"الفصل التاسع و الخمسون"

738 19 0
                                    

" الفصل التاسع و الخمسون"
تيبّس جسده بمحله حينما كان "يامن" يمر ليدلف من جوارهِ، تأمل بنظرات خاطفة غرفته بالفندق الذي أقام به منذ عودته، ثم نفّث دخان سيجارته، أوصد "عمر" الباب و التفت مبتلعًا صدمتهِ، ثم سأل بغيظ:
- عرفت مكاني إزاي؟.. فارس هو اللي قالك؟ صح
- تؤ
فمضى نحوه ليقف أمامه عاقدًا ساعديه و هو يسأله:
- أومال منين؟
سخر "يامن" منه و هو يبعد السيجارة عن شفتيه:
- ليـه؟ انت فاكرني مش عارف مكانك من أول لحظة
فضاقت عيناهُ بارتياب و هو يهمس:
- انت بتراقبني؟
تركهُ "يامن".. خطى نحو النافذة و انتزع ستائرها القاتمة فاحتل الضوء الغرفة و هو يقول ببرود شديد قبل أن يعاود سحب أنفاسه من سيجارته:
- صحيتك؟
زفر "عمر" ثم قال بنفاذ صبر:
- عايز إيه يا يامن؟
- الساعة داخلة على 1
و تعلقت أنظارهِ بالمحيط من حوله، ترك سيجارته بين سبابته و الوسطى و هو ينفث أنفاسه منها، ثم ارتفع جانب ثغره بابتسامة جانبية ساخرة حملت المرارة بين طيّاتها:
- هدى لو كانت عرفت كانت قامت قيامتك
و كأنهُ أحيا ذكرى لم تنسى.. و سكب ملحًا فوق جرح لم يبرأ، أشاح "عمر" بنظراته عنه و هو يقول بجفاف:
- و لو انت مكنتش موجود في حياتها كانت هتعيش
فتقوست شفتيه و هو يقول بجمود مواريًا خلفهُ مشاعره:
- ممكن
فنظر "عمر" نحوهُ و قد استشاط من برودهِ، فقال محتدمًا:
- انت عايز مني إيه؟ أنا مش عايز أشوفك حتى، أنا عمري ما هسامحك!.. عمري
لوى "يامن" شفتيه بقسوة و هو يقول دون أن يلتفت نحوه:
- مغلطتش في حقك عشان تسامحني!
ثم التفت ليرمقه بنظرة ذات مغزى و هو يقول:
- اللي بيغلط بيدفع تمن غلطه.. و انت غلطت، و كان لازم يبقى في تمن!
سحب نفسًا عميقًا من سيجارتهِ ثم ألقى بصبابتها من النافذة، حينما كانت الحُمم تتلظى في صدر "عمر" و طاف ذلك على سطح وجههِ الذي تشبّع بالحمرة أثناء قوله الساخط:
- و غلطي كان يستحق إنك تنفيني!.. كان يستحق إنك تبعدني عن أمي في آخر أيامها، كان يستحق إنها تموت من غير ما أشوفها
جأر بجملتهِ الأخيرة و قد بزغت عروق جبينه، فبادلهُ "يامن" نظرات لم يتمكن الأخير من فهمها، ثم أشاح عنه ببرود شديد و هو يحكّ صدغهِ ثم قال:
- طيارتك الساعة 4 الفجر، توصل بالسلامة
و همّ بالخروج حينما كان "عمر" محملقًا به، احتقنت الدماء في عينيهِ و هو يهدر استهجانًا:
- نعم!.. طيارة إيه دي، أنا مش راجع
فتوقف ليرمقه بنظرة جانبية قاتمة و هو يقول بحزم:
- مش بمزاجك
أشاح "عمر" بذراعه و هو يجعد جبينه صائحًا:
- انت إيـه! مبتحسش، لسه بقولك إيه و انت بتقول إيه!
تفاجأ بهِ ينقضّ مطبقًا على تلابيبهِ و قد تبددت آخر ذرات ثباته الانفعالي الزائف، حشرهُ بينه و بين الحائط من خلفه ثم جأر و عينيهِ يتقاذف منهما الحميم:
- اسمع يالا.. أنا صابر عليك.. أكتر من أسبوع سايبك تعمل فيه ما بدالك، لكن أكتر من كده و عزة جلال الله.. لأكون راميك في آخر بلاد المسلمين
تأملهُ مطولًا.. نظرة مريرة حملت بها ما امتزج مع السخرية، لم يحاول تخليص نفسه و هو يقول قاصدًا استفزازهِ:
- حاسس إني بكلم عمي! لأ.. مش عمي، عمي موصلش للي وصلتلهُ
لم يتلقَ سوى اشتداد قبضته على ياقتهِ و قد بزغت الشعيرات الدموية بعينيهِ، ثم قال من بين أسنانهِ المطبقة و هو يُقلص المسافة بينهما:
- حيث كده بقى أقتلك، زي ما هو قتل أخوه!
انكمشت المسافة ما بين حاجبيه حتى كادت تتلاشى، ثم نطق مستهجنًا:
- نعم!
أرخى "يامن" قبضته عنه، ثم قال و هو يتصنع ضبط ياقة الأخير:
- هو موصلش لدرجتي.. مقتلوش بإيده، لكن أنا طالما أسوأ، فلازم أقتلك بإيدي!
ازدرد " عمر" ريقه و هو ينظر نحوه متشككًا، خفقاتهِ تكاد تدوى كالدفوف في أذنيه و هو يسألهُ دون أن ترمش عيناه:
- انت مستوعب اللي بتقوله؟
فلم يجبه إجابة شافية.. ابتعد قليلًا و هو يدس كفه بجيبيه مسلطًا لنظراته عليه، ثم قال بحزم:
- من قبل 3 تكون في المطار
و لوى شفتيه تهكمًا و هو يردف مربتًا على كتفهِ:
- خد بالك بقى عشان ممكن متوصلش.. احذرني طالما شبههُ!
و منحه نظرة حالكة، بينما عينيّ "عمر" المتوسعتين معلقتان به، أحاد "يامن" أولًا و ترك محلهِ منصرفًا صافعًا الباب بعنف شديد، حينما كانت نظرات "عمر" التائهة معلقة به، راح من فوره يلتقط هاتفه و شرع يجري اتصالًا بـ:
- أيوة يا فارس.. يامن كان هنا، معرفش عرف منين
و حادت نظراتهِ نحو الباب و هو يردد بغلّ:
- يعني ايه الكلام اللي بيقوله ده؟ ابوك قتل أبويا! اللي أنا اتربيت معاه في نفس البيت و حطيته مكان أبويا هو اللي قاتله؟ اللي متجوز أمي هو نفسه اللي قتل أبويا! يعني إيــه؟
..............................................
فغرت شِفاها غير مستوعبة ما تراه حتى رأته بجواره ،و كأن ما قاستهُ في الليالي الماضية ذابت كـ الثلوج التي ارتفعت درجة حرارتها ، تهدّجت أنفاسها من فرط الانفعال ، فـ تحفّرت خلاياها لتخطو للأمام بتأنٍ ثم ما لبثت أن أسرعت خطواتها حتى باتت أقرب للهرولة و قد اتسعت ابتسامتها حتى كادت إن تصل لإذنيها هادرة بـ ابتهاج:
ـ أشهـب..!
حتى توقفت أمامه فـ ارتمت تحيط عنقه ملتحمةً به و هي تضحك بابتهاج ، حتى أن الخيل حرّك ساقيه الأماميتين و هو يلوي عنقهُ مصدرًا صهيلًا أنعش قلبها و كأنه يرحب بها ، ابتعدت عنه قليلًا و أنفاسها تتصارع من بين ضحكاتها الغير مُصدقة ، فـ أحاطت وجهه بكفيها و هي تتمتم بصوتٍ متهدج:
ـ أشهب.. أشهب ، وحشتني.. وحشتني أوي!
بينما هو يصهل و هو يضرب بـ قدميهِ الأرضية الصلبة فـ أصدر نعله صوت نقرات.. فـ اتسعت ابتسامتها و هي تمسح على غُرتهِ مدمدمة بـ حبور:
ـ يعني أنا كمان وحشتك!
كادت أن تسقط و هي تتحرك برفقتهِ ، لولا ذراعهُ الذي أحاط خصرها مجتذبًا إيّاها قليلًا اليه و هو يُحذرها بخشونة:
ـ اهدي شوية..هتقعي!
حمحمت بحرج طفيف من هوجائيّتها المفرطة، انعطفت أنظارها العميقة نحوه و الابتسامة لا تبرحُ شفتيها، رنا "يامن" إليها بنظرة مطولة، ثم حرر خصرها ليتسنى لها التحرك بحرية، و ابتعد خطوة للخلف، حينما كانت هي تبرر لهُ و هي تعبث بغرة الخيل:
ـ أنا مش مصدقة نفسي بجد، مش مصدقة ان أشهب رجع تاني بعد ما فكرت اني خسرته
ثم التفتت نحوه و قد تلاشت ابتسامتها لتسأله بارتياب:
- و الورهاء.. فيـن؟ و باقي الخيول؟
أشاح بوجههِ عنها يُواري ذلك الجحيم الذي اتخذ من حدقتيهِ مُستقرًا.. كزّ بـ عنفٍ على أسنانهِ مشددًا على عضلات فكيه ، و بنبرةٍ حالكة تمتم من بين أسنانهِ المُلتصقة من فرط اطباقه :
ـ مات منهم تلاتة! و "ورهاء" منهم!
شعرت بالحزن يحطّ على قلبها من جديد، أحنت نظراتها المكلومة عنه و هي تستكمل تمرير أناملها الرقيقة على جبهة الخيل و قد خبت سعادتها اللحظيّة، أصرف "يامن" بصره تلقائِها، ثم طمأنها بقولهِ الذي على عكس مغزاه أثار ريبتها:
ـ بس متقلقيش..حقهم هيرجع، هم.. و كل واحد دمه راح هدر!..مش هسيب دمهم للأرض!
توسعت مقلتاها بشدوه و قد وطأ الرعب قلبها ، رمشت بعينيها عدة موات غير مستوعبة بينما دنا منها مُقلصًا المسافة.. انحنى قليلًا برأسه عليها و هو يهمس بنبرة متوعدة:
ـ و حقك!..يا يارا
ابتعدت قليلًا عنه لتحدق بمقلتيه بنظرات وجلة ، تحركت شفتيها لتنطق برهبة و هي تحرف نظراتها بين خضراوتيهِ:
ـ انت هتعمل ايـه؟
نظر لها مليّا قبل أن يصرف بصرهً عنها لينظر للخيل و بنبرة متصلبة عرض عليها:
ـ مش عايزة تاخدي جولة؟
و لم ينتظر رأيها، بل أحاط خصرها بكفيهِ و بحركةٍ خاطفة رفعها لتكون أعلى الفرس ، شهقت من الدهشة بينما كان يتخذ محلهُ خلفِها.. ثوانٍ و كان ذراعيهِ يُحيطان خصرها ليسحب اللجام ، توترت من قربهِ ، فـ تشرّبت وجنتيها بـ حمرة فاقعة ، استشعرت تلك السخونة المُفرطة التي انبعثت من وجنتيها فـ استحت أكثر .
 مُجددًا يتواثب قلبها بين أضلها و دقاتهِ تدوي كـ الطبول في أذنيها ، التفتت لتجدهُ محدقًا بها يدرس ملامحها عن كثب بـ عينيهِ الثاقبتين ، فـ رمشت عدة مرات و هي تزدري ريقها بتوتر ، لم يحد ببصره عنها فـ اضطربت أكثر..حاولت أن تتجاذب معهُ أطراف الحديث لتقتطع تلك اللحظات فـ تمتمت بـ رهبة:
ـ قصدك ايه باللي بتقوله يا يامن؟
انتشى فور أن استمع إلى اسمهِ ينطلق بتلقائية من بين شفتيها ، ارتسم شبح ابتسامة على شفتيه محاها قبل أن تظهر و هو يعطف نظراته عنها ليجتذب اللجام فـ بدأ الفرس مضيه ، ترقب حتى خرجا من الباب الرئيسي..بينما كانت تردد هي بـ ضيق بيّن اختلط بـ استنكارها و قد عقدت حاجبيها:
ـ أنا بكلمك على فِكرة..انت ناوي على ايه!.؟
ـ كل خيـر!
نظرت أمامها و قد تنهدت بحرارة متمتمة بتهكم واضح:
ـ متحاولش تقنعني!..أكيد مش هييجي من وراك خير
ثم أصرفت بصرها تلقائه ثانية و هي تستطرد بعفوية:
ـ انت بتقلقني أكتر ليه!..يامن أرجوك تحاول تسيطر على نفسك، أنا مش عارفة إيه اللي ممكن يحصل اكتر من كدا!..عايزة الحرب دي تنتهي
تدفقت الدماء في عروقهِ و قد شعر بها تغلي غليًا.. عقد حاجبيه بـ تجهمٍ قبل أن يردف بامتعاض:
ـ الحرب نائف بدأها بـ الدم!..و اللي بيبدأ بـ الدم بينتهي بـ الدم يا يارا!
ارتفع حاجبيها و توسعت حدقتيها و هي تستمع إلى كلماتهِ القاسية ، ابتلعت ريقها بصعوبة و قد شعرت بـ ببرودة تتسرب حتى أوصالها و اتضح ذلك بارتجافة نبرتها و هي تتمتم :
ـ قصدك ايـه!
ـ متشغليش بالك
و فور أن خطى بـ قوائمهِ الأربع خارج المُحيط ، شرع الخيل يلتهم الأرضية من أسفله ، و كأنها تناست الأمر بـ رمته ، تلاشى الذُعر عن وجهها ليحل الهدوء الكامن خلفه مشاعرها الملتاعة، هُنا كان عكس المزرعة قليلًا، حيث خارج إطار القصر فقط أراضي اسفلتية، و ليست أشجار و خضرة تحيط بها من كل حدبٍ و صوب، و لكنه شعور رائع أيضًا.. نجح نوعًا ما بأن يزيح عنها و لو قطرة من بحر همومها، كانت تمرر أناملها على عنق الجواد مستشعرة الملمس أسفل أناملها، ثم التفتت قليلًا و هي تفضى لديه القول بإحساس جزعها لم يكن مفاجئ.. بل صاحبها في غفلتها و يقظتها:
- الأحدب وحشني أوي
التقطت تلك العبرة التي انحدرت من إحدى عينيهِ بعدسيتها، علمت أنهُ يخفى خلف وجههِ الذي يشبه الطود العظيم مشاعره نحو ذلك الرجل.
 و كأنه كان يشعر أنه المتبقة له من عبق والدهِ، يحمل ذكرياته الجمّة و يحادثه عنه ليلًا نهارًا، تدري شعوره جيّدًا.. بل أنها صارت تدركه أكثر من أي شخص حوله و قد عايشتهُ بأدق تفاصيله، و لكنه أيضًا تعدّاها.. فوالدته لم يمضِ سوى ما يقارب الأسبوعين على وفاتها، انحرفت نظراتها بعيدًا عنه حينما كان يلفظ أنفاسه الحارة التي لفحت جانب عنقها فحاوطت جسدها قشعريرة، سألتهُ محاولة تغيير دفّة الحديث:
- احنا رايحين فيـن؟
لحظات من الصمت المُطبق قطعها بقولهِ الموجز:
- هتعرفي!
..........................................................
مُستندًا بكتفهِ إلى جذع الشجرة.. تلك البقعة التي كانت تجلس بها سابقًا، يحدق فيم كانت تحدق بهِ، لم كانت تفعل؟ و ما المميز في تلك النقطة تحديدًا لتجلس بها دونًا عن غيرها؟ لا يعلم، و لكن لربما أنها عدوى.. فقد شعر بصفاء يحتل ذهنه و هو يقف هنا، و كأنه ينتظر قدومها، مُعجزة تبعث بها إليه، طرد زفيرًا حارًا من صدرها أعقبه بقولهِ:
- امتى بقى تحسي بيا!
 حتى استشعر حركة الحشائش من خلفهِ.. أيعقل أن تتحقق المعجزة التي تمناها بتلك السرعة، انبعجت شفتيه بابتسامة واسعة و هو يلتفت لتتبدد ابتسامتهِ تمامًا، عقد حاجبيه و هو يقول مغتاظًا:
- انت؟
شبك كفيه خلف ظهره و هو يجيبهُ متشدقًا:
- أكنت تننتظر أهدًا غيري!
زفر "راشد" معربًا عن حنقه من وجوده، ثم ردد ممتعضًا:
- بتعمل إيه هنا يا ابن الخواجات؟
فسألهُ "مايكل" ببرود شديد:
- إنني أهق بأن أسألك هذا السؤال.. ما الذي تفعله في منتصف أرضي؟
- نعم!
توسعت عيناهُ بذهول.. شعر بحرارة جسده تتزايد و كأن الحمم تتقاذف في صدرهِ، دنا منه بخطى متشنجة و هو يقول باستهجان:
- أرض مين؟ انت بتضحك على نفسك
افترّ ثغر "مايكل" عن ابتسامة واسعة ثم أردف ببرود:
- لا.. إنها أرضي، أتريد تأكيد؟
و أخرج من جيب سترته الداخلية ورقة و حلّ طياتها، ثم ناولها له و هو يقول بظفر:
- تأكد بنفسك.. أظن أنك تآرف القراءة، أليس كذلك؟
اجتذبها منه بعنف و هو يحدجه بنظرات مستعرة، أخفض "راشد" نظراته للورقة و مضى بعينيه على الكلمات، توسعت عيناهُ غيظًا و قد بزغت الشعيرات الدموية فيهما، أطبق كفيه على الورقة ثم رفع نظراته نحوه و هو يهدر مستنكرًا:
- يعني إيـه؟ رهيف باعتلك الأرض
سحب "مايكل" الورقة من بين أنامله و هو يرفع كتفيه ببلادة:
- جيد.. أرى أنك تجيد القراءة
فلم يطق "راشد" أكثر، أطبق على تلابيبهِ و هو يجتذبه إليه ثم جأر و قد تشنجت عضلاته:
- انت خليتها تعمل حاجة زي دي إزاي.. إزاي؟
- لقد فآلتها بملء إرادتها.. لم أجبرها كما أجبرتها أنت!
- راشد.. انت بتعمل إيه؟
صدح صوتها الأنثوي الرقيق على مقربة.. ترجلت "رهيف" عن السيارة و أوفضت ناحيتهما، ثم قالت و هي تنقل نظراتها بين الاثنين:
- ايه اللي بتعملوه ده!؟
و ارتكزت ببصرها على "مايكل" و هي تسأله بحنق:
- و انت بتعمل إيه هنا؟
نقل نظراته نحوها و هو يقول رافعًا إحدى حاجبيه:
- لا أظن هنالك ما يمنعني من التواجد في أرضي.. أليس كذلك؟
دفعهُ "راشد" بعنف للخلف ثم مضى نحوها و هو يسألها محتدمًا:
- انتي بيعتي الأرض للواد ده؟
ارتكزت نظراتها المتحدية عليه، ثم عقدت ساعديها معًا و هي ترفع ذقنها بتحدى، فراح يهدر و قد نفذ صبره:
- انطقي.. بيعتيله الأرض؟
حلت ساعديها و هي تصيح بهِ كمدًا:
- أيوة بيعتها، عندك مانــع؟
هز رأسه استنكارًا و هو يهدر بسخط تام:
- انتي أكيد اتجننتي!
- أيوة اتجننت.. و انت السبب انت و أبوك
فهدر و هو يشير إليه بازدراء:
- بتآمني على أرض أبوكي في إيده!.. رفضتي تبيعيها لخالك و بيعتيها لابن الخواجات؟
أومأت برأسها و الحمرة الغاضبة تتشرب بها وجنتيها:
- أيـوة، على الأقل ابن الخواجات ده اللي لحقني من بين ايديك انت و أبوك!.. كان فاتني ميتة
فاستهجن تفكيرها تمامًا و هو يخطو نحوها خطوة مقلصًا المسافات:
- انتي مجنونـة؟ انتي فاكراني كنت هقتلك؟
فقالت بسخرية امتزجت مع سخطها:
- لأ مش فاكرة.. أنا متأكدة من ده!
تأفف مشيحًا بوجههِ عنها، مسح بعنف على وجهه ثم عاد يحدق بها بنظرات أطلقت الشرر، ثم قال مشيرًا لـ "مايكل" الساكن بمحله ببرود مثير:
- هتندمي يا رهيف.. هتندمي انك سلمتي أرضك للغريب، و اللي واثقة فيه أوي ده هيندمك.. قريب أوي! و خليكي فاكرة كلامي
و قبل أن يهمّ بالرحيل دنا أكثر منها حتى لفحت أنفاسهِ جسدها و هو يغمغم بـ:
- أبويا لو كان هيأذيكي فأنا كنت هقف في وشه.. و لو كنتي سمعتيني لمرة كنت هقولك إني وافقت، لكن من جوايا مكنش في سبب من جوازي منك غير اني...
و صمت هنيهة يتأمل تعبيراتها المحتقنة، ثم أردف بجفاء:
- حبيتك!
و مضى مارًا من جوارها تاركًا لها تحدق أمامها بصدمة مريرة، جفّ حلقها، و استشعر برودة تنخر أوصالها، و كأن سربًا من النسيم البارد طاف حول جسدها، أطبقت جفنيها لتنسال من بينهما عبرة حارقة رغمًا عن أنفها مستشعرة دقاتها التي تدوى كالدفوف في أذنيها، حتى فتحت عينيها لتبصرهُ قد توقف أمامها مباشرة و هو يبسط كفه بمنديلًا ورقيّا:
- أرى أنك تحتاجينه!
أطبقت أسنانها و قد اشتعلت وجنتيها بالحمرة، ثم هدرت بهِ مستنكرة وجوده:
- انت إيه اللي جابك هنا؟
تقوست شفتيه بابتسامة ساخرة و هو يجيبها متلفتًا حوله:
-  to see my land.. are you upset ?
" لرؤية أرضي.. هل انزعجتِ؟"
نهج صدرها علوًا و هبوطًا من فرط انفعالها، ثم قالت و هي تحذره بنظراتها:
- يامن لو عرف عملتك دي.. مش هيعديهالك! و انت عارف ده
ارتكزت نظراته عليها و هو يقول ببرود مقيت:
- لا آتقد أن لديك الجرأة الكافية لإخبارهِ.. خاصة و أنت تآلمين "تعلمين" أن لديه ما يقوم به، و بالتأكيد أكثر أهميّة منكِ و من سخافاتك
فصاحت بهِ و قد تطاير الشرر من عينيها:
- احترم نفسك أحسن لك
فخطى خطوة نحوها و هو يكشف الستار عن شخصيتهِ الأصليّة:
- إلى الآن إنني في أوج اهترامي لكِ.. فلا تجعلينني أنسى ما هو الاهترام
تراجعت للخلف خطوتين مقابل خطوته و هي تحدق بهِ و قد شعرت بقلبها يتواثب من بين أضلعها توجسًا منه، و لكنها وارت ارتباكها من كلماتهِ و هي تقول مبتلعة ريقها بحنق زائف:
- شكلك نسيت إن دي مجرد لعبة مش أكتر!
و أشارت بكفها و هي تقول باحتداد:
- اتفضل اطلع برا أرضي
حكّ "مايكل" صدغهِ ثم قال و هو يدس كفيه بجيبه:
- سأفآل "سأفعل".. و لكن ليس لأمرك بالتأكيد، هذا لأن مهمتي هنا انتهت!
طالعتهُ بنظرات متقدة حينما كاد يمرّ من جوارها، و لكنه توقف على بعد مسافة معقولة منها ليردف بوقاحة و هو يتأمل تلك الخصلة المتردة التي فرّت من حجابها:
- كنت آلم "أعلم" أن شعركِ كستنائيّ!
و كأن دلوًا من الماء البارد سُكب فوق رأسها، حملقت بوجهه بذهول، ثم تلمست خصلاتها و كأنها شعرت بخلو رأسها من حجابها، و ما إن وجدتهُ أعلى رأسها حتى تنفست الصعداء، فسارعت لضبط خصلتها المتناثرة و تدلفها في نطاقهِ سريعًا و قد توهجت نظراتها، ثم جأرت بهِ و هي تشير بكفها:
- اطلع بـرا.. بــــرا!
اكتفى بالابتسام العابث و هو يتحرك من أمامها، في حين التقطت "رهيف" أنفاسها بصعوبة و قد استشعرت خطورة المنحدر الذي هوت إليه بملء إرادتها، كلمات "راشد" شرعت تتوالى على مسامعها مجددًا، للحظة ودّت لو تفر إليه و تستنجد به، و لكنها ظلّت متيبسة و قد شعرت و كأنها خرقاء للغاية، فقد فعلت فقط للانتقام منه هو و والدهِ.. فكيف تلجأ إليه من مأزقٍ أسقطت نفسها به عمدًا؟!
.........................................................
كان قد سلك بالجواد طرقًا ضيّقة مختصرة تقوده إلى تلك البقعة بيُسر، حتى سحب اللجام فتوقف الجواد محله، تأملت "يارا" الوسط بنظرات متعجبة، ثم سألته بشدوه:
- احنا فيـن؟
ترجل "يامن" أولًا عن ظهرهِ، فترجلت هي الأخرى بدورها، خلع "يامن" سترته و قد شعر بحرارة ظهرهِ تتزايد، و تركها أعلى ظهر الجواد، تقدمت "يارا" حتى كادت تبلغ الحافّة، ثم التفتت لتسأله عاقدة حاجبيها:
- إيه المكان ده؟
- مكان يوسف!
ضاقت عيناها و هي تردد باستغراب:
- يوسف!
أومأ برأسه و هو يخطو نحو الحافّة ليشمل أراضي القاهرة عن ذلك الارتفاع و المنظر الذي يُظهره، و تنهد متبعًا ذلك بقولهِ:
- أيوة.. يوسف كان بيقضي هنا أكتر أوقاتهُ
و التفت نحوها لينظر لعينيها مباشرة، ثم استطرد:
- معايا!
تعلقت أنظارها الشجيّة به، ثم حادت بنظراتها عنه و هي تتقدم لتقف بجواره بالضبط، تجولت بعينيها في الآفاق بنظرات شموليّة، ثم سألتهُ و تلك الدمعة تعاندها و تودّ الهبوط من عينيها:
- هو أنا هفضل زيك؟
و أطبقت جفنيها بقهر و هي تتابع:
- هفضل أفتكره طول السنين دي زيك.. مش هعرف أنساه أبدًا؟
فأجابها بجديّة شديد و هو يدس كفيه بجيبيّ بنطاله:
- تـؤ.. هتنسيه
نظرت نحوهُ مستوضحة من طرفها، فلم يحد بنظراته و هو يُردف:
- هتنسيه .. انتي معيشتيش معاه
و نظر لعينيها مباشرة و هو يتابع بلهجة عميقة:
- مكنش ليكي كل حاجة في دنيتك.. مكنش في وجوده حياتك و في بعده موتك! مكنش بيمثل لك الأب و الصاحب و الأخ
ثم حاد بنظراتهِ عنها و هو يردف مقوسًا شفتيه بازدراء:
- هتنسيـه! لأن معملش حاجة تخليكي تفتكريه
تقوست شفتيها للأسفل و هي تشيح بوجهها لتحدق أمامها، ثم قالت بخفوتٍ ملتاع:
- بس كنت بحبه!
فقال باقتضاب موجز تشبّع بالجفاء التام:
- ميستاهلش حبك
فـ أطرقت بتحسر و هي تتابع بشجن و قد ترقرقت العبرات في مقلتيها:
- بس حبيته أوي!
التفت نحوها ليتسلط بناظريه عليها و قد استشعر أنها على حافّة انهيار جديد.. كما الأيام السابقة، تتظاهر بالتماسك، و من ثم تكون لحظة واحدة كافية ليجدها تتشتت و يتبدد تجلّدها الزائف، حرر زفيرًا حارًا من صدره حين ارتفعت بأنظارها الدامعة إليه و هي تسأله بتلهف مبحوح:
- هو أنا هنساه امتى؟
أطبق على أسنانه مُستشعرًا عجزهِ أمام حالتها، ارتكزت نظراته على عينيها المستوضحتين و كأنها تنتظر بالفعل أن يجيبها إجابة مُضمدة لجروحها، فزفر محتقنًا و هو يشيح بوجهه عنها، لم يقوَ أن يطيل النظر لعينيها بنظراتها التي كخناجر تطعن في منتصف قلبهِ، و لكنه استشعر عينيها العالقتين عليهِ و كأنها تنتظر إجابتهِ بفارغ الصبر، فـ إذ بهِ يلتفت إليها ليردد بلهجة مُشتدة آمرًا إياها:
- تعالي!
تلك الكلمة كفيلة لتجلعها تنهار، دنت منهُ من فورها.. شبّت على أطراف قدميها لترتمي في أحضانهِ، ملتحمة بهِ التحامًا عنيفًا، و كأنها تودّ لو تدفن نفسها بين ذراعيه، علّ نيرانهِ تُخمد نيرانها، علّ جحيمهِ يكن لها اليوم بردًا و سلامًا، لفّت ذراعيها حول عنقهِ، مدعّمة التصاقها بهِ، و غمرت وجهها في تجويف عنقهِ، فلفحت أنفاسها المتلاحقة بشرته، فلم يلبث أن أحاط جسدها، مشعرًا إياها بوجودهِ جوارها، أصغى "يامن" لنهنهاتها الخافتة الصادرة عنها دون أن تبعد وجهها عن عنقهِ، و كأنها لا تزال تقاوم الانهيار المحتوم حتى الرمق الأخير.. فشعر بالأرض تضيق عليهِ بما رحبت، فحثّها لأن تخرج ما بجبعتها بقولهِ الجامد من بين أسنانهِ المطبقة:
- متكتميش في نفسك، أنا سامعك
صرخة مكبوتة في صدرها انفلتت منها من بين شهقاتها التي تعالت بشكلٍ مباغت عقب مقاومة دامت عدة دقائق كادت تُطبق على أنفاسها فتسلبها إياها، أحكم "يامن" ضمّه لجسدها و هو يحنى رأسهُ ليدفن وجهه المتصلب في تجويف عنقها، و قد شعر باختناقهِ يصل لأقصاهُ، في حين تبللت أهدابها و هي ترفع بصرها للسماء الصافية منتحبة بأنين مسموع مغمغمة من بينهِ:
- كنت بحبه أوي!
أرخت ذراعيها قليلًا عن عنقهِ فابتعد عنها مُضطرًا، استندت هي بجبينها على جبينه و أنفاسها المتهدجة من بين شهقاتها حيط وجههُ أثناء تمتمتها القانطة بصوتٍ اختلجه القهر:
- كنت عايزاه يواجهني.. كنت عايزاه يبرر لي، كنت عايزة أسأله عمل كده ليه فينا!.. سابني و مشى قبل ما يقول حاجة، سابني و مشى ببساطة..آه!
مال بوجهه قليلًا للجانب ليطبع قبلة عميقة على وجنتها، عقب أن نزح بطارف إبهامهِ عبرتها الدافئة، أثناء همسهِ:
- طب اهدى
أحيت فيها قبلتهِ الحانية فكرة نمت و سريعًا ما أينعت في داخلها، فتهدجت أنفاسها و قد شعرت بألسنة النيران المتأججة في جوانحها تكاد تحر الأخضر و اليابس، تحفّزت حواسها لتلك الأفكار السوداوية الناقمة عليهِ و على تواجده، فنهج صدرها علوًا و هبوطًا، ثم دفعتهُ بعنفٍ للخلف، متملصة بعسر من أحضانه، و هي تهدر باهتياج:
- انت السبب!.. وجودي معاك هو اللي قتله، حاولت أنتقم منك و في الآخر أبويا راح بسببك! انت السبب
ارتفع حاجبهُ الأيسر استنكارًا، خطى "يامن" خطوة نحوها و هو يبسط ذراعهِ محاولًا تهدئتها، دون أن يجد للحديث محلّ، فتراجعت للخلف خطوتين نابذة قربهُ:
- متلمسنيش، أنا.. أنا مش عارفة ازاي استسلمت لك زي الغبية، مش عارفة إزاي سيبتك تقرب مني بالبساطة دي!
و أشارت إليهِ بسبابتها و هي تستكمل لومهُ بلهجة محتدمة و قد ارتفع صوتها أكثر:
- و كل حاجة كانت بسببك.. كل حاجة وحشة في حياتي حصلت بسببك إنت
تراخى ذراعه بجوارهِ و هو يشيح ببصره الفاتر عنها، حينما كانت تتابع و قد خبت نبرتها قليلًا فباتت أكثر يأسًا و دموعها لا تتوقف عن الانسدال على وجنتيها:
- كل حاجة كانت بسببك.. دمرتني، خدت مني كل حاجة حلوة في حياتي
و صمتت هنيهة لتلتقط أنفاسها من بين شهقاتها المتألمة، ثم سألتهُ باستهجان:
- لسه إيه في حياتي ممكن أعيش عشانه؟ تقدر تقولي؟
و أشاحت بكفها و هي تتابع بنبرة ممشوجة بالاهتياج:
- حتى أمي هتسيبني و هتمشي و أنا عاجزة عن إني أعملها حاجة!
و صرخت بسخطٍ تملك منها و قد التهب وجهها بالحُمرة الفاقعة:
- و كل ده ليـه؟ بسببك.. زي ما هو بسببي فهو بسببك و بسبب وجودك في حياتي، بسبب إني مراتـك!
انحرفت نظراتهِ الصلبة نحوها ليرتكز بها عليها و وجههُ أشبه بالطود العظيم، بُعثت نظراتهِ المحتدمة، لاح على أعتاب شفتيها ابتسامة ناقمة تكهن "يامن" أن ما سترددهِ من بعدها لن يكن بمحمود العواقب، و بالفعل.. كانت "يارا" تردد و هي ترفع ذقنها في إباءٍ بجمودٍ غلف نبرتها:
- سألتني مرة لو كنت ندمانة و مجاوبتكش!.. فاكر؟
و صمتت هنيهة تتأمل وجههُ الذي اصطبغ بحمرة قانية، و تلك الشعيرات الدموية التي برزت في عينهِ المتأججتين، و فيض النظرات المسعّرة التي رنا بها إليها، فغمغمت بنفور متحدٍ، و بلهجة افتقرت للحياة:
- عايزة أقولك إني مندمتش على حاجة في حياتي قد ندمي في اليوم ده!.. مندمتش قد ندمي للحظة اللي استسلمت فيها، و نسيت كل حاجة عملتها فيا!
اهتزّت عضلة من جانب صدغيهِ إثر إطباقهِ أسنانه و هو يحدجها بنظرات مشتعلة، و لم يقوَ على استماع المزيد مما يصدر عنها في تلك اللحظة تحديدًا، فقطع الخطوة الفاصلة بينهما ليُطبق على عضدها، و سار و هو يسحبها من خلفهِ:
ـ امشي قدامي
حاولت تخليص نفسها من قبضته المحكمة و لكنها فشلت، فهتفت بتأفف:
- بالراحة.. أوف!
بلغ بها جوادهِ فأجبرها على امتطائهِ، فكاد توازنها يُختل و هي تضع قدمها في ركاب السرج، فأحاطها قبل أن تسقط عنه، تبادلت النظرات الحانقة بينهما، حتى دفعها دفعةً خفيفة ليعينها على الثبات، و صعد بوثبة محترفة من خلفها، فكانت تتذمر و:
- كمان كنت هتوقعني!
أحيط خصرها بذراعيهِ وصولًا للجام، و شرع يدير الجواد في الاتجاه العكسيّ للرحيل من تلك البُقعة، حينما كان يقول:
- و لحقتك!.. قولتلك قبل كدا متخافيش طول ما انتي معايا!
فالتفتت لتحدجهُ بنظرة متحديّة أتبعتها بقولها الثابت:
ـ و أنا مبعرفش معنى للخوف غير معاك
أطبق أكثر على أسنانه و قد شعر بالدماء تفور في أوردتهِ و هو يخفض نظراته إليها ليلتقي اشتعالهُ مع تحديها، أطبق بساقيهِ على جسد الجواد فكانت إشارة لهُ منه للهرولة و هو يحيد ببصره عنها ليحدق أمامه في حين طفق الجواد يبتلع الأرضيّة من أسفله و حوافره تنقرها بصوت مميز، و قد بدا وجهه ككتلة متأججة، ثم زَعَق بـ:
ـ و اترميتي ليه في حضني وقت الحريق!.. لجأتي لي ليه و الخوف مبتحسيش بيه غير معايا!
فأجابتهُ متبرمة و هي تحيد بأنظارها عنه:
ـ يعني أنا كنت هموت و انت مسكتها عليا ذلة
فقال آمرًا إياها من بين أسنانهِ المنطبقة:
ـ ردي من غير مراوغات!
زمّت شفتيها ملتزمة الصمت لبضعة ثوانٍ، ثم قالت و هي تلتفت نحوه مجددًا:
ـ انت عايز توصل لإيه؟
أخفض نظراتهِ نحوها و هو يردف بلهجة قاسية:
- متجاوبيش السؤال بسؤال
عضت على شفتها السفلى.. ثم نطقت بغيظ مضيقة عينيها:
- عايز توصل للأني بحس بحاجة و أنا معاك.. عايز توصل لإني بنكر ده لما بفتكر البداية، مش كده!
انحرفت نظراتهِ المحتدة بين زرقاوتيها، فأحادت ببصرها عنهُ أولًا لتردف:
ـ لو ده اللي عايز توصله تبقى غلطان، متقولش بدايتنا!..مينفعش حرف نون يجمعنا ، أنا مش بكن ليك غير الكره.. و مينفعش يكون في احساس تاني في قلبي بعد كل حاجة شوفتها معاك، كان لازم أحسب حساب اللحظة دي، كان لازم أبعد عنك حتى لو كنت جمبك!
تقوست شفتيهِ استهجانًا و هو يصرف بصره عنها، ثم قال بلهجة ذات مغزى:
ـ مكانش ده كلامك في الليلة إيّاها!..و المزرعة تشهد
أحنت نظراتها بقنوط مبتلعة غصة عالقة في حلقها، ثم عادت ترفعها لتتأمل الوسط الذي يتطاير من أمام عينيها مستطردة بجفاف محاولة مواراة المرارة من نبرتها:
ـ حتى بيت المزرعة اللي جمع أي لحظة بيننا سوا راح ، بقى رماد! و دي نهاية علاقة ملهاش أي أساس يا يامن بيه!..احنا في مرحلة الحرق و قريب أوي علاقتنا هتكون رماد! و اللي بيبقى رماد مش بيرجع
فجأر و قد فرغ صبره تمامًا، تزامنًا مع بروز تلك العروق التي تكاد لا تتسع لكمّ الدماء المحتدمة في جانبيّ عنقهِ:
ـ انتي عايزة إيه؟
فهدرت بانفعال هي الأخرى و هي تلتفت نحوه:
ـ انت عايز ايه! انت عايز ايه مني؟ عايزني أسامحك، بس مستخصر فيا كلمة آسف و صعبة على لسانك، حاسس بالذنب..بس مش قادر تعترف بذنبك!
أصرف بصره عنها و هو ينطق من بين أسنانه المطبقة:
ـ معملتش حاجة أحس بالذنب عليها
فاستنكرت قولهُ و هي تغضن جبينها:
ـ و اللي حصل لي من وراك ده كويس
فقال بضجر أصابهُ محاولًا التهرب منها:
ـ انتي عايزة إيه يا يارا!..لخصي
نظرت أمامها و اشعة الشمس تلتقط صفحة وجهها، طردت زفيرًا حارًا متبعة إيّاه بـ:
ـ اللعبة تخلص قبل ما أتورط فيها أكتر من كده! كفاية أوي اللي حصل لي ، طلقني يا يامن!
دفن أي انفعال إثر ما تطالبه بهِ بداخله، و راح يقول ببرود يناقض بشرتهِ التي تتفاقم توهجًا:
ـ مقدرش أطلقك.. نائف مش هيسيبك
فرردت بتحيّر مستنكر، و هي تنزح آثار العبرات العالقة بوجنتيها:
ـ و بعدين؟..مش هعرف أخلص منك
ارتفع جانب ثغره بابتسامة مستخفة و:
ـ في الآخرة بقى ان شاء الله
فهدرت بنفاذ صبر:
ـ أنا بتكلم جد!
ـ و من امتى الهزار من طبعي!
...........................................................
تركها تقطع المسافة الفاصلة بينها و بين الدرجات بتشنج صاحب خطواتها فتابعها بنظراتهِ حتى تنبّه إلى قول "سهير":
- فارس بيه منتظر حضرتك في غرفة المكتب يا باشا
التفت نحوها.. ارتكز بنظراتهِ الغامضة عليها، ثم قال بلهجة متوعدة:
- ليا كلام معاكي يا سهير.. كلام كتير
شعرت بجفاف حلقها، فأحنت نظراتها عنهُ توجسًا منكسة رأسها، ثم استأذنت منهُ للرحيل:
- احم.. عن إذنك
و فرّت من أمامهِ كما لو أنها تفر من موت محتوم، تابعتها نظراته و هو ينفض خصلاته بحركة منفعلة، ثم حرر زفيرًا متوقدًا من صدره و هو ينتقل نحو غرفته، دلف ليجد "فارس" يهب على قدميهِ و هو يخطو نحوه صائحًا:
- يعني إيه الكلام ده؟.. ازاي هتسفر عمر تاني؟ مش كفاية اللي..
قاطعهُ "يامن" و هو يخرج سيجارة و همّ بإشعالها و هو يرمقه بازدراء من طرفهِ:
- عايزني أسيبه لنائف يخلص عليه!
عقد "فارس" حاجبيه و هو يكرر:
- نائـف!
أومأ "يامن" و هو يخطو للداخل، ثم استند بظهرهِ لمقدمة مكتبهِ و هو يبعد السيجارة عن شفتيه:
- أو أبوك.. ما أهو اللي يقتل أخوه يقتل ابن اخوه!
 فقال "فارس" بإيماءة متوعدة عقب أن ترك زفيرًا ملتهبًا:
- ماشي.. هعمل نفسي مصدق
و توسط خصره بكفيه و هو يلتفت نحوه مردفًا بحنق:
- وريني دليلك.. بقالي كتير مستني اللحظة دي، وريني!
دسّ "يامن" سيجارته بشفتيه مجددًا و هو يستقيم في وقفتهِ، ثم خطى بتكاسل نحو المكتبة التي تضمّ العديد من الكتب و الملفات، و في المنتصف يقع رفّ مغلق كخزانة، فتح "يامن" ضلفتها، ترك السيجارة متدلية من جانب شفتيه و هو ينقر الأرقام حتى انفتح باب الخزانة الداخليّ، فأخرج منهُ مظروفًا و تركهُ أعلى الطاولة التي تنتصف الأرائك من خلفهِ، فسارع "فارس" بالتقاطه، تغضن جبينه و هو يقلبه في كفيه، ثم رفع نظراته نحوه و هو يسأل عاقدًا حاجبيه باستغراب:
- إيه ده؟
فحثّهُ على فتحهِ بإشارة من عينيهِ، ففعل "فارس" من فوره، أخرج "فارس" الصور و قد شعر و كأن الصقيع حطّ على جسده فأثلجه، ترك المظروف يسقط أرضًا و هو يتأمل كل صورة على حدا.. والدهُ يُطبق على عنق والدته، صورة التقطت من زاوية مريبة فأظهرت وجهيهما، و ما لبث أن رفع نظراته إليه و هو يهدر بزئيـر ملقيًا الأوراق أرضًا بعنف:
- إيه ده؟ الصور دي مزورة
أزاح "يامن" سيجارتهِ بإصبعيه و هو ينظر نحوه بصلابة ثم قال:
- كنت عارف إنك هتقول ده
و أخرج مظروفًا آخر يضمّ قرص مُدمج حين خطى "فارس" نحوه بعصبيّة، و اختطفه من بين يديه بقوة، شرع يخرجهُ فوجد ظهر القرص يلتمع بعدة ألوان حين سقط عليه ضوء الشمس، ارتفعت أنظار "فارس" الممتعضة نحوهُ، فقال "يامن" و هو يغلق الخزانة:
- أظن مش هتلاقي دليل بعد ده
فخطى "فارس" نحو المكتب، فتح جهاز الحاسوب و أدارهُ نحوه و هو يقول حانقًا:
- الباسوورد إيه؟
مضى "يامن" نحوهُ، و هو يدعس صبابة سيجارته في منفضة في طريقه، حتى توقف جوارهِ، انحنى "يامن" قليلًا لينقر أزرار لوحتهِ، ثم أدارهُ إليه، أدخل "فارس" القرص بمحلهِ، و شرع ينتظر و كأن الثواني تسير كالسنون، حتى تمكن من فتحهِ.
«انقضت عليه ، تقبض على ياقة قميصه ، و هي تصيح باستهجان تام:
- ازاى قدرت تعمل كده ، أنا كنت فاكراك أطيب انسان في الدنيا ، ازاى اتخدعت فيك السنين دى كلها ،أنا مش مصدقة !
اتسعت حدقتاه في صدمة ، كان آخر ما توقعه أن تكون قد استمعت الى محادثته ، قبض على كفيها ، و قد اشتعل رأسه من الغيظ و انتفخت أوداجه ، و  دفعها للخلف بعنف ،فهدرت بصوتها عاليا :
_ مش هتقدر توقفنى يا كمال ، أنا هقولهم على كل حاجة ، لازم تتعاقب على جريمتك !
و أوفضت نحو الباب و لكنها لم تكد تخطو خطوة واحدة إلا و كان يجتذبها بعنف من خصلاتها إليهِ، قبض بـ كفه على فـكها ، و حدجها بنظرات مميتة ، متجاهلا صراخها ، كشر عن أسنانه و هو يردد بـ شراسة لم تعهدها من قبل :
_ اسمعى يا***** لو فتحتى بوقك ، هوريكى  اتقى شرى أحسنلك !
تآوهت من عنفه ، و حاولت تخليص شعرها _ الذى شعرت به يقتلعه من جذوره _من قبضته ، و لكنها فشلت ، فقالت بازدراء :
_ هقول يا كمال ، الساكت عن الحق شيطان أخرس  و أنا مش هسكت عن حاجة زى دى ، مش هعيش مع قاتل زيك
و بصعوبة جمّة تخلصت من إطباق كفيهِ و تملصت منه، ضربتهُ بمرفقها في جانب معدتهِ فتأوه و هو يتلمسها بأناملهِ، استغلت "ريم" الفرصة و أوفضت نحو الباب، و لكنهُ كان الأسرع، حيث انحنى ليجتذب البساط من أسفلها فأسقطها أرضًا، تعالى صراخها و قبل أن تهمّ بالنهوض كان "كمال" يجثو فوقها ليعيق حركتها مُطبقًا بكفيه على عنقها، تلوت من أسفله و قد جحظت عيناها محاولة الخلاص منه، و لكنهُ كان يشدد أكثر من قبضتيه حتى يجتثّ روحها، خدشتهُ "ريم" في كفيه لأكثر من مرة و لكنه لم يتأثر و لم يتأوه حتى، فبسط كفيها جوارها بحركة عشوائية محاولة إيجاد ما ينقذها، حتى تلمست إحدى قطع الأنتيكة ملقاة أرضًا و قد بدى أنها دفعتها و هي تركض، أناملها فقط تتلمسها، و لكنها لم تتمكن من الإطباق عليها، فتأوهت و هي تحاول أن تتنحى بجسدها للجانب قليلًا من أسفله حتى نجحت، فسحبتها "ريم" من فورها و ضربتهُ بها بقسوة في جانب رأسهِ، صرخ "كمال" متأوهًا و هو يهبّ على قدميه يسبها بأقذع الألفاظ فاستغلت فرصة إنشغاله، تزحزحت بجسدها عن الأرضية و رئتيها تُملآن بالأكسجين مجددًا، استندت بكفيها على الأرضية و هي تنهض مستعينة بطاقة الغضب المكبوتة بداخلها، حتى تمكنت من الوقوف، تكاد تبلغ باب الغرفة، و لكنهُ لم يكن يتركها تنجو ببساطة، و فجأة وجدت جسدها يندفع بعنف للحائط ثم أدارها إليهِ ليلتصق ظهرها بالجدار من خلفها، أطبق "كمال" بكفيه على عنقها  مجددًا، و هو يردد بتوعد شرس بنبرة خالية من الحياة :
_ انتى مش لازم تعيشي أبدا ، سمعتى ، هقتلك زى ما قتلته ، هقتلــــك !
حملقت بهِ بأعين متوسعة،.. حاولت الحديث لتستميله عله يتركها ، فقالت بصعوبة ، و بصوت متقطع :
_ أنـ..ا أنا حا...حامل يا .. كمال ، هتقتل ابنك معايا !
 ولكنه لم يكترث بل و أطبق على عنقها أكثر حتى شحب لون وجهها ، و  تراخى جسدها بين يديه، مطبقة جفنيها ، فترك عنقها ، لتسقط على الأرضية جثة هامدة !
نهج صدره علوًا و هبوطًا ، و حرر ربطة عنقه قليلا ، و هو ينظر لها ، بل لجثتها باحتدام، ثم غمغم ببرود تام و كأنه لم يرتكب جريمتين قبل ثوان معدودة:
_ معلش يا ريم ، كان لازم تموتى ، بدل ما أتعلق على حبل المشنقة !
...................................................
...........................
...........................................................................
 
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now