"الفصل الرابع"

711 17 0
                                    

"الفصل الرابع"
و

گأن لا يسري بأوردتهم سوى الشياطين.
____________________________________________
- لو سمحت
انتبه الى ذلك الصوت الأنثوي على مقربةٍ منه فرفع نظراتهُ إليها ليتجعّد جبينه إثر تقطيبه ، انتفض واقفًا و هو يتمتم متلهفًا :
- يامن عامل ايه ؟ هو هيخرج ؟
هزت الممرضة رأسها نفيًا و رفعت كتفيها لتعرب عن عدم معرفتها :
- مش عارفة ، هو لسه في العمليات
امتقع وجهه على الفور و قلب عينيه بضجر و هو يتمتم متذمرًا :
- أومال في إيه ؟
فـ بسطت كفها له بحقيبة بلاستيكية:
- اتفضل .. دي متعلقات و ملابس المريض
و كأنها غرست أشواكًا حادة النصل بمنتصف فؤاده ، أخفض نظراته ليتسلط على ثيابهُ اكتظت الحقيبة بها ، و بأيدٍ مرتجفة سحب الحقيبة منها بينما عاودت هي أدراجها ، ارتخت ساقيهِ لينهار جسده على المقعد المعدني ، انتشل من داخل الحقيبة سترته السوداء گحياتهِ تمامًا ، تجمعت الدموع في مقلتيه و هو يقربها من أنفه ليشتم رائحة عطره المميز التي تعبقت بها و التي لطالما كانت يسترقها منه ، أبعد ناظريهِ عن السترة لتجول بنظراتهِ عليها حتى شعر بتثلج أطرافه و هو يجد بُقعة الدماء تُلطخها ، اعتصر الألم فؤاده بلا هوادة فـ لم يتمكن من كبح دموعه ، انهمرت دموعهِ الدافئة على وجنتيهِ و ضمها بانفعال عاطفي الى صدرهِ و كأنه يود لو يدفنها بهِ ، انتبه الى صوت خطوات تقترب منه ، فـ أبعد السترة عنه بأيدٍ مرتجفة ، ثم التفت ليتفاجئ بـ " فارس" يُقبل عليهِ و هي برفقتهِ ، غلت الدماء في أوردتهِ و انتفخت أوداجه ، توهج وجهه بحمرة غاضبة ، كز بعنفٍ على أسنانهِ و هو ينتصب ليمضي نحوهما هادرًا بنبرة ساخطة :
- دي بتعمل ايه هنا ؟ انت مش قولت هتـ...
نظر لهُ " فارس" من طرف عين ، ثم دفعهُ برفقٍ ليتمكن من العبور بدون أن ينبس ببنت شفة ، مضى نحو المقاعد المعدنية بينما سار " عمر" خلفه متغضّن الجبين هاتفًا :
- رد عليا يا فارس ، دي جاية تعمل ايه ؟
زفر  " فارس" بضيق و هو يعاونها لتعتلي أحد المقاعد بينما كانت و كأنها بعالم آخر ، كانت تهذي بكلماتٍ غير مفهومة ، كاد " عمر" أن يتحدث من جديد فـ رمقه " فارس" بنظرة حانقة من زاوية عينه جعلتهُ يبتلع ما كاد يتفوه بهِ و هو يحدقا بنظراتٍ مستشاطة ، بينما عاد " فارس" ينظر اليها و جثى على ركبتيهِ أمامها ، ثم أخرج محرمة ورقية مشربة بالمياه من جيب سُترتهِ و عرض عليها :
- هاتي ايدك أمسح الدم ده عنها
كاد أن يجتذب كفيها اليهِ فـ سحبتهما على الفور و هي تهز رأسها نفيًا و الدموع تشق طريقها على وجنتيها :
- لأ ، هسيبه كده يفكرني بجريمتي
طرد " فارس" زفيرًا حارًا من بين شفتيهِ و هو يجفل بصره عنها ، بينما دفنت وجهها بين كفيها و قد تعالى صوت شهقاتها ، رفع " عمر" حاجبه الأيسر استنكارًا و لم يقتنع مطلقًا بذلك التمثيل الذي افتعلتهُ من وجهة نظره ثم أشاح بوجهه عن كلاهما ، بينما انتصب " فارس" و أشار نحو " عمر" الذي دنا منه على الفور و هو يتمتم بنبرة مستهجنة :
- دي ايه اللي رجعها دي ؟
فـ قبض برفقٍ على مرفقهِ و هو يأمرهُ ليبتعد عن محيطها :
- تعالى معايا
خمسة عشر دقيقة .. ثلاثون .. ستون .. لم تعلم كم مضى عليها و هي متجمدة بمحلها ، هي شعرت بمرور الوقت گالسنون بينما لم يتعدَ الأمر كونه بضع دقائق لم تصل إلى العشر ، انتبهت إلى تلك الحقيبة المستندة بجوارها الى المقعد ، فـ كفكفت عبراتها بروية ثم التقطته بأيدٍ مرتجفة و قد اخترقت رائحته المميزة أنفها ، و بالفعل كان تخمينها صوابًا ، انها ملابسه ، التقطت أولًا سترته سارت بعينيها عليها و هي تتذكر تلك اللحظات العصيبة ، تلمست بأطراف أناملها بُقعة الدماء التي تخضبت بها ، فـ شعرت بشعور مريب ، هي حقًا تجهل شعورها ، من ناحية تتمنى لو ينتشلهُ الموت من حياتها ليخلصها من ذلك الكابوس و ينفض أناملها التي تقبض على قلبها فـ تعتصره ، و من ناحية أخرى تود لو باستطاعتها العودة بالزمن للخلف للتمكن من تغيير ما حدث ، ارتخى كفيها عن السترة و هي تنتصب بروية في وقفتها و قد انتبهت إلى الباب يُفتح و قد ولج الطبيب خارجًا ، ارتفع حاجبه الأيسر و هو يتلفت باحثًا عن ذلك الفظّ فلم يجد سواها فـ تقدم بخطواته ناحيتها فغرت شفتيها و حملقت بهِ بذعر ، فما سيتفوه بهِ تقريبًا مصير حياتها وقف الأخير الى بعد خطوتين منها و هو يردد بصوتٍ ممتعض:
- تخطى مرحلة الخطر ، لكن لسه الحالة مش مستقرة ، هنضطر ننقلهُ لغرفة في العناية المركزة .. عن اذنك
و كأن روحها رُدت اليها بالرغم من عدم استقرار حالتهِ ، إلا أنه الى الآن على الأقل .. قيد الحياة ، تابعت الطبيب بأعين شاردة و هو يمضي مبتعدًا ، و ازدردت ريقها و هي تحتضن نفسها بذراعيها محاولة بث شعور الطمأنينة إلى نفسها ، حتى انفتح الباب مرة أخرى بعد دقائق ، نظرة واحدة اختلستها منهُ قبل أن يلتف الجميع من حولهِ ليدفعون السرير النقال إلى حيث المصعد ثم يتم نقله الى غرفة العناية المركزة ، لم تتمكن من انتشال أكثر من نظرةٍ واحدة لم تتبين لهُ فيها ملامحه ، و لكنها كانت كافيه لتشعر بهيبتهِ الطاغية حتى و هو مُسطحًا بين الحياة و الموت ، ازدردت ريقها و هي تستوقف احداهن تستعلم منها عن غرفتهِ الجديدة ، ثم اقتادت قدميها التي حملتها جبرًا لتنتقل إلى حيث هو ، دنت من الحاجز الزجاجي لتُصعق مما رأت ، و كأن أحدهم سكب دلوًا من الثلج فوق رأسها ، تثلجت أطرافها و حملقت عيناها بذهول ، فغرت شفتيها من فرط الصدمة و هي ترى جسده مسجي أمامها و تلك الأسلاك الطبية موصولة بجسدهِ ،  مشهدًا جعل الأرض تتزلزل من تحت أقدامها ، فـ ها هو الذي اعتقدت أنه لن ينهار يومًا و سيظل بجبروتهِ شامخًا لا يقوَ أحدهم على مجابهتهِ ، ها هو من ظنّت أنه من فرط تجبرهِ سيُخلد لن يواجهه ملك الموت يومًا ، حاليًا هو گسائر البشر لا حول لهُ و لا قوة ، ارتفعت أناملها المرتجفة لتتلمس الحائل الزجاجي ، و على الفور تحركت نحو الباب و فور أن تلمست راحتها المقبض وجدت من يُحذرها بصوتٍ أجش :
- ممنوع يا مدام
انتفض جسدها و هي تلتفت نحوه گالملسوعة ، لترى ممرضًا استرسل حديثه :
- ممنوع الدخول
نهج صدرها علوًا و هبوطًا في تهدجٍ، ثم سحبت شهيقًا عميقًا، زفرتهُ دفعة واحدة، محاولة
استعاد اتزانها ، ثم نظرت نحوه باضطراب و هي تردد بتردد :
- لو .. لو سمحت أنا .. أنا مش هطول ، عايـ..
فـ قاطعها بنبرةٍ قاطعة باقتضاب و كأنه لا يحفظ إلا تلك الكلمة :
- ممنوع
قطبت حاجبيها و هي تتمتم بنبرة أقرب للتوسل :
- أنا هشوفه بس و ..
- ممنوع !
قالها بنبرة باردة ثم انصرف بينما تابعتهُ بنظراتٍ مغتاظة و هي تنفخ بضيق ، لانت نظراتها شيئًا فـ شيئًا و قد حانت منها التفاتة نحو الحائل الزجاجي مجددًا ، حتى انتبهت إلى الباب يُفتح و تدلف الممرضة خارجًا تحمل بكفيها حاملًا معدنيًا يحمل فوقه أدوات طبية و أدوية و ما إلى ذلك.. ترتدي ملابسًا مُعقمة ، و كادت تنصرف مبتعدة فـ استوقفتها " يارا" وهي تقبض على مرفقها متمتمة بتوسل :
- لو سمحتي استني
التفتت الممرضة و قد تغضّن جبينها و ضيقت عينيها :
- خير حضرتك ؟
ازدردت ريقها و قد ارتسم التوتر على صفحةِ وجهها ، ثم حانت منها التفاتة للحائل لتُلقي نظرة عليهِ فـ تمتمت الممرضة بشئ من الضجر و هي تجتذب مرفقها برفق :
- في حاجة حضرتك ؟ أنا مش فاضية
نظرت نحوها بارتباك مضاعف ثم سحب شهيقًا عميقًا زفرتهُ على مهلٍ و هي تتمتم بنبرة أقرب للرجاء :
- لو سمحتي خليني أدخل ثواني .. ثواني بس أنا .. أنا مش هتأخر
زمت الممرضة شفتيها بضيقٍ و هي تردد :
- مينفعش يا مدام ، الزيارة ممنوعة، حالة المريض متسمحش تشوفيه
ثم استدارت و كادت تمضي في طريقها فـ تبعتها لتقف أممها تسد الطريق عليها ، ثم قالت بتوسل :
- لو سمحتي .. لو سمحتي صدقيني مش هتأخر ، أنا .. أنا هشوفه بس ، مش هطول ، و مش هقول لحد ، أرجوكي تسيبيني أدخل
طردت الأخيرة زفيرًا حارًا من بين شفتيها و هي تنظر نحوها منى طرف عين ثم تمتمت بتذمر :
- مينفعش اللي حضرتك بتعمليه ده ، انتي كده هتجلبيلي مشاكل في شغلي أنا في غنى عنها
نظرت نحوها بأعين كادت تفيض بالدمع :
-  لو سمحتي صدقيني مش هطول ، مجرد دقائق مش أكتر
زفرت الأخيرة بـ حنق ثم أحنت بصرها عنها لثوانٍ حتى رددت بنبرة قانطة :
- تمام أنا هدخلك ، بس زي ما بقولتي ، دقائق و تخرجي
انفرجت شفتاها بابتسامة عذبة و التمعت عيناها و هي تشكرها:
- أنا .. أنا متشكرة جدًا ، مش عارفة أقولك ايه
فـ تلفتت الممرضة لتُلقي نظرة شاملة على المكان ثم أشارت لها للدلوف، مشيرة إلى ضرورة اقصائها عن الموضوع:
- ادخلي .. بس لو حد من الدكاترة لقاكي جوا تخرجيني من الموضوع ده ، أنا مش مستعدة أخسر شغلي
أومأت برأسها العديد من المرات مُعربة عن موافقتها ، بينما مضت الممرضة مبتعدة عن الكان بـ مسافةٍ معقولة تُمكنها من متابعة ما سـ يجري ، تحركت " يارا" بخطوات مترددة حتى وصلت نحو الباب ، أدارت المقبض بحذرٍ و هي تتلفت حولها حتى دلفت و أوصدتهُ من خلفها ، استدارت بروية حتى وقعت عيناها عليه ، ارتجافة سرت بـخلاياها و قد تضاعفت رؤياه وضوحًا من تلك المسافة ، اضطربت أنفاسها و هي تُجبر ساقيها على التقدم في خطواتها ناحية فراشهِ حتى توقفت بجواره ، تمعنت النظر لملامحهُ الشاحبة و بالرغم من ذلك فـ مازال يحتفظ بملامحه الصارمة ، استطاعت أن تشعر بـ هيبته و كأنه ليس مسجيًا على فراش أمامها معلقًا ما بين الحياة أو الموت، تلك الأسلاك التي تخرج من جسده كانت كافية لزرع الهلاوس بنفسها ، لم تُبشر بالخير مطلقًا ، تنبأت بأنهُ سيلقى حتفه على الفور بالرغم من معرفتها بأنه صلب لا يتأثر أي أنه شديد التحمل ، و لكن ما رأته كان غير ، و كأنه كان ينتظر تلك اللحظة بفارغ الصبر ليُفارق الحياة ، لم تكن تتوقع مطلقًا أن تجده هكذا و قد كان گالفرعون في طغيانهِ و ظلمهِ و تجبره من وجهة نظرها ، هبطت نظراتها لتجد صدره عاريًا و موضع طعنتها له مغلفًا بـ الشاش الطبي ، سحبت شهيقًا عميقًا زفرته على مهلٍ محاولة تنظيم أنفاسها ، دقات قلبها كانت تتزايد بشكلٍ و ترها ، بينما دقات قلبهِ هو و التي صدرت من جهاز قياس النبضات كانت منخفضة و كأنها لم يعد لها سوى بضع دقائق و يصدر الجهاز صوتًا مُطولًا يُعلن به توقفها .. إلى الأبد ، حاولت أن تطرد تلك الأفكار المتزاحمة عن عقلها ، التقطت كفهُ و أزاحته لتتمكن من الجلوس أمامه و قد شعرت بأن ساقيها سيتخليان عنها بعد ثوانٍ ، كانت نظراتها مسلطة على ملامحه ، حتى أحنت بصرها عنه و قد شقت الدموع طريقها لوجنتيها و هي تتمتم بنبرة راجية :
- متموتش !
ازدردت ريقها بصعوبة قبل أن تُردف بارتباك مصلحة خطأها :
- قـ..قصدى موت ، بس .. بس متموتش دلوقتي .. متموتش على إيدي !
و كأن ريقها گالعلقمِ المُر ، انتبهت إلى كفهِ الخشن الذي تضمهُ بأصابعها الناعمة ، فـ تضاعفت ربكتها و هي تتركه برفقٍ بجواره ، سارت بنظراتها على الأجهزة الطبية و عادت تُحدق بهِ متمتمة بـ فضول متردد :
- هو.. هو انت فعلًا اللي .. اللي لحقتني ؟
ثم توهجت وجنتاها بحُمرة غاضبة و زفرت بحنق مسترسلة حديثها:
- و لا انت اللي عملت فيا كده ؟
حينها فقط و على حين غرة اقتحمت ذهنها تلك الذكرى.. حملقت بهِ و هي تستعيد المشهد بأكملهِ ، اضطربت أنفاسها حتى باتت عملية الشهيق و الزفير أصعب ، استشعرت و كأن حجرًا يجثم فوق صدرها ليُعيق تنفسها ، نكست رأسها و هي تضع كفها على صدرها مستشعرة تلك النغزة في فؤادها ، " خالد" لم تكن علاقتها بهِ مذبذبة في صغرها ، كونهما متقاربين في السن كانا أغلب الوقت معًا ، قضيا طفولتهما البريئة جنبًا إلى جنب ، حتى أنها كانت تقضي برفقتهِ وقتًا أطول مما تقضيه برفقة صديقاتها الفتيات ، حتى بلغت هي سن السابع عشر تقريبًا ، نضجت و تغيرت الفكرة عنها في ذهنهِ، طمح في أن تكون زوجة رسمية له، حينها رفضت رفضًا قاطعًا مُبررة أنها مجرد أقرباء و رفيقين في ذات الآن ، و أنها لا تطمح إلا في الزواج من شخصٍ يذوب قلبها عاشقًا له.. إلا أن والدتها لم تكن لترفض طلب ابن أخيها.. حتى توسلها العديد من المرات لتحاول اقناعها و بالفعل نفذت مطلبهِ ، و لكن رأسها كان صلدًا لم تتمكن من اقناعها ، فـ ما كان منها إلا أن رضخت لقرارها و لم تكن لتُجبرها لتفعل عنوة ، لـ طلما أنها لا تود ، إلا أنهُ لكم يكن ليتركها و شأنه ، كان مُطاردًا لها دومًا حتى بات أكثر سخافة ، فـ قررت تجاهلهُ تمامًا ، و لكن مهما حدث .. لم تكن تتوقع أن يفعل هو بها ، لم تكن لـ تتكهن مطلقًا أنه ما هو إلا ذئبًا بشريًا لا يود سوى انتهاك روحها و فقط ، أطبقت جفنيها بعنفٍ و كأنها ترجو ذهنها أن يكف حتى انسدلت الدموع من جفنيها بشكلٍ غزير ، و كأنها تتذكر ذلك للمرة الأولى ، و كأنها تُعايش ذات الشعور المُفزع مجددًا ، حتى توقف ذهنها للحظات عند نقطة اتخذت ركنًا من تفكيرها ، فقد تركت ذاتها لحالة ما بين الوعي و اللاوعي حتى انقطعت ذكرياتها بشكلٍ تام ، ما الذي حدث آنذاك؟ كيف نجت من تلك الحادثة البشعة التي كادت تودي بروحها ، حينها شرعت جفنيها لتُحدق بهِ مستشعرة ألمًا يعتصر فؤادها ، تذكرت عندما منح لها وعيها فرصة و تركها تُدرك ما يحدث حين اقتحم الغرفة بشكلٍ مُفاجئ ، حين انقض عليهِ يستفرغ بهِ شحنة غاضبة امتزجت مع الشراسة فـ أبرحهُ ضربًا و هو يسبّه بأبشع الألفاظ ، حينما استفاقت من شبه غفلتها لتجد نفسها بين ذراعيهِ ، يُتمتم لها بكلمات عسى أن تغرس هدوءً و أمانًا بروحها المرتجفة ، تكرر صوتهُ الأجشّ على أذنيها و هو يُطمأنها إلى وجوده ، يحذرها من الخوف في كنفهِ ، فـ كان صوته گسوط من حميم تُجلد بهِ ، و گأن ضميرها أقسم أن لا يتركها، فـ قد رأتهُ بخارج الغرفة _التي كانت گمنصةِ الإعدام بالنسبة اليها_ في حالة شبه منتهية عقب ما تلقاه من ضربٍ مُبرحٍ يُفتت قوة العظام و الدماء تنسال بغزارة من جروحهِ ، بينما هي راكدة بين أحضانِ من ظنّت أن الله بعظمتهِ لم يخلق شخصية أكثر منهُ بشاعة على وجه الأرض ، بينما من كان جوارها طوال سنواتها .. أقرب الأقربون اليها و من اعتقدت أنهُ يُكنّ مشاعرًا بريئةً لها هو من تسبب بجرحٍ غائر لن يبرأ بيسر، انخرطت في نوبةِ بكاء داهمتها فاستسلمت لها و هي تستند برأسها على ساعده الخشن تاركة العنان لدموعها لتُغرق بشرته و شهقاتها قد تصاعدت فـ لم تقوَ على كبحها داخل جوفها تاركة لذلك البركان الناشب فيها تتأجج نيرانها بين ثناياها ، ثم تمتمت بنبرة متقطعة امتزجت مع نشيجها :
- كنت فاكرة ان مفيش أسوأ منك في الدنيا كلها ،و الحال إني..إن اللي أذاني أقرب الناس ليا ، كنت فاكراه بيحبني ، حتى أنه كان بيصعب عليا ، طلع انسان حقير و زبالة و... آآه
رفعت رأسها عن ساعده و قد تحممت الدماء في أوردتها ، أظلمت نظراتها و هي تُحدق بهِ قائلة بنبرة شرسة كمن الحقد في طيّاتها :
- كان المفروض هو اللي يموت مش انت ، كان المفروض أقتله و آخد حقي بإيدي منه !
كان قد بلغ شعور الذنب لديها ذُروته ، كانت قد ندمت عما افتعلتهُ بدون معرفة أنه مُنقذها من مصابها و ليس الجاني ، فـ ماذا إن علمت بأنه انتشلها من بين مخالبه ، تسارعت أنفاسها و هي تقول بـ مرارة :
- أنا تعبانة .. تعبانة أوي !
و كأنهُ جثة هامدة لا حياة فيها ، لم يصدر عنه أي رد فعل ، احتقن وجهها بالدماء و هي تردد باحتدام :
- انت مبتردش عليا ليه ؟ رد بقى.. رد!
....................................................
تأففت و هي تحاول مناداتها من الخارج علّها تستمع إليها أو حتى تنتبه إلى وجودها ، و لكنها بدت و كأنها بـ عالم آخر ، امتعضت ملامحها و هي تتوسط خصرها بكفها نافخة بحنق متمتمة لنفسها :
- أنا أصلًا غلطانة اني سمحتلك تدخلي ، أوف
حانت منها التفاتةً إلى أقصى اليسار لتجد طبيبًا يسير في الرُدهة المؤدية إلى هنا ، فـ تراخى ذراعها بجوارها و ارتكب و هي تتمتم :
- أنا ايه اللي كان ورطني بس ، أديني هسمع كلمتين و هتهزأ بسببها ، مش بعيد يخصموا من مرتبي !
فكرة أن يُنتقص جنيهًا من أجرها جعلت خلاياها تتحفز تمامًا ، على الفور تحركت نحو الباب و دلفت منادية إياها مجددًا ، و لكن ارتفع حاجبها الأيسر استنكارًا و هي ترى حالتها تلك ، تأجج غيظها و هي تخطو نحوها و ....
............................................................
انتشل ذراعه بعنفٍ من قبضتهِ و هو يهدر بعصبية قبل أن يُدرك البوابة الرئيسية للمشفى ، ثم التفت و هو يهتف مستهجنًا :
- أنا مش فاهم تفهمني إيه ، انت مش قولت هتمشيها من هنا ، أنا خلاص .. مبقتش طايق أشوف خلقتها
تنهد " فارس" بحرارة قبل أن يُردف بروية:
- اهدى يا عمر شوية و اسمـ...
فـ هدر ساخطًا و هو يُشيح بذراعهِ :
- فـارس ، انت مش أخوه ، مش عارف أنا حاسس ازاي
ثم طرق بسبابتهِ على موضع فؤاده مسترسلًا بامتعاض :
- مش حاسس بالنار اللي جوايا ، مش عارف شعوري و أنا بخسر أبويا التاني ، و الـ.....
توقف في اللحظة الأخيرة بل أن يوشك على سبّها ، ثم أردف :
- اللي عملت فيه كده قدام عينيا و أنا مش عارف أعمل حاجة ، مش عارف أخنقها بإيدي و أطلع روحها هي و أبوها و عيلتها كلها
كان باردًا إلى حدٍ كبير .. صلبًا و نظراته متجمدة عليه ، حتى أنه التزم الصمت فـ اغتاظ " عمر" أكثر من تبلده حتى لكزهُ بعنفٍ في ذراعهِ و هو يهدر بـ سخط :
- انت لو قاصد تحرق دمي مش هتعمل كده ، ما تنطق أنا بكلم نفسي
فـ دفع كفهُ بعيدًا و قد غلت الدماء في عروقه ، حدجه بنظراتٍ مستشاطة قبل أن يُبادر :
- انت اتجننت يالا ، ناقص تديني قلمين ؟ انت عارف فرق السن قد إيه عشان تمد إيدك!
فـ أظلمت عينا الأخير و كأنهُ لا يرى أمامه سوى سترتهِ العالق بها عبقهِ و الدماء يُلطخها :
- هو أنا كده مديتها ، أومال كده يبقى اسمي إيه ؟
كاد أن يُسدد لكمةً لهُ في وجههِ فـ تدارك الأخير الأمر سريعًا و هو يقبض بعنفٍ على كفهِ مُحدجًا إياه باستهجان ، ثم ردد بـ هدوءٍ يستبق العاصفة :
- يبقى اسمها تربية أخوك مطمرتش فيك!
و بـ مقدمة رأسهِ كان يضرب جبين الأخير بقوةٍ فـ ارتد " عمر" اثرها للخلف ، تآوه الأخير متألمًا و هو يتحسس جبتههُ بينما لوى " فارس" شفتيهِ بتأفف ثم ضبط وضعية سترتهِ مغمغمًا :
- اوعي يكون غياب يامن مفكرك إنك هتعمل فيها كبيــر ، فوق
كز الأخير على أسنانهِ و هو يرمقه شزرًا محاولًا قدر الإمكان التحكم بتلك الحالة الغريبة التي انتابته ، بينما كان " فارس" يردد بامتعاض :
- ناسي اللي عمله فيها ؟ نسيت كل حاجة عملها و جيت عليها زي ما أنا عملت ، و زي ما هو عمل ، احنا كلنا منفرقش عنه ، كلنا ظلمة
فـ كشر عن أنيابهِ محاولًا استعادة اعتباره الذي تبعثر على يده :
- اتكلم عن نفسك يا ابن كمال ، أنا مش ظالم !
فـ احتدّت نبرة الأخير و هو يرمقه متوعدًا :
- خد بالك من كلامك يا عمر
- بلا عمر بلا زفت ، أنا قرفت من العيشة دي ، أنا .. أنا السبب في وجوده السنين دي معاه لغاية ما بقى شبهه ، مرضاش يسيب البيت الـ×××××× ده عشان خاطري ، أنا السبب في كل حاجة وصل لها ، كان فاكر انه بيتمرد عليه و الحال انه بياخد كل صفاته لغاية ما بقى نسخة منه ، بس على أسوء .. أسوء بكتير
باتت نبرتهُ أكثر نفورًا و هو يشير إليهِ بعينيه :
- و انت كنت فين ؟ هربت..هربت و سيبت كل حاجة و سيبتنا ، راجع دلوقتي ليه ؟ ها ؟ و لا يمكن عايزه يموت عشان الورث !
اتسعت حدقتا الأخير و باتت و كأنها جمرتين متقدتين ، توهج لون بشرته بحمرة غاضبة و هو يندفع نحوه حتى انقض عليهِ جاذبًا لها من تلابيبهِ و هو يزأر بـ :
- ورث ايه يا غبي اللي بتتكلم عنه ؟ انت اتهبلت في عقلك و لا إيه
فـ لم يتراجع عن كمّ السيناريوهات التي أطلقها ذهنهِ و هو يهدر مستنكرًا :
- فاكرني أهبل مش فاهمك ؟ مش فاهم انك عايزه يموت ؟ ما انت ابنه يعني آخد صفاته ، زي ما هو عايزه يموت عشان يورث من بعده ، صح ؟
لم يكد يلتقط أنفاسه حتى أردف :
- و لا تكونش حبيتها و بتتمني موته عشان تتجوزها ، زي ما أبوك ما صدق أبويا مات و راح اتجوز أمي
فـ هز جسده بعنفٍ جائرًا باحتدام و قد شعر كأن الجمرات تسري في أوردتهِ :
- انت مش هترتاح غير لما أصور قتيل النهاردة ؟
ارتفع جانب ثغر الأخير بسخرية و هو يغمغم متهكمًا :
- ما هو ده اللي ناقص فعلًا.. تقتلني أنا كمان عشان تاخد انت و كمال أكبر حصة ، لا بجد براڤو !
فـ لم يشعر " فارس" بنفسهِ إلا و هو يكور قبضته ليلكمهُ بعنف مفرط في وجههِ ، كاد أن يرتد جسده و لكنه امتنع ذلك حيث اجتذبه مجددًا إليهِ ليُعقب ذلك بـ لكمةٍ أشد قوة شحنها بـ كامل غضبهِ المكبوت اثر كلماتهِ التي كانت كـ البنزين الذي سُكب فوق نيرانهِ المستعرة طرحتهُ أرضًا على الفور ، كاد أن يستفرغ بهِ غضبه المكبوت بأغواره إلا أن هدر صوت يعرفهُ جيدًا من خلفهِ :
- انت بتعمل ايــه ؟
.....................................................
أصابها الهلع حين استشعرت تلك القبضة القوية التي انتشلت ذراعها لتُجبرها على الوقوف ، اضطربت أنفاسها أكثر حتى شعرت و كأنها سـ تفقد وعيها في الحال ، و لكن تحجرت الدموع في مقلتيها حين وجدتها الممرضة لتي سمحت لها بالدلوف ، رمشت بعينيها و هي تتنفس بمعدل سريع :
- انتي ..؟
كان الغضب جليّا على تعبيراتها و نبرتها حين سحبتها لتخطو للخارج عنوة و هي تقول بنبرة ساخطة
- بقالي سنة بجاول أنبهك من بره يا مدام و انتي و لا هنا ، الدكتور جاي و لو شافك هنا......
فـ حاولت أن تجتذب ذراعها من قبضتها و هي تردد بنبرة متوسلة :
- استني لو سمحتي ، هو هيرد عليا صدقيني ، استـ...
- بـ..بنت حسين!
كان صوتًا خافتًا..ضعيفًا يكاد لا يُسمع ، إلا أنهُ اخترق مسامعها بقوةٍ تسمرت في مكانها اثره و تخشب جسدها من فرط صدمتها ، حملقت عيناها بذهولٍ و حانت منها التفاتة ناحيته ، فـ اجتذبتها الممرضة مجددًا و هي تقول بزمجرة:
- يالا يا مدام لو سمحتي
افترّ ثغرها بابتسامة واسعة قبل أن تتمتم بحبور:
- استني .. استني ثانية واحدة ده .. ده نطق اسمي ! انتي سمعتيه
ثم التفتت اليها و هي تردف بـ لهفةٍ :
- انتي سمعتيه .. سمعتيه صح ؟
فلوت شفتيها بلا اكتراث :
- تأثير البنج ، من فضلك اطلعي معايا بدل ما يـ...
- يـارا
عاد الصوت يتكرر بنبرة أكثر صلابة ، فـ كادت أن تمضي نحوه و هي تردد بضيق :
- حاسبي بقى .. سيبيني ، أنا .. أنا هخليه يقولي اني مقتلتوش بس ، عايزاه يعيش ..
شكّت الأخيرة أنها تُعاني من خلل بـذهنها ، فـ اشتاط غضبًا و هي تسحبها عنوة للخارج قبل أن يدلف الطبيب و هي تردد بتمقّطٍ :
- أنا الحق عليا اني رضيت أدخلك
اصطحبتها للخارج بالرغم من محاولات الأخيرة للفكاك منها ، إلا أنها كانت تفوقها طولًا و قوة جسمانية ، لم تتركها حتى بلغت رُدهة مجاورة و قد تضاعفت سرعتها حين أدركت أن ذلك الطبيب بالفعل يقصد غرفته ، فـ ما إن ابتعدتا حتى دفعتها بعنفٍ و هي تنزفر بحنق مرددة بـ سخط :
- في ايه يا مدام ؟ انتي محسساني اني هعدمك ، انتي مش قولتي دقايق و هتخرجي
تفاجأت بجسدها ينهار على الأرضية الصلبة مستندة بـ ظهرها إلى الجدار .. ضمت ركبتيها إلى صدرها ثم دفنت وجهها بين كفيها و هي تبكي بُكاءً مريرًا لم تتمكن من ردعه ، لوت الأخيرة شفتيها بتأفف حتى استمعت إلى صوت نشيجها و تآوهاتها الحارقة التي تُدمي القلوب و تُذيب أشدها بأسًا ، فـ لانت ملامح الأخيرة و هدأت ثورتها ، ثم انحنت عليها لتربت برفقٍ على كتفها و هي تقول بشئ من الآسى :
- معلش يا مدام ، ده ابتلاء من عند ربنا ، اصبري و جوزك ان شاء الله هيقوم ، ادعيله
فلم تُسمن كلماتها و لم تغني من جوع ، فـ تقوست شفتيها قبل أن تردد بحنق :
- منه لله اللي عمل كده ، متبطليش تدعي عليه لغاية ما ربنا هينتقم منه ، انتي بس قولي يا رب
و تركتها و انصرفت تمضي في طريقها ، انصرفت تاركة لها خلفها و گأنها غرست بقلبها نصلًا من حميم مستعرّ ، تضاعفت شهقاتها أكثر فـ أكثر خاصة بعد جملتها الأخير ، ليتها ما تفوّهت بحرفٍ .. فـ ما كانت كلماتها سوى وَصبًا لـ روحها المعذبة .
................................................
دفع الباب _ذلك المرتدي زي الطبيب_ بتروٍ ثم دلف و أوصده بهدوءٍ خلفه ، تحرك بخطواتٍ حثيثة حيث فراشهِ الطبيّ ، ابتسم بشماتةٍ لم تتبين بسبب قناع الوجه الذي يرتديهِ ، بلغ فراشهِ فـ شملهُ بنظراتٍ ظافرة لحالتهِ ، و لكنه وجده صلبًا گالفولاذ بالرغم من ذلك ، تعبيراته المحتفظة بالصرامة سعّرت نيران الحقد بداخله أكثر  و أكثر حتى طفت رغباتهِ القاتلة على السطح للثأر بـ إهانتهِ له ، لم يتمكن يومًا من التصدي لأمام جبروته ، لم تمكن من رد اعتباره ، تحدث بشماتة جليّة :
- شايف يا ابن يوسف الأيام وصلتنا لفين.. أخيرًا يا ابن يوسف شوفتك مرمي بين الحياة و الموت
و فرك كفيهِ بحماس متابعًا:
- انت عارف أنا مستني اللحظة دي من امتى ؟
تنقلت نظراتهُ على الأجهزة الطبية ، ثم تسللت أنامله إلى جيبهِ الداخلي ليستخرج منه إبرة طبية ، تعلقت نظراته بالمصل المغذي لـ وريدهُ ، فـ اتسعت ابتسامته:
- معلش يا يامن يا ابني ، مش هتاخد وقت و مش هتتعذب كتير
تلاشت ابتسامته لتحل تعبيرات جافة على صفحة وجهه مردفًا ببغض جلي :
- مع اني كان نفسي تشوف الويل ، بس يالا ، شكل أبوك وحشك ، متقلقش .. دقائق و هتكون في حضنه ، يا .. يا ابن يوسف !
و بـ ثانية و بدون أدني ذرة ندم.. كان ينغز سن الإبرة الطبية بـ المصل لـيمتزج مع المحلول الطبي المغذي لأوردتهِ ، و ما إن انتهى حتى انتزع الإبرة الطبية و هو يردد ببرود و كأنه لم يرتكب جُرمًا منذ ثانية واحدة:
- سلام يا .. يا يامن !
..............................................................
..............
..........................................

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now