"الفصل الثمانون"

854 15 0
                                    

"الفصل الثمانون"
ارتدت كامل ثيابها و تأنّقت فيها باللون الأسود الذي يليق بها و بلون بشرتها، حيثُ بنطال أسود قماشيّ واسع و أعلاهُ كنزة سوداء اللون ، بفتحة صدر دائرية لم تبرز مفاتنها، و لكنها ضيقة مُجسمة نوعًا ما لجسدها، مُفتقرة لحمالات.. و عوضًا عنها فهي بشريط من نفس اللون يلتفّ حول عنقها فيُعقد من الخلف، متعريّا نوعًا ما، و لكي لا تتلقى منهُ احتجاجًا، أضافت إليهِ شالًا حريرًا أيضًا أسود، جلست "يارا" على طرف الفراش و شرعت ترتدي حذائها، ثم ارتفعت نظراتها إليهِ حين وجدتهُ يخرج لتوه من المرحاض عاري الصدر و قد ارتدى فقط بنطالهِ الأسود، أخفضت نظراتها مجددًا و هي تضع ساقًا فوق الأخرى ساحبة حذائها تهيّأً لارتدائهِ حينما كان هو يردد بتذمّر و هو يُجفف خصلاته بمنشفة قصيرة:
- مش عارف لازمتها إيه ترجعي تجيبي هدومك.. ما عندك كل حاجة هنا، لو ناقصك حاجة اطلبيها
بالفعل.. كان قد وصّى قبل وصولهما في إحدى أشهر المولات التجاريّة لجلب كافّة ما تحتاج إليه امرأة عقب أن أعطى مقاساتها و قياس أحذيتها، فأضحت بغنى عن استعادة ثيابها التي لم ترتدي معظمهم حتى، و لكنها أصرّت على العودة رغم ذلك، تحججت.. و لكن رغبتها الحقيقيّة أن ترى ذلك الأسر للمرة الأخيرة، ذلك المكان الذي أطبق سابقًا على أضلعها و كان گقيدٍ من حميم بالنسبة إليها، و لكنه أيضًا حمل لها ذكريات خاصة، بدايتهما.. و إن كانت غير راضية عنها قليلًا، و لكنها أيضًا لولاها لما كانت هنا، و لولا ما عانتهُ معهُ.. و لربما لا تزال تعانيه لما كانت برفقتهِ، تنعم بالأمان و بدفء أحضانـهِ.
رددت "يارا" كذبًا و هي تعقد رباط حذائها:
- يا بيبي قولتلك..في شوية حجات محتاجها من هناك، مش هنطول
ترك "يامن" المنشفة جانبًا و قد تجهم وجههُ و تفاقمت قتامة نظراتهِ نحوها و هو يتأمل كنزتها التي كشفت عن ذراعيها و عظمة الترقوة لديها، ضاقت نظراته فصارت أكثر احتدادًا و هو يخطو نحوها متسائلًا في استهجان:
- إيه اللي لابساه ده؟
ارتفعت نظراتها نحوهُ و هي تحمحم في خفوت، أخفضت ساقها عقب أن ارتدت فردتها، ثم سحبت بطول ذراعها من خلفها شالًا حريرًا و رددت بصوت خفيض:
- احـم.. ده معاه الشال بتاعه، انت مشوفتوش
فردد مقوسًا شفتيه و هو يجتذبه بعنفٍ منها:
- مشوفتش زفت، و إيه ده؟.. ده اللي هيداري
أومأت برأسها و هي تسحبه مجددًا بعسر من بين أنامله المتقلصة عليهِ:
- أيوة يا بيبي.. بص كده، مش مبين حاجة
و ارتدتهُ لتُبين له صحة نظريتها، و لكنه رمقها بنظرة غير راضية، سحب الوشاح عن ذراعيها و رماهُ جانبًا و هو يردد بلهجة متصلبة:
- قومي غيري اللي لابساه ده
و استدار عنها.. فتبين لها تشوّه ظهرهِ، كلما سقطت أنظارها عليه تستشعر انقباضة في قلبها، ليس نفورًا، و لكنهُ ألمًا من أن يظلّ حياتهِ هكذا، نفضت تلك الأفكار عن رأسها، و قد عادت لعنادها معهُ، نهضت "يارا" غير مبالية بفردة الحذاء الأخرى التي لم ترتديها و التقطت عن الأرضية وشاحها، استقامت و هي تتخصر بكفيها حينما كان هنو يسحب قميصهِ استعدادًا لارتدائهِ، فرددت مُحتجة بشدة على موقفهِ المعاديّ:
- يامن.. أنا حباه جدًا و عايزة ألبسه، و قولتلك مش مبين حاجة، مش فاهمة أنا إيه اللي مضايقك
فكانت نبرتهِ صلبة و هو يغلق أزرار قميصهِ ناظرًا لها من طرفهِ:
- اللي قولته يتسمع.. غيري الزفت ده
- تؤ
انحرفت نظراتهِ نحوها و هو يُضيق عينيهِ في احتدام مكررًا:
- تؤ!.. انتي قدها
أومأت برأسها و هي تردد بتعنّد زائد أثناء ارتدائها للوشاح:
- أيوة قدها.. عظيم؟
و جلست مجددًا غير مبالية بهِ لترتدي الفردة الأخرى من حذائها متجنبة النظر إليه، فـ أومأ "يامن" متوعدًا و هو يشيح بوجههِ عنها ليستكمل إغلاق أزرارهِ:
- عظيم.. متزعليش بقى من اللي هيحصل!
................................................................
جلست "ولاء" _تاركة عكازها جانبًا_ على مقعدًا أمام طاولة الطعام و قد فاحت رائحة الطعام الذي نزع "فارس" عنهُ أغلفتهِ توًا و شرع يرصه أعلاها، تنفست الرائحة بعمقٍ فشعرت بجوعها يتفاقم، تقلصت معدتها و هي تحثُه بتحفز ليستكمل رصّ الأطباق:
- آه.. مش قادرة، هموت من الجوع، بسرعة يا فارس الله يكرمك
ترك "فارس" آخر الأطباق التى أزاح غلافها و هو ينظر نحوها من طرفهِ:
- حد قالك متحطيش في بؤك لقمة من الصُبح!
فعبست "ولاء" و هي تتمتم بتذمر:
- ما انت عارف.. الهانم يورا مش راضية تطلع من أوضتها، و ماما مرضيتش تاكل حاجة، كنت هسيبها يعني و آجي آكل.. معنديش دم للدرجة دي
و جمعت خصلاتها التي تحجب رؤيتها خلف أذنيها و هي تنظر للطعام بشهيّة مفتوحة متبعة:
- لولا إنك جيت ماما مكنتش هتوافق تخرج من أوضتها هي كمان، ده بس عشان متكسفكش
فنظر نحوها مضيقًا عينيهِ، ثم سألها و هو يستند بكفيهِ للطاولة:
- أومال هي فيـن؟
تقوست شفتيها تبرمًا و هي تحيد عن الطعام الذي التهمتهُ بناظريها قبل أن تجيبه:
- أكيد بتتحايل على الهانم، قال إيه يعني هتخرج
فحذرها من التمادي في قسوتها على شقيقتها:
- ولاء.. بالراحة عليها شوية، الموضوع مش سهل زي ما انتي فاكرة
و أخفض نظراتهِ متنهدًا بضيقٍ أطبق على اضلعه، ثم غمغم في اقتضاب:
- مش سهل إنها تعرف فجأة إن حياتها كلها كذب في كذب
و كأنها اغتاظت من موقفهِ المحايد، فانعقد حاجبيها و تجهم وجهها و هي تردد بسخط مشيرة بكفها:
- ما أنا كمان اكتشفت كذب كتير في حياتي، أبويا قتل أخوه، طلع عندي عمين مش عم واحد فجأة، أبويا طلع متجوز من زمان، طلع عندي أخت معرفش عنها حاجة، أنا بردو اكتشفت حجات كتير و معملتش زي ما عملت هي
فحاول أن يزيح عنها ذلك الشعور، التوى ثغره بابتسامة هادئة و هو يردد و كأنه يُطري عليها:
- ده لأنك مميزة..أختك مش زيك
فاحتـدت و هي تضرب براحتها على سطح الطاولة و قد مالت ناحيته في وضعٍ هجوميّ بحت:
- مميزة و لا تقصد تقول باردة يا فارس!
فكان ردّهُ جادًا للغاية:
- أنا مقولتش باردة!.. بالعكس، انتي انسانة حساسة جدًا، لكن بتداري ده، و ده اللي يخليكي مميزة!
و كأنهُ نجح أن يمتصّ غضبها في بضع كلمات لم يرتبهم، و ترك لسانهِ الطلق لينسجهم و يلفظهم بصراحة مُطلقة، بهتت قليلًا و انجلى عن وجهها الامتعاض، رمشت "ولاء" عدة مرات و قد لانت ملامحها، حمحمت لتزيح الحشرجة المرتبكة عن صوتها و هي تعتدل في جلستها، ثم شكرتهُ بصوتٍ خفيض حافظت بصعوبة على احتدادهِ الظاهريّ:
- مرسي
تأمل التغير البادي على صفحة وجهها، و إجفال ناظريها عنه، فتقوست شفتيه بابتسامة زيّنتهُ، حتى انحرف عنها بنظره و هو ينتصب في وقفتهِ حين دلفت "حبيبة" غرفة الطعام يسبقها صوتها القانط:
- رفضت حتى ترد عليا.. طب أعمل إيه؟
فعرض عليها "فارس" من فورهِ و هو يدور حول الطاولة بجدية تامة:
- أكلمها لك؟
كانت قد سحبت ملعقتها استعدادًا لتناول من صحن الأرز الخاص بها، و لكنها ألقتها بعنفٍ و هي تستدير نحوه بحدة تامة و قد قدحت عيناها شررًا، لم يعجبها "حبيبة" الأمر كثيرًا، بل لم يعجبها تفتحهِ الزائد عن الحد الذي تضعه هي لبناتها، و وجودهِ هنا تحديدًا في عقر دارها، متعللًا بأنهنّ بنات عمهِ المتوفي و سيزورهنّ من آن لآخر، عبست "حبيبة" في وجههِ و لكنهُ ببراعة ضبط كلماتهِ و هو يقف قبالتها مرددًا بخشونة:
- أنا هقدر أخرجها من أوضتها.. متقلقيش!
و أشار بكفهِ و هو يمر من جوارها دون أن ينتظر استماعهِ لردّها:
- خليكي هنا و اسمعيها بنفسك
- صبرني يا رب!
لم تصل همستها لأيّ منهما و هي تنهض عن جلستها تاركة طعامها، لتقف جوار والدتها متابعة بأعين مقتنصة ما سيدور بين كليهما من حديث، و قد شعرت و كأن النيران تتوقد و يتفاقم لهيبها بداخلها.
.................................................................
لم يغادرها منذ مُدة.. و كأنه استشعر تواجدها في غرفتها المعبقة برائحتها التي فور أن فتح بابها و خطى بقدمهِ داخلها استقبلهُ الضوع بالترحاب، و لكنهُ بلغ روحه بالتياعٍ.
 كان يجلس أرضًا، مستندًا بظهره لواجهة الفراش، دافنًا وجههُ في إحدى أوشحة رأسها ذات اللون البنفسجيّ الفاتح "لاڤندر" و قد علقت بهِ رائحة خصلاتها الكستنائيّة، سؤالًا واحدًا يخترق ذهنهُ و يضنيهِ، أيّان انحدر لذلك السفح؟.. أكان انحدارهِ من الجرف بذلك اليُسر، أم أن سفح العشق هو من اجتذبهُ إليه و أجبره على الهبوط؟.!
أبعد "مايكل" الوشاح عن أنفهِ و قد تقلصت أناملهِ عليه، أطبق جفنيه و هو ينفخ في ضيق جثُم على صدره، دقائق مرّت عليه كان يحاول استجماع شتاتهِ فيها، حتى نهض عن جلسته أخيرًا مستقيمًا في وقفته، راح يخطو نحو خزانتها ليشرع في ضبّ ثيابها ليضعها بالحقيبة، تهيّئًا لبعثها لها، و لكنهُ  عقد العزم على الاحتفاظ لنفسهِ بذلك الحجاب الرقيق، الذي شبههُ بها.
...............................................................
- إيّاكي
كانت كلمة "يامن" التحذيريّة و أناملهُ تتقلص على المقود، فنفخت "يارا" متأففة و هي تنزح كفيها عن حافتيّ السترة الخاصة بهِ التي وضعها قسرًا عليها عقب أن همّت بخلعها، و أعربت عن تبرمها بـ:
- يا يامن اتخنقـت، أوف
فرمقها شزرًا من طرفهِ، ثم ردد متشفيّا بها بصلابة معهودة:
- عشان تبقي تنشفي راسك معايا تاني!
ارتفع حاجبيها و قد توسعت مقلتاها غيظًا، التفتت نحوهُ لترمقه باستهجان، ثم رددت باغتياظٍ متفاقم:
- ماشي يا بيبي.. ماشي!
صفّ "يامن" السيارة على جانب الطريق و أوقف المحرك، ثم ترجل عن السيارة دون أن يعقب بحرفٍ عليها، ترجلت "يارا" بدورها و هي تتأفف في اختناق من ذلك الجو، بالإضافة كون الكنزة التي ارتدتها لا يظهر منها شيئًا عقب أن أجبرها أن ترتدي سترته و تغلق أزرارها أيضًا، فغرق جسدها بداخلها و قد فسد مظهرها الأنيق بالكامل، أخفضت نظراتها لتتجول بوجهها المتقلص و نظراتها الشاجبة على ملابسها، فشعرت بدمائها تغلي في عروقها، خاصة حينما اجتذبها إليهِ بحركة بيد أنها ستصبح عادته ليلفّ ذراعه حول عنقها مجبرًا لها على السير مرددًا بصوتٍ أجشّ ساخر:
- لأ بس حلوة هدومك!
فرددت محذرة إياه من التمادي في تنمرهِ باشتدادٍ:
- يامن متستفزنيـش.. أنا دمي محروق لوحده
 - امشي
و سحبها للداخل بينما هي تتأفف كل دقيقة تقريبًا، انتصب البواب حالما رآهُ و هو يكاد يهلل استقبالًا لهُ، و لكن ابتُلعت كلماته في جوفه و ذهنهِ قد تشتت من طبيعة تلك الشخصية المريبة، لم يكترث "يامن" لهُ على الرغم من كونه لم يفوت نظراته المتعجبة الموجهة نحوها، و اصطحب زوجتهِ حتى المصعد، تتابعهُ أنظاره المشدوهة، و فور أن اختفى هو و زوجتهِ داخل المصعد كان الأخير يضرب كفًا بكفّ في عدم فهم لما يدور من حولهِ.
تعلقت أنظارها بأرقام الأدوار المُضيئة بالمصعد تترقب وصولهما لتخلع تلك السترة التي بغضتها، و أصيبت باختناقٍ أشدّ بذراعه المطوق لعنقها، فتشنج جسدها و هي تحاول الفكاك منهُ:
- يامـن، حاسب بقى أنا مخنوقة لوحدي بالزفتة باعتك دي
حكّ "يامن" بظهر إبهامه ذقنه و هو يردد بغير اكتراث دون أن يكلف نفسه عناء النظر إليها:
- معلش.. دلوقتي نوصل
- أوف
توقف المصعد لدى الطابق المنشود، و من فورهِ فتحت أبوابهِ تلقائيًا، خطى "يامن" مجتذبًا إياها للخارج و هو يأمرها بغِلظة:
- قولتلك تبطلي عناد معايا.. كلامي مبحبش أعيده مرتين
نظرت نحوهُ من طرفها و هي تخرج برفقتهِ مدمدمة بتمقّط مُحتجّ:
- أنا مبحبش الطريقة دي قولتلك، الله
- حكّ مجددًا ذقنهِ بظهر إبهامهِ مرددًا بجمود:
- معلش.. مع الوقت هتتعودي!
حدقت عيناها.. و تسمرت ساقيها بالأرضية و قد بدت و كأنها رأت شبحًا لتوّها، انفرجت شفتاها في عدم تصديق فتغضن جبينه في عدم فهم لذلك التغيير البادي بوضوحٍ على وجهها الذي شحب فجأة، انحرفت نظراته تلقائيًا ليتطلع لما تسلت أعينها عليهِ، فاضمحلّت المسافة بين حاجبيهِ و قد ضاقت عيناهُ فصارتا أكثر احتدادًا، حتى استمع إلى صوتها الهاتف بتقطعٍ متلعثم:
- عُـ..عمـر!
........................................................
نفخت بتذمّر معترض عمّا يتفوه بهِ الذي من المفترض أن يكون ابن عمها، اضطرت آسفة أن تخرج إليهِ لكي تستمع إلى ما سيتفوه بهِ، فـ "فارس" خبير في التعامل مع ذلك الجنس اللطيف بطبعهِ، و بلباقتهِ أجبرها أن تلبي طلبهُ، و لكنها لا تزال متشنجة منفعلة في أي حركة أو إيماءة تصدر عنها، انعقد ساعديّ "يورا" و هي تعتدل في جلستها المتحفزة، مقاطعة إياهُ بتأهّب لهجومٍ شرس تشنه عليهِ:
- يعني إنت عايزني أقتنع في يوم وليلة إني بنت واحدة تانية معرفش عنها حاجة!.. انت لو مكاني كنت هتعمل إيه؟ هتترمى في حضنها
زفر "فارس" بحنقٍ و قد شرع صبره ينفذ حقًا، و لكنه ببراعة عمد إلى دحر سخطهِ بعيدًا، و حاول أن يحتفظ بآخر ذرات صبرهِ علّه يتمكن من حل تلك المعضلة:
- أكيد لأ.. و مقولتش إنك غلطانة، أنا مطلتبش منك غير إنك تحاولي
فكانت كلمتها الموجزة متذمرة بتعنّتٍ تام:
- مقـدرش
- تقدري، لو حطيتي ده في دماغك هتقدري
و اعتدل في جلستهِ و هو يستند بمرفقيه لركبتيهِ متابعًا بلهجة جادة:
- تقدري يا يورا.. عارفة ليه؟ عشان انتي عارفة كويس أوي إن حبيبة مغلطتش غلطة واحدة تستاهل تحاسبيها عليها!
و ارتفع حاجبهُ استنكارًا و هو يتابع بنبرة ذات مغزى واضح:
- و متأكدة.. إن الغلط كان غلط أبوكي و اللي عاملة نفسها أمك
فرددت بتشنج منفعل و هي تحلّ ساعديها:
- مسمحلكش
أطبق جفونهُ ثم فرقهم توازًا مع ترديده في صرامة متريّثة:
- صح و لا أنا غلطان؟
تأملت تقاسيمهُ لثوانٍ، ثم عمدت أن تدحر تفكيره لنقطة أخرى، تعتبر سببًا رئيسيًا لخروجها لمواجهتهِ، علّهُ يجد إجابة لسؤالها:
- انت تعرف نائف؟.. تعرف إن هو اللي قتل بابا
تغضن جبينهُ تعجبًا لتطرّقها لذلك الحديث، ثم أومأ و هو يشبك أصابعه معًا متسائلًا في اقتضاب:
- عارف.. بتسألي ليـه؟
توهجت أنظارها و هي تعتدل في جلستها مكررة سؤالها بصيغة متقاربة:
- يعني هو اللي قتل بابا فعلًا
لم تجد منهُ ردًا.. حيث غاص في أبحر ذكرياتهِ و قد كان متيقنًا أن والده كان لهُ يدًا أيضًا عقب أن تأكد من كونهِ مشتركًا مع "نائف"، زفر "فارس" لهيبًا متقدًا من صدره فكان بمثابة إجابة لـ "يورا" التي كورت أناملها، ثم ضربت بحدة مسند أريكتها و هي تقبض فكيها، ثم رددت باستهجانٍ:
- "Lanet olsun, neden?"
- "لعنة الله عليه، لماذا؟"
ضاقت عينا "فارس" نحوها في عدم فهم لما تتفوه به، فرددت من بين أنفاسها المهتاجة و هي تغرس نظراتها الملتهبة في عينيهِ:
- ليه؟.. قتله ليـه؟ بابا عمله إيه عشان يقتله؟
فردد " فارس" و قد تقوست شفتيه في حدة:
- كان لازم يواجه مصير زي ده، أبوكي مش ملاك، أبوكي قتل.. قتل أخوه عشان الفلوس، و مكفاهوش.. كان هيقتل ابنهُ.. "يامن"
و صمت هنيهة يتأمل تلك الحمرة التي شرعت تغزو وجنتيها، ثم تابع بصوتٍ خشن:
-  خدك من أمك و قالها إنك ميتة عشان تكوني مع مراته التانية، لسه مش قادرة تقتنعي
فصرخت في المقابل باستهجان تام لذلك التغيير الجذريّ الذي أصاب حياتها:
- و انت عايزني أستوعب كل ده ازاي؟.. هــا؟
فكان ردّه جافًا للغاية:
- مقولتش استوعبي و لا هاممني تستوعبي و لا لأ!
و أشار بسبابتهِ و هو يردد من بين أسنانه المطبقة في انفعال:
- اللي يهمني شخص واحد بس و هو حبيبة اللي معملتش ذنب واحد تحاسبيها عليه يا بنت عمي، متبقيش انتي و الزمن عليها
حادت "يورا" بوجهها عنهُ و قد خطت عبرة واحدة عن عينيها، فرددت محاولة الحفاظ على قسوة لهجتها:
- مش عايزاها.. أنا عايزة حد بيحبني، و ماما هوليا بتحبني حتى لو مكنتش بنتها الحقيقيّة و مش هستغنى عنها
فردد محاولًا التخفيف من وطأة الأحداث و وقعها على نفسها:
- و أنا مقولتش استغني عنها، أنا قولت اتقبلي الحقيقة، متعذبيش أمك الحقيقية أكتر من كده، متعذبيهاش.. عشان هتندمي
و نهض عن جلستهِ مستقيمًا في وقفته و هو يردد محذرًا إياها من التمادي بلهجة عميقة على الرغم من غِلظتها:
- الندم ده وحش.. وحش أوي، جربته قبل كده يا بنت عمي، و مش عايزك تجربيه، مهما كان الدم واحد، و مش هتمنى إنك تعيشي بعذاب الندم بعدين
ارتفعت أنظار "يورا" نحوه و قد ومضت عيناها ببريق العبرات اللامعة، حينما كان هو يردد و كأنه يلقي كلماتهِ الأخيرة إليها:
- كلمة عايزك تحطيها في دماغك متنسيهاش.. محدش هيحبك أكتر من أمك الحقيقة اللي حملتك في بطنها تسع شهور و استحملت ألم الولادة عشان تجيبك للدنيا
أجفلت "يورا" جفونها و قد شعرت و كأن الخور يصيبها، و غمغمت إينذاك باستنكارٍ مرير:
- محدش فاهمني.. و محدش هيفهمني، أنا مش قادرة.. مش قادرة
انحنى "فارس" بجذعهِ عليها قليلًا ليكن إليها أقرب و هو يردد بإصرارٍ حازم:
- هتقدري.. مش عايزك في ثانية تروحيلها و تقوليلها أنا مقتنعة بوجودك، لكن حاولي.. حاولي تتقبلي الموضوع و هي مش هتجبرك على حاجة
نظرت نحوهُ بأعينها الوامضة باستفهامٍ، فتابع شارحًا لها و هو يميل برأسهِ للجانب قليلًا:
- يعني دلوقتي.. تروحي تعدي معاهم، تاكلي معاهم، دي أمك.. و دي أختك الكبيرة، مش لازم تضحكيلهم، مش لازم تتصنعي الفرحة قدامهم، خليكي على طبيعتك، دول في النهاية عيلتك، دمك!
و كأنهُ يتفهم شعورها بالفعل، حيث تلمس ذلك الوتر الحساس لديها، تسلطت عينا "يورا" على عينيهِ القريبتين، ثم غمغمت و قد شرعت في البكاء من بين نحيبها المكتوم:
- أنا وحيـدة، حاسة إني وحيدة، ليه بتجبروني أكون في وسط ناس بحس معاهم بالوحدة؟
بسط "فارس" كفهُ عفويًا ليحتضن كفها المسنود أعلى ركبتها، و و ضمّ أصابعه عليهِ محاولًا تعزيز شعورها بالثقة من نفسها:
- مش وحيدة.. أنا جمبك، أمك جمبك، و ولاء جمبك، كلنا معاكي
انعقد حاجبيها و هي تسألهُ من بين شهقاتها الخافتة:
- يعني.. انت هتقف جمبي لو احتاجتك؟
أومأ "فارس" برأسهِ و هو يردد من فورهِ:
- أكيد.. ما قولتلك، أنا في ضهرك، في النهاية الدم واحد زي ما قولتلك
استشعرت شعورًا آخر.. و كأنها وجدت من تحتمي بهِ، و من سيكن لها عضدًا، بعد والدها الذي توفي و خسرتهُ في مقتبل عمرها، وجدت نفسها تلقائيًا تنهار في نوبة بكاء حارقة و هي تشيح بوجهها بعيدًا عنه، سحبت "يورا" كفها من أسفل كفهِ لتدفن وجهها فيه، ثم غمغمت من بين نشيجها الذي تعالي قليلًا:
- أنا تعبانة أوي.. تعبانـة
عاد "فارس" يجلس من جديد و هو يحرر زفيرًا خارًا من صدرهِ، و تلك المرة جلس جوارها ليحاول التخفيف عنها، و لكنه تفاجأ بها تلقى نفسها في أحضانهِ و هي تتابع من بين شهقاتها:
- أنا عايزة هوليا.. عايزة ماما هوليا، مش كفاية إني خسرت بابا، كمان هخسرها
زمّ "فارس" شفتيه في انزعاج، ثم ربت برفقٍ على ظهرها و هو يردد بلهجة جادة:
- ما قولتلك.. مش هتخسريها و لا حاجة، الوقت اللي هتعوزي تشوفيها فيه هوديكي بنفسي عندها
فرددت باستهجان قاتم:
- ازاي؟.. ازاي و الهمجي التاني حكم عليا أتسجن هنا؟
فبرر لها فعلة "يامن" قائلًا بتريث:
- ده بس عشانك مش راضية تتقبلي، لكن صدقيني.. لو حاولتي زي ما قولتلك مش هيمتنعك من ده، و قولتلك.. أنا بنفسي هكون معاكي، تمـام؟
ابتعدت "يورا" عنهُ قليلًا لتشمل وجههُ بنظرة متشككة، فانفرجت شفتيه بابتسامة هادئة و هو يردد بصوتٍ أجشّ:
- خلاص بقى.. قولتلك هكون جمبك، هـا؟.. اتفقنا؟
سحب منديلًا ورقيًا من علبة المناديل أعلى المنضدة، و قدمهُ إليها، فسحبته من بين أناملهِ و هي تعيد حساباتها، بينما تحاول التحكم في نوبة بكائها، فقد شعرت بالغيظ يتفاقم بها كونها قد أظهرت ضعفها أمامهِ، إلا من شهقة انفلتت من بين شفتيها ما بين الحين و الآخر، نزحت عبراتها فردد "فارس"  بلهجة أكثر جديّة و هو يتأمل قسماتها التي ارتخت قليلًا و قد احتلّت الحمرة وجنتيها:
- اتفقنا؟
anlastik- تمـام.." اتفقنا"
من تعبيراتها فقط تفهم معنى كلمتها، فتضاحك بخفوتٍ و هو ينهض عن جلستهِ مُستنبطًا:
- متهيألي بتقولي اتفقنا.. صح؟
أومأت "يورا" برأسها و هي تستأنف نزح دموعها، حينما كان يردد:
- يالا..أكيد جعانة
نهضت "يورا" عقب دقائق استغرقتها في التفكير القاتل، و لكنها توقفت أمامه مباشرة و هي تسألهُ متشبثة بهِ بنظراتها فقط:
- انت.. هتسيبني دلوقتي
فقال "فارس" و قد لان لها قليلًا، محاولًا استمالتها ليكن الوسيلة التي ستربطها بعائلتها الجديدة، فناغشها بـ:
- هاكل معاكي يا ستي.. ما أنا كمان جعان، و لا انتي بخيلة و لا طفسة و لا إيه بالظبط؟
رغمًا عنها تزين ثغرها بابتسامة مرتعشة و هي تخفض عينيها عنه، فأشار لها بكفهِ و هو يردد بلباقة مُشاكسة:
Ladies first- اتفضلي..
................................................................
لم يكن ذلك ما تؤمن بهِ قطعًا، كانت تعتقد أن القلب لا يهوى إلا مرة واحدة، و لم تكن تعلم أنها حقيقة مؤكّدة، و لكن.. لربما لم تحب، لربما كان مجرد إعجاب لقريبٍ لها، تجري في عروقهم ذات الدماء، لربما لأنها ظنّت أنه أرادها بالفعل، أحبها كما اعتقدت أنها أحبتهُ، اعتقدتهُ سندًا لها بعد والدها، رجلًا تعتمد عليهِ، سامحت و تخطت و تجاوزت، و لكنها أخطأت.. أخطأت خطئًا جسيمًا بسكب كامل ثقتها بين حناياه، لم تكن سوى لونًا يضيفهُ للوحتهِ البشعة، وسيلة ليصل لأرض والدها التي تبقت منه، و لكن ما لم تدركه سوى مؤخرًا أنها سقطت في شباك الشيطان، لم تتلقى منهُ سوى الخذلان، وجدت أنهُ من الصواب ان تنتزعه من ذهنها.. تلك البذور التي انغرست بقلبها ستجتثّها، أو أنها اجتثتها ؟.. أم أنه لم تكن هنالك بذورًا حتى؟ و تسائلت مع نفسها.. أأحبت فعليّا؟ أم أنها أُعجبت؟ أم لم تكن تشعر ناحيتهِ سوى شعورها بالاحتياج؟ فقد ظنّت_ بسذاجتها_ أنها ستجد لوالدها بديلًا فيهِ، و كان ذلك خطأها الأكبر، والدها ولى، لم يعد له وجود و لم تجده مجددًا.. و لكن....
في حين كانت الأفكار تعصف برأسها توقفت عند تلك النقطة.. لمَ لاحت صورته بالأفق؟ أ لأنهُ قدم إليها مساعدة؟ أم لأنهُ أنقذ حياتها سابقًا من موت محتم، أم لأنهُ آواها في بيتهِ و تركه لها في تصرف لم تكن تتوقعه منه مطلقًا؟ أم لأنه وفى بوعودهِ، أم.. أم.. أم!.؟
لمَ.. لا تجد و لا تعتقد أنها ستجد إجابة، تفكيرها يقودها نحوهُ دومًا، و كأن جميع الطرق تؤدي إليهِ، و كيف ستنزحهُ عن تفكيرها و هي تجلس في غرفتها مُحاطة بثيابها و ثياب أختها التي بعثها لها و كان هو مُقتنيها، زجاجات العطور و مستحضرات التجميل التي لم تمسّها، للحظة أطبقت جفونها و قد أصابتها حالة عجيبة..
 سمحت لنفسها باستنشاق تلك الرائحة التي اخترقت حاسّة الشم لديها معلنة احتلالها لأراضيها، إنهُ العطر الذي يستخدمه "مايكل" دومًا، عطر فريد من نوعهِ لم تشتمه من قبل سوى معه،.. كانت فور أن تشتم تلك الرائحة تصاب بالنفور، و الاشمئزاز من شخصهِ و فكرتها الأوليّة عنهُ، و لكنها اليوم تتخيله أمام ناظريها.. تتخيل لحظة التقطتها عيناها قبلًا و ضربت ذهنها فور أن اشتمّت تلك الرائحة، حينما سقطت أعلى الدرج و كان آخر ما رأتهُ عيناها صورتهِ، و ما اخترق أذنيها صوتهُ المميز، ما ذلك الشعور العجيب؟.. أتكفي بضعة أيام قضتهم أن تنقل إليها ذلك الاحساس و تجعلهُ يسكن غرفات قلبها الأربع؟ أم أنها أيضًا تخطأ مجددًا، أستترك قلبها ينجرف مجددًا نحو المجهول؟ أم تقيّده بأغلال من حميم و تُشدد زمامهِ، هي تخشى أن تندم مجددًا.. تُخذل مجددًا.. تـ.....
و انقطع تفكيرها عند تلك النقطة و قد فتحت عيناها و دبّت ارتعاشة قوية في جسدها، لقد تركت تفكيرها ينحدر نحوهُ و تناست كليًا أنه و كأنهما من كوكبين متباينين، هو مسيحيّ.. و هي مسلمة، هو أمريكيّ.. و هي مصريّة، كلٌ مختلف.. العقيدة، الإيمان، العادات، التقاليد، الصفات، و....
انتشلت من أوج شرودها لتتنبه لحديث والدتها التي كانت تعلق الثياب بشماعاتها و تضعهم داخل الخزانة واحدًا تلو الآخر:
- إيه كل ده!.. هو كان عامل حسابه تقضي باقي العمر معاه؟
رنت إليها بنظرة قانطة، ثم نفخت متذمرة و هي تهمّ بالنهوض دون أن تجيب، و لكنها استبقتها حينما رددت محتجة من تصرف ابنتها:
- كان المفروض أرجعهم تاني، معرفش إنتي موافقتيش ليه، إحنا من امتى بنقبل حاجة من حد
فصرخت بها "رهيف" استنكارًا:
- هو في إيه يا ماما بالظبط؟.. أنا مش  شايفة إن مايكل عمل حاجة تخليكي تكرهيه للدرجة دي
رمتها "سعاد" بنظرة من طرفها، ثم دست الشماعة بالخزانة دون أن تجيبها، تهدجت أنفاس "رهيف" من فرط انفعالها المفاجئ، ثم رددت و هي تهبّ واقفة على قدميها:
- قولي يا ماما.. في إيه بالظبط
فرددت "سعاد" عقب أن زمت شفتيها بقنوط:
- مفيش
فتشبّثت "رهيف" بيقينها التام من:
- لأ في.. في حاجة حصلت و انتي مش راضية تقوليهالي، أكيد في حاجـة
فكانت لهجة "سُعاد" حازمة للغاية و هي تقول:
- رهيـف..أنا مش شايفة إن اللي حصل يخليه ييجي على بالي أصلًا، لا بكرهه و لا مبكرهوش
و أشارت لما تبقى من ثياب لم تعلقها بعـد:
- لكن أظن إن مكنش ليه لزوم كل ده، و أنا مش مخلياكي تحتاجي حاجة عشان توافقي تاخدي الهدوم دي، لا انتي و لا أختك
خبى قليلًا انفعالها، و لكن وجنتيها ظلتا محتفظتين بالحمرة حينما كانت تقول مبررة موقفها بفتور:
- و كنا هنقضي اليومين دول ازاي؟.. باللبس اللي علينا؟
زفرت "سعاد" زفيرًا مطولًا، ثم قالت بلهجة جادة:
- مش قصدي.. لكن خلاص انتي رجعتي و ...
قاطعتها "رهيف" متوسلة إياها بضجرٍ تام:
- ماما.. صدقيني أنا تعبانة و مش قادرة أتكلم في حاجة، يا ريت بقى تسيبيني بعد إذنك
و قبل أن تحتجّ "سعاد"، كانت "رهيف" تخرج من حجرتها، انتقلت بخطاها نحو غرفة شقيقتها الصغرى، و ولجت للداخل، حتى وجدتها تجلس مفترشة الأرضيّة، واضعة دميتها القطنيّة ذات الشعر الكستنائيّ المسترسل، و الثوب ذو اللون الورديّ، و بينهما كوبين ضئيلين و دورق بلاستيكيّ، حالما رأتها "رهف" انبعجت شفتيها مهللة و هي تهبّ على قدميها:
- رهف.. شوفي، أنا و "كلوي" عاملين حفلة شاي، تعالي اشربي معايا
تغضن جبين "رهيف" و هي تدمدم متسائلة:
-كلوي!!
أومأت "رهف" مشيرة لدميتها و هي تردد بابتهاج:
- أيوة.. سألت مايكل عن اسم ليها، قالي أسميها كلوي
تنهدت "رهيف" بحرارة مُلتهبة من أعماقها و هي تتطلع لتلك الدمية، حتى استمعت "رهف" لنداء والدتها القادم من الخارج، فرددت و هي توفض بخطاها المبتهجة:
- جايـة يا ماما
 ظلّت نظراتها عالقة على الدمية، حتى انسحبت "رهف" تمامًا من الغرفة و تركتها وحدها، خطت "رهيف" نحوها و انحنت لتلتقطها عن الأرضية، جلست على طرف الفراش و هي تمسد على خصلاتها و قد اكتظت عيناها بالعبرات، و أحداث سالفة تُعاد نصب عينيها، فلم تشعر "رهيف" بنفسها سوى و هي تنخرط في نوبة بكاءٍ حارقة.
......................................................................
لم يكن يتساءل كيف أضحى في أحضان الوطن دون أن يكون على علمٍ بذلك، حيثُ كان قد فصل الطاقة نهائيًا عن هاتفهِ منذ البارحة، و تكهن أنه إن فتحهُ سيجد آلاف المكالمات و الرسائل التي بُعثت إليه، لم يُشده من وجودهِ، و لم يبد ردّ فعلٍ يعكس ما اعتمل في نفسهِ مع رؤيته لهُ نصب عينيهِ.
حاولت "يارا" أن تخلص نفسها من ذراعه المُحكم حولها، و لكنها فشلت، توهجت وجنتيها و بعثتا بحمرة مُستحية إليها و هي تهمس لهُ بخفوت أثناء محاولاتها الجمّة:
- يامـن.. ابعد شوية، مينفعش كده
و لكنه لم يكترث لقولها، و لم يكترث لـ "عمر" أيضًا، اصطحبها للباب فتنحى "عمر" مجبرًا ليعبرا، حينها فقط حرر "يامن" زوجته فتراجعت للخلف و قد بهت لون وجهها، أخرج "يامن" سلسلة مفاتيحهِ، و شرع يديره في الثقب و هو يتجنب النظر إليهِ، و لكنه لم يمكن من منع نفسه من استراق نظرة من طرفهِ إليه حينما ردد "عمر" بلهجة ساخرة:
- مش هتقولي حمد الله على السلامة حتى!.. و لا أنا خلاص، مبقتش أخوك!
ابتلع غصة عالقة في حلقهِ و هو يحيد عنه، فتح "يامن" الباب و دفعهُ ليفتحه على مصراعيهِ، عاد خطوة للخلف و هو ينظر نحوهُ نظرة مكلومة في باطنها، و لكنها لا تحمل سوى الصلابة في ظاهرها أثناء قولهِ الآمر:
- ادخـل.. يا أخويا!
التوى ثغر "عمر" بابتسامة جانبية متهكمة، أومأ برأسهِ ثم أشار لـ "يارا" بعينيهِ و هو يردد مُتشدقًا:
ladies first- هدخل.. بس تدخل هي أولًا،
و تسلطت نظراتهِ المعبأة بالحقد نحوها و هو يردد و قد أبرز أسنانهِ البيضاء في ابتسامة شرسة:
- و لا إيه يا بنت عمي؟
ازدردت "يارا" ريقها و نظراتها المتوجسة معلقة بهِ، ارتجف قلبها من نظراته، بدى و كأن "فارس" أعلمهُ قبلًا بتلك الحقيقة التي أدركها، و تلقائيًا.. أحاطت بطنها بذراعيها و هي تتراجع خطوة للخلف، أجفل جسدها و شعرت بأنفاسها تتهدج خشية من حدوث الأسوأ، و تلقائيًا أصرفت بصرها عنهُ لتستنجد بزوجها بنظراتها، فـ أشار "يامن" لها بعينيهِ لتدلف، و بترددٍ.. خطت "يارا" رويدًا رويدًا، و كأنها تؤخر خطوة و تقدم الأخرى، حتى مرّت من جوارهِ، فتعلقت أنظارها بهِ، لتجدهُ يبعث لها نظرة أشعرتها بالأمان، جعلت مخاوفها تتبدد قليلًا، دلفت "يارا" للداخل، فـ حدا "يامن" عنها لينظر نحو أخيهِ، و أشار لهُ بعينيهِ آمرًا إيّاه بصلابة:
- ادخـل
تقوست شفتيه فتورًا، و لكنه ولج في النهاية، فدلف "يامن" من خلفهِ موصدًا الباب من خلفهِ، ترك سلسلة مفاتيحهِ، ثم التفت نحوه و هو يردد ببرودٍ ظاهري:
- وصلت امتى؟
قابل "عمر" سؤالهِ بـ سؤالٍ و بلهجة مُتهمة:
- انت اللي حرقت القصر؟
- القصـر!
انفلتت منها تلك الكلمة المتعجبة و هي تنظر نحو "يامن" بأعين توسعت قليلًا، فزفر "يامن" و هو ينظر نحوها بضجر، كونها لا تزال متيبسة محلها، و بعينيهِ أشار لها ليأمرها بنبرة قاتمة أجفلتها:
- ادخلي جوا
فهدر "عمر" مستبقيًا إياها بحزمٍ:
- لا مش هتدخل، لازم تعرف المصايب اللي حلت على دماغنا من أول ما ظهرت هي و عيلتها
فلم تقف ساكنة أيضًا، خوفها الذي بددتهُ أحالتهُ قوة تتسلح بها، فراحت تردد بأعلى صوتٍ لديها و هي تشير إليهِ:
- المصايب دي مش بس بسببي، كمان بسبب أبوك
- يــــارا!
أجفل جسدها من صوتهِ و قد أدركت أن انفعالها كان سيقودها لأمر غير محمود العواقب، زمت "يارا" شفتيها و هي تحرف نظراتها نحوهُ، فكانت نظراتهِ المُضطرمة كتحذيرٍ أخير لها، و هو يردف بنبرة أحياها الوعيـد قاصدًا الضغط على أحرفهِ:
- ادخلي.. جوا
ضمت "يارا" عفويًا طرفي السترة إليها و كأنها تستمد منها القوة، فردد "عمر"و قد انعقد حاجبيهِ:
- قصدك إيـه؟.. أبويا اللي أبوكي قتله؟
  همّت بالتحدث.. و لكن قبل أن ينفجر في وجهها كانت تنكس رأسها و هي تنسحب من الوسط المتقد، دلفت لغرفتهِ، موصدة الباب من خلفها، حينما كان "عمر" يردد مقوسًا شفتيه بازدراء:
- أنا مشوفتش بجاحة في بجاحتها!
فحذرهُ "يامن" بقولهِ و هو يُطبق أنامله مكورًا كفهُ:
- لم لسانك و شوف انت بتتكلم عن مين
انحرفت نظرات "عمر" المستهجنة نحوهُ، و قبل أن يهمّ بالإجابة كان "يامن" يردد و هو يحل أولى أزرار قميصهِ متقدمًا عنه بضعة خطوات:
- قول عايز إيه
فـ ألقى سؤالهِ و هو يزفر في حنقٍ:
- القصر.. انت اللي حرقته؟
- أنا
توسعت عيناهُ بجنون غير مستوعبًا إجابتهِ الباردة، حملق فيه فوجده يقف موليًا إياه ظهره امام الحائل الزجاجيّ، عاقدًا كفيه خلف ظهره في وضع ثابت انفعاليًا للغاية جعل ما بهِ من امتعاض يتفاقم، زأر "عمر" باستهجان تام:
- انت؟
لم يمنحهُ "يامن" نظراته التي أبقاها مسلطة على الأفق البعيد و هو يردد بصلابة:
- أيوة
رمش "عمر" عدة مرات محاولًا استيعاب ما ألقى على آذانهِ توًا، و ما لبث أن توهج وجهه بحمرة قانية و هو يزأر باستنكار:
- ليـه؟ عملت كده ليه؟ ليـــه؟
و صمت هنيهه يلتقط أنفاسه اللاهثة ثم تابع:
- القصر اللي قضيت في حياتي.. اللي عيشت فيه، اللي كان ليا ذكريات فيه، القصر اللي أبويا اتقتل فيه، و اللي أمي ماتت فيه، القصر اللي جمعنا كلنا، تحرقة بالبساطة دي
فلم يصمت حينئذ و لم يتمكن من التشبث بقناع برودهِ مُطولًا، و سريعًا ما أسقطه و هو يلتفت نحوهُ ليجأر بـ:
- أمـك مماتتش.. أمك اتقتلت، سامــع؟ اتقتلت!
ضاقت عينا "عمر" فتفاقم احتدادهما و هو يردد شاجبًا قولهِ:
- نعـم.. اتقتلت!
أطبق "يامن" أسنانهِ ثم التفتت مجددًا مشيحًا بوجهه عنه، و هو يردد بلهجة قاتمة مُشددًا على كلمتهِ:
- اتقتلت.. و أنا خدت حقها
و أحنى أهدابه قليلًا و قد انطبقت أضلعهِ حتى ما عادت تتسع لقلبه:
- مهما عملت مكانتش تستحق إنها تتقتل
هزّ "عمر" رأسه نافيًا ما يقول و هو يتراجع خطوة للخف، غير قادرًا على تصديق ما يقول:
- مش.. محصلش، مستحيل تكون اتقتلت، مستحيــل!
و أشار إليه موجهًا إصبع الاتهام نحوه متابعًا باحتدام:
- انت.. انت اللي قتلتها، لو كانت انتحرت فانت السبب في موتها
فزأر "يامن" و قد اصطبغ وجههُ بالحمرة:
- قولتلك منتحرتش..اتقتلت
- كـــذاب، انت بتقول كده عشان تريح نفسك، عشان تريح ضميرك اللي محسسك بالذنب
نهج صدر "يامن" علوًا و هبوطًا و هو يناظره من طرفه باحتدام، ثم أشاح بنظراته عنه ليحدق مجددًا بالحائل و هو يردد من بين أسنانهِ المطبقة بانفعال:
- اتقتلت.. دي الحقيقة، صدقت مصدقتش، مش مشكلتي
كاد "عمر" يُهشم أسنانه و هو يقبض فكيه بقوة، أشاح بوجهه عنه و هو يحكّ عنقه بانفعال، ثم أردف متسائلًا بتشنج:
- عمي فين دلوقتي
- في جهنم!
حدقت عيناهُ باندهاش و هو يعيد النظر نحوهُ، حقيقة أخرى سقطت كشهابٍ ثاقب على رأسهِ، و بغير استيعاب ردد متسائلًا:
- نعـم
ردد "يامن" بثباتٍ غير عابئًا من بين أسنانهِ:
- قتلته
ارتد جسدهِ خطوة للخلف مبتعدًا عن محيطه و قد شعر بساقيه هلاميتين غير قادرتين على حملهِ و نظراته المذهولة عالقة بهِ، فغر شفتيه و قد سقط جسدهُ أعلى أقرب أريكة متهاويًا، و بشدوه ردد بصوتهِ الخفيض الغير مصدق:
- قتلت.. و عمك؟
و انخفضت نظراتهِ و هو يردد بخفوتٍ تائه:
- قتلت.. عمي، عمي كمال!
جثُم الاختناق على صدره و أضلعه و قد شعر بالأرض تضيق عليهِ بما رحبت، أطبق "يامن" جفونه و قد شعر بأنه على حافة الانهيار فعليًا رغم ذلك الثبات الرهيب الذي يظهره، انفلتت عبرة من بين جفنيه المنطبقين لم يتمكن من كبحها، فرّق "يامن" جفونه و هو يبتلع ريقه محاولًا ازاحة تلك الغصة التي علقت بهِ، فمن سفك دمائهِ بيده ما هو إلا والد من اعتقدهُ شقيقهِ في حين أنهما لا يربطهما دمّ الأخوة من أي جهة، ما هو إلا ابن من دبّر لقتل والده، إلا أنه لا يقتنع حتى الآن أن من حيا من أجلهِ طوال تلك السنوات ليس أخيهِ، و ماذا ان لم يربطهما رابط الدمّ؟.. يكفي رابط السنون التي مضت ليكن "عمر" أخيه هو.. لا أخًا لـ "فارس".
ارتفعت أنظار "عمر" المستهجنة نحوهُ و هو بالكاد قد استوعب تلك الحقيقة، فنهض متحفزًا عن جلسته و خطى نحوه باندفاع و هو يجأر بتشنج:
- ليـه؟ عمل إيه يخليك تقتله؟.. ليـــه؟
استدار "يامن" بكامل جسده إليه و قد فقد آخر ذرات هدوئهِ، فكان اندفاعًا منهُ أن ينقضّ قابضً على تلابيبهِ ليقربهُ إليه غارسًا عينيه المتقدتين بعينيّ الأخير المستهجنتين و قد برزت شعيراتهِ الدموية فصارتا كجمرتين متوهجتين، و قبل أن يهمّ "عمر" بمحاولة تحرير نفسه التي يعلم جيدًا أنها كانت ستبوء بالفشل، كان "يامن" يُنذره بلهجته الحالكة:
- ليـه؟ عايز تعرف ليه؟.. عايز تعرف وسخت إيدي بدمه النجس ليـه؟ أقولك
و اهتزّت عضلة من عضلات فكيه و هو يفرق أسنانه المطبقة ليزأر من بينهم بزمجرة مريبة:
- عشان اللي اسمه عمي.. قتل أمك، و قتل أبويا، قتل مراته، و قتل ابنه معاها
و أزاح إحدى كفيه عن عنقهِ ليشير بسبابتهِ مستأنفًا:
- مراته اللي قال هربت مع عشيقها اتقتلت و ابنها في بطنها، و أمك اللي فاكرها انتحرت قتلها عشان ميتكشفش، عرفت ليه و لا أقول كمان؟
فلم يلقَ منهُ إلا رأسهِ الذي هزها بالسلب، رافضًا ما يلقيه على سامعهِ، و من ثم هدر محتجًا بضراوة:
- كـــذب، كل ده كذب، كـــذب
فكان صوتهُ كالرعد في دوّيه المريب و هو يجأر:
- الكذب هو حياتي اللي عيشتها، حياتي اللي انت متعرفش عنها حاجة، الكذب هو وجودي، الكذب.. هو أي حاجة كنت مصدقها و كنت فاكرها حقيقة، كلهُ كـــذب، كل حاجة كانت كذب
و أشار بسبابتهِ إلى نفسه متابعًا بابتسامة شرسة:
- عارف أنا مين.. أنا ابن سهير.. ابن الخدامة، أمك مش أمي.. أمك، مكانتش ليا أم في يوم!
يكاد قلبهُ يبلغ حنجرتهِ من فرط ما تلقاه و سقط على مسامعهِ بقسوة تامّة، ازدرد "عمر" ريقه و قد أجفل جسده، ارتخت تعبيراته المتشنجة ليحدق في وجههِ بذهول، و بتيهِ تام كان يغمغم هاذيًا:
- لأ.. انت.. انت أكيد مش في وعيك
اتسعت ابتسامة "يامن" المتهكمة و التي حملت خلفها مرارة فائضة لاحت في نظراته، ثم ردد مستهجنًا:
- استكفيت من الأكاذيب، و لا عايز تسمع كمان؟
فجأر" عمر" باستهجان تام:
- بطل جنان.. انت أخويا، أمنا هدى.. هدى يا يامن
- مش أخـ......
- يامــــن
التفت نحوها فوجدها تقف بوجهٍ شاحب و قد تركت غرفتها عقب أن أدركت أنه في حالة لن تسمح لهُ بالصمت، و قد شعرت بالفعل أنهُ سيفضي إليه القول بما يحملهُ في صدره و يلتاع به، احتوت كتفه بضغطة خفيفة متوسلة و هي تحذره بنظراتها ليكفّ الحديث، محاولة جعلهُ يدرك العواقب التي لن تكون محمودة، اهتزّت عضلات صدغه إثر قبضه فكيه، فتقل "عمر" نظراتهِ المشدوهة بينهما، و هو يردف في ارتياب:
- مش.. مش إيه؟ انتي وقفتيه ليه؟
 لم تحد بنظراتها عنهُ متوسلة إياه، حتى أشاح بوجهها عنهُ إليه حين ردد مطالبًا بتفسير موضّح و باستئناف لكلماتهِ المنتقصة:
- انتي عارفة إيه أنا معرفوش.. قصدك إيه بالظبط
و نظر نحوهُ و هو يردد متشبثًا في حقهِ بمعرفة ما يدور من حولهِ:
- اتكلم يا يامن.. مش إيه، اتكلم
- مش أ....
فقاطعتهُ مجددًا بارتياعٍ مُشدد من ضغطها على كتفه:
- يامــن
زفر بحنقٍ و هو يدفعهُ بعنف للخلف محررًا ياقتهِ و مضى مبتعدًا عن محيطه، فردد "عمر" و أعينهُ تكاد تفيض من الدمع:
- قول يا يامن.. أنا مش إيه، اتكلم
تنفست الصعداء و هي تتابعهُ بنظراتها، ثم رددت بصوتٍ خفيض هادئ و هي تنظر نحو "عمر" مغمغمة:
- ينفع.. ينفع تمشي دلوقتي؟
فردد بنبرة قاطعة و هو يلتفت نحوها ليردعها بنظراتهِ:
- مش ماشي من هنا غير لما أعرف في إيه تاني مخبيينه عني، سامعـة
فرددت "يارا" بحزمٍ و قد استجمعت شتاتها:
- مفيش حاجة تعرفها، انت عرفت كل حاجة، أعتقد إن فارس قالك إننا ولاد عم، كل اللي لازم تعرفه إن بابا و عمي كمال اشتركوا في قتل عمي يوسف.. عشان فلوسه
و أطبقت أسنانها و هي تنظر نحو "يامن" نظرة مكلومة، دون أن يلويها وجههُ كانت تستشعر ما يدور بداخله، ثم تابعت عن عمدٍ، محاولة تأكيد حقيقة اخترعتها:
- انت ابن هدى هانم، و يامن.. ابن سهير
و نظرت نحوهُ متابعة بلهجة أشد بأسًا:
- سهير.. اللي المفروض يتقالها سهير هانم، اللي عمي يوسف اتجوزها قبل والدتك، لكن لأنها خدامة رفض يعقوب يعترف بيها كزوجة ليه
أطبقت أسنانها و هي تصمت هنيهة، ثم تابعت و هي تحيد بنظرها قليلًا عنهُ:
- عشان كده أجبرهُ يتجوز.. يتجوز هدى هانم الريحاني، اللي عمك كمال قتلها عشان كانت عارفة بجرايمه
- يـ.. يعني إيه؟
و نظر نحو "يامن" و قد انساب العبرات المستنكرة من عينيه و هو يعقد حاجبيهِ متسائلًا بلهجة حارقة:
- يعني إيه يا يامن؟.. احنا.. احنا أخوات من الأب بس؟
و أخفض أهدابه فتابعت العبرات طريقها على وجنتيهِ مرددًا باستهجان:
- ده ازاي؟.. ازاي؟
و ابتلع غصة عالقة في حلقهِ و هو يرفع نظراته نحوه مجددًا، ثم ردد مضيقًا عينيهِ:
- يعني.. يعني كل حاجة كانت كذب.؟
و تلفت حولهُ في تيهٍ تام متابعًا و هو يحاول الاستيعاب:
- كل حاجة كذب!. فعلًا.. فعلًا مش أمك
و ابتسم في مرارة متهكمة و هو ينظر نحوهُ مجددًا:
- سـ..سهير، سهير اللي كنت بعتبرها أمي.. تـ..تطلع أم.. أم أخويا؟!.
تغيّمت عيناهُ بسحابة الدموع التي شوشت رؤيتهِ قبل أن تتحرر من مكمنها و تخرج منهما و هو يقول:
- سهير.. طلعت مرات أبويا! أبويا كان متجوز! متجوز قبل ما.. ما يتجوز أمي
و أشار لنفسهِ مرددًا باستهجان:
- و انا.. أنا ابن مين؟.. أمي هدى و أبويا يوسف، و لا.. و لا أنا كمان ابن حد تاني
شدد "يامن" على عضلات فكيهِ و قد فشل في كبح عبراته التي اكتظت بعينيهِ، و رغمًا عنهُ نفرت الدموع عن أعتابهما، حتى شقّت طريقها على وجنتيهِ، ارتعش صدغيه و هو يُطبق أكثر على أسنانه حين ردد "عمر" و قد تعالى صوتهُ في استنكار مُحتدم:
- ما تقول يا يامن.. انت أخويا، و لا كمان دي كذبـة
أشاحت "يارا" بوجهها و قد فاضت عيناها بالعبرات الحارقة التي انسالت من فورها مغرقة وجهها، أطبقت جفونها بقوة و قد تقوست شفتيها مستشعرة ألم زوجها الذي يقف ثابتًا رغم ذلك، حتى جأر "عمر" و هو يكور أنامله أثناء مضيه نحوه:
- اتكلـم، أنا ابن مين.. ابن ميـــن؟
التفت حينئذ و هو يحدجهُ بنظرة مطولة من بين عبراته القاتمة، و لم يشعر بنفسهِ سوى و هو يجتذبهُ بعنفٍ مُشددًا من ذراعه حول عنقهِ زائرًا بـ:
- تعالى
فلم يقاوم كثيرًا، لقد كان في احتياجٍ رهيب لذلك العناق الذي يحتويه عقب ما عاناه، دفن وجههُ في تجويف عنقهِ و هو يترك لشهقاتهِ المكتومة العنان بالصعود في حرقة تملكت منهُ و من قلبه، فكوّر "يامن" أناملهِ و هو يشدد من قبضه على فكيه، من يحتويه في أحضانهِ.. تسري دماء "كمال" التي سفكها بنفسهِ في أوردته، من يُشدد من عناقهِ ما هو إلا ابن قاتل والده، و كأن من كُتب عليهِ أن يحيا معهم ما هُم إلا معذبيه جميعًا، هو.. و أخيه "فارس".. و زوجته، و لا يمكنهُ الاستغناء عن أيّ منهما.
 و من والدهِ؟.. ذلك الشيطان الذي ارتكب بحقّ والدتهِ جرمًا لا يغتفر؟ حياتهِ.. ما هي إلا جحيم، جحيمًا فعليًا بكل تفاصيلها الدقيقة، جحيمًا استعرّت نيرانهِ و وجدت لنفسها مستقرًا بقلبه فنشبت فيهِ، و ليس لهُ منها مفرًا، و لم يقوَ على التحمل أكثر.. دفعهُ بعنفٍ عنهُ و هو يشيح بوجهه الذي تصلب عنه على الرغم من عبراته المنحوتة على وجنتيهِ مرددًا بحزمٍ قاسي:
- امشي
فتوسلهُ "عمر" و هو يتشبث بساعدهِ:
- يامن..يامن، أنا...
اجتذب من فورهِ كفه منه و هو يردد من بين أسنانه المطبقة متجنبًا النظر إليه:
- امشي.. امشي من هنا
- يامن
فجأر حينئذ و هو يصرف بصره تلقائهِ:
- قولت امــــشي
انبثقت نظرة معاتبة لائمة من عينيهِ المكتظتين بالعبرات، و رغم ذلك ظلّ جامدًا محلهِ لا يقوى على الحراك، و كأن ما علمهُ توًا من حقائق مريبة جعلت داخلهِ يختضّ في احتياج لاحتواء أخيه و والده الثاني له، داحرًا قسوتهُ الزائفة التي أظهرها.
 زمّ "عمر" شفتيه و هو يحاول جاهدًا التحكم في نوبة بكائهِ الحارقة حتى خفتت تمامًا، فلم يعد سوى عبراتٍ منهمرة دون وعي من عينيه المستنجدتين بأخيه الذي حاد من فوره عنه، حتى انتبه إلى تلك التربيتة الحانية لكتفهِ و هي تهمس لهُ بصوت خفيض:
- معلش.. امشي دلوقتي، كل حاجة هتتصلح بينكم
انحرفت نظراتهِ نحوها لتتبدل للنقم المُشعّ منهما، و لكنها لم تكترث، شددت "يارا" على كتفه بضغطة محذرة أدبرتها بقولها الواثق:
- امشي يا عمر، هساعدك.. انت كمان ساعدتني قبل كده
نقل "عُمر" نظراته بين عينيها الزرقاوين، لم يكن ليعلم مُسبقًا أن ما يسري بعروقهما نفس الدمّ، حقيقة أخرى غريبة أدركها من "فارس".
و راح يقارن فجأة.. بلا سابق إنذار و لا يعلم لمَ حتى، سابقًا.. آخر مرة أطال فيها النظر إليها كانت غير، كانت لا تزال ضعيفة.. كوريقاتٍ تذروها الرياح حيث تشاء و تعبث بها أنّى تريد، اليوم يري نظرة واثقة تطلّ من عينيها، و شموخٍ تجلى في وجهها و تعبيراتها الجادّة، وكأنها اكتسبت من طِباع أخيه و صفاته، انتُشل "عمر" من أوج شروده على انصراف أخيه من أمامهما، ليعاود الوقوف متيبسًا أمام الحائل الزجاجي
 فانحرفت عيناه تلقائيًا نحوه ليلفظ أنفاسًا مُعبّأة بالمرارة التي تعجّ في صدره، و بهدوءٍ يكمن خلفه اهتياج روحه، كان "عمر" يزيح كفّ "يارا" عنه ليتهيّأ للرحيل عقب أن استرق نظرة أخرى لأخيه الذي رفض أن يُمنّ عليه بالالتفات،  ولج "عمر" خارجًا موصدًا باب الشقة من خلفهِ، التفتت "يارا" نحوه حينها، تابعت وقفتهِ الشامخة و كأنهُ طود و هي تخترقهُ بزرقاويها المشتعلتين، فالتقط ببراعة ما يجيشُ به صدره و يواريه عن الجميع..
فوجـود "عمر" أمامهُ فتق جرحًا لم يرتق بعد بروحه، و نزفت دماء بغزارة منهُ مجددًا، نزحت ما علق من عبرات بأهدابها التي تُظلل أمواج عينيها، و مالت برأسها للجانب قليلًا، محررة تنهيدة مُتقدة من أعماقها.
حينما كان "يامن" مرتكزًا ببصره على نقطة دون غيرها، شخصًا بدى ضئيلًا من تلك المسافة، فور أن رآه يخرج عن العمارة، أخرج هاتفهِ و مرر أنامله على شاشتهِ، ثم رفعهُ لأذنه ليردد بصوتٍ ثاقب و بكلمة واحدة فقط:
- وراه
و أنهى المكالمة، دسّ الهاتف في جيبهِ مجددًا، حلّ "يامن" أزرار قميصه الأولى و قد شعر باختناقه يتفاقم محتلّا أضلعه، ثم التفت متجنبًا النظر إليها، و قد داهمتهُ رغبة مفاجئة حثّته على الظعن و الابتعاد و لو لفترة قصيرة، و لكنها سدّت الطريق عليه بجسدها، توقف "يامن" أمامها مجبرًا فسألتهُ و هي تعقد حاجبيها:
- يامن.. انت رايح فين؟
فكان وجههُ متجهمًا للغاية، و قد اضمحلّت المسافة بين حاجبيه و هو يجيبها مارّا من جوارها:
- شوية و راجع
تشبثت بكفهِ و هي تلتفت لتسد عليه مجال العبور مجددًا، غرست نظراتها بين عينيه التي حادت إليها فاستشعرتهما يُطلقان شررًا مُستعرًا نحوها، فرددت "يارا" باستنكارٍ تام:
- هتسيبني؟.. تاني؟
فجأر باندفاع محتدم و هو يجتذب كفه منها:
- قولتلك راجع
فناطحتهُ بالرأس و قد اشتدت نبرتها:
- و اضمن ازاي رجوعك؟.. أضمن ازاي انك هترجع؟ ما انت مشيت قبل كده و مكنتش هترجع، سيبتني لوحدي و كنت هتموت
و كأنهُ سئم من جدالها، أشاح "يامن" بوجهه عنها و هو يزفر في نفاذ صبر، و ما إن همّ بالحديث كانت تضم وجههُ بين كفيها، متلمسة لحيتهِ بأطراف أناملها، مجبرة إياه على النظر لعينيها مباشرة، و أسفرت محاولتها عن النجاح، تقابلت عيناهُ المتوهجتانِ مع أمواج عينيها العميقتين، و قد تلاطمت فيهما مشاعر مختلطة، حتى همست بنبرة عميقة تسللت لروحه مباشرة:
- انت قولتلي، قولتلي أخليني معاك، و مش هسيبك لوحدك في وقت زي ده
لانت نظراتهِ، و خمد النيران التي نشبت في خُضرتهما قليلًا، ارتخت عضلاته المتشنجة، و لكنه احتفظ ببقايا قسوتهِ، نزح "يامن" كفيها عن وجنتيه، و أشاح بوجهه عنها و هو يردد بلهجة جافّة:
- عايز أبقى لوحدي
- تؤ
انحرفت نظراته التي شعّت استهجانًا نحوها، فحررت كفيها من بين راحتيهِ القاسيتين، و رفعتهما قليلًا لتتشبث بعضدهِ و هو تجبره على السير بقولها الهادئ:
- تعالى معايا
و أجلستهُ على الأريكة بينما هو يزفر في ضيقٍ متأفف زائف، جلست "يارا" أمامهُ جاثية على ركبتيها أرضًا ، و احتفظت بكفها على ركبتهِ و بالآخر مسحت على بشرتهِ الخشنة، فـ أبعد وجهه عن أناملها حائدًا عنها، تنهدت بحرارة، ثم أتبعت ذلك بقولها الجاد:
- يامن.. عمر أخوك، أخوك انت
فكانت لهجتهِ حالكة و هو يردد:
- مش أخويا.. أخو فارس
زمّت شفتيها بضيق، مستشعرة ما يعتملُ في نفسه و هي تتجول بناظريها على ملامحهِ، ثم عبست و هي تسألهُ بعتابٍ:
- و كنت هتقوله ببساطة؟
تقوست شفتيهِ استهجانًا و هو يردد:
- لازم يعرف
و نظر لعينيها مباشرة و هو يستأنف بحزمٍ محاولًا مواراة ما تكنّه نبرتهِ من مرارة، مستثقلًا ما سيقول:
- عمر أخو فارس.. لازم يعرف الحقيقة دي، لازم يعرف إني مش أخوه
اشتدت ملامحها و قد غزاها اصرارٌ تام، ضغط "يارا" على كفهِ مشددة من احتوائها لهُ متعمدة بثّ رسالة ضمنية لهُ أثناء قولها الحاسم:
- انت أخوه.. انت اللي ربيته و اتعود على وجودك في حياته، انت اللي عيشت عشانه و لسه هتعيش عشانه، انت اللي استحملت أي حاجة عشان خاطره يا يامن، انت اللي أخوك اتعود على وجودك في حياته، و كان مستني بس منك حضن تحتويه فيه
انتقلت نظراتهِ الجامدة بين عينيها، فارتفع حاجبيها و هي تُشدد على كلماتها التالية:
- انت مش بس أخوه.. انت أبوه، انت أبوه يا يامن
و صمت هنيهة لتلتقط أنفاسها مرددة بنبرة حانية و هي تمسح بكفها الآخر على شعيرات صدغهِ مجددًا:
- انت.. انت اللي قولت بنفسك انك حاولت تزرع يوسف فيه، انت اللي ربيته يا يامن و......
ابتسامة جانبية ساخرة حملت ما يفيضُ من التهكم و هو يقاطعها بقولهِ الجاف المتشدق:
- كنت بضيعه.. ضيعته من غير ما أعرف
نفت "يارا" بالسلب من فورها و هي تردد و قد ارتفع حاجبيها تعجبًا لقولهِ:
- أبـدًا.. صدقني عمر....
أشار بسبابتهِ و هو يردف مقاطعًا إياها باستهجانٍ تام:
- كنت بحاول أحميه من واحد و** عشان أزرع فيه واحد أو**
فعاتبتهُ بقولها الحازم لتماديه، و هي تنزح كفها عن وجههِ:
- يامن.. مهمًا كان ده والدك، و خلاص مات، ميجوزش عليه غير الرحمة
اهتزّت عضلة من جانب صدغه إثر إطباقه المشدد على أسنانهِ، منحها نظرة مُتقدة و قد تشنج وجهه مجددًا و احتلّتهُ قتامة حالكة، أشاح بوجهه عنها حينما كانت هي تتابع بنبرة مُحتدة:
- عمر انت ربيته أحسن تربية، أي حاجة عملها فده كان في لحظة غضب، و أي حاجة قالها عني أنا مسامحاه فيها، لأنه مش مدرك حتى هو بيعمل ايه
فكان قولهُ صلبًا بصوتهِ الأجشّ و هو يناظرها من طرفهِ باحتدام:
- عمر مش صغير عشان.....
قاطعتهُ و هي تحنى بصرها مُطرقة و هي تشدد من ضغطها على كفهِ في توسلٍ ليتوقف عن اجترار الذكريات البائسة برفقة تلك الحادثة:
- مفيش داعي نفتح موضوع أنا قفلته من زمان، لأنه بيرجع لي ذكريات مش حابة أفتكرها
رنا إليها بنظرة مطولة فتراءى لهُ ما أحياهُ ببساطة في نفسها، تكوّرت أنامله في امتعاض و قد التهب وجهه و هو يشيح به عنها من جديد، و ردد عائدًا لصلب الموضوع:
- عمر مش أخويا.. دي الحقيقة اللي لازم تتعرف
 فرفعت أنظارها إليه و هي تطرد زفيرًا حارًا من صدرها، ثم قالت باستدراك:
- و فارس أخوه؟.. فارس اللي سابه من زمان هو ده أخوه؟
عاد يرنو إليها بنظراتهِ، فتشبثت بها بعينيها و هي تهز رأسها في استنكارٍ مُشددة على كلماتها:
- فارس.. معملش أي حاجة عشان يستحق الأخوة دي، مش عشان اللي بيربطهم الدم يبقى هو أخوه
و بأناملها الناعمة.. أخذت تمررها على أناملهِ الخشنة متلمسة إياها و هي تتابع:
- يمكن الدم مش دم أخوات، لكن في رابط أهم من رابط الدم، رابط أعظم بينكم
و هزت رأسها بالسلب و هي تدمدم مستأنفة بنبرة عميقة للغاية:
- رابط الدم في الزمن ده ملوش أي معني يا يامن.. صدقني
أحنى نظراتهِ عنها في امتعاضٍ تام، فتابعت:
 - عمر.. أخوك انت يا يامن، و صدقني.. عمره ما هيكون زي كمال، عمر هيكون زيك.. زيك انت، انت مغلطتش في حقه، و مفشلتش في تربيته، و الأيام هتثبتلك
لم تلقَ منهُ ردّ فعل، حتى تشنج وجهه، و كأنه تذكر توًا ما تفوهت بهِ، فراح يغمغم من بين أسنانه المُشددة:
- لأ بس حلوة الكذبة اللي كذبتيها دي!
انعقد حاجبيها متعجبة و ضاقت عيناها و هي تهمس في استنكار:
- كذبة!
نظرة واحدة ناريّة صوبها لعينيها جعلتها تدرك مقصده، فارتفع كتفيها و هي تحنى أهدابها قليلًا عنه:
- انا مكذبتش.. دي الحقيقة
انفعل و هو يتحفز في جلستهِ، و باندفاعٍ محتدم ردد:
- أنا ابن حرام.. دي الحقيقة، مش اللي انتي قوليته
گشظايا مُوجعة علقت بأطرافها الحادة في راحة قلبها، ارتفعت نظراتها المكلومة نحوه حينما كان يردد و جانب ثغره يرتفع عن ابتسامة هازئة:
- اللي انتي قولتيه مجرد رواية كذابة تضحكي بيها على نفسك.. الحقيقة أبشع من كده بكتير
و همّ بالنهوض، و لكنها تشبثت بكفهِ فأجبرتهُ على التسمر محلهِ حينما كانت تردد و قد أجفلت أهدابها عنهُ مجددًا:
- اتجوزها يا يامن.. اتجوزها، أرجوك تبطل تفكر بالطريقة دي
- دا ميغيرش الحقيقة
فارتفعت أنظارها نحوه و هي تردد باتهامٍ لهُ:
- و الحقيقة اللي انت عارفها دي، حننت قلبك عليها؟.. و لا لسه رافض حتى إنك تكلمها، انك تقولها كلمة ترضيها بعد السنين اللي استحملتها عشانك
فكانت نبرتهِ جافة للغاية عكس ما توقعت منهُ و هو يحيد عنها بنظراتهِ المتقدة مقوسًا شفتيه:
- مطلبتش حاجة منها، هي اللي رخّصت نفسها
توسعت عيناها و قد فغرت شفتيها في شدوهٍ لما تمتم به، ثم رددت معاتبة بقسوة:
- رخصت نفسها عشان رضت تعيش بالشكل ده عشانك؟
فانفعل و هو يجيبها بتشنجٍ بادي:
- أيوة رخصت نفسها، لما ترضى بالعيشة تحت رجليه يبقى رخصت نفسها بعد ما...
و اقتُطع صوته داخل جوفهِ غير قادرًا على استئناف حديثه، فشعر بكلماتهِ الملتهبة التي كاد يدفعها في وجهها تحرق جوفهِ بنيرانٍ لا تُخمد..
نهضت "يارا" عن جلستها لتعتلي الأريكة بجوارهِ و قد تجلى الاشفاق في نظراتها لما يعانيهِ بصمتٍ مُتكتم في بطانه، بهدوءٍ شديد.. سحبت رأسه لتُسكنها أعلى صدرها، فامتثل لها مُضطرًا، هو بالفعل يحتاج ذلك العناق، دفنت "يارا" أناملها في خصلاتهِ الناعمة  و شرعت تمشطها لهُ للخلف و هي تردد بتنهيدة حارة:
- انسى بقى.. انسى، انت ملكش ذنب في حاجة
أطبق جفونه مستشعرًا أصابعها التي تتلاعب بخصلاتهِ و كأنها تحاول امتصاص طاقتهِ السلبية، حتى رددت بنبرة مريرة عقب أن أطلقت سراح زفيرًا ملتهبًا عن أضلعها:
- أنا عارفة إنك جواك كلام كتير، مش عارف ترتبه و لا عارف تقوله، لكن أنا فهماك من غير ما تتكلم، و عارفة إنك كل ما تحس إنك خلاص بدأت تتأقلم ترجع تعرف إنك مش قادر تعدي، لكن حرام اللي بتعمله في نفسك ده، دي خلاص.. حاجة عدت و محدش يقدر يغيرها، لو مهما احتجيت و انفعلت مش هتقدر تغيرها، محدش هيقدر يغير الماضي، لكن انت تقدر تغير المستقبل، تقدر تـ....
- شـشـش
قاطعها "يامن" بصوتٍ صارم، و هو يعتدل في جلستهِ ليترك رأسه أعلى فخذيها، ممددًا ساقيهِ أعلى مسند الأريكة التي لم تحتوِ طولهِ بالكامل، ظلّ مطبقًا جفونه و هو يسحب راحتها إليه، محتويًا لها و هو يتبع همسهِ بـ:
- مش قادر أسمع حاجة، أنا تعبان
اغرورقت العبرات في مقلتيها أسفًا و هي تتأمل وجهه الذي ارتخى قليلًا عن كثب، و بأطراف أناملها عادت تتلاعب في خصلاتهِ، دون أن تلحظ مرور الوقت، و لكن لم يكن من العسير عليها أن تلحظ تلك العبرة الحارقة التي انسالت من بين جفنيه المُغلقين قسرًا لتسير عموديّا فتسقط بالنهاية أعلى فخذها، مستقرة على بنطالها القماشيّ الأسود، المماثل للون ثيابهِ، فـ وكأنها استقرّت كنحتٍ على جيد قلبها بوتد حادّ، انطبق قلبها على أضلعها فشعرت و كأنه لم يعد يتسع لقلبها النابض.
 ضمّت شفتيها المرتعشتين تأثرًا، تلك العبرة التي تذرفها عيناهُ من حين لآخر تقصّ ما لم يرويهِ بلسانهِ، عبرة واحدة تكفي.. لتدرك مدى معاناتهِ و وصب روحه، و لا تدرك كيف ستتمكن وحدها من تضميد جروحه الغائرة..
 و أي جروح؟.. أظلّ بقلبهِ ما يُجرح؟ أظلّ من جروحهِ ما يُضمد؟ أم أنه أضحى صار رُفاتًا بجروحه و دمائهِ التي نزفها بحورًا، أم أضحى رمادًا عقب أن نهم منهُ اللظى ما نهم، و ترك ما لا يمكن إعادتهِ..
 و لا تعلم لمَ.. عاد شريط حياتهما و بدايتهما أمام عينيها، حينها.. كانت تظنّ أنه الجحيم بعينهِ، فـ إذ بها تدرك أن الجحيم ما هو إلا حياته، و جحيم حياتهِ اينذاك لا يقارن بجحيمهِ الآن، كان يشنّ حروبًا من أجل شخصٍ ظنهُ يستحق، فـ إذ بالحقيقة القاسية و الواقع الأليم يبتلعهُ كهوة عميقة، لو كان جبلًا لما صمد كما يتماسك هو أمام ما يجبر على مقاساتهِ و تحملهِ، لو كان جبلًا لانهار حقًا، و ها هو لا يزال يحتفظ بصفاتٍ أكسبتها الحياة لهُ.. و أولها التكتم التام، حتى أنها لا تزال لا تعلم كيف انفجر سابقًا ليعلمها بما يدور في نفسهِ، و كأنهُ من فرط ما يكبته و يُلجم لسانه عنهِ انفلت فجأة، و كأنهُ حتى نادمًا أشد الندم، كونهُ شعر بأنه عرّى نفسه أمامها، و إن كانت هي الأقرب إليهِ حاليًا.
.....................................................................
و گأن ما يضخّه قلبها ما هو إلا حميمٍ ينساب بأوردتها لا دماء طبيعيّة، و هي تتطلع إليها بعينين ملتهبتين و قد تشبعت وجنتاها بحمرة قانية، عقب أن استمعت.. بل و رأت بعينيها هاتين كيف ارتمت في أحضانهِ، و لم يكلف "فارس" نفسه حتى عناء صدها، و من ثم انحرفت نظراتها نحوه، و هي تضيق عينيها في توعد..
 و للعجب أن نظارتهِ كانت مسلطة عليها، مما أربكها قليلًا و جعلها تبهت و تكفّ لثوانٍ عن انفعالاتها المصاحب لأي حركة عادية تصدر عنها، و لكنها عادت تتشنج مجددًا حين أسقطت "يورا" ملعقتها دون قصد و هي تحركها بصحنها و قد تناولت منهُ ما لا يزيد عن ربعهِ، تعاني حالة من التوتر الممتزج بالامتعاض التام، كونها أُجبرت على معايشة تلك اللحظات العسيرة، مستشعرة نظرات الجميع مُنصبّة عليها.
 و بدون انتباه منها، أفلتت الملعقة فسقط أرضًا، و حينما انحنت بحركة عادية لتلتقطها كان "فارس" الجالس جوارها تحديدًا ينحني من فورهِ ليسحبها عن الأرضيّة، و لم يكفِ أن كفيهما تلامسا و كلاهما يقصد الملعقة، بل و حين سحبها "فارس" أولًا كونه قد أمسكها أولًا عقب أن أزاحت "يورا" كفها عن كفه، اعتدل كلاهما في ذات اللحظة، فاصطدمت جبهتها بمقدمة رأسهِ، ترك "فارس" الملعقة دن اكترث لما حدث، و كأن شيئًا لم يكن، و عاد يستأنف تناول طعامهِ، و لكن ما جعل نيرانها تلتهب أكثر.. أن تعلقت نظرات "يورا" بهِ و قد توهجت وجنتيها بحمرة خجلة، و كأنهُ كان متعمدًا أن يفعل، لم تقوَ "ولاء" على تحمل الضغط أكثر من ذلك، و قد شعرت و كأنها ستنفث دخانًا من أذنيها، فصاحت فجأة باندفاع عجيب جعل "حبيبة" التي علقت بأنظارها على ابنتها تتنبّه إليها:
- لأ.. كده كتيـر، كتيـــر أوي
انعقد حاجبيّ "فارس" متعجبًا ما أصابها، و نظر نحوها نظرة عادية و هو يسألها عقب أن لاك الطعام في فمهِ:
- هو إيه دا اللي كتير؟
و تساءلت "حبيبة" بدورها في استغراب:
- مالك يا ولاء؟
تقبّض كفها أعلى الطاولة و هي ترمق "يورا" التي منحتها نظرة من طرفها، ثم عادت تعبث بملعقتها في الصحن غير مبالية، فرددت "ولاء" عقب أن حمحمت من بين أسنانها المطبقة:
- قصدي.. الشطة، الشطة كتيرة أوي في البروست
فردد "فارس" تلقائيًا:
عشانك spicy  - أنا جايب
 و بعفوية بسط كفهُ ليلتقط قطعة دجاج من صحنٍ بلاستيكيّ آخر و قدمهُ إليها على الرغم من كونهُ يعلم ما تحبّذ، و لم يمنع نفسه من القول:
- عمومًا لو عايزة عادي اتفضلي، مع إني عارف إنك بتحبي الحار
كلما امتعضت منهُ يمتص غضبها ببساطة و عفوية دون حتى أن يدرك ذلك، ارتخت ملامحها و لانت نظراتها و هي تحملق بهِ، و انتقلت بنظراتها نحو صحن الأرز الأصفر اللون المرفق مع الوجبة، و قد ترك قطة الدجاج أعلاه، رمشت "ولاء" عدة مرات و قد همّت شفتيها أن تنزوي بابتسامة، و لكنها تماسكت بعسر بالغ و هي تتصنع الجدية التامة:
- شكرًا
ترك "فارس" ما يزيد عن منتصف صحنهِ و هو يلقي نظرة لشاشة هاتفه الذي تركه أعلى الطاولة، ثم سحبهُ متعجبًا الوميض الذي أخذ ينبثق من الجزء العلوي لشاشتهِ، معلنًا عن وصول رسالة لم يستمع إليها كونهُ مفعلًا الوضع الصامت، نهض عن جلستهِ أثناء ذلك، و هو ينظر لـ "حبيبة" التي لم تتناول شيئًا تقريبًا:
- كلي كويس يا حبيبة، انتي مكالتيش حاجة من الصبح
- باكل يا فارس
نظرت "يورا" نحوها من طرفها، بلا اكتراث ظاهريّ، و لكنها أولتهُ جمّ انتباهها و قد تصاعد توترها حين رأته ينهض عن جلسته، و من فورها هبّت على قدميها و هي تسألهُ بتهلفٍ مرتاع:
- انت هتمشي؟
أومأ برأسهِ مرددًا:
- أيوة.. لازم أمشي
و انحرف بنظراته نحو "حبيبة" متابعًا:
- لو احتاجتي حاجة كلميني يا حبيبة
أومأت بقلة حيلة و قد بدى الانكسار عليها و هي تردد متهدلة الكتفين:
- حاضر يا فارس
همّ "فارس" بأن يمضى نحوها، و لكن استوقفتهُ "يورا" و هي تتشبث بمعصمهِ محتجة:
- بس..
- آآآآآه!
قالتها "ولاء" بصراخٍ حانق، فنظر نحوها مرتاعًا مما حلّ بها، سحب عفويًا كفه من الأخيرة ليمضى نحوها هي، و انحنى عليها يسألها بقلقٍ بدى على وجهه:
- مالك؟.. رجلك حصلها حاجة
و نهضت "حبيبة" هي الأخرى، وقفت جوارها و هي تردد بهلع:
- مالك يا ولاء؟.. حصل لك إيه يا بنتي؟
هزت رأسها بالسلب و قد عادت الك الحمرة المتأججة تضرب وجنتيها:
- نـــار
فتغضن جبين "فارس" و هو يسألها:
- نار!.. نار إيه؟
أشاحت بكفها و هي تفغر شفتيها و كأن النيران تنبعث من جوفها، ثم رددت بامتعاض و هي تبعث شرارات نارية لأختها:
- نار.. أصلي كلت شطة كتيــر
قدّمت "حبيبة" لها من فورها كوبًا من الماء و تركتهُ أمامها و هي تردد بتلهف:
- طب خدى اشربي ده، إيه بس اللي يخليكي تاكلي منها
تغضن جبينه و هو يردد ملتقطًا شيئًا ما و قد ضاقت عيناه:
- مالك يا ولاء؟.. انتي على طول متعودة على الشطة
ضربت براحتها على الطاولة و هي تنقل نظراتها نحوهُ مرددة:
- و محرقتنيش غير النهاردة، في مانـع؟
كادت أهدابهِ تلتصق ببعضها و هو يضيق عينيه أكثر مستشعرًا خطبًا لا يفهمه، فسحبت "ولاء" كوب المياه و هي تنقل نظراتها نحو أختها، و شرعت ترتشف منهُ و أنظارها مسلة عليها، حتى انتصب "فارس" و هو يُنغض رأسه في عدم فهم لما يدور ببالها، حتى انتبه إلى "يورا" التي رددت و هي تشمل كلا والدتها و "ولاء" بضيقٍ، ثم سحبتهُ من ذراعهِ و هي تردد بخفوتٍ وصلها:
- ممكن ثانية على انفراد، عايزة أقولك حاجة
- طبعًا، تعالي
و كأن المياه علقت في منتصف حلقها، أبعدت "ولاء" الكوب عن شفتيها و قد سعلت إثر الاختناق الذي أصابها، فشرعت "حبيبة" تمسد على ظهرها برفقٍ متعجبة لحالها:
- بسم الله الرحمن الرحيم، مالك يا حبيبتي؟
التفت "فارس" من فورهِ قبل أن يهم بالحراك و قد تغضن جبينه مجددًا، و ما إن كاد يتجه نحوها حتى سحبتهُ "يورا" مرددة باستهجان:
- لو سمحت
فسار معها طواعية لخارج المطبخ، تتابعها أنظارها المتوقّدة، و قد شعرت و كأنها تجلس على مرجل، و بقبضتها المتكورة أخذت تضرب عدة مرات برفق نوعًا ما على سطح الطاولة، مستشعرة تلك النيران التي تتغذى عليها، دون حتى أن تفهم ما أصابها، لم تنتبه لكلمات والدتها التي ألقتها على مسامعها، و من فورها سحبت عكازها حين تجسّد للمشهد أمامها مجددًا و هي ترتمي في أحضانه و كأنها تودعه، و نهضت مستقيمة في وقفتها و هي تقول:
- أنا شبعت
فسألتها "حبيبة" باستنكار:
- طب رايحة فين؟.. أوصلك؟
فرفضت رفضًا قاطعًا و بحزمٍ قالت:
- لأ.. أنا همشي لوحدى
و شرعت تخطو أولى خطواتها للخارج، و هي تتمنى لو كانت بأحسن حال فتتمكن من أن تتبعهم كالصاروخ، راقبتها "حبيبة" دون وعي لما يحدث حولها في تلك اللحظة تحديدًا، و قد حملت من الهم ما أحنى كاهليها، فـ هي تجلس برفقة ابنتها التي تدنو من الثلاثة و عشرين ربيعًا على طاولة واحدة للمرة الأولى، ثلاثة و عشرين ربيعًا و تراها عن كثب للمرة الأولى في حياتها، تتابع حركاتها و إيماءاتها و ما يصدر عنها من إنفعالٍ لا يلحظ، تقاسيمها التي تحفظها كونها نسخة طبق الاصل عن توأمتها و لكنها تستشعرها أخرى فتدقق بها و تدرسها و كأنها تراها للمرة الأولى، ارتخى جسدها على مقعدها مجددًا و هي تطلق سراح زفيرًا ملتهبًا تمنت أن تخمد بهِ سعير قلبها المتوهج و قد ضجّ بالغم المريع، دفنت وجهها في كفيها و هي تهزهُ بالسلب، مستنكرة ما كتبهُ القدر من أجلها:
- آه.. يا رب صبرني، يا رب
و حينما همّت بأن تدعو على زوجها، استغفرت ربها و أتبعت ذلك بـ:
- أقول إيه بس.. ميجوزش عليك غير الرحمة، آآه يا بنتي
توقفت أمام الباب.. أمامه مباشرة و هي تردد متوسلة إياه بلطف:
- لُطفًا خليني أمشي من هنا، لو كنت فعلًا مهتم لأمري، سيبني أمشي من هنا
هزّ "فارس" رأسه استنكارًا و هو يعاتبها لائمًا:
- هو ده اللي اتفقنا عليه؟
فارتفع كتفيها مبررة بانزعاج شديد:
- مش قادرة.. مش قادرة أحاول حتى، حاسة إن مفيش حد هنا يقربلي، أنا عايزة أمشي، عايزة أعيش في المكان اللي أللاقي فيه يورا اللي أعرفها
فتح "فارس" الباب متهيئًا للرحيل و هو يلقى كلمة أخيرة لا تسمن و لا تغنى من جوع من وجهة نظرهِ:
- معلش.. عارف إنك مش هتتأقلمي بسرعة، بس صدقيني، ده أحس ليكي، هتندمي بعدين
و لك كلماته مجددًا علقت بذهنها و احتلّت تفكيرها بالكامل، عبثت بأناملها في توترٍ مضاعف، فردد "فارس" و هو ينظر لشاشة هاتفهِ:
- أنا لازم أمشي.. آسف
لم تلاحظ ذلك التغيير الذي بدا عليه عقب قرائتهِ رسالة "عمر" التي كان فحواها أنهُ الآن في أراضي الوطن، فكان متعجلّا الرحيل، و نادى "جاسم" الذي يقف على مقربة من الباب:
- جاسم
فحضر من فورهِ بين يديه، توقف أمامهما متحاشيًا النظر إليها، و تسلطت نظراتهِ على وجه "فارس" و هو يعقد كفيه خلف ظهره منتصبً بكتفيه، و بصوتهِ الأجش ردد:
- أؤمرني يا فارس بيه
فردد "فارس" متأففًا:
- خلي السواق يجهز العربية تحت الله يكرمك
- حالًا
و ابتعد قليلًا ليتحدث في جهاز اللاسلكيّ مُبلغًا أمرهِ، حتى تفاجأ "فارس" بـ "ولاء" تناديهِ باحتداد تبيّن في نبرتها و هي تقبل عليه بخطاها المتعرجة:
- فـارس
التفتت "يورا" لتجدها تشملها بنظرة محتقرة لها أزعجتها، فقابلتها بأخرى حاقدة، انحرفت نظراتها نحو "فارس" و قد عبس وجهها للغاية، و زفرت متأففة و هي تحثّ الخطى مبتعدة، تتابعها أنظارهِ، حتى توقفت أمامهُ "ولاء" و هي تعقد ساعديها محررة عكازها غير مكترثة لسقوطه أرضًا:
- انت ماشي؟
فتشدّق بنفاذ صبر:
- انتي شايفة إيه؟
فانفجرت في وجههِ صائحة باحتدام:
- و مالك بترد عليا بقرف كده ليه؟
انحنى "فارس" ليسحب عكازها و قد تجهم وجههُ و قطب جبينه، ثم انتصب و حلّ قسرًا عقدة ساعديها ليناولها إياه و هو يردد بنبرة قاتمة:
- ولاء.. صدقيني أنا مش فايق دلوقتي لأي حاجة و ...
فقاطعتهُ بغيرة تمكنت منها جيدًا:
- اشمعني كنت واقف تكلم يورا بكل هدوء، و أول ما تشوفني تزعق!
فردد مدافعًا عن نفسهِ باستنكار:
- أنا زعقت!.. امتي؟
تلوت شفتيها سخطًا، ثم أجابتهُ:
- رديت عليا بقرف
فكان ردّه حازمًا كفاية ليردعها:
- ولاء.. أنا مش ناقص التفاهة دي، أنا ماشي و بعدين ابقى اتخانقي زي ما تحبي
- خلاص خدني معاك!
و قبل أن يهمّ بالالتفات عاد يتطلع نحوها بعينين مستنكرتين ضائقتين، و من ثم ردد شاجبًا:
- نعم!.. آخدك معايا فين؟ أنا رايح الملاهي؟
فردد بتزمّت محاولة التحجج بأي حجة تخترعها:
- أنا زهقت من القعدة في البيت
زفر "فارس" بضجر، ثم ردد و هو يقوس شفتيه بنفاذ صبر:
- زهقتي ايه يا ولاء.. انتي لسه جاية امبارح
- بردو زهقانة، انت عارف إني مش بحب القعدة الغبية دي
انحرفت نظراتهِ تلقائيًا نحو ساقها المجبرة، فزفر حانقًا من قلبهِ الذي بدأ يلين لرغبتها، حينما كانت "ولاء" تقوس شفتيها بابتئاس زائف:
- حتى انت مش حاسس بيا
زفر مجددًا قبل أن يردد بصوتٍ رخيم و قد لانت تعبيراتهِ:
- خلاص يا ولاء.. عندي مشوار هخلصه، و هكلم جاسم يجيبك، تمام كده؟
و كأن الزهور أينعت في وجهها الكئيب فجأة فأشرق بابتسامة واسعة كادت تصل لأذنيها و هي تومئ موافقة:
- تمام.. تمام جدًا
.................................................................
كان قد غفى على وضعيتهِ تلك، و كأن شعورهِ بارتياحٍ لحظيّ في أحضانها جعل سلطان النوم يداهمه، حتى اخترقت مسامعهِ صوت رنين هاتفهِ بجيبيه، فتح "يامن" جفونه مغضنًا جبينه، أول ما التقط بعينيهِ كان وجهها و قد غفت هي الأخرى، أصابهُ الانزعاج فـ أخرج هاتفهِ ليكفّ رنينه حتى لا يوقظها من غفتها، شعر بالضيق كونهُ ظلّ هكذا مدة بينما هي تنام بوضعٍ غير مريح إطلاقًا، ثوانٍ و عاد الرنين مجددًا، فاعتدل جوارها في جلسته و هو يجيب بوجهٍ تجهم و هو يفرك جفونهُ بأنامله مستمعًا للرد على الطراف الآخر، و ما هي إلا ثوانٍ و كان وجههُ يزداد قتامة قبل أن يردد باستهجان:
- جاي
و نهض عن جلستهِ و هو ينهى المكالمة، ألقى هاتفه أعلى المنضدة، و التفت نحوها قطبًا جبينه، و بلا تردد.. حملها بين ذراعيه فارتكنت برأسها على صدره،  شرع يتقدم بخطاهُ حتى غرفتهِ، ترك جسدها برفقٍ أعلى الفراش، مالت "يارا" برأسها للجانب حينما كان يستقيم في وقفتهِ، و فجأة أطبقت على أناملهِ، ظل محدقًا بها بترقبٍ و قد اعتقد أنها استيقظت، و لكنها همهمت بكلماتٍ مبهمة تعسّر عليه فهمها و عاد تصمت مجددًا.
 تنفس بارتياح طفيف كونهُ لن يعاني من أسئلتها الجمّة و استفساراتها العديدة، و سحب برفقٍ أنامله منها و هو ينتصب في وقفتهِ، سحب "يامن" الغطاء ليدثر جسدها به، و أنظارهِ لا تحيد عنها، زفر زفيرًا حارًا من صدره و هو ينحني مائلًا بجذعه عليها قليلًا ليمسح على جبهتها بأناملهِ الخشنة، ثم غمغم بغموضٍ حالك:
- النهاية بتقرّب
و انخفضت نظراتهِ لبطنها المخفية أسفل الغطاء متابعًا بنبرة أشد غموضًا:
- معاكي اللي يعوضك عن غيابي، أنا واثق فيكي!
................................................................
ترك "فارس" قدح الشاي الخاص به جانبًا و قد تقوست شفتيه تأففًا، ثم ردد معاتبًا إياه:
- عمــر.. أخوك محبش في الدنيا دي قدك
فكان ردّه يحمل ما يفيض من الغيرة و هو يطالعهُ بأعين توهجت بالبغض:
- لأ حب.. حبها أكتر مني!
زفر "فارس" أنفاسهِ الملتهبة، ثم ردد و هو يميل بجذعه للأمام قليلًا:
- حبه لمراته شئ و حبه ليك شئ تاني، انت أخوه
و أحنى أهدابهِ و هو يردد بضيقٍ اعتمل في نفسه:
- و حب يوسف.. حبه لدرجة رهيبة عشان كده بيتعذب أكتر بعد ما عرف الحقيقة
فردد "عمر" مقوسًا شفتيه بازدراء:
- آه.. إنه كان متجوز سهير على أمي؟!
حمحم "فارس" ليزيح حشرجة صوته، و قد قصّ عليه "عمر" ما أسفرت عنه تلك المواجهة المحتدمة بينهما، و قد أدرك أن "يارا" زيّفت أو بمعنى أكثر دِقة.. وارت الجزء الأبشع من الماضي، ثم قال بخشونة مُستدركًا:
- قصدك متجوز أمك على "سهير"
و قبل أن يُبدي "عمر" تمرده، كان "فارس" يردد محذرًا:
- الله يكرمك بس متقولش أمي و مش أمي، لأن أكتر حد اتظلم كان "سهير"
زفر "عمر" بحنق واضح، قبل أن يغمغم باستهجان:
- لسه مش مستوعب إن يامن.. مش أخويا من نفس الأم
فقال "فارس" بنبرة جادّة:
- طول عمري كنت حاسس إن هدى بتفرق بينكم، عمرها ما اعتبرته ابنها يا عمر
فتنهد بانزعاج شديد و هو يناظره من طرفهِ، حينما كان "فارس" يردد بضيق:
- سهير تعبانة.. زرتها امبارح
تغضن جبين "عمر" و قد استرعى قوله انتباههِ:
- تعبانة؟.. مالها؟
فأفاض "فارس" القول شارحًا:
- نفسيتها تعبانة، ابنها مش راضي يعترف بيها، مش موافق يقولها ماما حتى! عايز حالتها تبقى ازاي؟
تنفس "عمر" بعمق و هو يحكّ مؤخرة رأسه، فردد "فارس" محاولًا تليين قلبه نحو "سهير" تحديدًا:
- الست دي قاست كتير أوي و لسه بتقاسي، و بالرغم من ده قلبها أبيض، تخيل.. كانت بتعاملك كأنك ابنها، و انت ابن ضرتها!
نجح بأن يتلمس وترًا حساسًا لديه، فراحت الذكريات تعصف برأسهِ، حينما كان "فارس" يتنهد بحرارة لافظًا أنفاسهِ متابعًا:
- و كانت بتعاملني كمان زي ابنها، دي هي اللي مربياني
و نظر نحو "عُمر".. لاحت في عينيهِ و قد رنا إليه بنظرة متحسرة، اغرورقت عيناه بعبراتٍ لم تهبط و هو يتابع بحشرجة عمّت على صوتهِ:
- كانت.. كانت هي و ريم زي الأخوات، عمرها ما اعتبرتها خدامة أبدًا
و أجفل "فارس" أهدابهِ التي تعلقت بها الدموع محمحمًا ليزيح الحشرجة عن صوته، ثم أعقب ذلك بالقول:
- تفتكر.. تفتكر كانت تعرف؟
تراءى لـ "عُمر" تلك الدموع التي التمعت في عينيّ الأخير، فزفر مستشعرًا ذلك الضيق المتملك منه، بسط كفه ليحتوي كفّ "فارس" ثم ردد بحنق:
- أنا.. مش قادر أتخيل إن عمي عمل كده
فردد "فارس" بابتسامة طغى عليها المرارة و هو يرفع نظراتهِ ليسلطها في عينيّ الأخير:
- تخيل يا عمر!.. كان هيبقى عندي أخ!!.
أسبل "عمر" أهدابهِ، غير قادرًا على مواجهة ابتئاس نظرات "فارس" ثم ردد بنبرة جادة غير مستوعبًا مدى حقيقة ما يقول_:
- أنا أخوك يا فارس.. انت مبتعتبرنيش أخوك؟
انجلت المرارة _قليلًا_ عن ابتسامتهِ الرجوليّة الجذابة و هو يردد مربتًا على كفهِ:
- عمري ما اعتبرك ابن عم يا عمر، انت و أخوك أخواتي، انتو الاتنين دايمًا قريبين مني حتى لو كنت قضيت عمري بعيد
و عاد الشجن يُغلّف نبرتهِ عقب أن أطلق سراح زفيرًا ملتهبًا:
- يا ريتني بس.. عرفت الحقيقة بدري، مكنتش افتريت عليها بالشكل ده
فسأل "عمر" بفضولٍ ملتاع و قد غلب على نبرته التلعثم:
- ازاي.. قصدي.. عملت إيه لما عرفت، لما عرفت إن عمي اتقتل، قصدي إن يامن قتله
ارتفع كتفيه و هو يردد بابتسامة باهتة مُتشدقًا بقسوة:
- المفروض كنت أعمل إيه؟.. أعيط عليه بعد اللي عمله في أمي؟ بعد ما عرفت إنه قتل عمي، و قتل اللي المفروض أخوه؟
و رفع نظراته الجافة نحوه و هو يقول بلهجة خاوية من الحياة:
- كان لازم تبقى دي نهايته يا عمر، كان لازم يتقتل
فرنا "عُمر" إليه بنظرة مطولة، جميعهم قد خسروا، خسروا شخصًا عزيزًا، خسروا بحقيقة مريبة طفت على السطح، خسروا الحروب الناشبة و خرجوا منها مهزومين، و قد فقدوا الكثير و الكثير من الدماء، و لا يزالون قيد الحياة تتلقفهم و ترمي بأجسادهم حيثما تريد..
 و كأن أحفاد تلك العائلة كتب عليهم العذاب و التجرّع من كأسهِ المر ملأ البطون، كعائلة تورّث الوصب مرفقًا مع الأموال الطائلة للأجيال.. جيلًا بعد جيل، و نسلًا بعد نسل، و لكن ما أدركهُ "عمر" حق المعرفة في تلك اللحظة، أن أحدًا لم ينجُ بعد، الجميع عالقًا في عاصفة رملية نهمة، و لا يقوى على الولوج خارجها أو المناص منها.
و على مقربةٍ من الفندق الذي يسكن "عُمر" إحدى غرفاتهِ، بفندقٍ مقابل لا يزال قيد البناء، بإحدى الطوابق المرتفعة و تحديدًا في نافذة غرفة ما مواجهة للنافذة التي تُظهر جسد "عمر" الجالس قبالتهِ "فارس"، ضبط القناص سلاحهِ الضخم عقب أن استأنف تركيب أجزائهِ، و زوّده بكاتم الصوت، ثم جلس جاثيّا على إحدى ركبتيهِ في وضعٍ متأهب، ينتظر إشارة واحدة من رئيسهِ، حتى انتبه الى الصوت الذي صدح فجأة، فسحب هاتفه عن الأرضية وأجاب الاتصال مبادرًا بالسؤال:
- أنفذ يا باشا؟
- نفّـذ
و أنهى المكالمة من فورهِ، ترك "نائف" هاتفه جانبًا و هو يتجرّع ما تبقى في كأس مشروبه دفعة واحدة، ثم ترك الكأس أعلى المنضدة و هو يبتسم ابتسامة كريهة أظهرت أسنانهِ المُصفرة:
- معلش يا مينو.. لازم تخسر خسارتي، طالما أخوك جه برجليه نخلص منه أول، بعد كده هفضالكم
و تجلّت الشراسة في نبرتهِ و هو يُكشر عن أنيابه:
- زي ما خسرتني تالين مش بس هخسرك يارا، هخسرك و هخسرها، هخليكم تموتوا كل يوم، تتنوا الموت و مش هتطولوه، إلا لما أعفي عنكو و أقتلكوا
و نظر لتلك اللوحة الضخمة التي تأخذ عرض الحائط أمامه، فتحمل صورًا لأشخاص عِدة، سحب "نائف" سهم لعبة" النيشان" و أمعن النظر و هو يحدق في صورة محددة باللوحة، و باحترافيّة متمرسة ألقى بهِ فـ أصاب ما بين حاجبيّ وجه صاحب الصورة، و لم يكتفِ.. بل اتسعت ابتسامته الشرسة و هو يسحب آخرًا ليقذفهُ بنفس الاحتراف.. ليصيب صورة أخرى مجاورة:
- مش أنا اللي يتلعب بيا يا حلوة!.. لسه هبكيكي بدل الدموع دمّ، و بعدين جوزك يبكي عليكي!.. ساعتها بس، يمكن ناري تبرد
......................................................................
..................................
.....................................................
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now