع مستهجنًا تواجده هنا:
- جيت هنا ازاي؟
- اتصلت بماما،.. و هي اللي جابتني هنا
انعقد حاجبيه سويًا و هو يلتفت ليرمقها بنظراتهِ المحتدة ، فـ حمحمت و هي تحني بصرها عنه مبررة:
- اضطريت أستخدم موبايلك
اعتدل قليلًا في جلسته مائلًا بجذعه للأمام ثم التفت صوبها و قد افرت ثغره عن شبح إبتسامة ساخرة و هو يتشدق بنبرة ذات مغزى:
- يعني مهربتيش؟
ارتفعت أنظارها نحوه لتحملق فيه، ثم غمغمت و هي تعقد ساعديها امام صدرها مشيرة لجرح صدره:
- صدقني لو مكنتش السبب في اللي حصل لك،.. مكنش هيبقى عندي سبب واحد مهربش عشانه
أشاح بوجهه بعيدًا عنها و هو ينفض خصلاته بعصبية مردفًا بلهجة غامضة لم تتفهمها:
- بلاش تتكلمي و انتي نفسك عارفة إن اللي بتقوليه مش هيحصل!
ارتفع حاجبيها استنكارًا و بسطت كفها معربة عن عدم فهمها لمقصده:
- إيه الغلط في اللي قولته؟
انحرفت نظراته نحوها و هو يردد مراوغًا بلهجة ثابتة:
- أنا هنا من إمتى؟
تشبثت بسؤالها و هي تحل عقدة ساعديها و قد احتـدمت غيظًا:
- إيه الغلط في اللي قولته، فهمني؟.. كنت مستنى منى أعمل إيه عشانك؟ مستنيني أعتذرلك و أبوس إيدك عشان تسامحني؟ و لا مستنيني أشكرك مثلًا عشان ساعدتني، تمام.. متشكـ.
اقتطع قولها بقولهِ الثابت و قد اشتدت لهجته قليلًا و انبثقت نظرة صارمة من مقلتيهِ:
- أنا هنا من امتى؟
زفرت و هي تبتلع كلماتها مسلطة نظراتها الحانقة عليه، أحنت بصرها عن نظراته القوية و هي تزفر في ضيق مغمغمة بخفوت ممتعض:
- 3 أيام تقريبًا
التوت شفتيه ساخطًا و هو يردد مستهجنًا:
- نعـم!..3 أيام؟
أومأت و هي تردد مستنكرة:
- أيوة 3 أيام.. إيـه مستكتر على نفسك تاخد راحة من تحكماتك و تسلطاتك و زعيقك و أوامرك 3 أيام؟
التوى شدقيه بسخرية و هو يزيح ذلك الغطاء عن جسده مستعدًا لمغادرة الفراش، فـ غمغمت متسائلة و هي تقف أمامه لتستوقفه:
- إنت بتعمل إيه بالظبط
نظر حوله، ثم عاد بنظراته إليها و هو يسأل بلهجة جامدة مقتضبة للغاية:
- موبايلي؟
تنهدت بضيق ثم أردفت و هي تهز رأسها بإيماءة بسيطة:
- حاضر، هجيبه
و برحت محلها لتحضر هاتفه بينما كان يخفض نظراته صوب ملابسه، فتفاجأ بأنه يرتدي سترته فقط دون قميصه، فـ تغضن جبينه و هو يحل أزرارها فتبين من خلفه عضلات بطنهِ و صدره المشدودة و ذلك الشاش الطبيّ الذي يخفى الكثير منهما ، ثم رفع نظراته إليها حين دنت منه باسطة كفها بالهاتف، سحبه من كفيها و هو يقول مضيقًا عينيه:
- قميصي فيـن؟
أحنت بصرها عنه متحرجة و قد تشربت وجنتيها حمرة خفيفة، ثم حمحمت لتزيح ذك التحشرج عن صوتها الهامس:
- ماما خدته امبارح تغسله لأن كان كله دم
و أشارت للنافذة الملحقة بغرفتها:
- هشوفهولك نشف و لا لأ
.............................................................
كانت مضطربة حقًا من أن يكون استمع إلى ما تفوهت به من ترَّهات، ازدردت ريقها و هي تتلمس بشرة عنقها، متذكرة ما كاد يصيبها، و لكنها لم تحنق عليه سوى من ذكرها.. خاصة بعد استفاقته مباشرة، لمَ هي دونًا عن غيرها التي ذكرها فورًا؟.. مجرد التفكير بذلك جعل دمائها تغلي بداخل أوردتها، حتى انتفضت حين انفتح الباب فجأة فدلفت "حبيبة" لتطمأن عليها و هي تغمغم عاقدة لحاجبيها:
- إيـه يا ولاء؟.. سنتين بخبط و انتي و لا هنا؟ أنا قولت انتي نمتي
ارتبكت و هي تحاول مواراة شحوب وجهها، أحنت بصرها لتردف بجفاء:
- مسمعتش
جلست "حبيبة" جوارها أعلى الفراش، و راحت تتأمل تعبيراتها و هي تهتف بقلق:
- مالك وشك مخطوف كده ليـه؟
و أزاحت كفها عن عنقها و هي تردد مستوضحة:
- و مالك ماسكة رقبتك كده ليـه؟
ارتفع حجبيها و هي ترى آثار تلك الأصابع الغليظة، فشهقت و هي ترفع نظراتها إليها مرددة بهلع:
- مين اللي عمل فيكي كده؟
فتشدقت "ولاء" بسخرية:
- أصل جوز بنتك حب يعلم عليا!
تلاشى الهلع عن "حبيبة" تمامًا و حل فقط الصدمة محله و قد توسعت عيناها:
- هاه!.. يامن؟
...................................................................
تابع خطواتها المرتبكة بنظراته، ثم أطبق جفنيه حتى توافدت الأحداث تباعًا.. يتذكر حتى أدق النقاط، و لكنه مازال لا يدري أيّهم الحلم.. و أيهم الحقيقة، فـ راح يسألها بصوتٍ مشتد و هو يعبث بخصلاته منفضًا لها:
- أنا فوقت في الـ3 أيام دول؟
التفتت و هي تقف أمام النافذة مضيقة عينيها، ثم سحبت قميصه و هي تعود إليه تاركة المشابك، و بسطت كفها به و هي تقول:
- تقريبًا مرتين، الأول كنت فاكرة مرة واحدة و بعديـن..
و صمتت فـ سألها و نظراته الثابتة مسلطة عليها و هو يسحب قميصه:
- إيـه؟
ضمت كفيها معًا و هي ترفع كتفيها مسترسلة:
- أصل تقريبًا فوقت و أنا نايمة، و كنت ماسكة كتاب و لما صحيت مالاقيتوش، و سألت ماما قالتي إنها مخدتوش مني، و مكنش في غيرك.. أعتقد كنت صحيت وقتها
أومأ برأسه و هو يتذكر تلك اللحظات التي كان يعتقد بها أنها أحد أحلامه التي تشبه الواقع حد التطابق، ثم ردد مترقبًا و نظراته القوية مسلطة على عينيها:
- و المرة التانية؟
اشتعلت وجنتيها بالحمرة الخجلة و هي تحني نظراتها عنه، ثم حمحمت و هي تجيبه بتلعثم وضح و قد أخذت تعبث برابطة خصلاتها التي تطوق معصمها:
- مش فاكرة
تسلطت نظراته لحظيًا على معصمها ثم رفع أنظاره حتى وجهها، نظراته القوية لم تمكنها من رفع نظراتها إليه، فظلت مجفلة إياها بينما كان يقول بصوت ينضح بالجدية:
- مبتعرفيش تكذبي يا بنت حسين لكن هعديها
و خلع عنه سترته، بصعوبة راح يحاول ارتداء قميصه، تفاقم خجلها،.. فمضت مبتعدة و هي تكاد تمضي نحو الخارج، و همت بإدارة المقبض و لكنها التفتت لتتابعه و هو يرتدي قميصه، نجح في أحد الذراعين و لكن الآخر كان شبه صعبًا.. زفر حانقًا و هو ينظر بضيق لجرحه ذلك، ثم أطبق جفنيه معيدًا رأسه للخلف ، بينما هي تقف متسمرة و قد خشت أن تستسلم لشعور الذنب الحارق لجوفها، فـ نفخت حانقة و هي تدنو منه ثانية، فتح "يامن" عينيه و هو يلتفت نحوها حين استشعر لمستها الرقيقة على كتفه و هي تسحب طرف قميصه لتعاونه، عقد حاجبيه و هو يردد ساخرًا بصوت صلب:
- بتعملي إيـه؟
بررت له فعلتها الهوجاء دون أن تتجرأ النظر داخل عينيه:
- ده عشان محسش بالذنب بس، متفتكرش حاجة تانية
راقب تلك الحمرة التي تتضاعف بوجنتيها بلتذذ، راح يتابعها و هي تحاول إدخال ذراعه، فقبضت على معصمه و كم القميص و هي تحاول إدخاله حتى نجحت، تنفست الصعداء و هي تضبطه، ثم تركته مفتوحًا و هي تنظر نحوه بارتباك، و أشارت إلي أزرار القميص بعينيها و هي تغمغم بتلعثم:
- اقـ..اقفل الزرا..
خطواتها المرتبكة أدت إلى التفاف ساقًا حول الأخرى لولا أن انتبه إلى اختلال توازنها، فـ اجذبها من مرفقها، ليوازن جسدها، و لكنها بدلًا من ذلك سقطت فوق ساقيه، وجدت نفسها تلقائيًا تحيط عنقهِ و هي تشهق بذهول مما حدث توًا، و بثانية واحدة، التقت الأعيـن،.. نظراتهِ الصلدة مع نظراتها التي تشع اضطرابًا، راح دقاتها تعلو حتى كاد صوتها يصم أذنيها و ذلك المشهد المتقارب بينهما خلال استفاقتهِ القصيرة تعاد أمام عينيها، حتى مشهد استفاقتها بعدما كاد يصيبها حين وجدت نفسها بين ذراعيه و تستنجد به، انحرفت نظراتها بين عينيهِ و صدرها ينهج علوًا و هبوطًا، بينما نظراته أخذت تتجول على ملامحها حتى بلغ شفتيها، اجتذبتهُ إليها.. و كأنها سحرته توًا فـ أراد تذوق شهدهما، و هو گتفاحة نيوتن التي استجابت للجاذبية، أحنى رأسه عليها حتى كادت أنفه تلامس أنفها، و هي لا تستوعب حتى ما يكاد يحدث، فقط انفاسها اللاهثة تلفح بشرته.. و لكن اقتطع ذلك انفتاح الباب المفاجئ.. لتطل "ولاء"  من خلفه و............
....................................................
................
.............................................................
 
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق जहाँ कहानियाँ रहती हैं। अभी खोजें