"الفصل الرابع و الخمسون"1

675 17 0
                                    

 الفصل الرابع و الخمسون"
ـ يعني ايه كنت السبب في موتها؟ مش فاهماك؟
‏دوّامة أحداث عصفت به و ابتلعتهُ بداخلها فلم ينتشله منها سوى صوتها الفضولي، مرّ أمام عينيهِ ما توالى من أحداثٍ عقب تلك اللحظة، حين قرر "يامن" الثأر لتلك الفتاة التي ألقت نفسها في أحضان الموت من أجلهِ، فما كان منهُ إلا أن كشف عن حقيقة "نائف"، إذ أن شركتهِ بناها بالنصب و أسسها بالتزوير، و ليضمن أنه سيقضي وقتًا لا بأس بهِ في الحبس، اغتنم فرصة تواجدهِ بإحدى الشقق المشبوهة، عقب فترة ليست بالطويلة من انتحار زوجتهِ.. و:
- يامن!
 فترك آخر أنفاس سيجارته و قد أحرق صدرهُ بها:
‏ـ مش لازم تعرفي
‏و نظر نحوها نظرة خاطفة ثم تشدق بـ:
‏ـ كفاية اللي عرفيته.. متطمعيش
‏فسألتهُ مجددًا السؤال الأهم و الذي يُضنى عقلها:
‏ـ حبيتها؟
‏التفت نحوها و هو يرمقها بنظراته الثاقبة ثم سأل بإيجازٍ مبهم:
‏ـ ليه؟
ارتفع حاجبها الأيسر استنكارًا و هي تهمس بعدم فهم:
‏ـ إيه؟
فكرر سؤاله و هو يخطو نحوها:
‏ـ بتسألي ليه؟
ضمت شفتيها معًا و هي ترفع ذقنها ثم قالت و كأنها لا تعبأ إطلاقًا:
‏ـ قولتلك..مجرد فضول
‏توقف أمامها مباشرة، رنا إليها بنظرة مطولة و هو يضع كفهِ بجيبهِ، ثم حاد بناظريهِ عنها قائلًا ببرود:
‏ـ خلاص.. خلي سؤالك لنفسك
فاستشاطت غيظًا و قد شعرت بداخلها يغلى كالقدر، فنفخت في تمقّطٍ مشتد، ثم رددت بحدة ظاهرة:
‏ـ يامن أنا مش بهزر.. جاوب على السؤال
و ضاقت عيناها و هي تسأله بلهجة متهمة:
‏ـ حبيت مراته؟
‏سحب شهيقًا عميقًا من سيجارته زفره متمهلًا فصنع بينهما سحابة رماديّة، ثم قال بجفاء و هو يشيح بأنظاره بعيدًا من جديد:
‏ـ معتقدش ان في في قاموسي كلمة حب
و نطر نحوها نظرة ذات مغزى ثم قال و هو يمر من جوارها:
‏ـ فالأحسن تشيلي الموضوع ده من دماغك
‏و كأنه يتعمد تحطيم آمالها بهِ يوميّا بكلماته السامّة تلك، أطبقت جفنيها قنوطًا و هي تتلمس عنقها بأطراف أناملها.. حتى أنها شرعت تخدشها من فرط انفعالها دون أن تدري، ثم التفتت فجأة تستبقيهِ بقولها المحتد:
‏ـ خالد فين يا يامن؟
‏تيبس بمحله و قد فارت دمائه في عروقه، كالحُمم المنسابة بها، بزغت عروق جبينه بوضوح و هو يلتفت نحوها، و قد تشنّجت عضلات وجههِ بالكامل، و قبل أن يشنّ هجومه كانت تقول بلهجة أشد بأسًا‏:
ـ نائف مقتلتوش..مراته مقتلتهاش.. بابا مقتلتوش
‏و خطت نحوه و هي تحرف نظراتها التي رقّت قليلًا بين عينيه ثم قالت و هي تشير لنفسها بسبابتها:
‏ـ أنا مقتلتنيش.. يبقى مستحيل تكون قتلته
‏و لم تتردد.. دنت خطوة أخرى، و همّت تضم وجهه بين راحتيها، أثناء قولها الهادئ:
‏ـ انت مش قاتل.. أنا متأكدة من دا
و قبل أن تتلمس وجههُ كان يشيح بهِ بعيدًا عنها في قسوة تامّة استشعرتها، رمقته بنظرة لائمة و هي ترخى ذراعيها جوارها من جديد، تعلّقت أنظارها بهِ دون أن يبادلها النظر، ثم أزاحت بصرها العالق عليهِ لليسار قليلًا و هي تحرر زفيرًا ألهب صدرها، حينما كان "يامن" يعبر من جوارها حتى يبلغ المنفضة، و أطفأ فيها سيجارتهِ، فرددت حينئذ بلهجة جادة على الرغم من القنوط الذي يُؤطّرها:
‏ـ متحاولش تنكر يا يامن، انت عمرك ما قتلت، و مهما حاولت تقنعني مش هصدق
‏- مات.. قتل نفسه
شُدهت.. حملقت فيهِ فلم يلتفت، و ظلّ موليا ظهره لها، أطبقت جفونها بعنفٍ و هي تطرق برأسها مستشعرة تلك النغزة القوية التي داهمتها، حينما كان "يامن" يتذكّر كيف تمكن من قتل نفسهِ، حينما مرّ عليهِ خلال ذلك الاسبوع، متعمدًا أن يستنزف روحه تمامًا، و يقضي على أي سبيل لوجودهِ، دون أن يلوث يديهِ بدمائه، حيثُ تعمّد عقب أن ألقى إليهِ بكلمات كانت كالسُّم فقضت عليهِ و:
«أخرج "يامن" سلاحهِ من خصره، و شرع يحدق فيهِ لدقائق بعينينِ تعبّأتا بالشر، ثم نظر نحوه و هو يردد بلهجة قاتمة:
- مقولتليش؟.. مش حاسس إن المفروض تخلص من حياتك؟ و لا حابب تكمل فيها بمنظرك ده؟
فلم يقوَ "خالد" على فتح عيونهِ، و ظل قابضًا لهم، يرفضُ أن يفرّقهم فيجبره "يامن" على النظر خلال المرآة بانعكاس صورتهِ و وجههِ الدميم المشوه بالكامل كما فعل منذ بضعة دقائق، فلم يكن "يامن" بهِ رؤوفًا، بل أنهُ كشّر عن أنيابهِ في انفعالٍ فجائي، امتدّ كفهِ ليطبق بأناملهِ الغليظة على فكّه و كأنه سيهشمه في قبضتهِ، و نطق من بين أسنانهِ بزئيرٍ مفزع:
- هـا؟ ساكت ليـه؟.. انطــق
مجرّد تلك الفكرة التي تروادهُ، أنه استباح زوجتهِ يكاد يجزم أنه يهمّ بالتخلص به من فورهِ، فيكون هو أوّل من يرتكب فيه ذلك الجُرم العظيم، رفع "يامن" رأس الأخير إليه عن طريق فكّه، ثم جأر في وجههِ:
- كان نفسي أخلص عليك و أدفن اللي يتبقى منك بإيدي، كان نفسي.. لكن معلش
و هزّ رأسه في حركة متوعدة و هو يتابع من بين أسنانهِ:
- كفاية عليا أشوفك كده
و دفعهُ بعنفٍ للخلف محررًا كفه عن فكّ الأخير، فارتكن "خالد" للأرضية من جديد، تأوّه متألمًا حينما كان "يامن" ينظر من جديد لسلاحهِ و هو يحك بظهر إبهامهِ ذقنه،  نزع صمام الأمان و هو ينظر نحوهُ من طرفه بنظرة حالكة، ثم ترك السلاح أرضًا، و نهض عن جلستهِ القرفصاء من أمامهِ مستقيمًا في وقتهِ، و ردد حينئذ، بنبرة أشدّ قتامة:
- كل مرة هتبص فيها في المراية هتفتكرني.. هتعرف إنك فتحت على نفسك طاقة جهنم
و خرج.. خطى للخارج، صافقًا الباب بعنفٍ من خلفهِ، و ما إن توقف عقب خطوة واحدة، كان يُصغي لصوت الطلقة التي صدحت عن سلاحهِ، تقبّضت أناملهِ بجواره، و هو يطبق أسنانهِ باحتدامٍ و قد ضاعف ذلك من فرط حميم صدره المستعرّ، فشرع يحثّ خطاه لينجو من عذاب ضمير بدا أنهُ سيلاحقهِ، دون أن يكون للندم محلّا.. فـ هو ماهر بإخراسِ ضميرهِ، إخراسًا تامّا»
ابتلعت "يارا" تلك الغصة العالقة في حلقها، و هي تفرق جفونها، ثم غمغمت لافظة أنفاسها الحارة:
- يعني مقتلتوش!
فلم يكن ليواري عنها تالك الحقيقة أيضًا، كي لا تضعهُ موضع الملاك:
- أنا اللي اديتله السلاح بإيدي!
و كزّ على أسنانه، مُشددًا من قبضه على فكيه، ثم رمقها بنظرة جانبية عقب أن التفت نصف التفاتة، مرددًا من بين أسنانهِ الملتصقة:
- كان نفسي أطلع روحه بنفسي.. لكن معلش
و عاد يحدق أمامهِ، بنقطة ما في الفراغ، بنظرة انبثقت منها جذوات الشرّ، متابعًا بنبرة خاوية من الحياة:
- على الأقل دفنته بإيدي
فرددت و هي تعود خطوة للخلف و قد تقلّصت معدتها، رافضة أن تصغى لما بقى من حديثهِ:
- كفايـة
استدار بجسدهِ بالكامل ليحدجها بنظرة ساخرة متهكمة، غلفت نظراتهِ الشرسة، ثم نطق و هو يضع كفيهِ في جيوبه مائلًا برأسه للجانب قليلًا:
- خير؟.. اتصدمتي؟
- أنا.. أنا كنت متأكدة إن عمرك ما هـ.. عمرك ما..
فـ أتمّ "يامن" كلماتها الناقصة بتهكّمٍ مشتعل:
- هقتل؟
و ما لهُ علاقة بالسخرية تبدد تمامًا عن وجههِ و نظراتهِ لتضحي حالكة، خطى نحوها حتى بات قبالتها تمامًا، تطلّع لتعبيرات وجهها المبهوت و هو يردد بنبرة محتدمة:
- صدقيني.. لو كنت قتلت كان زماني مرتاح
انعقد حاجبيها و هي تمرر نظراتها المشدوهة بين عينيهِ، و ضاقت عيناها مستنكرة تفكيرهِ المريب:
- غلطان.. عمرك ما هترتاح لو ارتكبت الجريمة دي، عمرك
فتابع دون أن يعبأ بقولها كأن لم يُصغي إليه، و بجأر مدوّي و قد انفلت زمامهِ ليطفو سخطه على السطح، أشار بسبابتهِ:
‏ـ كان فات ناري بردت يا.. بنت حسين، كان فاتني ارتاحت من زمان
و أشار بكلتا عينيهِ اللاتي شبّهتهما بجذوتين متقدتين، و هو يردد بصوتٍ انخفض قليلًا عن سابق نبرتهِ، و لكنه لا يزال محتفظًا بذلك الاحتدام المغلف لها:
‏ـ كان فات روح أبويا ارتاحت في قبره
‏فنطقت بجدية تام و هي تقطع خطوة أخرى نحوه:
- يامن.. اسمعـ..
حكّ "يامن" عنقه بعنفٍ بالغ مشيحًا بوجهه، ثم نطق باستهجانٍ مقاطعًا:
- اطلعي برا يا يارا
توسعت عيناها في عدم تصديق لفظاظتهِ التامّة و قسوته المفرطة في تعامله معها، قطبت جبينها و هي تردد شاجبة ذلك:
- يامن!
فزأر بانفعالٍ شابهُ السخط:
- اطلــعي
فتبدّل غضبها المكبوت في صدرها لشعورٍ آخر و هي تُحلل كلمتهِ التي هدر بها قبلًا في وجهها، تطلّعت إليهِ بعينينٍ عميقتين، قبل أن تغمغم و هي تحيد بنظراتها عنهُ:
- أنا ليه حاسة إن كلامك دايمًا بيكون ليه أكتر من معنى!
أجبرتهُ- رغمًا عنه- أن يُعيـد الكرة، فينظر نحوها من جديد، فتقابلت نظراتهِ الغامضة، مع نظراتها العميقة، نظراتهِ الناريّة.. تقابلها زرقة عينيها المحيطيّة، محاولة أن تنسكبُ على ألسنتهِ المندلعة، دون أن يمنحها تلك الفرصة، نظراتهِ الحالكة.. مع نظرتها النقيّة، و عمّ الصمت.. صمت ظاهريّ، فـ إن صُنّفت النظرات لونًا من ألوان اللغة، لما سُميّ صمتًا، بل ضوضاءٌ و ضجيج ذو نوعٍ آخر.
و ما قطع تلك اللحظات المسترسلة.. طرقاتٍ أعلى باب الغرفة، فنبّهت "يامن" و جعلته يحيد أولًا عنها، ثم نطق بصوتٍ أجشّ:
- ادخـل
‏فدلفت "سهير".. رمقت "يارا" من طرف عينها ثم قالت و هي تنظر نحوه بثبات:
‏ـ رهيف هانم برا و طالبة تقابل حضرتك
‏فضاقت عينا "يارا" و قد غلت الدماء في عروقها و نظراتها تنحرف نحوهُ باتهام واضح:
‏ـ رهيف
‏فلم يعرها اهتمامًا و أشار بعينيه لـ"سهير" آمرًا بـ:
‏ـ دخليها
أومأت برأسها ثم انصرفت، ثوان و كانت تدلف "رهيف" مضت أولًا نحو رفيقتها لتعانقها عناقًا روتينيّا، ثم اتجهت بأنظارها نحوه و هي تسأله بلهجتها الرقيقة بلا قصد منها:
ـ أخبار حضرتك ايه يا أستاذ يامن؟
أشار لها نحو ركن الأرائك و هو يقول باقتضابٍ:
- تعالي
 فقاطعتهم "يارا" بقولها الشبه محتد و قد غلت البراكين بداخلها، بينما نظراتها مُسلطة عليه في قولٍ عنتهُ جيّدًا:
ـ هطلع أنا!
فقبضت "رهيف" على مرفقها تستوقفها بقولها الخافت:
ـ رايحة فين؟.. خليكي معايا
فرسمت "يارا" قسرًا ابتسامة سخيفة و هي تنظر نحوه بامتعاض، ثم نطقت من بين أسنانها:
ـ لأ.. عشان تكونوا على راحتكم
حمحمت "رهيف" حرجًا و هي تنظر نحوه بطرفها، ثم انحنت لتهمس لها معاتبة:
ـ انتي مجنونة يا بنتي و لا إيه؟.. بقولك خليكي معايا!
لم يعبأ "يامن"، بل لم ينتبه لما يدور، لم ينتبه لتلك الغيرة البادية للعيان عليها، لنظراتها المتطلعة إليهِ في تلك اللحظة، في ظِلّ ما يعانيه من تشابك في أفكارهِ الشائكة الغير مرتبة، و عقلهِ معبّأً بألاف السيناريوهات، خطى نحو إحدى الأرائك، و اعتلى إحداهم، رافعًا ساقًا فوق الأخرى، بينما "يارا" تتابعهُ، فنطقت حينئذ:
ـ تمام.. هفضل
و أشارت للأريكة المقابلة و هي تبتسم بتزييف:
ـ تعالي يا روڤي
و جلست بجواره مباشرة.. حتى إنها أدهشتهُ بفعلتها، و لكنه ارتكز ببصره على رفيقتها مستشعرًا نظراتها الشزرة التي تتابعه، حتى اعتلت "رهيف" الأريكة المقابلة و هي تترك حقيبتها جانبًا، شبكت كفيها معًا، ثم أطلقت زفيرًا من صدرها و هي تخفض بصرها، استشعر "يامن" ارتباكها الزائد و تيهها، فتقلصت المسافة بين حاجبيه و هو يحكّ طرف أنفه بسبابته ثم بادر بقولهِ الجاف:
ـ معتقدش انك قطعتي المسافة دي كلها عشان تسكتي
ارتفعت أنظارها نحوه و هي تسحب شهيقًا عميقًا لصدرها، ثم قالت متلجلجة:
ـ بصراحة.. مش قادرة أعمل حاجة، مش قادرة أقنع جدتي اني اخلص من الجوازة دي أبدًا، حاولت أنا و ماما بكل الطرق و مش قادرة
و طردت أنفاسها الحانقة ثم تابعت و قد تشبعت لهجتها بالضغينة:
ـ لأنها طبعًا بتفضل راشد عليا.. و البيه أظهر موافقته عشان يجبرني، و فعلًا..طالما هو موافق يبقى مفيش خلاص منها
فكان قولهُ مهددًا إلى حد كبير على الرغم من جمود نبرته:
ـ لو عايزاني أخليه يرفض.. متقلقيش
ارتبكت "رهيف" مع نظرات "يارا" المحذرة، فهزت رأسها نفيًا و هي تسارع بالرد المتوتر:
ـ لالالا.. مش دا قصدي أبدًا
ـ عايزاني أقنع جدتك بطريقتي؟
و أيضًا إشارة محذرة من عينيّ "يارا" جعلت ارتباكها يتفاقم، فهزت رأسها و هي تعبث بأناملها:
ـ لأ
و گأن صبره قد أخذ يفرغ منذ مدة، فقال و هو يخفض ساقه ليميل بجذعه العلويّ عليها و هو يرتكز بأبصاره الثاقبة عليها ثُم سألها بحزم:
ـ ايه اللي في دماغك بالظبط؟
فسحبت نفسًا عميقًا طردته متمهلة ثم كادت تلقى ما بجبعتها دفعة واحدة و كأنها تتخلص من عبء قد حُمّل عليها:
ـ كنت عايزة أبـ...
ابتلعت كلماتها في جوفها حينما تصاعد رنين هاتفه، فنهض "يامن" عن جلسته و هو يقول:
ـ ثانية
و سحب هاتفه من أعلى المكتب.. و تلقى ذلك الاتصال الوارد:
ـ وصلت؟
و ازداد تغضن جبينه و هو ينظر في ساعة يده ثم قال مستنكرًا:
ـ نعم! لسه مركبتش يعني ايه؟ مش طيارتك الساعة 1؟.. ادخـل
قال كلمته الأخيرة ملتفتًا و قد استمع الى قرعات أعلى بابه، فدلفت "سهير" المتشحة بالسواد و هي تقول بهدوء:
ـ في واحد طالب يقابل حضرتك برا
ـ دخليـه
و عاد يتحدث في الهاتف و هو يلتفت:
ـ أيوة يا مايكل.. انت مش في المطار؟، يعني إيه؟
و صاح به بنفاذ صبر:
يا ابني ما تخلص و تقول انت فين
ـBehind you!
التفت "يامن" نحوه إثر ضحكاته التي تعالت فجأة، فاستهجن ذلك تمامًا:
ـ ضيعت طيارتك
أومأ "مايكل" و هو ينهى المكالمة، ثم قال معقبًا ضحكاته بقولهِ الهادئ:
ـ بالطبع لم أكن لأتركك أنت و رفيقي وسط تلك الأحداث
فزفر "يامن" و هو ينظر في ساعة يده، ثم أجرى اتصالًا ما و هو يلتفت غير مباليّا بهِ، فألقى "مايكل" نظرة للخلف حيث الفتاتين المتهامستين و هما تتابعان ما يحدث، فتوسعت ابتسامته و هو يخطو نحو "يارا" التي رآها بوضوح، بينما الأخرى توليه ظهرها، فنهضت "يارا" عن جلستها حينما أقبل و هي تلوى ثغرها ببسمة هادئة، حتى توقف أمامها و هو يشير بكفيه المبسوطين:
ـ I think..يامن لو شافني بسلم مش هيأجبه ده، من بأيد أفضل
و اتسعت ابتسامتهِ و هو يردد بلباقة:
- how are you?
فتضاحكت بخفوت و هي تقول شابكة أصابع كفيها معًا:
ـ انا تمام.. انت اخبارك إيه؟
ـ fine
نهضت "رهيف" عن جلستها و هي تلتفت نحوه فتغضن جبينه حين أبصرها أمامه، اتسعت ابتسامته العابثة و هو يقول متظاهرًا التعجب:
ـ I saw that fate drows its lines greatly!
عقدت "رهيف" حاجبيها بعدم فهم و:
ـ ها؟
فأجاب و هو يدس كفيه بجيبه:
ـ Don’t care..how are you now?
أحنت بصرها و هي تجيبه باقتضاب جاد:
ـ تمام
حينها التفت ثلاثتهم لقول "يامن" الذي انفعل فجأة:
ـ يعني إيه دي آخر طيارة النهاردة يا مروة؟.. اتصرفي و احجزي طيارة خاصة
فالتفت "مايكل" نحو "يارا" ليقول رافعًا حاجبيه:
ـ يبدو ان زوجك يطردني بأسلوب مباشر
حمحمت "يارا" حرجًا و هي تنظر نحو زوجها، في حين كان "مايكل" يردد و هو يعتلي إحدى الأرائك بأريحية، مع بحّة في حرف الحاء شبهتهُ بالهاء:
ـ أرح  نفسك قليلًا.. فلستُ بمغادر
فكان يُنهي مكالمته، و أجرى اتصالًا آخر و هو يتسلط بأنظاره الحانقة عليه، ثم قال:
ـ ايوة يا فارس..تعالى شوف صاحبك اللي عامل فيها راجل أوي و مش راضي يسافر، أيوة ضيعها بغبائه، طب انجـز
و أنهى المكالمة و هو يخطو نحوهم مرتكزًا بنظره الممتعض عليه، فضحك "مايكل" و هو يستند بساعديه على مسندي الأريكة:
ـ و إن أمرتني مباشرة بالسفر.. فلن أفعل، استرخِ قليلًا
زفر "يامن" و هو يجلس متأهّبًا بجوار زوجته، ثم حاد ببصره عنه متجاهلًا إياه و هو يسحب سيجارة من علبته، و عقب أن اشعلها دسها بين شفتيه و هو يرتكز ببصره على "رهيف" ثم قال:
ـ طب اطلع برا
ـ Why?
نظر نحوه مشيرًا بعينيه لـ "رهيف" و قد جلست مجددًا ثم قالت بارتباكٍ:
ـ مش لازم أبدًا يا أستاذ يامن، أنا عايزة أقولك حاجة و همشي على طول
فتشدق "مايكل" مشيرًا نحوه:
ـ see?.. she didn’t mind ,I’m sorry  ، أعتذر رفيقي، لن تتمكن من التخلص مني بذلك اليُسر
نظر "يامن" نحوها متسائلًا، فسارعت بالرد و قد بلغ ارتباكها أوجهِ:
ـ أنا.. كنت عايزة ابيع الأرض
و صمتت هنيهة و هي ترتكز ببصرها عليه مباشرة فارتبكت أكثر من نظراته المقتنصة:
ـ لحضرتك
فكانت "يارا" أول من احتجت و هي تقطب جبينها:
ـ انتي بتقولي ايه يا رهيف؟ عايزة تبيعي ارض أبوكي
فسارعت "رهيف" بمحاولة التبرير لها و قد اعتراها القنوط التام من الخلاص
.ـ راشد مش هيسيبني بسبب الأرض دي.. و آخر حاجة ممكن أعملها إني أبيعله الأرض أو حتى أبيعها لخالي خصوصًا بعد اللي عملوه فيا
و نظرت نحو "يامن" غير ملاحظة نظرات "مايكل" التي تتفحص اقل انفعال يصدر
عنها:
ـ انا.. مش محتاجة غير ان الأرض تكون باسم حضرتك يا أستاذ يامن، صدقني لا أنا عايزة فلوس او غيره
و تنهدت بقنوطٍ ثم تابعت:
ـ و ده أكيد وضع مؤقت.. لحد ما أشوف هعمل ايه في الموضوع دا
فكان جامدًا للغاية و هو يطرد أنفاسه المحملة بالنيكوتين عن صدره، ثم انحنى قليلًا ليدعس السيجارة في المنفضة و هو يقول بغموض:
ـ لتاني مرة بتعملي دا
و التفت نحو "يارا" ليرتكز ببصره القاتم عليها مستطردًا:
ـ مبتتعلميش من أخطائك
تغضن جبين "يارا" و قد تعلقت نظراتها به، فاعتدل  في جلسته و هو يحيد ببصره إلى "رهيف" التي تساءلت عاقدة حاجبيها:
ـ يعني ايه؟
دس "يامن" كفيه بجيبه و هو يردد موضّحًا بلهجتهِ الناقمة:
ـ يعني بتثقي في اللي حواليكي زيادة عن اللزوم
حُلت عقدة حاجبيها و هي ترفعهما باندهاشٍ فـ أردف بصوتٍ أجشّ:
ـ و قولتلك قبل كدا.. بلاش تثقي في حد زيادة
عبثت "رهيف" بأناملها و قد تهدل كتفيها ثم قالت بيأسٍ تام:
ـ أفهم من كدا انك مش موافق؟
حكّ "يامن" صدغه و هو يجيبها بلهجة جافة:
ـ الحكاية مش حكاية موافق و لا لأ.. لكن انتي ممكن تضيعي نفسك باللي بتقوليه
و ضاقت عيناهُ و هو يردد متسائلًا:
ـ بتقولي هشتري الأرض.. و مش هدفع، و إيه اللي خلاكي تعرفي اني هرجعهالك
بدت گالمبهوتة و هي تطلع إليه بعدم استيعاب، تنهدت مُطولًا ثم أعقب ذلك بـ:
ـ بس..انا مش لاقية حل غير دا
رفع "يامن" كتفيه قائلًا ببساطةٍ:
ـ قولتلك لو عايزاني اتدخل الموضوع دا هيخلص، لكن انتي اللي منشفة دماغك
انحرفت نظرات "رهيف" المستغيثة لـ "يارا" و كأنها تطالبها بمحاولة اقناعهِ، فأبدت "يارا" رأيها قائلة:
ـ يامن كلامه صح.. اللي بتقوليه دا مش معقول ابدًا
فأعربت "رهيف" عن تيهها بقولها الحائر، و قد بلغ بها اليأس أقصاهُ:
ـ طب و العمل؟
أخرج "يامن" سيجارة أخرى و بدأ يُشعلها فضمّت "يارا" شفتيها حنقًا و هي تسحبها من بين شفتيه قبل أن يسحب نفسه منها ثم أردفت بجسارة و هي تدعسها بالمنفض:
ـ كفاية سجاير
نظرة واحدة مُلتهبة نحوها من طرفه، ثم عاد يسحب سيجارة أخرى و أشعلها بقداحتهِ، ثم تركها أعلى الطاولة الفاصلة بينهُ و بين أريكة "رهيف"، و دس سيجارته بين شفتيه متجاهلًا إياها و كأنها لا وجود لها في حين كان "مايكل" يتابعهم بنظرات مستمتعة ثم عقّب على الرغم من كونهِ يُدخن أيضًا، إلا أنه أراد إشعال غيظ "يامن:
ـ زوجتك مُهقة.. التدخين مضر بالصهة
فرمقهُ من زاوية عينهِ و هو يزجرهُ بـ:
ـ بس يالا
ضحك "مايكل" بخفوتٍ مرح و قال مطيعًا:
ـ okay
فهمست "يارا" امتعاضًا:
ـ صاحبك بيفهم أكتر منك
لم يكترث لها، و راح ينظر لـ "رهيف" المتيبسة و قد غامت عيناها.. و لاحت الكآبة على وجهها، فقال بلهجة حاسمة:
ـ عايزة الأرض تتباع.. هشتريها، لكن هدفع تمنها
تنبهت إليه.. فتحفزت خلاياها و هي ترفض رفضًا قاطعًا و قد استثقلت الأمر و تفاقمت خشيتها:
ـ انا مش عايزة دا.. دا حل مؤقت بس، مفيش داعي لـ..
طرد "يامن" الدخان من فمه ساحبًا سيجارته بسباتهِ و الوسطي، ثم قاطعها بحزمٍ:
ـ دا آخر كلام عندي.. ياريت تفكري بعقلك شوية
و جّه بصره صوب "يارا" و هو يقول بلهجة ذات مغزى صريحٍ بالنسبة إليها:
ـ العقل اتخلق للتفكير.. معرفش ليه مش مقتنعة بالحقيقة دي!
هُنـا تدخل "مايكل" و هو يعتدل في جلسته منتصبًا بكتفيهِ:
ـ ايه هيهصل لو الشرا تمّ.. لكن مع تأديل بسيط؟
انحرفت نظراتها المستوضحة نحوه و هي تعبث بأطراف حجابها ذو اللون الأسود و الذي يتناسب مع لون ثيابها، انحرفت الأنظار جميعًا نحوهُ.. عدا "يامن" الذي تكّهن بيُسر بالغ ما يدور بخلده، و بالفعل كان يقول مبديًا رغبة في نفسهِ قضاها بقولهِ:
 لو أنا.. اشتريت الأرض؟-
لاحت إمارات الذهول على تقاسيم وجهها.. و تلقائيّا انعطفت نظراتها نحو "يامن" الذي كان ينفث دخان سيجارته ببرود شديد، و كأنها تسأله إن كان جديرًا بالثقة أم لا، فأشاح "يامن" بناظريه عنها ليرمق "مايكل" بنظرة صارمة ذات مغزى محدد، فحمحم "مايكل" و قد تفهم نظراته:
ـ I mean.. يامن مشغول now days
و صمت هنيهة و هو يتهرب من نظرات "يامن" التي تُعرّيهِ، ثم أردف:
- أنا ممكن أشتريها
و نظر نحوها مجددًا و هو يستطرد بابتسامة جذّابة:
ـ و ثقي بي.. سأُعيدها إليكِ هينما تُهل جميع مشاكلك
فزجرهُ "يامن" بنظرة محتدة و هو يبعد سيجارته عن شفتيه:
ـ مشغول ايه يا مايكل؟.. و هو شرا الأرض هيحتاج ايه غير توقيع و الموضوع يخلص
أطبق "مايكل" أسنانه و قد شعر أنه يوشك على سحب تلك الفرصة الثمينة منه، ثم قال مبتسمًا بتزييف:
  في هاجات أهم بالنسبة لك دلوقتيI think ـ يامن..
و عاد بظهره و هو يرفع كتفيه قائلًا بسلاسة:
ـ و لكنني.. متفرغ تمامًا
زفر "يامن" حنقًا و هو يحيد بأنظاره عنه، فكانت "يارا" ترمقه بعينيه ضائقتين، انتبه "يامن" إلى تلك الومضة بهاتفهِ و التي أعقبت رنينًا قصيرًا مُعلنًا عن وصول رسالة نصيّة توًا، تقلصت المسافة ما بين حاجبيه و هو يسحب هاتفه ليفتح الرسالة التي كانت تنص على:
ـ"واحدة بواحدة يا مينو.. بس كدا مش خالصين، زي ما قتلتها.. هقتلها"
....................................................................
................
............................................

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن