"الفصل الخامس و السبعون"

642 16 0
                                    

"الفصل الخامس و السبعون"
- "أيـن المفرّ؟"
« تشبثت بساعدهِ و قد شعرت بقلبها يُجتثّ عن محلهِ، هاجت و ماجت و بكت بحرقة امتزجت مع نشيج متعالي صدر عنها فور أن استفاقت و تلقّت خبر وفاة إحدى ابنتيها أثناء ولادتها، و من بين بكائها كانت تهذي:
- لأ يا حسيـن.. رجعلي بنتي أرجوك.. أنا عايزة بنتي، انتو وديتوها فين.. هاتولي بنـــتي
ربّت "حسين" برفق على ساعدها و هو يردد و قد ترقرقت العبرات المتأثرة في عينيهِ:
- أرجوكي يا حبيبة اهدى.. قولي الحمد لله إن بنت منهم عايشة
هزت "حبيبة" رأسها بهستيريّة و هي تقول بعدم رضا:
- لأ.. أنا عايزة بنتي التانيـة، هاتولي بنتي، أنا عايزة الاتنين
شرع صوتها يخبو تدريجيّا حتى صار أقرب للهمس و قد شعرت بالخدر يسرى في جسدها عقب أن حقن الطبيب المحلول الخاص بها بالإبرة الطبيّة منذ دقائق، خارت قواها تمامًا فأرخت ظهرها للفراش و هي تدمدم و وجهها يتفصّد عرقًا:
- هاتولي بنتي.. أنا كنت حامل في توأم، عايزة بناتي الاتنين، هاتولي بنتي
و ما إن فقدت وعيها بالكامل كان يخرج من غرفتها و هو ينزح دموعهِ الوهميّة تلك، و راح يخطو نحو إحدى الغرف، حتى وجد طبيبًا ما بانتظارهِ و هو يحمل احدى ابنتيهِ أشرق وجه "حسين" بابتسامة واسعة و هو يتناولها من بين ذراعيهِ مرر زرقاويهِ على وجهها الملائكيّ، تمنى لو استطاع رؤية لون عينيها، و لكنها كانت غافية، أحنى "حسين" رأسه عليها ليلثم وجهها بقبلهِ الأبويّة و قد شعر بعاطفة جيّاشة نحوها، حتى انتبه إلى تلك اللكزة العنيفة من الطبيب، نظر "حسين" نحوهُ بحنق لمقاطعتهِ تلك اللحظات، ضمّ ابنته لصدره و هو يعقد حاجبيه مبادرًا بامتعاض:
- عايز إيـه؟
أشار بإصبعي السبابة و الإبهام بمغزى تفهمهُ "حسين" من فورهِ، تقوست شفتيه فتورًا و هو يحنى نظراته نحو طفلته الساكنة مرددًا:
- هيوصلك حقك كامـل.. متخافش، أنا مبقصّرش في شغلي
نظر "حسين" يمينًا و يسارًا.. ثم ترك ابنتهِ على فراش طبيّ، حينما كان الطبيب يردد و هو يرفع خصلاتهِ:
- أيوة.. بس المبلغ اللي اتفقنا عليه بصراحة مش وافي للي عملته، جثة الطفل و تقرير الوفاة، كل دا قصاد مبلغ زي دا؟
أومأ "حسين" و هو يقبل عليهِ مرددًا بنبرة جادة:
- متخافش.. ما أنا قولتلك، مبقصّرش في شغلي
تغضن جبينه بعدم فهم، ثم ردد مستوضحًا:
- يعني إيه؟
 أخرج "حسين" تلك القطعة القماشية البيضاء و راح يُكمم فاههُ و أنفه بها ليمنعه من التنفس و هو يردد بشراسة أظهرها:
- يعني كـدا!
تلوى الأخير بين ذراعيه محاولًا التخلّص من قبضته المحكمة، فدفع بهِ "حسين" للحائط و هو يُشدد من ضغطهِ حتى شحب لون وجههِ شحوب الموتى، خارت قواهُ و كفّ عن المقاومة و قد ارتخى جسده بين ذراعيه فسقط مفترشًا الأرضية.. جُثة هامدة، حينها ابتعد "حسين" و هو يشملهُ بازدراء، مسح بظهر إبهامهِ ذقنه و هو يدمدم سخطًا:
- معلش يا دكتور.. أصل الطمع آخرتهُ وحشة!
انتبه إلى ذلك الصوت الآسر لأذنيهِ، صوت بكاء صغيرته التي بدا و كأنها استفاقت توًا، أخفى "حسين" القطعة القماشية في ثيابه، ثم مضى نحوها و قد ارتخت تعبيراتهِ ليجدها تحرك ذراعيها و ساقيها في الهواء بحركات خاطفة لقلبهِ، اعتلى محياهُ ابتسامة مبتهجة و هو ينحني عليها ليحملها بين ذراعيهِ، و شرع يخطو للخارج و هو يهمس لها أثناء هدهدتهِ محاولًا تهدئتها:
- بـس.. شـشـشـش، دلوقتي نروح لماما ، مش عايزة تشوفيها!
.................................................
كانت تجلس محملقة بتلك الصورة التي تضعها في غرفتهما.. صورة طفل ضاحك مُحاطة بإطار رقيق، أدمعت عيناها.. فهمّت بنزح دموعها، و لكنها تركتهم لينسكبوا من أقداح عينيها.
نهضت عن الفراش و أوفضت نحو الإطار حملته و راحت تقف أمام نافذتها و عينيها معلقة بالصورة، أخت إحدى كفيها عن الإطار و راحت تتلمس بطنها التي تتمنى لو أنها تحمل بها طفلًا ينمو في أحشائها، تغذيهِ من دفئها و حنانها و تمطر عليهِ قبلاتها فور أن تضعهُ و يرى نور الدنيا بعينيهِ، تنهدت بالتياع و هي تطبق جفونها فانسابت عبراتها على طول وجنتيها، حتى انتبهت إلى الباب الذي انفتح على مصراعيهِ، تغضن جبينها و هي تلتفت نازحة دموعها، و سريعًا ما حُلّت عقدة جبينها و هي تحملق بـ "حسين" الذي دلف حاملًا لطفل رضيع و قد وصلها صوت بكائهِ، توسعت عيناها و هي تراه يخطو نحوها، فسألته و هي توفض نحوه تاركة الإطار من يديها:
- حسيـن!.. إيه دا؟ انت جيبته منين؟
ناولها إياه و هو يبتسم بإشفاق و:
- حرام و الله يا هوليا اللي بيحصل دا.. يعني طفلة زي القمر كدا ألاقيها على باب الجامع!
توسعت عينا "هوليا" و هي تضمّ الطفلة بين ذراعيها مكررة:
sen ne diyorsun- الله الله!.. " ماذا تقول أنت؟"
و راحت تطبق عليها جيّدًا خوفًا من سقوطها و هي تحنى بصرها نحوها، افترّ ثغرها عن ابتسامة مشرقة و هي تمرر إبهامها على وجنتها الممتلئة، ثم رفعت أنظارها إليه و هي تقول و قد أدمعت عيناها إثر السعاد العارمة التي انتابتها:
- ما شاء الله.. دي جميلة أوي
و أحنت رأسها عليها.. شرعت تلثم وجهها بقلباتٍ حانية دافئة و هي تتشمم رائحتها، ثم ارتفعت أنظارها نحوهُ و هي تقول:
   ،ازاي حد قدر يسيبها كدا؟ Misk gibi kokuyor-.. "رائحتها كالمسك"
ربّت "حسين" على كتفها و هو يردد بتنهيدة مُطولة:
- عشان نلاقيها إحنا يا هوليا.. عشان ربنا يعوضني عن ابن منك!
حملقت عيناها و قد غزت الصدمة محياها:
- مش معقول؟.. إحنا.. هـ..هنربيها؟
أومأ "حسين" و الابتسامة تتسع على ثغرهِ:
- هنربيها.. و انتي هتكوني أمها يا هوليا
قلّص المسافة بينهما حتى لثم وجنتها، ثم ابتعد ليحدق بوجهها الذي تفتحت بهِ الأزهار، حينما كانت "هوليا" تنحنى بنظراتها عليها، أغرقت دموعها الفرحة وجنتيها و قد تهدجت أنفاسها من فرط جذلها، و راحت تردد بحبور غير مصدقة:
- مش معقول.. يعني.. يعني أنا بقيت أُم!
تفحصت لون عينيها بتمعن و هي تدرس تفاصيل وجهها الرقيق، ثم نظرت نحوهُ و هي تُعلّق بابتسامة تكاد تصل لأذنيها:
- عينيها زرقة زيك يا حسين.. كأنها بنتك بالظبط
غابت ابتسامتهِ من فوره و هو ينظر نحوها، و لكنه حاول أن يعيدها حينما أخفضت "هوليا" بصرها مجددًا ناحيتها، ثم سألتهُ و هي تعبث بوجنتها:
- هنسميها إيه يا حسين؟
- يورا.. هنسميها يورا
- يارا.. هنسميها يارا!
مع اختلاف الأماكن و الأزمنة، و مع اتفاق النبرة و الصوت.. كانت "حبيبة" تنظر لوجه ابنتها بالتياع، ضمتها لصدرها أكثر و هي تومئ برأسها و:
- يارا.. حبيبتي
لثمت وجهها بقبلات عدة فرّقتهم على وجهها ثم رفعت وجهها الذابل لـ "حسين" و هي تشهق متألمة من بين انتحابها:
- لو كانت اختها عايشة كنا هنسميها يورا.. الاسمين شبه بعض و ...
و غاب صوتها و على بدلًا عنهُ صوت شهقاتها، فجلس "حسين" جوارها و هو يمسح برفقٍ على ساعدها و قد أصابهُ بعض الضجر، قلّب عينيه ثم ردد مُشددًا على كلماتهِ:
- خلاص يا حبيبة.. قولي الحمد لله و ارضي، احنا عندنا بدل البنت اتنين و راضيين، بلاش تعملي كدا عشان ربنا ميحرمناش منهم
دفنت "حبيبة" رضيعتها لصدرها و هي تنظر نحوهُ من طرفها مغمغمة بعتاب:
- حرام عليك يا حسين، بتفول على بناتك؟ بعد الشر عنهم
- لا بفول و لا حاجة.. أنا بس مش عايزك غير تقولي الحمد لله، خلاص؟
تنهدت "حبيبة" بحرارة تنهيدة ملتهبة خرجت من أعماقها، حاولت التحكم في نوبة بكائها و هي تنظر مليّا لوجه ابنتها، أحنت رأسها عليها لتشتم عبقها و تملأ به صدرها، ثم رددت و هي تومئ برأسها:
- الحمد لله على كل حال.. الحمد لله، ربنا يبارك فيهم
..............................................................
خرجت من الحفل كالتي رأت شبحًا توًا، و ما إن استقلت سيارتها حتى حادثت ابنتها عن طريق مكالمة مرئيّة لتتيقّن أكثر، فأجابتها "يورا" و هي تبعد الهاتف عن وجهها، لوّحت لها بكفها و هي تردد باشتياق:
- güzel annem..nasılsın..seni çok özledim..ne zaman döneceksin?
- "أمي الجميلة.. كيف حالكِ اشتقت إليكِ كثيرًا.. متى تعودين؟"
ازدردت "هوليا" ريقها محاولة إخفاء التوتر الذي طغى على نبرتها، وزعت نظراتها بين وجهها و بين الطريق و هي تسألها بارتياب:
- "İyiyim..İyiyim tatlım neredesin?"
- " بخير.. بخير حلوتي، أين أنتِ؟"
فأبعدت "يورا" الهاتف تلقائيّا لتسلط شاشتهِ على رفيقتيها اللتين تجلسين برفقتها في المطعم، فشرعن يلوح بأكفّهن لها و هن يلقون عليها التحية بودّ، حتى أعادت "يورا" الكاميرا لتتسلط على وجهها، ضاقت عيناها و هي تسألها بشئ من الارتياب:
- Anne.. bir şey mi var? gerçekten iyi misin?
- "أمي.. أهنالك شئ؟ أأنتِ بخير حقًا
أومأت "هوليا" و هي تلوى ثغرها بابتسامة باهتة:
- evet..evet tatlım iyiyim
- "نعم نعم حلوتي، أنا بخير"
و اهتزّت نبرتها قليلًا و هي تتحججّ لإنهاء المكالمة:
- Shi.. Şimdi sürüyorum, eve gidince seni arayacağım!
- "شي.. أنا أقود الآن، سأوعاد الاتصال بكِ ريثما أصل للمنزل"
- tamam anne.. seni öpüyorum
- "حسنًا أمي.. أُقبلك"
صفّت "هُوليا" السيارة على جانب الطريق و هي تُنهى المكالمة، حدقت أمامها بأعين امتلأت بالدموع و ما هي إلا ثوانٍ و كانت تهبط عنها، أحنت "هوليا" رأسها لتسندها إلى ساعدها أعلى المقود و قد سمحت لشهقاتها العنان بالصعود.. فـ قد اكتشفت توًا أن ابنتها لم تكُن ضائعة أو تركها أحدهم و نبذها مُطلقًا.. إنها ابنة زوجها من زوجتهِ الأولى التي علمت بأمرها حديثًا بعد من "يامن"، من أغدقت عليها بحنانها طوال تلك السنون لم تكُن سوى ابنة زوجة زوجها، غلّف النشيج المتقطع نبرتها و هي تدمدم من بينهِ:
- و لسه هعرف إيه تاني عنك يا حسين
رفعت رأسها عن المقود و هي تنزح دموعها، انفلتت منها بضع شهقات حاولت كبتهم و قد لاحت نظرة مصممة في عينيها و هي تمتمتم:
- لأ.. استحالة حد يعرف بوجودك يا يورا، و لا حتى يامن.. انتي هتفضلي معايا
و تهدجت أنفاسها و هي تدمدم بلهجة قاسية:
- أنا أمك.. أنا اللي ربيتك و سهرت جمبك، مش من حقها تاخدك مني أبدًا.. مش من حقها تعرف بوجودك، أنا أمـك يا يورا
............................................................
مُباشرة.. لم يستقل طائرة تقلّهُ حيث موطنهِ، بل استقلها لـ "تُركيا".. و تحديدًا اسطنبول عقب المعلومات التي وصلتهُ حديثًا..
كانت الفرصة سانحة لهُ.. خاصةً أنهُ يعلم جيّدًا أن والدتها في "أسبانيا" مع العملاء الجُدد، حيث أنها تدير شركات والدها.
نظر "نائف" في ساعة يدهِ و قد تغضن جبينهُ، تأفف من تأخرها ثم ردد من بين أسنانهِ:
- لأ واضح إنكم توأم جدًا يعني!
و رفع نظراتهِ ليراها تدلف عبر باب المطعم الأنيق المُحاط بالزهور الصناعية من كل حدبٍ و صوب، ضاقت عيناه و قد فُغرت شفتيه و هو ينهض بتروٍ مُتلكئ عن جلستهِ، مرر أنظارهِ على طول جسدها و قد كانت ترتدي ثوبًا صيفيًا يغلُب عليه اللون الأسود، خصلاتها السوداء تطايرت من حولها و هي تخطو نحوهُ برشاقة بحذائها ذو الكعب العالي الذي يقرع الأرضيّة من أسفلهِ، حتى بلغتهُ، خلعت "يورا" نظارتها الشمسيّة و هي تقف أمامه مباشرة لتجدهُ يحملق بها بشدوهُ بيّن، تغضن جبينها و هي تردد:
-Günaydın.. Benimle tanışmak isteyen sen değil miydin?
- " صباح الخير.. ألست الذي طلب مقابلتي؟"
فغر شفتيه و هو يهز رأسه بعدم فهم، ثُم دمدم بالإنجليزية:
- Sorry.. you can speak English?
 فضحكت مُعقبة:
- لأ مفيش داعي.. طالما انت مصري
ارتفع حاجبهُ الأيسر و هو يردد:
- بتتكلمي مصري؟
أومأت و هي تجيبهُ بشحنٍ شمل نبرتها معيدة خصلة من خصلاتها المصففة بعناية خلف أذنها:
- أيوة.. بابا الله يرحمه كان مصري و جدتي والدة ماما مصرية، عشان كدا
أومأ "نائف" بتفهم و هو يبسط كفه لمصافحتها و ابتسامة لعوب تتراقصُ على أطراف شفتيه:
- آسف جدًا.. سايبك واقفة كل دا، أرحب بيكي الأول زي ما ينبغي
وجهها مُشرقًا بابتسامة و هي تبسط كفها لمصافحتهِ، فباغتها "نائف" بأن انحنى عليه ليُلصق شفاهُ في ظاهره طابعًا قبلة عليه، اتسعت ابتسامتها حتى انتصب و هو يحرر كفها.. دار حول الطاولة و هو يسحب مقعدها بلباقة و:
- اتفضلي
- شُكرًا
و جلست و هي تترك حقيبتها جانبًا، جلس "نائف" أمامها و قد لاحت الجديّة على وجهه، فهزت "يورا" رأسها و هي تسألهُ بفضول:
- حضرتك طلبت تقابلني ليه؟
فألقى كلماتهِ في وجهها و هو يرفع كتفيه بسلاسة:
- عشان في حجات كتيـر لازم تعرفيها، و أولهم إن هوليا مش أمك
و كأن زهورها المتفتحة في وجهها دومًا ذبلت بشكلٍ مفاجئ، انقشعت الرقّة عنها لتتبين لهُ شراستها و هي تضرب براحتها الطاولة أمامها هادرة بـ:
- أنا مسمحلكش يا حضرت.. إيه الكلام العجيب اللي بتقوله دا
نظر "نائف" حولهُ و قد لفتت الأنظار إليهما، ثم تهكّم قائلًا و هو يميل عليها:
- لأ بقولك إيه.. خلينا هاديين لأنك معرفتيش حاجة لسه
..............................................................
كانت بانتظارها في بهو الڤيلا الخاصة بهما و هي تعقد ساعديها أمام صدرها و وجهها قد اعتلتهُ تعبيرات ناقمة، حتى دلفت "هُوليا"و من خلفها الخادم يجرّ حقيبة سفرها الصغيرة المُعدة لبضعة أيام فقط، نزعت "هوليا" نظارتها الشمسية و هي تخطو برشاقة نحوها، انبعجت شفتيها بابتسامة مُشرقة و هي تنجنى عليها لتطبع قبلتين على وجنتيها غير ملاحظة التغير البادي على تقاسيمها ثم اعتدلت في وقفتها و:
-tatlım.. seni özledim
- "حلوتي.. اشتقتُ إليكِ"
و جلست جوارها و هي تترك حقيبتها الصغيرة الأنيقة جانبًا و هي تردد بابتهاج:
-Söyle bana, o günlerde ne yaptın?
- " أخبريني.. ماذا فعلتي خلال تلك الأيام؟"
لم تتفوّه "يورا" ببنت شفة، ظلّت أنظارها معلقة على نقطة بالفراغ، فتغضن جبين "هُوليا" مستشعرة خطبًا ما، تلمست ساعدها برفقٍ و هي تسألها بخشية:
-Sorun ne tatlım? İyi misin?
- " ما بكِ حلوتي؟ هل أنتِ بخير؟"
انسابت عبرة كانت تقف على أعتاب جفنيها و هي تحدق أمامها، رمشت لتسمح لعبرة أخرى تجمعت في مقلتيها بالهبوط و هي تردد امتعاضًا من بين أسنانها المطبقة:
- عايزاني أبقى كويسة إزاي و أنا عرفت إن حياتي كانت كذبة؟.. إن أمي مش أمي اللي جابتني للدنيا، و أمي الحقيقة كانت مرات أبويا الأولى؟
هبّت "هُوليا" على قدميها  كالملسوعة و قد احتلت الصدمة تقاسيم وجهها، حملقت بها و كأنها سكبت دلوًا من الماء المُثلج فوق جسدها، ابتلعت بصعوبة ريقها و هي تسألها بتهدج في نبرتها متشككة فيهِ:
- يـ..يامن، يامن عرف بوجودك؟
التوى ثغرها بابتسامة ساخرة و هي ترفع نظراتها نحوها مدمدمة:
- انتي كمان تعرفي جوز أختي؟.. حلو جدًا
فرددت "هوليا" و هي تهز رأسها باستنكار:
- لو.. لو يامن عرف بوجودك تبقى كارثة.. مش هيسيبك معايا لحظة واحدة
و أطبقت على ساعديها و هي تسألها بنبرة متشنجة:
- انطقي يا يورا.. يامن هو اللي قالك؟ يامن هو اللي عرف بوجودك؟
نفّضت "يورا" كفيها عنها و هي تنهض عن جلستها مرددة باستكار:
- دا اللي هامك؟.. يامن عرف و لا لأ؟ و لا عرفت منين؟.. دا اللي هامك؟
أومأ "هُوليا" بحدة و هي تجيبها بانفعال:
- أيوة.. أيوة دا اللي هاممني، أنا مش هسمح لحد ياخدك مني و لو يامن هو اللي قالك يبقى خلاص ضيعتي مني!
تراجعت "يُورا" للخلف خطوة و قد اصطبغ وجهها بالحمرة القانية:
- مين قالك اني هفضل هنا معاكي بعد اللي عرفته؟ الأولى أكون جمب أمي الحقيقة اللي ولدتني!
و كأنها سكبت بنزيًا فوق نيرانها المُضطرمة، اتقدت عينا "هُوليا" الصافيتين و غلب على بياضهما الون الأحمر، أشارت لنفسها و هي تردد بشئ من النرجسيّة:
- أنا أمك.. أنا اللي تعبت فيكي و في تربيتك، أنا اللي أكلتك و شربتك و عيشتك، أنا اللي اهتميت بيكي و سهرت جمبك في مرضك، أنا اللي خدت بالي منك السنين دي كلها يا يورا، أنا.. أنا مش حد تاني
و أضحت نبرتها أشدُ تصميمًا و هي تردد بصرامة شملت نبرتها:
- و مش هسمح لحد ياخدك مني يا يورا.. مش هسمح لحبيبة اللي متعتبش فيكي تاخدك مني!.. انتي فاهمة؟
فرددت "يورا" استهجانًا و هي تبسط كفيها جوار أذنيها:
- كفاية بقى كذب و خـداع.. كفاية، أنا مش ملكك عشان تتحكمي فيا  كدا، كفاية إني عرفت إني مش بنتك و انتي مش هامك غير وجودي معاكي، كفاية عرفت إن أبويا كانت متجوز اللي المفروض إنها أمي على أمي الحقيقيّة، كفايـة
و راحت توفض نحو الدرجات لتصعد لغرفتها تحت وطأة صوت "هُـوليا" المنفعل:
- و دا مكانش ذنبي.. أنا كمان عرفت دا قريب، أنا كنت أعرف منين إن أبوكي متجوزني على واحدة تانية، دا مش ذنبي
صعدت "يُـورا" الدرجات برشاقة و هي تنظر نحوها من طرفها بحنق واضح،و حينما كادت تتلاشى عن أنظارها هدرت "هوليا" بإصرار:
- أنا مش هسيبك تبعدي عني لحظة يا يورا.. أنا أمك و دي الحقيقة الوحيدة اللي لازم تعرفيها.. يـورا، أنا مكملتش كلامي، خُدى هنا
 اختفت في حجرتها صافعة الباب من خلفها، خطت نحو الكومود لتسحب عنه هاتفها و راحت تمرر إبهاماها على شاشتهِ، تخصرت بإحدى كفيها و صدرها ينهج علوً و هبوطًا، حتى أتاها ردّهُ فـ بادرت من فورها بصوتٍ امتزج مع هدير أنفاسها:
- أيوة يا نائف.. أنا موافقة على طلبك، محتاجاك تساعدني أطلع من هنا»
........................................................
- نعــم!
كان ذلك صوت "ولاء" المُستهجن الذي هدر عن الهاتف، حملقت "ولاء" غير مصدقة، ضحكت و من بين ضحكاتها أردفت باشتياقٍ حقيقي:
- يارا.. تعرفي إن أنا وحشتني المقالب بتاعتك دي أوي
و تنهدت بحرارة و قد خبى صوت ضحكاتها مدمدمة:
- كانت أيام مش هتتكرر
حكّت "يارا" عنقها بأطراف أناملها و هي تردد:
- أيام حلوة و كل حاجة بس دا مش مقلب
و نهضت عن محلها لتجلس جوار توأمتها، رفعت شاشة الهاتف لتُبيّن كلتاهما و هي تردد هازئة:
- دي حقيقة أنا عايشاها.. زي حقايق كتير اكتشفتها مكنتش أعرف عنها حاجة
جمّدتها الصدمة بمحلها يبّست تقاسيمها، رمشت عدة مرات و قد فغرت شفتيها، ثم دمدمت:
- مش معقول!.. انتي في منك اتنين؟
قلبت "يورا" عينيها في ضجر و هي تردد بفتور:
-Yeter lütfen, yaptığınız şeyden gerçekten bıktım.!
- "لُطفًا يكفي، لقد سئمتُ ما تفعلان حقًا"
فتحمست "ولاء" و هي تردد و قد تحفزت خلاياها:
-و بتتكلم تركي!
فنهرتها "يارا" و هي تعدل في جلستها بامتعاض:
- انتي بتهزري يا ولاء!.. بقولك طلع عندي توأم معرفش جت منين، و كانت عايزة تمثل على يامن إنها أنا
فرددت "ولاء" بعدم انتباه لما قال فور أن ذُكر اسمه:
- أيوة صحيح.. انتي بجد هربانة؟، يامن كلمني الصبح و سألني على مكان بيت جدك
و ضاقت عيناها و قد استوعبت توًا:
- تمثل عليه انها انتي؟.. ازاي؟
 فرددت "يورا" و هي تحل عقدة ساعديها:
- Lütfen beni bu kadar kaba hissettirme.. Naef'in benden istediği birkaç gün oldu ve ben bitirebilirdim.
- "لا تشعرانني أنني بتلك الوقاحة لُطفًا.. إنها بضعة أيام كما طلب نائف مني و كنت سأنهى الأمر"
زجرتها "يارا" بنظرة قاتمة و هي تردد من بين أسنانها بتمقّط:
- انتي عارفة نائف دا مين أصلًا و عايز إيـه؟.. نائف عايز يخلص على يامن و عليا و على العيلة كلها
فرددت "يورا" و هي تناطحها بالرأس و بنظراتٍ نارية:
- دا لأن جوزك قتل مراته عشان كان بيحبها من قبله
فنفت "يارا" ذلك من فورها:
- محصلش.. مراته انتحرت لأنها كانت بتحب يامن، يامن مقتلهاش، كل اللي قاله نائف دا كذب
- غلط.. نائف قالي إنه قتلها
فهدرت "يارا" من فورها باحتدام:
- قولتلك لأ.. هو عافية، يامن مقتلهاش
عقدت "يُـورا" حاجبيها و هي تسألها باستنكار:
- و انتي كنتي موجودة عشان تعرفي دا؟
اجتزّت "يارا" أسنانها و هي تتهرب منها بنظراتها، ثم شمخت بذقنها و هي تردد:
- تؤ.. لكن أنا واثقة في يامن، يامن مقتلهاش
فضحكت "يُورا" ساخرة منها و هي تلوح بكفها متمتمة بصوتٍ هازئ:
- Yeter lütfen.. gözlerim aşırı zorlamaktan yaşlanacak!
" يكفي لُطفًا.. ستدمع عيناي من فرط التأثر"
- اخرسي بقى.. انتي مستفزة
- اهــدوا بقى أرجوكم، أنا مش فاهمة حاجة من اللي بتقولوها دي
و وجّهت حديثها لـ "يارا" و هي تسألها باستهجان:
- نائف دا المتسبب في اللي احنا فيه دلوقتي؟
فرددت يارا" و هي تطبق جفونها:
- أيوة يا ولاء.. نائف الزفت كان متفق مع كمال
ارتفع حاجبيّ "ولاء" و هي تردد و قد تكرت شيئًا ما توًا:
- يارا.. نائف دا أخو نرمين اللي كان بيحبك؟.. نائف الدمنهوري؟
أومأت "يارا" و هي تدمدم سخطًا:
- أيوة هو
ارتفع حاجبيّ "ولاء" و هي تردد بشدوه:
- مش معقول.. و يامن كان يعرفه؟
تبادلت الشقيقتين النظرات حين بزغ صوت طرقات على الباب، فسألت "ولاء" بارتياب:
- مين اللي بيخبط؟
ارتفع كتفيّ "يورا" و هي تدمدم:
- أكيد نائف.. معتقدش إنه هيسيبني هنا و سط القرف دا
فلكزتها "يارا" لكزة عنيفة و جانبها و هي تنهرها قائلة:
- احترمي نفسك.. القرف اللي بتتكلمي عنه دا عاش فيه جدك و جدتك
و تركت الهاتف أعلى الطاولة و نهضت عن محلها، فلاحقتها "يُورا" بنظراتها المحتدمة ،ثم سحبت الهاتف إثر نداء "ولاء" لها و هي تشرع بمحادثتها الفضوليّة لها.
تيبست محلها حين وجدتهُ يقف أمامها بوجههِ المتصلب و شموخهِ المعتاد، ابتلعت ريقها و هي تتشبث بمقبض الباب سائلة باستهجان:
- أفنـدم؟ مش سيبتني و مشيت؟.. عايز إيه تاني؟
تقوست شفتاهُ بسخرية و هو يحيد ببصره عنها مرددًا باستهزاء:
- أنا سيبتك و مشيت؟.. ميمشيش معاكي إن انتي اللي هربتي بابني؟
كزّت "يارا" على أسنانها و هي تردد عاقدة حاجبيها:
- عايز إيه يا يامن؟
تصلبت معالم وجهه من جديد و ازدادت جفاءً و هو يشير نحو بطنها مدمدمًا بسخط:
- مش عايز غير ابني.. و لحد ما يتولد هتكوني جمبي
أحاطت بطنها بذراعها و هي تُنذره بنظراتها المحتدة:
- أبـــدًا.. انسى، أنا مش هعيش معاك في بيت واحد و ابني في بطني، مش هقدر أستحمل غباءك معايا
فزمجر و هو ينظر نحوها باحتدام:
- متختبريش صبري يا بنت حسين
فزجرتهُ بنظرة حامية و هي تناطحهُ بالرأس:
- تـؤ.. هحتبره، يحصل إيه لو اختبرته؟ هتعمل فيا إيه تاني؟
مسح "يامن" بظهر إبهامهِ ذقنه و هو يشيح بوجهه عنها لاويًا شفتيه بتهكمٍ جاف:
- بلاش تحسسيني إني ظالم يا بنت حسين، لأنك خدتي حقك مني تالت متلت
فرددت استنكارًا و هي تضيق عينيها:
- بجـد؟.. امتى؟ لما بعتت لنائف فلاشة فاضية؟ و لا لما حاولت أحميك منه
فنظر نحوها و هو يردد باستهجان مقلصًا المسافة بينهما:
- تـؤ.. لما لعبتي من ورا ضهري و خدتي ابني و هربتي بيه و فهمتيني إنه مات
لم تجد ردًا.. فتقابلت أنفاسهما المتهدجة إثر انفعال كليهما، أطبقت أسنانها لثوانٍ، ثم فرقتهما لتردد من بينهما بنبرة حاسمة:
- أنا مش جاية معاك يا يامن.. أنا مش هرمي ابني في النار عشانك
احتقنت الدماء في وجههِ و هو يردد من بين أسنانهِ المطبقة:
- ابني.. ابني أنا
فجأرت في وجههِ بانفعال مفاجئ و هي تتراجع خطوة للخلف عن محيطهِ:
- مفيش حاجة اسمها ابنك.. اسمه ابننا، ابننا!..و لو كان لحد فينا فـ أنا أحق بيه، أنا اللي حامل فيـه، أنا اللي شايلاه في بطني
 فجأر هو الآخر راعدًا بصوتهِ:
- تبقى قولتي على نفسك يا رحمن يا رحيم.. ابني مش هيعيش مع حد غيري
فرددت استنكارًا و هي تضيق عينيها:
- انت بتهددني؟
أشاح بوجههِ القاتم الملامح بعيدًا عنها و هو يقوس شفتيه بفتور، ثم نطق بجفاء و كفه يكاد يسحب ذراعها:
- امشي يا بنت حسيـن
فسحبت ذراعها قبل أن يمسُّه و هي تنظر نحوه باستهجان من عينيها الضائقتين، ثم نطقت بنفور مُصمم:
- مش جاية
زجرها بنظرة حامية من عينيهِ و هو يردد آمرًا بنبرة أشدّ قسوة:
- امشي
- تـؤ
- امشي
- تـؤ
فجأ بها و هو يقلص المسافة بينهما:
- قولت امشــي
و كأنها أعلنت انسحابها فصاحت مُغيّرة كلمتها:
- لأ.. قولت لأ، قولتلك لأ.. مش جاية معاك
و أشارت بسبابتها باحتدام و هي تردد عاطفة نظراتها بين عينيهِ:
- انت فاكرني لعبة بين إيديك؟.. وقت ما تعوز منها حاجة تسيبها و وقت ما تاخدها تسيبها؟.. انت فاكرني إيـه؟
اهتزّت عضلة من جانب وجههِ إثر ضغطه المُشدد على فكيه و هو يحرف نظراته المتقدة بين عينيها، ثم ردد من بين أسنانه المطبقة:
- قولت.. امشي
ابتلعت ريقها و هي تحنى بصرها عنهُ لتهز رأسها بالنفي و قد تراخت نبرتها قليلًا:
- قولت لأ.. قولت لأ، مش عايزة.. مش عايزة أكون معاك
فكانت لهجتهِ أشدّ جفاءً و هو ينطق بـ:
- و أنا مبخيركيش يا بنت حسين
فنطقت بخفوت مرير و قد اغروقت عيناها بالعبرات و نظراتها منحنية عن عينيهِ ببضعة إنشات قليلًا:
- أساسًا عمرك ما خيرتني يا يامن.. عمرك ما سيبتلي مجال أختار
و رفعت نظراتها لعينيهِ مباشرة و هي ترفع ذقنها إليهِ و قد انسكبت عبرة واحدة من عينيها:
- طلقني .. حالًا، أنا مش هعيش بسببك متعلقة بين السما و الأرض، لا أنا معاك و لا أنا عارفة أكون من غيرك، طلقني يا يامن و سيبني في حالي.. طلقني و كفاية بقى
ارتفع جانب ثغرهِ بابتسامة ساخرة و هو يهزأ من كلماتها:
- دا عشم إبليس في الجنـة
و أشار بسبابته نحو بطنها و:
- الطلاق مش هيحصل غير لما ابني يبقى في حضني، غير كدا انتي بتحلمي
ضمت شفتيها معًا باغتياظ و هي تحنى بصرها حينما كان يقول و هو يهمّ بسحبها مجددًا:
- امشي
فصاحت فجأة و هي ترفع نظراتها نحو تدريجيًا مشيرة بكفيها:
- امشي اقفي انزلي اطلعي كلي اشربي نامي اتغطي ابردي ادفي، أنا زهقـــت.. زهقت من أوامرك و تحكماتك اللي مبتنتهيش، زهقت من شخصيتك اللي مشوفتش.. و مش هشوف زيها في حياتي
و ارتكزت بناظريها في عينيهِ مباشرة و هي تُشدد على كلماتها:
- زهقت.. كفاية بقى أوامر، كفايـة
انعقد حاجبيها أكثر و هي تسألهُ باستنكار:
- أنا عايزة أفهم غلطت في إيه معاك عشان أستحق منك معاملة زي دي، غلطت في إيه معاك عشان مسمعش منك كلمة واحدة حلوة، غلطت في إيه معاك عشان مسمعش حتى كلمة بحبك واحدة منك تريحني من عذابي؟
تقلصت تلك المسافة بين حاجبيهِ و هو ينظر نحوها باستهجان و:
- حُـب
و ارتفع جانب ثغره بابتسامة هازئة و هو يشيح بوجههِ عنها مرددًا باستنكار جاف:
- و مين قالك إني حبيتك؟
صفعةً أخرى لكبريائها الأنثويّ تلقتها على صدغ قلبها، توهج وجهها و هي تناظرهُ باحتداد، ثم رفعت ذقنها و هي تردد:
- انت حتى مش قادر تبص في عيني و انت بتقولها
و تركتهُ و دلفت مغمغمة بلهجة حاسمة:
- مش جاية معاك يا يامن.. مش جاية معاك يعني مش جاية معاك
كانت تجلس على الأريكة و هي تتابع شجارهما العنيف ذاك، تغضن جبينها و هي تسأل "ولاء" بنبرة هازئة:
- هما دايمًا كدا؟
فما فاقم من استماع "ولاء" لأصواتهما المحتدمة سوى من شعورها بالذنب، أحنت بصرها عنها و هي تردد بضيق جثُم على صدرها:
- مش عارفة
تفاجأت "ولاء" بأن أنهت شقيقتها الوقحة المكالمة في وجهها و هي تترك الهاتف جانبًا.
دلفت "يارا".. فتتبعها "يامن" بخطاهُ النارية للداخل و هو يجأر و قد تشنجت عضلات جسدهِ:
- بنت حسيــن، أنا انسان ميعرفش معنى الصبر
توقفت في منتصف الطريق و هي تلتفت نحوهُ بتشنج هادرة:
- أنا عايزة بس أعرف لو صبرك خلص هتعمل إيه فيا؟.. هتقتلني؟
توقف أمامها مباشرة فتابعت بهدير متعالى:
- هتقتلني؟ .. مش كدا؟ ما انت مبقاش في حياتك غير الدم و القتل و السلاح
بسط كفهُ ليجتذب عضدها إليه و هو يردد أمام وجهها باحتقان:
- رايحة فيـن.. ها؟ اريحة فين؟ انتي غاوية تتعبي نفسك و خلاص؟
حاولت التملص من قبضته و قد أدمعت عيناها مجددًا و هي تردد:
- سيبني يا يامن.. سيبني، كفاية بقى أنا مش قادرة أتأقلم مع شخصيتك دي، كفاية عنف و همجية معايا، كفايـة
فـ تقوست شفتيه كاشفًا عن أنيابهِ و هو يردد:
- معلش.. مسيرك تتعودي، لسه هنعيش مع بعض شهور
فجأرت من فورها رافضة مصيرها و هي تنظر لعينيهِ مباشرة:
- لــأ
أطبق أكثر على عضدها و هو يردد من بين أسنانهِ:
- هتيجي معايا.. برضاكي أو غصب عنك
حملقت بوجههِ و قد عادت الذكريات تتوافد إلى رأسها، لم تحنِ عينيها.. و لكنها لم ترفعهما إليه و ظلتا عالقتين على مرمى بصرها الذي كان موازيًا لكتفهِ و هي تردد بدمدمة ساخطة:
- لسه زي ما انت.. كأنه امبارح، مفيش حاجة اتغيرت
و رفعت عيناها لعينيهِ و هي تردف باستنكار و قد أعاد فتق جراحًا رتقتها منذ زمن:
-  نفس البداية يا يامن.. و أنا آسفة مش مسمح للنهاية تكون نفسها
فجأر بصوتهِ و هو يشير بسبابتهِ  و عروق جبينهُ قد برزت للعيان:
- البداية أنا اللي كتبتها يا بنت حسيـن، أنا اللي كتبت البداية و أنا اللي هكتب النهاية بطريقتي في الوقت اللي أختارهُ
فسحبت ذراعها بعنفٍ جلي من قبضته و هي تهدر بتشنج:
- انت اللي تكتب البداية و انت اللي تكتب النهاية، انت اللي تتحكم في مصير حكايتنا.. انت شخص نرجسي!
فردد و قد انكمشت المساحة بين حاجبيهِ هازئًا:
- حكايتنا!.. مش على أساس مينفعش حرف نون يجمعنا!
و تلاشت السخرية عن محياهُ لتتجمد تعبيراته و هو يهدر بها باحتدام:
- مش دا كان كلامك يا بنت حسيـن؟
- أنا صدعت حقيقي.. صوتكم جايب آخر الدنيا زي ما بيقولوا
انحرفت نظرات كليهما المتوهجة نحوها فنقلت نظراتها بين كليهما و هي تردد ببرود:
- إيـه؟ قولت حاجة غلط
فجأر "يامن" بها و هو يهمّ بالإنقضاض عليها:
- انتي عارفة لو سمعت نفس منك تاني
توقفت "يارا" أمامه مباشرة لتسدّ عليه الطريق، ثم التفتت نحوها لتحذرها بنظراتها:
 "ما شأنكِ؟"sana ne -ملكيش دعوة بيه..
فنهضت عن جلستها و هي تخطو نحوهُ لترمقه بتحدى انبثق من عينيها:
- إنت كمان ليك عين تزعقلي بعد اللي عملته يا همجي؟.. دا أنا شعري كان هيتقطع في إيدك
فهمّ بدفع جسد "يارا" و هو يهدر:
- حاسبي..حاسبي يا يارا أوريها الهمجي داه يعمل فيها إيه، حاســـبي
تيبست "يارا" محلها رافضة الحراك و هي تتابع تعنيفها:
- بقولك إيه انتي كمان.. هي مش ناقصاكي، اطلعي منها
فلوحت "يورا" بكفها و هي تغمغم بغيظ:
- الله الله.. اصطفلوا ببعض، أنا سايبالكم الصالة كلها
و راحت تخطو نحو إحدى الحجرات و هي تغمغم بصوتٍ مسموع ساخط:
- مش عارفة انتي حبيتي فيه إيه دا!
نظرت "يارا" لعينيهِ مباشرة و هي تدمدم بصوت ممتعض مسموع:
- غبية.. هقول إيه غير إني غبية!
و همّت بالعبور من أمامهِ، و لكنهُ استوقفها بتشنج مستنكر و هو يطبق على عضدها:
- تعالي هنا رايحة فين؟
 فنفخت في وجههِ بضجر و:
- أوف.. قولتلك مش عايزة أكون معاك، حس بقى شويـة
فزأر في وجهها و قد شعر أن صبرهُ نفذ منذ حيـن:
- أنا خـلاص.. جبت آخري
ناظرتهُ بتحدي واضح و هي تدمدم:
- هتعمل إيه يـ...آآآه
مرر "يامن" ذراعه خلف ركبتيها بحركة خاطفة فتلعقت رغمًا عنها بعنقهِ  و هي تعنفه بامتعاض:
- بتعمل إيه؟.. ها؟ بتعمل إيه؟ نــزلني
ضم جسدها إليه و هو يخطو ليخرج من المنزل، فشرعت "يارا" بالنداء:
- يـورا.. اتصلي بالبوليس بلغي عن خطف أُنثى قدام عينيكي من عُقر دارها
خرجت "يُـورا" من الغرفة و هي تتابع إنصرافهِ بها بلا اكتراث، ثم رددت و هي تنفض خصلاتها للخلف:
- مش كنتي رافضة أتدخل بينكم، دلوقتي عايزاني أتدخل ليه؟
تلوت "يارا" بجسدها بين ذراعيه بتشنج و هي تراها تبتعد عنها:
- انتي واحدة بـاردة، أنا بتخطف قدامك و انتي...
فقاطعتها "يُورا" باستنكار و هي تقوس شفتيها:
- خطف!.. مش دا جوزك بردو
فردد "يامن"  و هو يلوي شدقيهِ بجفاء قاصدًا تكرير نفس الكلمات دون أن يحيد ببصره إليها:
- هو في واحد بيخطف مراته يا.. يا بنت حسين؟
..................................................................
................
..................................................
 
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now