"الفصل الرابع و الخمسون"2

634 16 0
                                    

انحنت "حبيبة" بجسدها لتترك الحامل المعدني الذي ارتُص فوقه أقداح الشاي المتطاير منهُ البخار بجانب بعض قِطع الحلوى، و راحت تجلس بجوار ابنتها الذابلة بأنفها المنتفخ و قد تركت الهالات السوداء آثارها أسفل جفنيها، جلست كلتاهما تتأملان بملامح متعجبة ضيفتهما التي بدى الاشمئزاز على صفحة وجهها الذي تقلّص قليلًا دون مقصد و هي تشمل المنزل بأعينها، حتى انتشلتها "حبيبة" من حالتها تلك و هي تقول محمحمة محاولة إزاحة التحشرج عن صوتها:
- حضرتك ازاي بتقولي تعرفينا؟.. أنا أول مرة أشوفك
حاولت أن تبسط ملامحها قليلًا و هي تزدري ريقها، ثم نظرت لابنتها "ولاء" مطولًا قبل أن تبدأ حديثها و هي ترسُم بسمة متكلفة على ثغرها:
- أنا هعرفك بنفسي
 و نظرت نحو قدح الشاي نظرة مطولة عميقة و كأنها قد شردت قليلًا، ثم غمغمت بغير هُدى:
- كان لازم نتعرف من زمان.. و جه الوقت لده
......................................................
تطلّع بعينينِ متوهجتين لذلك الدخّان المتصاعِد، و كأنما ينبعثُ من ألسنة النيران التي نشبت و تولّدت في داخلهِ، و قد عبث الندم بهِ و بنفسه فأدماها، ندمٌ غلف بحقدٍ اشتعل في قلبهِ تجاه من تسبب في مقتل من بقى لهُ على قيد الحياة، و أضحى اليوم بين أحضان مقبرةٍ باردة الجدران، وحيدًا كما كان دومًا، يلقى نهاية من أبشع النهايات على الإطلاق.
 
 في أحضان ذلك المقهى المطل مباشرة على النيل، تناول "عُمر" قدحهِ، و أنظارهِ قد حادت لتلقى على فيض المياه المنساب جوارهِ بتؤدة، و قد بزغت نظرة خاوية من الحياة من مقلتيهِ، و ببطءٍ شرع يحتسي كوب الشاي الخاص بهِ، گنفحاتٍ تلهب حواسّه كانت تلك النسمات الباردة التي ترطمُ صفحة وجههِ، فـ أطبق جفونه للحظاتٍ ساحبًا شهيقًا عميقًا لفظه دفعة واحدة، انتبه إلى تلك الذبذبة التي انتقلت من الهاتف المهتزّ للطاولة، و المفعّل به وضعية الصامت، فلم يكترث حتى لأن يُسقط بصره عليهِ، متيقّنًا من كونهِ "فارس"، حتى انتهى.. فـ ترك قدحهِ جانبًا، و من محفظته أخرج وريقات نقدية وضعهم أعلى الطاولة، و سحب هاتفهِ ليضعه في جيب بنطالهِ الخلفيّ، و انصرف بارحًا المكان بخطى تخلو من الحياة.
........................................................................
نهض و گأن عقربًا لدغهُ و هو يسحق سيجارته في المنفضة، ارتاعت "يارا" فسألتهُ بتوجّس:
ـ في ايـه؟
ترك مجلسهم و اتجه نحو مكتبه، و راح يجرى اتصالًا سريعًا و قد توهج وجهه اثر اندفاع دمائهِ الفائرة فيه، ثُم بزغ صوته المحتدم:
ـ  تتصرف و تجيبلي موقع الرقم دا، دقايق و يكون عندي
و هدر بكلمته الأخيرة و هو يضرب براحتهِ سطح مكتبه، ثم أنهى المكالمة و شرع في إرسالهِ، حينما كان "مايكل" قد أوفض نحوه و هو يسأله في ارتياب من ذلك التغير الذي حل به:
ـ what happened?
و لكنه كان بواد آخر.. واد لا يحوي غيرهُ و جحيمه الذي يستعرّ أكثر يومًا بعد يوم بدلًا من أن يُخمد، أجرى اتصالًا آخر و حالما أتاهُ الرد هدر باهتياج:
ـ انت فيــن؟.. زحمة و زفت ايه؟
و أشار بسبابته و هو يأمرهُ أمرًا قاطعًا:
ـ ربع ساعة بالكتير و تكون عندي يا فارس.. خلــص، انت لسه هتسأل؟
و أنهى تلك المكالمة ليجيب أخرى على الانتظار و أمعن السمع فشعر ببركانهِ يثور:
ـ يعني ايه خارج الخدمة! انتو بهايـم، حتة واد ميسواش تلاتة مليم مش عارفين تجيبوهولي
و قذف الهاتف عقب أن أنهى المكالمة أعلى مكتبهِ، أطبق أسنانه بغيظ شديد و هو يستند بكفيه على سطحهِ، حتى انتبه إلى كفها الحاني الذي اتخذ من كتفه محلًا، فالتفت نصف التفاتة ليرمقها بطرفه، ثم نطق من بين اسنانه مزمجرًا:
ـ خدي صاحبتك و اطلعوا فوق
فسألته بوجل لاح على تقاسيمها:
ـ طب انت كويس؟
فالتفت لينظر إليها نظرة محتدة أجبرتها على الإيماء برأسها و هي تتراجع و من ثم سحبت صديقتها التي تحرجت من ذلك الوضع الذي حُشرت فيه، و صحبتها للخارج حينما كانت "رهيف" ترفع حقيبتها على كتفها و هي تهمس لها:
ـ أطلع ليه؟.. أنا لازم أمشي
فأطبقت على ساعدها و هي تقول محاولة أن تجد من يُخفف عنها شعور التوتر الذي ساد في نفسها:
ـ خليكي معايا شوية، مش هتخسري حاجة
فحمحمت "رهيف" حرجًا و هي تستشعر اضطراب الوسط:
ـ انتي مش شايفة الوضع عامل ازاي؟
تنهدت "يارا" بحرارة فور ان خرجا من الغرفة، ثم رددت بقنوطٍ:
ـ هو كدا، ميعديش يومين غير و بيحصل كدا
و نظرت للخلف و قد ارتابت قليلًا فقالت بحنق:
‏ـ بس المرة دي غير.. واضح إن نائف الزفت بعتله حاجة، و برضو مقدرش يوصله
‏ كان الوضع على أشُدّه.. يتجول في الوسط و جسده يبعث إليه حرارة رهيبة تغلغلت لجسده اثر اندفاع الدماء بقوة في عروقه، وجههُ قد اصطبغ بالحمرة. بينما "مايكل" يتوالى عليه بالأسئلة:
‏ـ Yamen..what happened to you?.. are you okay?
‏زفر "يامن" بحنق أشد و هو يحكّ جلد عنقه بانفعال، حل أزرار قميصه الأولى حتى منتصف صدره بعنف فاقتطع بعضهم و تناثروا.. و أتبع ذلك بخلعه سترته و ألقاها ارضًا و هو يزمجر غاضبًا، فتنهد "مايكل" و هو يقول:
‏ـ look.. آلم "أعلم" أن ليس من شأني?But..Who Is he
‏زجرهُ "يامن" بقولهِ المُحتد و قد فرغ مخزونهِ من الصبر:
‏ـ مايكل.. سيبني في حالي، أنا مش ناقص
‏و ما هي إلا ثوانٍ و كان "فارس" يقتحم الغرفة دون سابق إنذار، و هو يسأله:
‏ـ وصلت لايه؟
‏فقال "مايكل" مُغلقًا زر سترتهِ و هو يتهيأ للانصراف:
‏ـ سأرهل.. يمكنكما الهديث بأريهية
‏ربت "فارس" على كتفه بقوة، ممتننًا لتفهّمهِ:
‏ـ هكلمك يا مايكل
‏و فور أن انسحب من الوسط كان "فارس" يلتفت لـ "يامن" فيسأله مجددًا:
‏ـ وصلت لحاجة؟
فهدر "يامن" باهتياج و هو يشيح بكفه:
 ـ و لا أي حاجة.. أصلي مشغل عندي شوية بهايم
طرد "فارس" أنفاسه الملتهبة ثم قال بتريث:
ـ انت عارف ان مش هيلاقوه بسهولة.. اهدى كدا و حاول تـ.....
قاطعهُ "يامن" و هو يلكم الجدار بقبضته المتكورة:
ـ أهدى.. أهدى ازاي؟ أهدى ازاي و ابن الـ***** دا عايش و بيتنفس
تغضن جبين "فارس" و هو يسأله بفضول:
ـ هو قال ايه خلاك تبقى في الحالة دي؟
فأشار "يامن" بسبابته و هو يجأر بـ:
ـ هددني بمراتي.. الـ***** عايز يلوي دراعي
فتظاهر "فارس" بالبلادة و هو يشيح بلا اكتراث:
ـ هو دا اللي حارق دمك اوي كدا
شعر "يامن" و كأن رأسه يغلي من فرط انفعاله، فاحتدم و قد بزغت عروق جبينه:
ـ فــارس، أنا مش ناقص غباء
فدنا "فارس" منه و هو يعقد حاجبيه باستهجان:
ـ ما تعترف بقى يا يامن لنفسك و تخلصني
و أشار بكفه و هو يسأله مستنكرًا:
ـ انت مش شايف نفسك بتعمل ايه عشانها يا يامن.. انت بجد مش حاسس؟!
فـ كشر "يامن" عن أنيابه و هو يرمقه بنطرة حامية:
ـ انت شايفني فايق لكلامك دا دلوقتي؟
فأجاب "فارس" بلهجة قوية:
ـ مفيش أنسب من الوقت دا.. صدقني
و ضاقت عيناهُ و هو يسأله بفتور:
ـ انت متجوزها عشان تنتقم منها.. و لا عشان تدافع عنها؟
أشاح "يامن" بنظراته المحتدمة عنه و هو يمسح على وجهه بعنف حتى احمر جلده أكثر، فراح "فارس" يسأله بلهجة اشد بأسًا:
ـ ما تتكلم.. رد، جاوب، اعمل اي حاجة
فهدر به باهتياج شديد رافضًا أن يمنح نفسهُ حتى تفسيرًا:
ـ مش عايـز!
فكان "فارس" واقعيّا في قولهِ، و قد ضاقت عيناهُ:
ـ مش عايز و لا مش قادر ، لأنها في نفس الوقت بنت حسين ، فمش عايز تسبب غير في الحزن و التعاسة ليها في الظاهر..لكن انت من جواك عايز مصلحتها.. و لا أقولك كلمة توصف حالتك.. انت أصلًا مش عارف!
ازدرد ريقهُ و هو يعطف نظراتهِ المُحتفطة باحتدامها نحوه ، شعر بدمائهِ تتدفق بعروقه فبرزت عروق نحره بوضوح ، بينما لم يكفّ الأخير و راح يتابع:
ـ انت عايز تأذيها.. بس مش قادر ، عايز تنتقم من أبوها فيها ، بس لما بتشوقها بتتعذب بتنسى انها بنته!..يامن انت بقيت غريب، انت مش ملاحظ؟ ليه لما بتتكلم بتقول مراتي.. مع ان أنا و انت عارفين انت متجوزها عشان ايه!..و ان جوازك منها متعداش كون ان اسمك و اسمها اتحطوا جمب بعض في ورقة..  لا أكتر و لا أقل!
طرد زفيرًا مُضطرمًا من ثنايا صدره ، ثم تركه و مضى نحو الحاجز الزجاجي ، عقد ساعديه أمام صدره و راح يتأمل الأفق بذهنٍ شارد ، حتى تحركت شفتاه ليتمتم بصوتٍ مُتصلب:
ـ كنت فاكر كده!..كنت فاكر ان جوازي منها مجرد ضربة قاضية لـ حسين ، انتصار جديد عليه ، حبيت اعذبه بيها ، كانت مجرد غرض يوصلني لانتقامي ، كنت فاكر ان الجواز حاجة ملهاش قيمة.. و انه مش هيتعدي كون ان اسمي و اسمها يتحطوا جمب بعض
تعجّب من استرسالهِ في الحديث و قد اعتقدهُ كـ سابق عهدهِ ، سيلوذ بالفرار مُتكتمًا عما يجول بخاطره ، أولاه جمّ اهتمامهِ ، و أصغى إلى استدراكهِ التائه :
ـ و في لحظة كل حاجة اتغيرت.. حسيت انها مسؤلة مني!
افترّ ثغرهُ عن بسمةٍ ساخرة قبل ان يتمتم متهكمًا و هو يدس كفيه بجيبه مقلبًا عينيه بضجر:
ـ و بدل ما أأذيها.. بقيت أنا المسؤل عنها و عن حمايتها!
فـ دنا منه ليضع كفه على كتفه متمتمًا بلهجةٍ بدت جادة للغاية:
ـ طب و ليه متقولش انك حاسس بحاجة ناحيتها
انتزع  "يامن" كفه بعيدًا و قد أصرف بصرهُ تلقائهِ لثوانٍ ، ثم عطف نظراته بعيدًا عنه و هو يردد بنبرة ثابتة، تتناسب مع ملامح وجههِ الصلبة:
ـ الموضوع ملوش علاقة بالمشاعر..مجرد احساس بالمسؤولية لأنها رسميًا مراتي مش أكتر!
ثم عاد يرتكز بناظريهِ عليه ليردد بنبرة قاتمة و هو يلتفت نحوه مجددًا:
ـ مراتي يا فارس.. اللي مكنتش حاسب حسابه ان اللحظة اللي بقت فيها مراتي فهي اتحولت من بنت حسين الحديدي لحرم يامن الصياد، بقت جزء مني أنا مش منه، بقت تخصني أنا مش تخصه هو!..اللحظة اللي اسم يارا الحديدي اتحط فيها جمب يامن الصياد ممثلتش مجرد اسمين.. مثلت حياة، حياة اتكتب عليا أعيشها مع بنت عدوي..و المفروض أتحمل ده ، لان انا اللي كتبته بإيدي!
زفر حانقًا و هو يدس كفيه بجيبيه و رمقه بتحدٍ ثم قال و قد فرِغ صبره:
ـ يعني ميمشيش معاك ان الموضوع أكتر من كونها رسميًا مراتك؟
حانت إليه نظرة نحوه من زاوية عينه ثم ردد بضجر لم يخلُ من السخرية المريرة:
ـ ما قولتلك يا فارس.. قلبي مات من زمان!
ثم قال مغيّرًا دفة الحديث بتشنج واضح بدى على تقاسيم وجهه و عضلات عنقهِ:
ـ الواد دا جاب آخره معايا
و مضى متحركًا من أمامه، و لكنه زفر متأففًا عندما صدح صوت رنين هاتفه:
ـ احنا مش هنخلص بقى
و تناول هاتفهِ.. انكمشت المسافة بين حاجبيهِ، و قد عبثت الأفكار في ذهنه و هو يجد اسمها منبثقًا لدى شاشتهِ، و لم يترقّب ثانية، بل أجاب من فورهِ:
ـ في إيه؟
و صمت هنيهة يستوعب ما قالتهُ تلك السيّدة ثم صاح بتمقّط:
ـ إيــه؟.. ازاي تعملي حاجة زي دي من عير ما ترجعيلي
و لم يستمع لتبريراتها الواهية، بل أنهى المُكالمة من فورهِ و راح يخرج من الغرفة تلاحقه أسئلة "فارس" الضجرة:
ـ ايه اللي حصل تاني؟
و فور أن خرج من الغرفة جأر بـ:
ـ يـارا
فكانت تجلس على إحدى الأرائك بالبهو، تركت قدح مشروب أوراق النعناع الطازجة و المهدئة نوعًا ما للأعصاب أعلى الطاولة المستطيلة ذات المظهر الفخم، نهضت من فورها و هي تدنو منه مقبلة عليه من خلفهِ:
ـ في ايه؟
التفت نحوها.. تمعّن أولًا التدقيق بملامحها فارتاحت نفسه قليلًا كونها لم تدرك بعد ما يحدث على جانبٍ آخر، ثم بسط كفه و هو يقول بحزم:
ـ موبايلك
و تلفت حوله ريثما تخرج هاتفها من جيبها:
ـ رهيف فيـن؟
فغمغمت باقتضاب من بين أسنانها المُطبقة و هي تضع هاتفها الجديد بكفه:
ـ مشيت
و كأنهُ ارتاح قليلًا عقب رحيلها ايضًا، شرع يعبث بغطاء هاتفها و هو يأمرها بـ:
ـ طب اطلعي غيري هدومك
تغضن جبينها و هي تسأله بفضول:
ـ ليـه؟
فقال دون أن يعيرها نظرة واحدة:
ـ هتعرفي
تلك الكلمة للحق تثير زوبعتها و تستفزها لأقصى حد، انتفخت وجنتيها غيظًا و هي تشيعه بنظراتها الساخطة، ثم نفخت و هي تتحرك لتصعد للأعلى، في حين كان "يامن" ينزع خط الهاتف و يدسه بجيبه تحسّبا لما قد يحدث، زفر بامتعاض شديد ثم راحت أنظاره تتجه للأعلى لتتابع طيفها.. لاح أمام عينيه ذاك اليوم، ما حلّ بها حين علمت أن والدها ثريّا، و لكنه كان يواري ذلك عنهنّ و تركهنّ هكذا يعانين الفقر المدقع و محتجزون في فوهتـهِ الخانقة، و إن علمت كيف حصل على تلك الأموال الطائلة.. فـ ماذا سـ تفعل؟!.
...........................................
!
.........................................................

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now