"الفصل الثاني و الأربعون" الجزء الأول

655 17 0
                                    

الجزء الأول "الفصل الثاني و الأربعون"
"و كأنهُ ترك قنبلة موقوتة في أحـضاني.. و رحل تاركًا لي وسط تشتتي و تبعثري"
السواد الحالك بظلامهِ المميت يُظلل الأفق من بعيد.. مترائيًا لها بتلك الصورة البشعة القاتمة، على الرغم من تلك المصابيح التي تُضئ المحلّ بأكملهِ، فانعكست المصابيح على الشجيرات و جذوع الأشجار المحاوطة لها، و ارتمت الظلالُ أسفل منها، غير متبينة بوضوح وسط الكلأ و الحشائش المزروعة الخضراء، الرياحُ العاتية تعانق أوراق الأشجار فيصدر عنها حفيفًا أشبه بأنّة خافتة، أعلاها صفحة السماء ذات الزُرقة القانية التي تدنو من الأسود تُظللها الغيوم المتناثرة ، فتتبين من بينها بأحداق نجومها الملتهبة، گجذوةٍ في طيّ روحها.
أطلقت "يارا" سراح زفيرًا متأججًا، و هي تطبق جفونها مُستسلمة لتلك الموجة الباردة من النسيم التي طفقت تداعب خصلاتها فتطايرت من حولها، حركت كفيها ذهابًا و إيابًا على عضديها بحيث كانت مكتفة ساعديها، رفعت ساقيها عن الأرضية لتضُم ركبتيها إليها دون أن تحيطهما، و هي تجلس على تلك الأرجوحة الأنيقة ، و التي طلبتها خصيصًا عن طريق أحد مواقع الانترنت، فـ بدت و كأنها أفلتت الزمام لتشرع الأرجوحة في التحرك بحركة هادئة رتيبة ، للأمام تارة، و للخلف تارة، حتى عبس وجهها عفويّا، ثمة رائحة عبّقت الأجواء المحمّلة بروائح الأزهار المميزة، عبقهِ الرجوليّ.. فتنبأت باقترابهِ، لم تعره اهتمامًا، بل و تعمدت ألا تنظر نحوهُ ، و أبقت نظراتها عالقة على نقطة في الفراغ، حتى توقف أمامها مباشرة فسدّ عنها مجال الرؤية، تأففت و هي تحنى أهدابها، رافضة أن ترفعها إليهِ فتتلاقى معه، ظلّت على وضعيتها لا تتحرك قيد أنملة، حتى انحنى بجذعهِ قليلًا ليُثبت عن عمدٍ حركة الأرجوحة مستندًا لمسندها، و قد أحنى رأسهُ عليها فأضحى قريبًا للحد الذي جعل أنفاسهِ تصدم وجهها، مجبرًا لها على أن تنظر في عينيهِ، و بالفعل..
تطلعت "يارا" إليه من بين جفونها الفاترة، و قد انعقد حاجبيها، و تجعد جبينها لدى ذلك و قد بزغ العبوس بخطوطهِ العريضة على وجهها، و هي تغمغم بامتعاض:
- إيـه؟
تبدد أي فتور عن وجهها، و قد تجمدت محلها لثوانٍ حين التقطت عيناها ما يحمل، و نطقت بـ:
- هاه!..رادوبيس
انتصب "يامن" في وقفتهِ ، فاختطفتها "يارا" من كفّهِ و هي تخفض ساقيها ليلامسا الأرضية معتدلة في جلستها، و دققت في غلافها و كأنها تتيقّن أنها هي، رمشت مرتين.. ثم شرعت تمرر أناملها برفقٍ بالغ على غلافها، و كأنها تخشى إصابتها بمكروهٍ، ثم قالت و شبح ابتسامة ذابلة تلوح على شفتيها:
- يــا!.. مقرأتهاش من زمان جدًا، كانت وحشاني
و فتحت الغلاف.. دون أن ترفع نظرها نحوه، و قد كان جمّ تركيزها منصب على الرواية، " بخطّ يدها Yفتغضن جبينها حينها و قد تبددت بسمتها و تلاشت و هي ترى حرف الـ"
محتلًا الصفح الأولى منها، فتركت الرواية جانبًا على الأرجوحة، و نهضت و هي ترفع بصرها نحوهُ و قد تقلصت المسافة بين حاجبيها، ثم سألت متشككة:
- انت.. روحت بيتي؟
أشاح "يامن" بوجههِ بعيدًا و هو يعقد كفيهِ خلف ظهره، مرددًا بفتور:
- انتي شايفة إيه؟
توجّست خيفة من أن يكون قد أصاب والدتها بمكروهٍ، فازدردت ريقها بتخوّف، و قد عصف قلبها بدقاتهِ التي دوّت في أذنيها، فهمست متسائلة بلهجة حاولت أن تكون متماسكة:
- انت.. عملت إيه بالظبط؟
فأجابها بنبرة ساخرة على الرغم من غِلظتها دون أن يعيرها أنظارهِ:
- كنت بتأكد إن دعوة الفرح وصلت لحماتي!.. مش معقول برضو متحضرش فرح بنتها
و التفت برأسهِ إليها، ليرمقها بنظرة متهكمة، مدعّمًا من وقع كلماته عليها بتشدّقهِ:
- و لا إيـه؟
شيّعتهُ "يارا" بنظرة حانقة، و قد أوغرت كلماتهِ صدرها، خطت خطوة نحوه، لتقطع الخطوة الفاصلة بينهما، و شبّت على أطراف قدميها لتكون أقرب إليهِ و هي تغرس عينيها اللامعتين في مقلتيهِ الخضراوين، ثم رددت و هي تضغط على كلماتها كلمة كلمة:
- قولتهالك قبل كده يا يامن.. و لتاني مرة بقولها، لو فاكرني ضعيفة للدرجة دي يبقى انت غلطان، و هتشوف ازاي هدمرك زي ما دمرتني!
تقوست شفتيهِ بابتسامة جانبيّة ساخرة و هو يردد باستخفاف:
- عندي فضول أعرف هتدمريني ازاي!
فشددت على قولها، لتعني كلماتها جيّدًا و هي تومئ بحركة متوعدة منها:
- هتشوف يا يامن، صدقني!
فـ أجابها بكلمتهِ الغامضة تلك ببرودٍ لم تتوقعهُ، على عكس ما أرادت، هو من استفزّها و ليس هي من فعلت:
- عظيم!
أطبقت على أسنانها بتمقّط، و هي تدجهُ بنظرة نارية، ثم تراجعت خطوة للخلف لتسحب روايتها بتشنجٍ دون أن تحيد عنهُ، و عبرت من جوارهِ بخطاهُ المنفعلة، لم تنتبه هي إلى ما ينسلّ من الرواية، فتابعها "يامن" بأنظارهِ، ثم ردد متهكمًا:
- حوشي اللي بيقع منك!
 توقفت محلها، و التفتت إليهِ بتشنجٍ رافقها و هي تعقد حاجبيها استهجانًا، أشار "يامن" بعينيهِ للأرضية التي تبعثرت أوراقها عليها، و حينما أجفلت نظرها للأرض انحلت عقدة حاجبيها ليرتفعا في شدوهٍ، انحنت على الأرضية لتلتقط إحداهنّ و عادت تستقم في وقفتها ارتفع إحدى حاجبيها استنكارًا و هي ترفع بصرها عن الورقة إليه مغمغمة بـ:
- انت كمان فتحت أدراجي!.. ازاي تتجرأ تعمل حاجة زي دي
حكّ "يامن"  بظهر إبهامهِ ذقنه بحركة باردة، ثم وضع كفيه بجيوبهِ، و هو يخطو نحوها بخُطى متلكّئة، حتى توقف أمامها مباشرة، ضاقت عيونهُ و هو يلوي شدقيهِ بقسوة، أخفض بصره قليلًا لتلك الورقة التي اختلستها عن الأرضية، فسحبها من بين أناملها و منحها نظرة عابرة، ثم رفع نظراتهِ إليها و هو يقوس شفتيه في فتورٍ:
- بس مش عيالي أوي الرسمة دي؟
فـ اختطفتها من بين أناملهِ من فورها، ثم حمحمت لتواري ارتباكها متعمّدة أن تبدو ثابتة صلبة، و هي تقابل سؤالهِ بسؤال:
- يهمك في حاجة؟
- تؤ.. بس في ملاحظة صغيرة
و اجتذب الورقة من جديد، خطى خطوة نحوها ليكن جوارها، و بسط الورقة أمام أعينهما، أشار "يامن" بسبابتهِ لنقطةٍ ما و هو يتابع:
- كان المفروض عينه تبقى خضرا!
ارتفعت أنظارها إليهِ و قد بدت كالمصعوقة، فرفع هو الآخر نظراتهِ الساخرة نحوها، فغرت "يارا" شفتيها و هي تنقل بصرها بين عينيهِ، و قد شعرت بالدهشة جمّدتها محلها، حينها لاحت بسمة هازئة على ثغرهِ و هو يترك الورقة بين كفيها المتجمدين، و هو يغمغم:
- امسكي
و برح محلهِ.. شرع يخطو تاركًا لها تتابعهُ بأنظارها المتجمدة على طيفهِ الذي أخذ يتلاشى، ارتفع حاجبيها استنكارًا، و سريعًا ما توهج وجهها و هي تعيد النظر خلال الرسمة، و قد بدت عابسة و هي تنفخ بغيظٍ:
- أوف.. إيه الاستفزاز ده!
......................................................................
هو نفسهِ يسير نحو المجهول، دربًا سلكهُ لا يدري ماذا سـ تكون نهايتهِ، و إن كان يدري جيّدًا أن النهاية ستكون أبشع مما يمكن تخيّلهِ.
 أطبق "يامن" جفونهُ و هو يترك الرسالة التي تُعدّ الأخيرة المبعوثة من "يوسف" لـ "حبيبة"، رسالة لم تحمل بضع كلمات كتبهم "يوسف"، بل حملت خطّ يدهِ، حملت مشاعرهِ، روحهِ، و وصفًا لبعض مواقفًا من حياتهِ، لم يكن "يامن" منصبّ بتفكيره على كلماتهِ، حتى أنهُ فقد طريقه بين الكلمات و أصابه التيه و هو ينتقل من سطر لآخر، فكلّ ما سكب بهِ تركيزه "يوسف" نفسهِ، كونهُ يلمس بأناملهِ ورقة لمسها "يوسف"، يتحسس بسبابتهِ تجعّدًا بالورقة تكهن أنها دمعة انسكبت على حين غرة من عين "يوسف"، و لا تزال تاركة أثرًا لا يُمحى برسالتهِ الأخيرة لها، يتأمل زخرفتهِ لكل حرفٍ أنتجهُ قلمه.
  أودع وجهه بين كفيهِ عقب أن فرك جلد بشرتهِ بعنفٍ، مستندًا بمرفقيهِ لسطح مكتبه،  حرر من أسر صدرهِ زفيرًا متأججًا مما عجّ بصدره من نيرانٍ مستعرة، نهض عن جلستهِ، و شرع يجمع الأظرف المغلفة جميعًا، و دسّهم في أحد أدراج مكتبهِ، حكّ عنقه بانفعال مستشعرًا ذلك الاختناق الذي بلغ قصبتهِ الهوائيّة، فـ بات و كأن هنالك ما يسدّ مجرى تنفّسه، و كأنهُ شعر بطاقةٍ هائلة تضجّ في جسدهِ و تختزن بداخلهِ، و يحتاج لإطلاق سراحها، برح الغرفة بأكملها، و قَصِد طريقهِ للاسطبل، دلف "يامن" ليجد تلك الإضاءة شبه الخافتة، مضى بخطى منفعلة نحو فرسهِ، فتح قفل الباب الحديدي القصير، و شرع يسحبهُ للخارج، فـ صهل "أشهب" فور رؤيتهِ صهيلًا مميزًا و كأنه يرحب بهِ و بوجوده، مسح "يامن" برفقٍ لا يصدر عنهُ مع أيّ من البشر على عنقهِ، ثم امتطى صهوتهِ ، سحب اللجام و بدأ يقتاده للخارج، و ما إن عبر من البوابة الرئيسيّة، ركض بهِ و كأنهُ في منافسة، علّ ذلك يُخفف من الحمم التي تتقاذف في داخلهِ، و تنهشُ من أضلعهِ.
..................................................................
تأففت "يارا" و هي تترك الرواية جانبًا، عقب أن أنهت منتصفها تقريبًا، تضايقت كونها ستضطّر عما قريب معايشة تلك المشاعر من جديد، تذكرُ المرة الأولى التي قرأت فيها تلك الرواية سلفًا، كانت و كأنها أُصيبت باكتئابٍ رافقها طوال اليوم، حتى أنها لم تذرف دمعة واحدة.. و ظلّ حزنها الدفين أسفًا على تلك النهاية التي لم ترضَ بها إطلاقًا في أغوارها، لم تطلق سراحهِ عن طريق البكاء، و لم تخفف من حِدة الأحداث بدمعة دافئة حتى، و كأنها هي من تعايش تلك النهايات المأساويّة، إذ يصحبها الشجنُ فترة لا بأس بها.
 طردت زفيرًا حارًا من صدرها و هي تعتدل في جلستها، ثم شرعت تفرّ أوراقها، لتبلغُ تلك الرسومات الثلاث الأحدث لها، دونًا عن غيرهم، و قد دسّت الأخريات في إحدى الأدراج غير عابئة بهِ، بسطت "يارا" الورقة لتتبيّن لها الرسمة الأولى، أطالت النظر إليها، بتعمقٍ شديد سكن حدقتيها، و بذات الآن شرودٍ أشـد.
و وجدت نفسها تنجرفُ إلى منحدرٍ لا تدرى ماهيّة سفحهِ، أصغت "يارا" الى تلك الطرقات على بابها، فتركت الورقة جانبًا و هي تطرد تنهيدة حارّة من صدرها، نهضت و نحوهُ، أدارت المقبض، فوجدت "منصور" يقابلها، و قبل أن تهمّ بالحديث، شهقت بصدمةٍ و تراجعت للخلف و أعينها الغير مصدقة عالقة على ما يحمل:
- إيه ده يا عم منصور؟
ناولها الاصيص فحملتهُ و كأنها تعانقهُ و هي تضحك بابتهاجٍ غير مصدق، حينما كان هو يردد بابتسامة بشوش:
- إيه رأيـك؟
حادت ببصرها مرغمة عن أوراق مزروعتها الخضراء، لتحدق فيهِ بنظرة غير مستوعبة بعد، فـ أجاب و هو يهز رأسه بحركة هادئة:
- لسه عايشة.. متقلقيش
و همّ بالرحيل، ناولها "مرشّة المياه" و قبل أن ينصرف ردد أولًا عن عمدٍ:
- يامن جابهالي الأول عشان أوريها لربيع البستاني يشوف لسه عايشة و لا لا، ربيع طمني، الحقي اسقيها، تصبحي على خير!
و انصرف.. تركها متيبسة محلها، لا تدرك حتى ما حدث توّا، أغلقت "يارا" الباب بطرف قدمها، و هي تخطو للداخل، تحدق في مزروعتها الغالية بعدم استيعاب، انحنت لتتركها أرضًا، ثم  سحبت الوشاح الصوفيّ الخاص بها، و خطت نحو الشرفة، أدارت مقبضيها بشكلٍ عكسيّ، عادت إليها ممن جديد، و انحنت لتحملها عن الأرضيّة، ثم دلفت للشرفة، تركت مزروعتها أعلى الطاولة الدائريّة، لتقابلها تلك النسمة الباردة و المنعشة في ذات اللحظة، أحكمت الوشاح حول كتفيها، خرجت من الشرفة، و أحضرت مرشة المياه، ثم عادت إليها من جديد.
تلمست "يارا" بأطراف أناملها أوراق زرعتها الحبيبة، و قد شعرت أنها أتت إليها حاملة دفء منزلها المميز، مع ذكرياتٍ ترددت و لاحت أمام عينيها دفعة واحدة، تربطها بتلك النبتة، ابتلعت ريقها و قد افترّت شفتاها عن ابتسامة باهتة، ثم حملت الإبريق، و شرعت تسكب منهُ لتروى جفاف تربتها، حتى وجدتها تبتلع بنهمٍ ما تصبّهِ، و كأنها عطشة للغاية، فسكبت قدرًا لا بأس بهِ من المياه علّها تتمكن من أن تروي ظمأها.
لا تكاد تصدق إلى الآن أنها برفقتها، كم روتها، و كم اعتنت بها، كم قضت برفقتها، كم شكت و حكت همومها لها، سحبت "يارا" مقعًا، و جلست أمامها، و قد تبدلت ابتسامتها الباهتة، فشعرت بنفسها تضحك كالبلهاء تمامًا، و هي تتلمس برفقٍ أوراقها الخضراء الذابلة، و لكن بلحظةٍ.. غابت ابتسامتها، و غربت بهجتها اللحظيّة، لتتواري خلف قسوة دنياها، و جفاء أيامها.. لا تدري كم مرّ عليها من الوقت، و هي تتطلع إليها بشرودٍ انعكس على ملامحها.
 أراحت كلتا ساعديها على الطاولة، ثم رفعت أنظارها عنها أخيرًا و هي تلفظُ أنفاسها الملتهبة، لترمق الأفق بنظرة شاملة، رغبة حثّتها على النهوض، فوقفت "يارا" و مشت نحو سور الشرفة، استندت بساعديها عليهِ، شابكة أصابع كفيها معًا، و هي تمشط الوسط بعينيها، حتى ارتكز بصرها عليهِ و هو يخرج بجوادهِ، ظلّت أنظارها عالقة عليه، و قد شعرت برغبة عارمة في أن تعايش ذلك الشعور مجددًا، و تحفّزت خلاياها التي تحثّها على تجربتهِ مرة أخرى، عسى أن تفلح، نفخت بضيقٍ و هي تراهُ يعبر البوابة الرئيسيّة، فـ أحنت أهدابها و هي تقوس شفتيها في فتورٍ، ثم عادت للداخل، حاملة نبتتها معها، بحيث قررت أن تفرغ الكومود المجاور لها لتضعها عليهِ فتكون أول ما تسقُط عينيها عليهِ فور أن تستفيق على الرغم من أنها تعلم جيدًا أن النوم لن يتجرأ على الحبو لجفونِها الليلة.
............................................................
إنهُ اليوم الموعود...
عادة ما يكون اليوم الأفضل في حياة أي فتاة.. غيرها، فهي منذ الصباح متشنجة.. منفعلة في تصرفاتها، حتى صديقاتها التي أصرت أن يكنّ معها في ذلك اليوم تحديدًا كانت تتعامل معهنّ بفتورٍ ملحوظ، وحدها "رهيف" من تمكنت فهم ما يدور ببالها.
 ها هي الشمس تُصر على الغروب.. بينما هي تتوسلها ألا تفعل، و لو لليوم فقط، و لكنها قوانين الطبيعة التي لا يمكنها قطعًا تغييرها.
كانت تجلس أمام منضدة الزينة من المفترض أن تترك نفسها للفتيات المسؤولات عن تزيينها، و تستسلم لما يقمن بهِ من تغييراتٍ بمظهرها لتظهر بأبهى صورها تلك الليلة، و لكنها صرخت للمرة المليون بوجهها بانفعال واضح و هي تدفع كفها بعيدًا:
- يــوه، قولتلك سيبي شعري في حاله، أنا حاباه كده
نفخت المصففة بضيق و هي تهتف محتجة:
- يا مدام مينفعش كده.. سيبيني أشوف شغلي
فتضاحكت إحدى صديقاتها ، في محاولة منها للتخفيف من حِدة الموقف:
الحفلة Princess - معلش.. تلاقيها بس متوترة، النهاردة هي
و قالت أخرى و هي تمسح برفق على بشرتها:
- ما خلاص بقى يا يارو، سيبيها تتصرف و هي هتطلعك جميلة النهاردة، صدقيني!
عقدت "يارا" ساعديها و هي تستنكر قائلة:
- ليـه؟ شايفيني وحشة؟ أنا مش محتاجة حاجة من دي
و نظرت من خلال المرآة لإحدى رفيقاتها التي تقف خلفها و هي تسألها بتشكك مضيقة عينيها:
صح؟ meak up-دودي.. انتي تعرفي تظبطيلي الـ
تغضن جبين "دينا" و هي تتطلع نحوها بحيرة متمتمة و نظراتها تتجول على الأعين التي التفتت نحوها:
- أيوة طبعًا، لكن أكيد مش هـ...
فنظرت" يارا" للمصففة بظفر، وقفت على قدميها و هي تدفع مقعدها المريح للخلف، ثم شرعت تلملم حاجيات الفتاة و هي تقول ببرودٍ فظّ:
- أهو، شوفتي، أنا مستغنة عن خدماتك
توسعت عينا المُصففة و هي تنقل نظراتها الغير مستوعبة بين الثلاث فتيات المصاحبات لها، حتى تفاجأت بـ"يارا" تدفع حقيبتها لها فكادت تسقط على الأرضية لولا أنها تشبثت بها بينما تنظر نحوها بشدوه، فنفضت "يارا" كفيها و هي تبتسم لها بسخافة:
- مرسي جدًا ليكي، بس أنا مش محتاجاكي
 و أشارت للباب من خلفها لتتمتم بتعجرف:
- يا ريت تتفضلوا، بــرا
 و عادت تجلس على مقعدها بأريحية و هي ترفع ذقنها:
- دينا، تعالي بليز و ساعديني!
توقفت الفتيات يتبادلن النظرات الغير مصدقة فيما بينهم، حتى شعرت رئيستهن و كأن دمائها تغلى في عروقها، رمقت "يارا" بأنظارها المشتعلة عبر المرآة و لكنها تعمدت تجاهلها، حتى تحركت" دينا" و إمارات الصدمة مما تفعل صديقتها مرتسمة على وجهها،
حركت "يارا" بؤبؤيها عبر المرآة لتجدهنّ متيبسات بمحلهن، فلوت ثغرها بابتسامة صفراء و هي تقول بشفقة زائفة:
- هو حضرتك كمان مش بتسمعي!؟
و تلاشت أي علامات تدل على البراءة عن وجهها لتحل الشراسة محلها و هي تلتفت بجسدها بأكمله تجاههن هادرة:
- بقولكم بـــرا!
زمجرت رئيستهنّ بغضب و هي تجمع باقي متعلقاتها ثم غمغمت مشيرة للفتيات برفقتها:
- يالا يا بنات
و تحركن جميعًا للخارج فتابعتهن "يارا" بنظراتها المتوهجة و صدرها يعلو و يهبط، و فور أن استمعت للباب يوصد، اعتدلت في جلستها و هي تستند بمرفقيها على طاولة الزينة متأففة بقوة:
- أوف
حاولت إحدى رفيقاتها تهدئتها و هي تمرر كفها على ظهرها:
- يا حبيبتي إهدي شوية
و قالت أخرى و هي تهز رأسها استنكارًا:
- انتي منفعلة أوي في أكتر يوم المفروض تكون فرحانة فيه
و رددت "دينا" و هي تمسح على خصلاتها برفقٍ:
- هتبقى أجمل واحدة النهاردة يا يارا
و قالت أخرى غامزة بعبث ماكر:
- مش مهم تكون حلوة أصلًا.. المهم إنها أحلى واحدة في عيون جوزها!
تطلعت "يارا" لـ "رهيف" المنزوية على نفسها بنظرات متوسلة و كأنها تستنجد بها، فتركت "رهيف" لتخطو نحوهنّ و هي تقول بلهجة حازمة:
- خلاص بقى يا بنات، انتم بتوتروها أكتر
 و ربتت على كتفها برفق و هي تقول بلهجة عذبة:
- خلينا نشوف هنعمل إيه
..........................................................
كانت خطواتها منفعلة للغاية و هي تهبط الدرجات حتى تقابلت بهِ عند آخرهم. فعبرت الدرجات و خطت تلك المسافة الفاصلة بينهم و هي تبرر لهُ هبوطها المبكر عقب أن لاحقتها نظراته المستهجنة:
- أنا بعتذر جدًا لحضرتك يا مستر يامن، لكن المدام طردتني!
و أشارت لمن برفقتها بحنق قائلة:
- أنا أول مرة يحصل معايا كده يا يامن بيه.. إحنا اتهاننا جدًا
دس "يامن" كفه بجيبهِ و باليد الأخرى كان يضع سيجارته بينهما، نفثّ منها قبل أن يقول بلهجة صلبة:
- حسابك هيوصلك يا سارة ، متقلقيش
حمحمت حرجًا و قد ارتبكت قليلًا ، ثم دمدمت محاولة تبرير موقفها:
- ده مش قصدي أبدًا يا مستر يامن.. لكن..
و سحبت شهيقًا عميقًا زفرته متمهلة، معقّبـة:
- الواضح إن المدام متوترة جدًا
سحب "يامن" شهيقًا عميقًا من سيجارته ثم نفثهُ و هو يرفع أنظارهِ الغامضة للأعلى، فتململت "سارة" في وقفتها و هي تقول محنية بصرها:
- احنا بنعتذر جدًا لو مقدرناش نعمل لها حاجة، عن إذنك
 و أشارت للفتيات ليتبعنها بينما أنظارهِ لم تنحرف ناحيتها، و ظلت عالق بالأعلى.. حيث هي.. و هو ينفث دخان سيجارته بشراهة.
...........................................................
كان يفعل ما كُلّف بهِ بحذر شديد، حيثُ يُهذب لحيتهِ، و يقتصّ خصلاتهِ، بينما الأخير مسلطًا لنظراته الجامدة على المرآة متابعًا ما يفعل بأعين مُقتنصة، حتى حرك بؤبؤيه إثر صوته الذي أتاه من خلفه:
- يا عم يامن افرد وشك شوية! دي لو كانت جنازة مش هتعمل كده
تسلطت نظراته على إنعكاس صورته بالمرآة و هو يرمقه بنظرات محذرة ثُم ردد بصرامة:
- فارس.. خليك في نفسك أحسن!
أنهى الحلاق ما يفعل، فتراجع للخلف و هو يقف منتظرًا أمرًا جديدًا منه، دقق "يامن" النظر لخصلاتهِ و شعر ذقنهِ الذي رفض أن يُحلق نهائيًا.. فاحتفظ ببضع بصيلاتهِ التي تضفي إليه وسامة خاصة،  اشار "يامن" بإصبعيه لهُ فتفهم إشارته، أومأ برأسه ثم شرع يجمع متعلقاتهِ، و انصرف دون أن يعقب بحرف و كأنه انسان آلي أنهى مهمته، خلع "يامن" ما يرتديه فوق ملابسه، و انتصب في وقفته أمام المرآة، زفر و هو يستدير نحو "فارس" الذي ضيق عينيه و هو يرمقه بنظرات عجيبة، فسألهُ مستوضحًا باقتضاب:
- مالك؟ بتبصلي كده ليـه؟
عقد "فارس" ساعديه و هو يسأله بوضوح:
- لما انت مش طايق نفسك كده.. عملت كده ليـه؟
حكّ "يامن" جلد عنقهِ ثم مضى مارًا من جواره حتى بلغ فراشه، انحنى ليتفحص بذلتهِ السوداء الأنيقة و هو يقول بلهجة قاتمة:
- دا اللي كان لازم يحصل يا فارس، لا أكتر.. و لا أقل
ارتفع حاجبيّ "فارس" استنكارًا و هو ينظر نحوه، ثم مط شفتيه و هو يتمتم:
- مممم، يعني مش عشان تنقذ سمعتها مثلًا؟ متنكرش
استقام "يامن" تاركًا حلته، ثم دس كفيه بجيبيه و هو يقول بلهجة صلبة:
-مبنكرش.. و مش محتاج أنكر حاجة، ده اللي كان لازم يحصل
ضيّق "فارس" عينيه مطالبًا بتفسير أكثر دقة، فحاد "يامن" بأنظاره عنه و هو يخرج علبة سجائره و سحب واحدة، ثم أشعلها بقداحتهِ أثناء قولهِ الحالك و هو يلوي شفتيه:
- أكيد يعني مش هتكون سيرة مراتي على كل لسان و أقعد أتفرج
دس علبة سجائره، و كذلك قداحته في ملابسه،.. سحب نفسًا عميقًا من سيجارته فدنا "فارس" منه و هو يحذره بصوته الأجشّ :
- يامن.. خد بالك
نظر "يامن" لعينيه مباشرة و قد تقوست شفتيه باستهجان، أبعد السيجارة عن شفتيه لينفث دخانها و هو يشيح بأنظاره بعيدًا عنه بينما يقول:
- أنا عارف أنا بعمل إيه كويس
- انت حبيتها؟
سؤال صريح باغتهُ "فارس" بهِ مرة أخرى، و هو ينظر لأعينه مباشرة بنظرات ثاقبة، فانحرفت أنظار "يامن" المتوهجة نحوه، أطبق على أسنانه مستهجنًا، ثم مرّ متحركًا من جوارهِ، دسّ "فارس" كفيه بجيبيه و هو ينظر أمامه و قد ارتفعت جانب شفتيه بابتسامة ساخرة، و تهكّم بقولهِ:
- يبقى حبيتها!
فجأر به و هو يتوقف بمحلهِ ملتفتًا نحوه:
- فــارس، أنا مش ناقص!
التفت "فارس" بدوره و قد تلاشت سخريته ليقول باستنكار:
- معناه إيه إنك حاطط في دماغك من أول ما جيت هنا إنك هتعملها فرح يا يامن؟، معناه إيه إنك عايز تنقذ سمعتها و انت أصلًا المفروض تحط وشه في الأرض!
أشار "يامن" بسبابتهِ و هو يخطو نحوه و قد احتدم مكشرًا عن أنيابهِ:
- أحط وشه هو في الأرض.. مش وش مراتي!
فكان "فارس" رافضًا تمامًا لما يقول و ذكّرهُ بـ:
- دي كانت هتقتلك!
- يـــوه!.. انت مزهقتش
و أشار لنفسه مرددًا بلهجة حالكة و هو يذكره أيضًا بـ:
- و كانت هتموت بسببي، خالصيـن!
عقد "فارس" حاجبيه محتجًا و هو يسأله مضيقًا عينيه:
- و أبـوك؟.. السبب الرئيسي لجوازك منها، نسيته؟
شمله "يامن" بازدراء تام، ثم قال بلهجة ثابتة:
- أنا أبويا منسيتوش للحظة يا فارس.. للحظة واحدة، عظيم؟ حط ده في دماغك، و سيبني أتصرف زي ما أنا مخطط!
حكّ "فارس" صدغهِ و هو يسألهُ متشككًا:
- انت ناوي على إيه؟
تقدّم "يامن" نحوه ، ثم ربت بكفيهِ بقوة على كتفيه و هو يقول بلهجة غامضة:
- متشغلش بالك كتير، مهما حاولت تفهمني مش هتعرف يا فارس
 و ضبط لهُ ياقته ثم قال متهكمًا:
- أنا بقول تروح تغير هدومك أحسن
.....................................................................

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن