"الفصل الثامن و الخمسون"

653 19 2
                                    

" الفصل الثامن و الخمسون"
و أخيـرًا.. تسنى له الصعود و هو يتحرّق لرؤيتها و الاطمئنان عليها، كيف هي؟ كيف صارت؟ و بمَ تشعر، بالتأكيد أنها في أوج انهيارها كما كانت صباحًا..
دلف غرفتهِ أولًا.. بحث عنها و لم يجدها، فتجهم و هو ينتقل لغرفتها، و فور أن دلف تغضن جبينه متعجبًا حين وجدها تغطّ في سبات عميق، أغلق الباب بحرص على عكس عنفهِ في فتحه، و ترك الأضواء مغلقة و هي يسير نحوها، حتى توقف أمام فراشها فتيقن من غوصها في النوم، حرر زفيرًا حارًا من صدره و هو يدثرها جيّدًا، و توقف أمامها مطولًا يتأمل هدوئها الظاهريّ، ابتعد قليلًا و هو يسارع بخلع سترتهِ و قميصه و قد ازدادت حرارة جسدهِ و ظهرهِ بالأخص، و عاد إليها.. جلس إلى جوارها و هو يتلمس بشرة وجهها، استفاقت.. و كأن نومها كان مشبعًا بالكوابيس السيئة التي جعلتها لا تنعم بوقت محدود من الراحة، رمشت عدة مرات لتتضح رؤيتها فتبيّن لها ظله وسط الظلمة المحيطة، فسألته بصوت متحشرج:
- انت.. هنا؟
أومأ و هو يجيبها بخشونة ساحبًا كفه:
- هنا.. صحيتك؟
 هزت رأسها نفيًا و هي تعتدل نوعًا ما جلستها فاركة عينيها مغمغمة بنبرة مبحوحة:
- لأ.. أنا كل شوية أقلق
و حادت بنظراتها الذابلة عنه و هي تهمس بامتقاع كئيب:
- حتى النوم رافض يريحني من عذابي
أشاح بنظراته عنها و هو يتنهد بضيق أطبق على صدرهِ، ثم عاد ينظر نحوها و هو ينهض عن جلستهِ:
- حاولي تنامي تاني.. أنا جمبك
فرمقتهُ من طرفها، حينما كان يخطو نحو الأريكة ليستلقى عليها.. و لكن على صدره، حينما كانت تسأله بتشكك و عيناها تسيران على الشاش المغلف لظهرهِ:
- انت بتعمل إيه؟ مش هترجع المستشفى
- تـؤ
و استند بساعدهِ للوسادة ليركن بجبينه لساعدهِ حينما كانت تسأله مستنكرة:
- ازاي يعني؟.. انت بتهزر
فأجابها ببرود:
- مش من طبعي
تقوست شفتيها بضيق و هي تقول:
- عارفة.. لكن.. انت مش شايف حالتك
نظر نحوها بطرفهِ ثم حاد عنها مجددًا دون أن يمنحها ردًا، فقط يُطبق على أسنانه من الحين و الآخر محاولًا مغالبة آلامهِ، فزمّت شفتيها ثم قالت محتدة و هي تضيق عينيها:
- خدت دواك؟
- تـؤ
سألته مقطبة جبينها:
- ليـه؟
فأجابها بجفاء تام:
- مش عايز
       ضاقت عيناها و هي تردف متشككة:
- انت أساسًا مجبتوش.. مش كده؟
- تؤ
أطبقت أسنانها بحنق، ثم نهضت عن جلستها مزيحة الغطاء عنها و هي تؤنبه:
- المفروض ليك مرهم لظهرك، و أكيد ليك مسكن، و مش هتروح المستشفى.. يبقى ازاي لأ؟
فنظر نحوها نظرة حامية ثم أمرها بـ:
- نامي يا يارا
فسارت بخطى خالية من الروح نحو الخزانة، نظر لها من طرفهِ و هي تفتحها مردفة بلهجة جادة شابتها الكآبة:
- كنت متأكدة إنك هتعمل ده.. عشان كده خدت الروشتة تاني من الدكتور قبل ما نمشي، و خليت "عاطف" يجيبهم
و أخرجت الأدوية التي أرسلت الخادم لإحضارهم فور قدومها، ثم مضت نحوه، جلست أمامه على الأرضية تتابعها نظارتهِ العميقة، كانت تفتح أنبوب الدهان، ثم رفعت نظراتها إليه لتجد نظراتهِ متعلقة بها و بوجهها الممتقع، فسألته بوجوم:
- إيه؟ بتبص لي كده ليه؟
فسألها مضيقًا عينيهِ:
- إيه اللي خلاكي تقولي ان مش أنا اللي قتلته.. ازاي واثقة من ده؟
أجابته "يارا" و هي تحنى بصرها و قد ارتفع جانب ثغرها بسخرية:
- لأني غبيّة!
و تلمست أطراف الشاش بأناملها، و كادت تزيحه فرفض بقولهِ و هو يقوس شفتيه ضيقًا:
- مش عايز حاجة
تنهدت بضيق و هي تنظر لأنبوب الدهان و قد تفهمت أنهُ يرفضه هو، ثم قالت عقب أن ضمّت شفتيها:
- بعض المراهم لما بتحطها بتحرق أكتر و بتعمل كده.. لكن بعد شوية بتهدا
فزفر معربًا عن حنقهِ، حينما كانت هي تزيح الشاش بأطراف أناملها و قد أصابها الوجل مما ستراه، أطبقت جفنيها مطولًا و هي تحاول جاهدة التحكم بتعبيراتها، فسحب منها الأنبوب بعنف على حين غرة و هو يهدر باحتدام و قد استشاط فجأة:
- قولت مش عايز
أطبقت أسنانها و هي تنظر نحوه باستهجان.. توهجت وجنتيها، ثم دفعت إليه بالأدوية في وجههِ و هي تنهض عن جلستها بتشنج:
- أنا أصلًا غلطانة إني مهتمة بيك في وقت زي ده!.. انت إنسان جاحد
و مضت نحو الفراش و استلقت حينما كان يُطبق اسنانهِ باحتدام و هو يلقى بشرائط العلاج بعيدًا زافرًا بحنق مسموع، و راح يعود لوضعيّتهِ الأولى، كانت توليه ظهرها و هي تدثر نفسها بالغطاء مزمجرة بغيظ، و أطبقت جفنيها محاولة معاودة النوم، لم تكن بحال يسمح لها بتفهمهِ أو بتفهم شعوره كونهُ صار مشوهًا بالكامل.. ستنبذهُ حتمًا إن فعلت مجددًا، و لم يتحمل كونه سيرى اشمئزازًا منه في نظراتها نحوه.
 دفن "يامن" رأسه في ساعده و هو يشدد أكثر من ضغطه على عضلات فكيهِ فاهتزّت عضلات صدغيهِ و قد تفاقمت آلامه و قد رفض أن يتعاطى أي نوع من المسكنات منذ صباح اليوم، رفض أن يصدر عنهُ تأوهًا و ظلّ هكذا يعاني مع ارتفاع حرارة جسده المفرطة، و لم يكترث حتى لتشغيل مكيف الهواء كونهُ يعلم أنها لا تتحمله و تصاب بالزكام ان تعرضت له مرارًا و كأنها غير معتادة عليه.
 و كأن ظهره يُشوى بألسنة اللهب المقيتة، بات هكذا لوقت غير معلوم حتى راح في سبات عميق على غير عادتهِ عقب أن أنهكهُ ذلك العذاب المريب، و حالما استمعت إلى انتظام أنفاسهِ أزاحت الغطاء عنها و مازال التجهم عن وجهها، ثم خطت نحوه و سحبت علاجهِ عن الأرضية و جمعتهُ، و راحت تجلس أمامه مجددًا و هي تتنهد بحرارة، تأملت حبّات العرق البازغة على جانب وجههِ الأيسر الظاهر، ثم شرعت تمسحهم مستعينة بمرمة ورقية، ثم تلمست بأطراف أناملها ذلك الحرق البازغ في صدغهِ و قد احترقت شعيرات ذلك الجانب فقام بحلاقتهم تمامًا للمرة الأولى على الرغم من كرههِ لذلك، حررت زفيرًا حارًا في صدرها و هي ستشعر وغزة عنيفة في قلبها فهمست بقنوط:
- يا رب
و تركت العلبة بأكملها أرضًا تحسبًا لاحتياجها لها، نهضت مجددًا لتبحث عن جهاز التحكم بـ مكيف الهواء، و قامت بتشغيلهِ، و عادت تجلس مجددًا أمامه.
 كلٌ حولها أرضًا.. الشاش الطبيّ الذي ستحتاجه و الأقراص المسكنة و أقراص أخرى و زجاجة المياه، و بحرصٍ شديـد.. شرعت تنزع الشاش المُغلف لظهره، صدرت عنها تأويهة خافتة و هي تتأمل ما يظهر من خلفها تباعًا، حتى نجحت بنزعه تمامًا، تقلص وجهها متألمة و هي تشيح ببصرها بعيدًا، ثم لفظت أنفاسها المشبعة بأنّة متألمة، عادت تنظر نحوه و هي تسحب أنبوب الدهان، نزعت غطائهِ و طفقت تمسح بهِ برفقٍ شديد على ظهرهِ، و حالما تلمست تلك المادة جلد ظهرهِ المحروق صاح متألمًا رغمًا عنه و هو ينتفض من نومتهِ:
- آآآه
تركت الأنبوب جانبًا و هي تنهض عن جلستها و قد تفاقم قلقها:
- مالك؟ انت كويس؟
فردد من بين أسنانهِ المطبقة و هو يكور أصابع كفهِ:
- انتي عملتي ايه؟
رمشت عدة مرات و هي تجيبه:
- كنت بدهن لك ظهرك
أبصر الشاش الطبي الملوث و الملقى أرضًا فنظر نحوها مستهجنًا و هو يجأر بـ:
- انتي مبتفهميش؟.. مش قولت مش عايز حاجة
فزفرت بحنق شديد و هي تقول لائمة بلهجة مشتدة:
- هو انت لازم ترفض المساعدة و خلاص؟ بتعند حتى في مرضك
توهج وجههُ تمامًا و بزغت عروق جبينه و هو يهدر مهتاجًا و قد أصابته الكلمة في مقتل:
- مرض إيه ده! شايفاني عاجز قدامك
و أشار أرضًا و هو يهدر بـ:
- اخفي القرف ده و روحي نامي
و عاد لوضعيتهِ الأولى.. و لكنه سحب الغطاء بعنف واضح ليخفى ظهرهِ خلفه حينما كانت هي تقف ملتزمة الصمت.. عضت على طرف شفتها السفلى و هي عاقدة حاجبيها، تمكنت أن تتفهم ما يدور بخلدهِ فأحنت بصرها إشفاقًا، ثم عرضت عليهِ بحذر:
- طب هحط الشاش بس.. مينفعش تفضل كده
فجأر مستهجنًا و قد شعر بعضلات جسده تتشنج:
- قولت مش عايز زفت
حررت زفيرًا حارًا من صدرها و هي تجيبه بامتقاع:
- حاضر
 و انحنت لتجمع كل شئ و تعيده محله، كادت تستلقي على فراشها لولا أنهُ لمح بطرف عينهِ المكيف قيد التشغيل على الرغم من كونه لم يشعر بسرب الهواء الذي يبعثهُ وسط حرارته المتأججة، فقال ممتعضًا:
- اقفلي التكييف
تغضن جبينها و هي تلتفت نحوه، ثم نطق بتعند مقتضب:
- عايزاه
و جلست على فراشها و هي تحدجه بنظرة من طرفها، ثم سحبت الغطاء و اندست للأسفل، فقال لاويًا شفتيه بتأففٍ:
- ماشي
و نهض مزيحًا الغطاء عنه، بحث هنا و هناك حتى وجدهُ، وجّه "يامن" جهاز التحكم نحوه فأغلقه تمامًا، فاستقامت فجأة بظهرها و هي تقول مستنكرة:
- عايز تقنعني انك مش عايزه!.. انت جسمك كله عرقان
و تفاقم ضيقها و هي تعقد ساعديها:
- و لا هو عند و خلاص!
نظر نحوها من طرفهِ، ثم خطى مجددًا نحو الأريكة، و تمدد عائدًا سيرتهِ الأولى، فأطبقت على أسنانها بغيظ، و لكنها غيظها تبدد حين رأتهُ مجددًا يسحب الغطاء ليواري عنها تشوه ظهرهِ، و تعبيراتها المتقلصة ارتخت و هي تتأمله بعمق واجم كئيب.
 تقوست شفتيها و هي تطرد زفيرًا حارًا من ذلك التأجج الذي يضجّ به صدرها و هي تتمدد مجددًا مسلطة أنظارها عليهِ على عكسه، و للعجب أنه دقائق فقط و كان يغطّ في نوم عميق متأثرًا بإنهاك جسده الزائد المتعرض لذلك اللهيب القاسي، فراحت تسحب جهاز التحكم عن الكومود القريب من الفراش.. و أعادت تشغيل المكيف، ثم اندست بجسدها أسفل الغطاء و هي تحكم تدثير جسدها بهِ.
......................................................
هاج و ماج و أقام الدنيا و لم يقعدها فور أن علم أن ابنة عمتهِ ستبيت ليلتها بمنزل رجل غريب.. لم يبالي كونهُ قصرًا يتواجد به العديد من الخدم و الأناس و رفيقتها أيضًا، و لكن فكرة واحدة فقط استحوذت عليه فراح يهدر باحتدام و قد شعر و كأن رأسه يغلي:
- يعني إيه يعني يا عمتي تبات في بيته!.. دي خلاص طقّت منها خالص
فقالت "سعاد" بقلة حيلة:
- يعني يا راشد كنت عايزها ترجع لوحدها في وقت زي ده!
و أحنت بصرها و هي تفرك أناملها بتوتر محاولة التبرير له بما لم تتقبلهُ هي:
- و بعدين.. هي مع صاحبتها يعني يا راشد، متكبرش الموضوع
فلكم "راشد" الجدار بقبضته المتكورة و هو يصرخ مستشيطًا:
- و جوزها يا عمتي.. مع صاحبتها و جوزها! بتقوليلي ان البنت اللي هتبقى مراتي بايتة عن واحد غريب، المفروض أعمل إيه، أفرحلها!
تلفتت "سعاد" حولها و قد انتفض قلبها خوفًا، ثم حاولت امتصاص غضبهِ و هي تقول بارتياب جليّ:
- يا راشد حرام عليك وطي صوتك، أنا ما صدقت جدتك نامت من بدري، و نبهت على "رهيف" تيجي بدري قبل ما تصحى
مسح على وجههِ بغلّ حتى احمرّ جلد وجهه، ثم نظر نحوها قائلًا بلهجة قاطعة:
- شوفي يا عمتي، أنا مش قابل أي حاجة من اللي بنتك بتعملها دي! عمالة تتحامالي في راجل لا نعرفه و لا يعرفنا، باعتلها حراسة بعربيتهم و عربية ليها و سواق.. انتي راضية عن ده!
فتهدل كتفيها قنوطًا و هي تقول معربة عن قلة حيلتها:
- طب و أعمل إيه يا راشد؟ ما ده أحسن ليها، ما انت عارف إن ولاد الحرام كانوا هيقتولها
و باتت نبرتها شبه معاتبة و هي تقول:
- كتر خير الراجل يا راشد، يعني نعمل إيه!
أطبق الغضب على صدرهِ إطباقًا فزفر بقوة و هو يشيح بوجهه عنها:
- أوف
و عاد ينظر نحوها مفرغًا بتهور ما بجبعتهِ:
- عمتي.. أنا بحب رهيف، تمام؟ و مش هسيبها لو استخبت مني في بطن الحوت!
ارتفع حاجبيها بتعجب و قد حملقت عيناها و هي تكرر بشدوه:
- حبيتها؟.. رهيف!
أومأ و هو يجيبها ممتعضًا:
- أيوة.. معرفش إمتى أو إزاي لكن اللي أعرفه إني مش هسيبها غير و هي مراتي، خلاص؟
و برح محلهِ مبتلعًا الطريق الفاصل بينه و بين غرفتهِ ليختفي فيها، حينما كانت "سُعاد" تقف و كأن على رأسها الطير، ثم غمغمت بعدم استعياب و عيناها مازلتا متوسعتين:
- حبها!.. دي مبتطقيش سيرته
و دلّكت رأسها و هي تطبق جفونها متخصرة بكها الآخر و هي تحدث نفسها بحيرة شديدة:
- أعمل إيه بس يا ربي! أخلصها من الغلب ده ازاي
...............................................................
- أنا مش فاهمة إيه اللي جايبك لهنا كمان! مش كفاية مستحملاك طول الطريق، لسه هستحملك لغاية فوق!
سارت في أعقابهِ و هي تعترض على تواجده داخل المشفى متعللًا أنه سيطمأن إلى وصولها للداخل أولًا، حينما كان هو يمضى ببرود تام دون اكتراث للرد حتى، حتى استقل المصعد و ظلّت هي خارجًا، فاستدار بجسده يواجهها.. حينما كانت تعقد ساعديها أمام صدرها و هي تحدجه باستشاطة، حتى قال مشيرًا بعينيهِ:
- هي دي محتاجة عزومة!.. ما تدخلي
زفرت معربة عن اغتياظها المتأجج، ثم خطت للداخل بتشنج و هي تغمغم بكلمات ساخطة، نقر "فارس" زر الطابق و هو يمنحها نظرة عابر من طرف عينه، حتى انغلق بابيّ المصعد ليرتفع للأعلى ثم توقف عقب بلوغ الطابق المنشود و انفتح بابيهِ تلقائيّا، و كان "فارس" أول من خرج فتبعته و هي لا تكفّ عن التبرم الخافت، حينما كان يقول و هو يمضى دون أن يلتفت نحوها:
- برطمي كمان و كمان.. برطمي، ما أنا ساكتلك من الصبح
ضاقت عيناها و هي تنظر نحوه حانقة ثم قالت متحدية إياه و هي تلكزه بعنفٍ في كتفه:
- ليه ان شاء الله؟.. هتعمل لي إيه
فالتفت على حين غرّة و هو يُطبق على رسغها، ارتفع حاجبه الأيسر تحذيرًا و هو يقول بلهجة خالية من أي شئ عدا الجفاف:
- إياكي.. لحد هنا و كفاية أوي
زمّت على شفتيها و قد شعرت و كأنها تمادت بالفعل، فأحنت نظارتها و هي تسحب ذراعه قائلة بامتعاض:
- مقصدتش.. هي جت كده
فقال لاويًا شفتيه بسخرية:
- طب المرة الجاية تبقى تاخدى بالك
و صمت هنيهة ثم تابع مهددًا قبل أن يستدير مستكملًا السير:
- أنا غبي بزيادة و مش عايز غبائي يطلع عليكي يا شاطرة، ماشي!
فتقوست شفتيها إزدراءً و هي تكرر:
- شاطرة!
.....................................................................
سهدت عيناها و خاصم النوم جفنيها حتى مطلع الفجر، و إلا الآن لم يعفو النوم عنها و يستقبلها في أحضانهِ، فظلت أسيرة للأفكار.
ندمت للغايـة.. و كأنها ألقت بأرض والدها بيُسر و أقصتها بعيدًا عنها، شعرت و كأنها فقدتها من أجل حمايتها من يد آخر، نهضت "رهيف" عن نومتها، و راحت تقف أمام النافذة الخاصة بغرفتها و أزاحت الستائر القاتمة فتبيّن لها زجاجها الذي يعكس صورتها في ذلك الوقت من الليل،  فتحت "رهيف" الضلفة و هي تطبق جفونها مستقبلة النسمة الرقيقة التي أحاطتها، و سحبت شهيقًا محملًا بذلك الهواء النقيّ ثم لفظته بروية و هي تفتح جفنيها مجددًا، حتى تنبهت لرنين هاتفها، فسحبته عن الكومود و وقفت مجددًا كما كمانت و هي تجيب على اتصال آخر من اتصالات والدتها التي فشلت في إحصائها:
- أيوة يا ماما.. لا لسه منمتش، رهف عاملة إيه؟.. مش راضية تنام ليه؟
و صمتت هنيهة تستمع لردها، ثم لوت ثغرها بابتسامة باهتة و هي تغمغم:
- طب قوليلها هتجيبلك البسكوت اللي بتحبيه و هي جاية
ابتعدت "سُعاد" لتخرج من الشرفة حيث تتمكن من الاستماع لصوت ابنتها بوضوح، ثم أبلغتها بـ:
- راشد لما عرف إنك هتباتي كان هيطق له عرق، مبسوطة دلوقتي!
فتقلصت تعبيراتها بامتعاض و هي تقول مستنكرة:
- نعم!.. و هو ماله أصلًا، إيه التطفل بتاعه ده، هو فاكر نفسه مين يعني
فحاولت "سُعاد" الإصلاح بينهما و:
- يا بنتي أنا مش عارفة كل ما سيرته تيجي قدامك تتنطي كده ليه، عملك إيه يعني مخليكي مش طايقاه كده!
و ضاقت عيناها و هي تردف متخصرة بكفها:
- تعاليلي هنا يا رهيف.. انتي كنتي خلاص قبلتي الموضوع، من ساعة فرح يارا و انتي اتغيرتي 180 درجة، إيه اللي حصل يا رهيف خلاكي كده!
لفظت "رهيف" أنفاسها الحانقة و هي تطبق جفنيها بضجر، ثم قالت متهربة:
- أنا تعبانة يا ماما و مش قادرة، تصبحي على خير
و أغلقت رغمًا عنها دون أن تتمكن من إضافة حرف، حينما كانت "سعاد" تنظر بضيق لهاتفها، رفعت رأسها لتتأمل الظلمة المُغلفة للكوكب الأرضيّ، فقط تلك النجوم المتناثرة أعلى صحن السماء، و القمر المُتكبد لها يمنحان بصيصًا من الضوء، زفرت "سعاد" و هي تقول بفتور:
- متأكدة إن في حاجة حصلت.. يا ترى عملت إيه فيها يا راشد!
حينما كانت هي تُطبق جفنيها و قد انسلّت عبرة عابرة من طرف جفنها، على الرغم من إنكارها إلا أنها شعرت أنها قد بدأت تميل إليهِ منذ عودته، لم تكن قد رأته منذ مدة، و اعترفت أخيرًا أنه كان جاذبًا لأيدي قلبها و محكمًا عليه.
 يومين فقط توالت عليها رؤيتهِ فيهما فعلت بها الأفاعيل، و على الرغم مما فعله.. إلا أن قلبها متشبثًا به، مطبقًا على أناملهِ، و يومًا بعد يوم يحكم الإطباق عليه، أيعقل أنهُ حبًا؟ أم أنها مجرد مشاعر عابرة؟ و لمَ إذًا تشعر بالقهر منهُ هو تحديدًا دونًا عن والده الذي لا تكنّ له سوى البغض، ألأنها لم تتوقع تلك الطعنة الغادرة منه؟ أم لأنه استحوذ على قلبها؟..
 في كل الأحوال هي الخاسرة، مشاعرها الغريبة التي نمت وسط عالمها الكئيب ستَحكم عليها بالوأد في مهدها، هكذا قررت و عقدت العزم، نزحت عبرة أخرى هطلت دون أن تشعر بها، ثم أطبقت جفنيها و هي تهمس بقنوطٍ متعند:
- مش هسامحك يا راشد.. أبدًا
............................................................
و انقضت أيام العزاء.. و لكن أينقضي عزائها هي؟
تجلس ضامّة ركبتيها إلى صدرها بشرفتها و قد رفضت رفضًا قاطعًا الانتقال لغرفتهِ، فكان ملازمًا لأريكتها رغمًا عن إرادتها، و لكنها تستيقظ فلا تجده.. جافًا للغاية، و لكنه للحق حين تنهار يحتويها ببراعة عجيبة.
 و من ثم يعود لسابق عهدهِ، إنها منهكة للغاية، لدرجة أنها لا تستطيع فكّ شفراتهِ تلك،.. لا يتعاطى أيّا من دوائهِ، و يرفض حتى مسكن آلامهِ، و كأنه يغوى تعذيب نفسه بنفسه، تنام على صوت تأوهاتهِ الخافتة التي تنفلت من بين شفتيه أثنا نومهِ رغمًا عنه فتشعر بها تذيب جليد قلبها ناحيته، و تهبط كالسياط على صفحتهِ الممزقة، و من ثم تستيقظ على فراغ الغرفة منه، و لكنها لا تفرغ من عبقهِ المحبب لديها.
 و ها هي تجلس وحيدة تعانق الوسط بعينيها الواجمتين، و لاح أمام عينيها شريط مُفصّل لحياتها في الأونة الأخيرة.. و تحديدًا منذ احتراق بيت المزرعة، موت العم "منصور"، ذلك المشهد الرهيب الذي لا يغيب للحظة عن مخيلتها و النيران تنهشُ من الأجساد مطالبة بالمزيد و المزيد منهم محاولة إرضاء جوعها الذي لا يُرضى.
 تهدّل كتفيها بقنوط وهي ترتشف من مشروب أوراق النعناع الطازجة الذي صار لا يفارق يدها، و كأنها تعتبرهُ مهدئًا لأعصابها المنفلتة، ارتشفت رشفة واحدة ثم تركت الكوب الذي يتطاير منه البخار أعلى الطاولة عقب أن اخترقت رائحتهِ الفريدة و المحببة أنفها، تنهدت بحرارة و هي تخفض ساقيها لتجلس معتدلة أعلى مقعدها، حتى تنبّهت لرنين هاتفها، نظرت لهُ و قد كان أعلى طاولتها لتجد شاشتهِ مُنبثقة باسم "عاقد الحاجبين"، لاح أمام عينيها السم السابق له" منبع الشر" كما كانت تطلق عليه، و اليوم ها هي شفتيها تنبعجان عن ابتسامة باهتة صغيرة فور رؤيتها لاتصالهِ النادر، نظرت للأفق و قد شردت قليلًا.. من كان يدري أنها ستصل إلى هنا، و من كان يدري أنها ستكون زوجة فعلية لهُ و بملئ إرادتها، حتى غامت عيناها شجنًا و تلاشت بسمتها و تاهت في دروب الالتياع، سحبت هاتفها قبل أن يكاد رنينهِ ينتهى و أجابت ببحّة عمّت صوتها:
- ألو
- انزلي
نهضت عن محلها و هي تسأله عاقدة حاجبيها:
- ليه؟
فـ أجابها باقتضاب شديد:
- هتعرفي
و أنهى المكالمة، فنظرت للهاتف غيظًا، و راحت تخطو للأسفل و هي تغمغم بكلمات تنمّ عن حنقها، خرجت من غرفتها، و سلكت الردهة المؤدية للدرجات و شرعت تهبطها برشاقة للأسفل، تلفتت حولها و جبينها يتجعد أكثر في حال عدم وجوده، زفرت بضيق و هي تنظر للهاتف متبرمة:
- هو فين بقى!
و أعادت الاتصال بهِ.. بادرت مستنكرة:
- أنزل فين!.. انت مش موجود
فقال بلهجة آمرة موجزة:
- اخرجي
أطبقت أسنانها  ثم غمغمت ممتعضة:
- ما كان من الأول!
و خطت للخارج.. تغضن جبينها أكثر و هي تتلفت هنا و هناك.. دارت حول الحديقة  و لكنها لم تجده، لفظت أنفاسها و هي تدمدم و قد اكتشفت أنهُ لم ينهى المكالمة:
- انت فين بالظبط؟.. مش فاهمة انت بتعمل إيه!
- شايفك.. لفى
فالتفتت بجسدها.. حملقت عيناها حين رأتهُ يقف أقصى اليسار انفلت الهاتف من يدها ليسقط أرضًا و نظراتها المذهولة معلقة بهِ، حينما كان ينهى المكالمة و هو يدس الهاتف بجيبه، لحظات من الصمت الغير مستوعب، و كأن تروس ذهنها أصابها الصدأ، و ما إن شرعت تعمل كانت تهمهم و قد بدأ الإدرينالين يتدفق بغزارة في عروقها:
- أشهـــب!
..........................................................
.................................
..................................................................................
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now