"الفصل السادس و السبعون"

784 16 1
                                    

"الفصل السادس و السبعُون"
تعلّقت بها أنظارها المترقبة و كل خليّة في جسدها ترتعدُ خوفًا من النتائج، حبست "ولاء" أنفاسها في صدرها حتى و فجأة تهدجت أنفاسها.. و ترقرقت العبرات المتأثرة في عينيها و ثغرها ينبعجُ كاشفًا عن ابتسامة عريضة حين انتهى الطبيب الإيطاليّ من نزع الشاش الطبي عن وجهها لتراهُ كما اعتادت أن ترى دومًا، لم تترك بها الحروق أي أثر أو ندبةٍ عقب عمليتها التجميليّة التي أُجريت لها، ناولها الطبيب مرآة صغيرة سحبها من المررضة و هو يردد بصوتٍ هادئ رخيم:
- You can see your face
تناولتها "حبيبة" و هي تتنفس بعدم انتظام و قد شعرت بنبضاتها المتلاحقة، حتى نظرت من خلال المرآة العاكسة لوجهها، مالت قليلًا ليتبين لها وجنتها اليسرى و كذلك فعلت مع اليمنى، أدمعت عيناها و هي تنظر نحو "ولاء" التي تحمست و هي تربت على ساقها:
- شوفتي يا ماما.. انتي بقيتي كويسة، و رجعتي زي ما كنتي بالظبط
فـ ردت "حبيبة" بلهجة راضية:
- الحمد لله يا ولاء
انسحب الطبيب عقب أن ألقى عليها بضع كلمات باللغة الإنجليزيّة، و ترك كلتاهما، حينما كانت "ولاء" تمعن النظر لذراعها و:
- دراعك بقى كويس كمان.. الحمد لله
و نظرت نحوها نظرة شبه قلقة و هي تسألها بارتياب:
- حاسة بحاجة؟
هزت "حبيبة" رأسها نفيًا و هي تغمغم:
- أنا كويسة.. بس عايزة أرجع بلدي بقى
 و نظرت نحو المرآة و هي تلفظ أنفاسها الحارقة متابعة:
- مبقاش ليها لازمة القاعدة هنا
فلم تقوَ على الاحتفاظ بما بجبعتها، ضمّت شفتيها و قد غابت ابتسامتها و هي تنظر نحوها بعُمق غامض، ثم رددت بخفوت عقب أن حمحمت:
- إحم.. ماما، هـو.. كنت عايزة أسألك على حاجة
تغضن جبين "حبيبية" و قد جحت في لفت انتباهها، التفتت نحوها و هي تسألها بشئ من التوجس:
- حاجة إيه؟
نظرت "ولاء" لمقلتيها مباشرة و هي تدمدم طارحة سؤالها:
- هـو.. احنا كان عندنا أخوات تانيين، يعني أنا و يارا مثلًا، مكنش عندنا أخت تانية
- أخـت!
و كأنها عبثت بآلة زمنٍ فأعادتها لما مرّ منذ سنون، حملقت "حبيبة" بها و قد بدت امارات الصدمة على وجهها، حادت ببصرها عنها لتحدق أمامها و هي تطبق جفونها متنهدة بألم بالغ أطبق على صدرها، و بصعوبة أردفت:
- كان.. الله يرحمها، لما كنت حامل في يارا كنت حامل في توأم
و أحنت بصرها لتفرّ دمعة على وجنتها و هي تستطرد بمرارة:
- كنت ناوية أسميها يورا.. لكن ماتت و أنا بولدها، يارا هي اللي عاشت
ارتفع حاجبيّ "ولاء" غير مصدقة ذلك، فُغرت شفتيها قليلًا و هي تهمس:
- ماتت!
و ارتفعت نبرتها قليلًا و هي تهز رأسها استنكارًا:
- يورا عايشة يا ماما.. توأم يارا عايشة
وقعت كلماتها عليها گصيّب من السماء، نظرت نحوها نظرة مطولة و قد كادت عيناها تخرجان عن محجريهما، نبضها دوّى كـ الدفوف في أذنيها و هي تغمغم بـ:
- عـ..عايشة؟ عايشة إزاي
فبدت نبرة "ولاء" مُتمقطة و هي تميل عليها قليلًا:
- أكيد بابا هو اللي عمل كدا.. و إلا إزاي يورا كانت مع هوليا؟
و صمتت هنيهة لتلتقط أنفاسها ثم رددت بنبرة أشد جديّة و وقعًا على مسامع "حبيبة":
- ماما.. بابا خد منك يورا و اداها لمراته التانية.. اداها لـ هُوليا!
...............................................................
جلست "رهيف" نصف جلسة و هي تُلقي بكافة التهم لـ "راشد" و " متولي" ذاكرة محاولة الأخير لقتلها في عقر دارها و نجاتها من براثن قالتهِ المأجور بصعوبة، و ما إن أنهت ما بجبعتها و دوّنه كاتب المحضر حتى ناولها الضابط الدفتر مرفقًا بقلمٍ و:
- محتاجين توقيعك على أقوالك
أومأت "رهيف" و هي تسحبهم.. ثم شرعت تخُط بقلمها دون أدنى ذرة ندم، حتى انتبهت إلى قول الضابط المتبرّم:
- و فهمي الأخ الأجنبي اللي معاكي إننا مش خايفين منه، و إننا عدينا اللي عمله بمزاجنا
رنت "رهيف" إليه بنظرة مطولة دون وعيّ منها، حتى بسط الضابط كفه ليتسلم منها الدفتر، و خرج و الكاتب في أعقابهِ، ظلت أنظار "رهيف" معلقة بالباب منتظرة أن يلج منهُ و قد شعرت أنها مدينة بكلمة شكرٍ حتى، و لكنها تنبّهت إلى والدتها التي سحبت مقعدًا لتجلس أمامها، نظرتها تلك جعلتها تحيد عنها و هي تردد بتذمر امتزج بحفيظتها التي أثارتها:
- أرجوكي يا ماما بلاش البصة دي.. أنا مكانش عندي أي حل تاني
فضاقت عينا "سعاد" و هي تردد موبّخة بجفاء:
- و دا يديكي الحق إنك تقعدي في بيت واحد غريب؟
فراحت "رهيف" تدافع عن نفسها من فورها باستهجان:
- أنا مقعدتش في بيته.. قصدي تمام، قعدت في بيته، لكن و الله يا ماما هو مكانش فيه، هو.. سابلي البيت خالص و سكن في الشقة اللي جنبي، صدقيني
لم تقتنع "سُعاد" بتلك الحجة الواهية، إذ أنها في النهاية تُعتبر رسميًا سكنت شقة رجل عازبٍ.. مسيحيّ الديانة كان أو مسلم لا فرق، فهي لا تعلم أخلاقهِ أو طباعهِ، و لم يكن الأمر ليختلف مُطلقًا إن كان مسلمًا، في النهاية لقد قضت أيامًا في منزل رجل من بلدٍ آخر مختلفة في العادات و التقاليـد اختلافًا جذريًا، و أعربت عما يدور في خلدها:
- انتي تعرفيه عشان تآمنيله؟.. تعرفيه عشان تروحي تقعدي في بيته؟ ليـه؟ معندكيش أهل؟ متعرفيش تقوليلي
فرددت "رهيف" و هي ترفع كتفيها مستنكرة:
- أقولك!.. أقولك إيه يا ماما، دا أنا خوفت أسمع صوتك في التليفون يعرف إني لسه عايشة فيقتلك!
و أحنت بصرها عنها متابعة:
- و قولتلك مكانش عندي حل تاني.. لولاه كان فاتني ميتة بعد ما خالي الله لا يسامحه أبدًا حاول يقتلني عشان رفضت أبيع الأرض
فعنّفتها "سُعاد" على تلك النقطة أيضًا:
- و ازاي متقوليليش إن خالك و ابنه هما اللي كانوا عايزين يقتلوكي؟.. تروحي تبيعي أرض أبوكي لواحد غريب و بردو متقوليليش، انتي كان عقلك فين يا رهيف؟
زفرت "رهيف" أنفاسها الحانقة و قد شعرت باختناق صدرها، ثم دمدمت مُستشعرة خطأها:
- فعلًا يا ماما.. دي كانت غلطة إني كنت غبية و سامحت و كان لازم أسمع كلام يامن من الأول، دلوقتي كلامه بيتعاد على وداني و مش قادرة أنساه بعد اللي كان هيحصل لي من الانسان اللي وثقت فيه
فلم تكترث "سُعاد" لقولها، راحت تتابع تأنيبها القاسيّ و هي تضيق عينيها:
- و لما انتي خوفتي تكلميني.. تروحي تقعدي معاه، ليـه؟ مقطوعة من شجرة؟ عمك كان فين؟
استشاطت "رهيف" غيظًا و اهتاجت بشكلٍ مفاجئ و هي تشير بكفيها:
- لأ.. معنديـش عم، معنديــش
و أشارت بسبابتها و هي تردد من بين أسنانها المُطبقة و قد التهبت نظراتها:
- عمي دا كان ناقص يشحتني لما قعدت عنده كام يوم، و مراته الله يسامحها كانت بتعد عليا و على أختي اللقمة اللي بناكلها و أنا سامعاها بوداني، كنتي عايزاني أروحله إزاي بقى؟
زمت "سعاد" شفتيها بغيظٍ من تلك السيدة، و تقوست شفتيها متبرمة:
- منها لله حميدة، هو أنا مش عارفاها
فتشبثت "رهيف" بقولها و هي تنظر نحوها بأعين متسعة من الغضب:
- أديكي قوليتها يا ماما، و قولتلك مكانش عندي خيار تاني، كنت أعمل إيه يعني؟.. أسيب نفسي أتقتل أنا و أختي؟.. دا اللي كان هيريحك؟
نفخت "سُعاد" بانزعاج شديد و هي تنظر نحوها شزرًا من طرفها، ثم أحنت بصرها و هي تمدم بعدم اقتناع:
- بردو.. دا ميشفعش إنك لجأتي لواحد حتى لو تعرفيـه.. مكانش المفروض تعملي دا
و ضاقت عيناها سخطًا و هي تعتدل في جلستها المتأهّبة:
- افرضي كان عمل فيكي حاجة؟.. افرضي استغل وضعك يا رهيف؟ كنتي هتعمل إيه
فصرخت "رهيف" بنفاذ صبر مُتشنج في وجهها رغمًا عنها:
- بقولك هو اللي ساعدني يا ماما.. و ملقيتش حل تاني، إنتي محسساني إني جاحدة معرفش ربنا!
ضاق بها ذرعًا، فراحت تدمدم محاولة شرح ما مرّت بهِ:
- انتي فاكرة إني كنت عايشاة أحسن أيام حياتي مثلًا؟.. أنا كنت بنام قافلة عليا أنا و أختى باب أوضتنا و قافلة باب الشقة و سايبة المفتاح فيها، كنت مبنامش غير ساعة ساعتين بالعافية من كتر الخوف، و في نفس الوقت مقدرتش أعمل أي حاجة، كنت هروح لمين؟ أروح بيتي و أنا عارفة إن دا هيكون أول مكان راشد يعرفني فيـه؟.. حتى يارا معرفتش أكلمها و انتي عارفة ظروفها، كنت أعمـل إيه يعني؟
 تنهدت "سعاد" تنهيدة خرجت من أعماقها و قد لانت ملامحها، فراحت تربت برفقٍ على ذراعها و هي تحاول تهدئتها:
- خلاص يا رهيف.. ارتاحي دلوقتي و ..
فقاطعتها "رهيف" و هي تسحب ذراعها إليها و قد انجست الدموع من عينيها و اختنقت نبرتها بتلك الغصة العالقة في حلقها:
- فكرك يعني أنا كنت حاسة نفسي بنت كويسة و أنا ساكنة بيت راجل معرفوش،و كنت مجبورة أتناقش معاه، وكلمته أكتر من مرة، و كنت بتعذب و أنا حاسة إن أنا مذنبة، و لا و أنا معاه في عربية واحدة طول الطريق؟ لكن وضعي أجبرني أعمل دا، و على قد ما أقدر كنت مبتكلمش.. على قد ما أقدر كنت بستغفر ربنا عن غلطة ممكن تكون صدرت مني، عارفة إن مش صح اني أكلمه، و عارفة إن حرام نكون مع بعض في مكان واحد المدة دي لكن كنت مجبورة، لكن الحمد لله أنا عارفة إني معملتش حاجة غلط، و ربنا عارف قبلي!
و نظرت لعينيها مباشرة بأعينها التي تشوشت، بللت شفتيها الجافتين بلسانها، ثم استأنفت حديثها بنبرة مُحتدة و عيناها تضيقان في استهجان:
- يمكن عملت حاجة حرام.. لكن ظروفي أجبرتني على كدا، هو بقى مكانش حرام عليه يعمل كدا فيا و يمرمطني بالشكل دا؟.. و لا هو كان عنده عُذر؟
و أشارت بسبابتها و هي تتابه باستنكار و قد جثُم الاختناق على صدرها:
- أنا أختي دي كانت بتموت؟.. كنت هعمل إيه؟ اضطريت أركب معاه هو و ابن عم يامن كمان، في عربية واحدة، من غير حتى ما أفكر أو آخد بالي لدا، كان المفروض بقى أسيب أختي تموت عادي عشان مجرد مركبش معاهم؟
أطرقت "سُعاد" بضيق و هي تحاول استدراكها، و لكنها تابعت بلهجة مُشتدة و هي تنح عبراتها بعنف:
 - يمكن غلطت لكن غصب عني، و ربنا وحده عالم اللي في نفسي و عالم إني حاولت على قد ما أقدر أتجنب أي غلطة، و عالم إني اتعذبت و أنا بكتم في نفسي كل دا و مقدرتش حتى أحكيلك، و عالم إني مقدرتش أكلمك من كتر خوفي عليكي و على أختي الوحيدة، لا لأني واحدة رخيصة مثلًا زي ما بتحسسيني، و لا لأني كنت حابة اللي بيحصل معايا
 و قبل أن تهمّ "سعاد" بالحديث، كانت "رهيف" تندس أسفل الغطاء و هي تتقلب مُولية ظهرها لها مرددة بجفاء عقب أن أفرغت ما بجبعتها:
- أرجوكي كفاية يا ماما، مش قادرة أسمع حاجة تانية، أنا تعبانة و عايزة أنام
تهدل كتفي "سعاد" بيأس، و لم تمنع نفسها من أن تميل عليها لتطبع قبلة حانية على وجنتها متبعة إياها بقولها:
- طب متزعليش مني.. أيّا كان أنا عايزة مصلحتك يا رهيف
قبضت جفونها و هي إجابة صريحة منها لرفضها تعقيبًا أو إضافة، فتقوست شفتيّ "سعاد" بضيق و هي تبتعد عنها لتعتدل في جلستها على المقعد، رنت بنظرة لابنتها الصغرة التي غفت على الفراش الآخر منذ مُدة، ثم تنهدت في قنوطٍ.
 نهضت عن محلها لتتركها وحدها لتنعم قليلًا ببعض الراحة، غير منتبهة لعبراتها التي تغذّت عليها وسادتها بشراهة و هي تحاول كبت شهقاتها مُكممة فاهها، فـ قد أينع بداخلها شعور الذنب على الرغم من محاولاتها الجمّة لتبرير خطأها، و لكنها حقًا أخطـأت و إن حاولت الفرار من تلك الحقيقة بحُجج واهية فهي تعود إليها.. و إن كانت تجلد نفسها بسياط الندم.. فماذا كانت سـ تفعل إن عاد بها الزمن؟ هل كانت لتغير قدرها؟ لم تكن لتفعل.
 إنها قليلة الحيلة.. تحاول أن تظل شامخة وسط أناسًا عمدوا إلى إذلالها و تشويهها، تحاول أن تظل نفسها "رهيف" المحتفظة للغاية، و المتشبثة بدينها و إسلامها، و لكن ألست إنسانة أيضًا؟.. أيعقل أن تظل أبد الدهر خالية من الخطأ؟ أهناك من هو معصومٌ منه؟ أهناك إنسانًا نقيًا بشكلٍ تام لم يُخطأ، و لم يتركب في حياتهِ خطأً واحدًا يندمُ عليهِ.. خطأً فور أن يُدركه يخر ساجدًا لربهِ يدعوه بأن يغفر لهُ، خطأً يردّها إلى طريق الصواب من جديد عقب أن شعرت أنها فقدتهُ.. أخطأت و تعترف و إن كان خطئًا إجباريًا، و لكنها ستكفر عنه بشتى السبل الممكنة.
.................................................................
رفضت أن تبتعد عن أحضانها فور أن عادت إليها بعد طولِ غياب، ظلّت مطبقة على جسدها بذراعيها ممسدة على خصلاتها برفقٍ، حتى دمدمت "أُمنية" و هي تحاول الفكاك منها:
- يا خالتي أنا كويسة و الله.. من أول ما الزفت دا سابني مع يارا و أنا كويسة، صدقيني
نظرت "سهير" نحوها نظرة عبّرت عن خوفها و هي تسألها للمرة الألف:
- إوعى يكون عمل فيكي حاجة يا أمنية
هزت "أمنية" رأسها نفيًا و هي تردد:
- و الله لأ يا خالتي.. أنا كويسة
طبعت "سهير" قبلة حانية على جبينها و هي تدمدم:
- الحمد لله.. الحمد لله يا أمنية، لو كان حصل لك حاجة كان ممكن أموت فيها
اعتدلت "أُمنية" في جلستها و هي تنظر نحوها نظرة ضائقة، ثم سألتها مُطالبة بالإلمام بما لا تعلمه:
- خالتي.. أنا لازم أعرف بالظبط إيه اللي بيحصل حواليا
ازدردت "سهير" ريقها و هي تنظر نحوها نظرة مبهمة، فتابعت "أُمنية" بإصرار:
- عايزة أعرف كل حاجة.. كمال هو السبب في خطفي، كمال خطفني ليه يا خالتي؟
أحنت "سهير" بصرها و هي تردد محررة تنهيدة حارة من صدرها:
- مات يا أمنية.. كمال مات
أومأت "أمنية" برأسها و هي تقول بانزعاج:
- عارفة يا خالتي.. لكن ساب نائف مكانه ينتقم له
و أطبقت بأناملها على كفها و هي تسأل:
- خالتي..كنتي تعرفي إيه عن كمال خلاه يخطفني؟.. عرفتي إيه عن كمال لما يامن بيه عرفه خطفني؟.. قوليلي يا خالتي، أنا بقيت طرف من اللي بيحصل!
احتوت "سهير" كفها و هي تنظر نحوها نظرة مريرة، ثم تابعت بأسى:
- هتعيدي عليا المواجع يا أمنية.. لكن خلاص لازم تعرفي الحقيقة
و قبضت جفونها و هي تتابع بغموض خالطهُ الابتئاس:
- الحقيقة اللي كتمتها في قلبي سنين.. طالما يامن عرفها، يبقى انتي تعرفيها!
..................................................
كانت تُخرج ما بجبعتها و هي تموج كأمواجٍ متلاطمة هائجة، و في النهاية ضربت بكفها على المنضدة الفاصلة بينهما و هي تتابع باستهجان:
- يعني كان ممكن أموت بسببك يا أستاذ، و انت و لا هامك.. مش كدا
تأفف "نائف" ثم ردد بضجر:
- ما خلاص بقى يا نرمين مش حكاية.. ما انتي كويسة أهو و محصلش حاجة
و ما فاقم ذلك سوى من وغر صدرها، فأشارت نحوهُ و هي تردد بتمقُّط:
- تصدق إنك انسان أناني مبتفكرش غير في نفسك.. مراتك ماتت بسببك قبل كدا و أنا نهايتي هتكون زيها
حرد صدرهُ بنيرانٍ متوقدة، و بعثتها عيناهُ نحوها و هو يتأهب في جلستهِ ادرًا:
- نيرميــــن، خدى بالك من كلامك.. مراتي مقتلتهاش، يامن هو اللي قتلها و انتي عارفة دا كويس
نهضت "نيرمين" عن جلستها و هي تقوس شفتيها بفتور مستهزئة:
- هه.. يامن
و اشتعلت نبرتها و نظراتها و هي تميل نحوهُ قليلًا:
- خليك فاكر يا نائف.. إنت مهما كذبت على نفسك فانت من جواك عارف كويس أوي إن محدش كان سبب في موتها غيرك.. و مهما حاولت ترمي الذنب على يامن.. فانت عارف إن إنت اللي قتلتها.. إنت و بـس
شملىهُ بنظرة مزدرية ثم تركتهُ بتخطو نحو الدرجات و شرع تعتليها للأعلى، حينما كان "نائف" يتابعها بنظراتهِ القاتمة، أطبق على أسنانهِ فاهتزت عضلات صدغيهِ إثرها، و لكن سريعًا ما التوى شدقيه بابتسامة شيطانية و هو ينظر أمامهُ، رفع ساقًا فوق الأخرى و هو يردد بغطرسة:
- ما أنا مش هقتلها كدا.. لازم أقتلك بالبطئ عن طريقها، كفاية تحس إنها غدرت بيك لما هربت بابنها منك
احتلّ الظلام صفحة وجههُ و هو يتابع بلهجة أشد حلكة:
- زي ما هي غدرت بيا و كانت بتحبك من ورايا
و هز كفه الحامل لكأسٍ من المشروب قليلًا قبل أن يتجرعهُ على رشفة واحدة، ثم تركه أعلى المنضدة و هو يستطرد:
- معلش..عارف إن كل حاجة اتكشفت قبل ما تبدأ، لكن بردو كفاية عليا الشعور دا، خليك تتعذب بيه كام يوم يا مينو، لغايـة ما أخلص عليها
سحب هاتفهِ فور استمع لرنينهِ، اعتدل في جلسته قليلًا و هو يفرك جينه قبل أن يجيبها بفتور:
- ألو.. أيوة يا يورا، طب ما أنا عارف
تقوست شفتيه بابتسامة شرسة و هو يتابع:
- أساعدك ترجعي!.. سوري يا روحي الأوبشن دا مش عندي
و أنهى المكالمة في وجهها و هو يلقى بهاتفهِ بلا اكتراث، و عاد يصُب في كأسه من تلك الزجاجة و هو يردد:
- قال أساعدك قال!.. إنتي مكانش ليكي لازمة أصلًا
..............................................................
و ها هي تعـود لأسرها و سجانها، ها هي تعود فتحتضنها جدران غرفتها التي تُطبق على قلبها، رفضت بأي شكلٍ كان أن تخرج منها أو حتى أن تضع شيئًا بفمها، لقد سئمت ما تعيش بالفعل، سئمت تلك العواصف و الأعاصير التي تبتلعها كلما خطت خطوة للأمام، و سئمت أن تعود إليهِ كلما حاولت الفرار منه، و صار أبشع كابوسٍ لديها أن تخسر طفلها، أو أن ينفذ تهديداتهِ و يحرمها منهُ فور ولادتهِ.
كانت تجلس على الأريكة في شرفتها باستكانة ظاهرية، و لكن بداخلها تأججت نيرانًا لا تعلم كيف ستخمدها، أطبقت جفونها حين استمعت لصوت بابها ينفتح، حتى ولج منهُ و عمّ عبقه بالغرفة، و ما هي إلا ثوانٍ و كانت تجدهُ جوارها، حادت ببصرها عنهُ، فاستند "يامن" بظهره لسور الشرفة و هو يناولها شطيرة جاهزة الصنع ذات النكهة السوريّة التي تفضلها دومًا من إحدى المحال الشهيرة، زكمت الرائحة أنفها فشعرت بالغثيان، تقلصت تعبيراتها حينما بادر بنبرة آمرة:
- امسكي
نظرت نحوها من طرف عين، ثم تقوست شفتيها اشمئزازًا و هي تغمغم:
- مش عايزة
لم يتفهما حقيقةً.. ظنّ أنها تبالغ في العناد معهُ، فتجهم وجههُ أكثر و هو ينزع عن الشطيرة غلافها، قلّص المسافة بينهما و هو ينحني عليها ليبسط كفها و وضع الشطيرة بهِ أثناء دمدمتهِ الساخطة:
- أنا على اخري يا بنت حسين.. على أخــري!
نظرت للشطيرة التي فاحت رائحتها بشكلٍ مضاعف فتقلصت معدتها، تركتها على المنضدة و هي تنهض من فورها، و فرّت من أمامهِ لتخطو نحو المرحاض الملحق بغرفتها تحت وطأة أنظارهِ المبهمة، استقام في وقفته و راح يخطو نحوها ليجدها قد صفعت باب المرحاض، تغضن جبينهُ أكثر و هو يطرق عليه عدة مرات و هو يردد بعدم فهم لما يحدث معها:
- بنت حسيـن!
استمع لأصواتٍ غريبة و كأنها تُفرغ ما بمعدتها فازدادت ريبتهُ، حتى استمع لصوت الصنبور و لم يعد يصلهُ غير هدير المياه، حتى فتحت الباب و هي تمسح وجهها بمنشفة صغيرة، و فور أن وجدته تركتها جانبًا و هي تمنحه نظرة حالكة مُتهمة، همت بالرحيل من أمامهِ، فاستوقفها و هو يقبض على عضدها أثناء سؤالهِ و هو يمعن في وجهها:
- خيـر؟
انتزعت ذراعها منهُ و هي تنفجر في وجههِ صائحة:
- مش خيـر.. مش خير أبدًا طول ما انت معايا، قولتلك مش عايزة و بردو مش مقتنع، أنا تعبانة و ابني مش كويس.. ابني ممكن يروح مني في أي لحظة لو ساءت حالتي أكتر من كدا، و انت مش هامك غير إنك تملكه و بس
و عبست ملامحها و هي تشملهُ بازدراء ثم نطقت استهجانًا:
- أنا بكلم مين أساسًا.. بكلم واحد مهما حاولت معاه مش هيفهمني و لا هيهتم
و قبل أن تهمّ بالاستدارة كان يجتذبها من مؤخرة عنقها بحركة عنيفة لتواجههُ و هو يجأر بها و قد تشنجت عضلات جسده بأكملهِ:
- انتي عايزة إيــه؟
فناطحتهُ بالرأس و قد اندلعت النيران بين عينيها:
- عايـزة أعيش، أعيــش، حرام؟
و تلمس بأطراف أناملها بطنها و هي تصرخ باحتدام:
- عايزة ابني يعيش.. عايزة أعيش أنا و ابني، حـرام أعيش؟.. حرام؟
حاولت أن تزيح كفهُ عن عنقها و لكنها لم تتمكن من زحزحتهِ أثناء ترديدها المنفعل:
- عايزة أعيش.. و معتقدش دا هيحصل و أنا جمبك يا يامن
فتفاجأت بجأرهِ العنيف و قد اتسعت مقلتاهُ المتوهجتين:
- يبقى ابعدي.. ابعــدي عني
توسعت عيناها في غيظٍ و قد تراخى كفها بجوارها عقب أن فشلت في تحرير نفسها، ثم رددت بامتعاض شديد:
- انت.. انت أكيد عندك شيزوفرينيا، إنت اللي رافض تبعد عني مش أنا
أشار بعينيهِ نحو بطنها و قد ضاقت عيناهُ في استهجان:
- لو رافض أبعد فدا عشان ابني مش عشانك، لكن انتي رفضتي تبعدي من الأول
تشنجت عضلات فكيهِ و هو يستطرد باحتدام آمر:
- ابعدي يا بنت حسيـن.. أحسن لك تبعدي
- انت أكيـد مش طبيعي!
أومأ برأسهِ و هو يُطبق أسنانهِ، ثم دمدم من بينهما بسخط:
- طبيعي.. إنتي اللي مش فاهمة و رافضة تفهمي، انتي اللي قربتي و رفضتي تبعدي، حتى و انتي بعيدة كنتي قريبة
هزت رأسها في استنكار و هي تفغر شفتيها في شدوهٍ مغتاظ لما يُمليه على أذنيها، قلّص "يامن" المسافة بينهما مشيرًا بسبابتهِ و هو يتابع بنبرة مُبهمة:
- خليكي جمبكي.. لكن متقربيش، لو عايزة تعيشي.. خليكي بعيدة، لكن مهما عملتي.. مكانك مش هيكون غير جمبي
أطبقت جفونها في سخرية و هي تضمّ شفتيها، أشاحت بوجهها عنه و قد التوى ثغرها بابتسامة هازئة، فشدد من ضغطهِ على عنقها ليجبرها على النظر إليهِ و هو يشدد على كلماتهِ بصرامة قاتمة:
- فهمتي؟
فرّقت جفنيها لتنظر نحوهُ بابتئاس مُحتد اخلط بالعتاب، ثم أومأت و هي تحنى بصرها عنه قليلًا:
- فهمت
حرر "يامن" عنقها قليلًا و هو يومئ برأسهِ بحركة لا تكاد تلحظ و:
- عظيم
ترقرقت العبرات في مقلتيها التعاجًا، ارتعشت شفتيها تأثرًا و هي تصرف بصرها عن خضراويهِ المُضطرمتين، و غلّف الارتجاف نبرتها و هي تدمدم باختناق محاولة أن تحافظ على آخر ذرات تماسكها:
- أنا عايزة أعرف.. أنا .. غلطت معاك في إيه، عشان تعمل فيا كدا؟
تقوست شفتيه فتورًا و هو يصرف بصرهُ عنها، اكتسبت هي من ضعفها قُوة مضاعفة و هي ترفع نظراتها تحوه لتغرسها في عينيهِ الحائدتين عنها و هي تتابع بلهجة أشد بأسًا و قد نحّت الارتعاش الذي كاد يصيبها جانبًا:
- غلطت في إيـه معاك.. غلطي كان إيــه؟
حينها انحرفت نظراته نحوها، فنقلت بصرها بين عينيه و هي تهدر به و قد توهج وجهها بنذير:
- عارف غلطت في إيــه؟ إني حبيتك، حبيتك زي الغبية معرفش إمتي و لا إزاي، غلطي كان إني حبيت و اتمسكت بحب مجاليش من وراه غير العذاب، حبيت انسان جه عليا أكتر من مرة و سامحت و عديت، حبيت من كل قلبي و بكل صدق و ...
فكانت نبرتهِ جافّة للغاية و هو يردد:
- و أنا قولتلك قبل كدا.. قلبك هيضيعك مسمعتيش كلامي، قولتلك ابعدي مسمعتيش كلامي، قولتلت احذريني لكن انتي قربتي.. قولتلك ناري هتطولك لكن انتي مهتمهتيش
استشاطت غيظًا فهدرت باشتعال شعرت بهِ يحيط نبرتها:
- و دا كان غلطي؟ كــان غلطي اللي بتحاسبني عليه؟
و ضاقت عيناها و هي تتابع بنبرة أشدّ وطأة على نفسهِ:
- دا انت حتى استكترت عليا كلمة آسف، استكترت عليا كلمة بحبك
أشاح بوجهِ عنها و هو ينفخ في اغتياظٍ، ثم تابع بقسوة:
- قولتلك محبتش.. قولتلك مبحبش، خلاص؟
أطبقت بأناملها على فكهِ لتدير وجههُ إليها و هي تجيبهُ باستهجان متعمدة الضغط على أحرف كلماتها:
- انت حتى مش قادر تقولها و انت باصص في عيني، مش قادر تقولها
أزاح أناملها عنه بحركة عنيفة و هو يهدر بانفعال و عيناهُ منغرستان في مقلتيها:
- قولت لأ.. ارتاحتي؟
تهدجت أنفاسها.. نهج صدرها علوًا و هبوطًا و هي تنقل نظراتها بين خضراوتيه المتوقدتين، ثم نطقت بتعند و هي تنفى برأسها:
- تـؤ.. مرتاتحتش، و مش هرتاح
و تابعت بنبرة أشد قوة:
- مش هرتاح و أنا متعلقة ما بين السما و الأرض عشان أنانيتك، مش هرتاح غير لما يكون في مسمى واضح للي إحنا عليه
و صمتت هنيهة ثُم أردفت باستهجان:
- غير لما تكتب النهاية يا يامن.. مش هفضل أستناها و انا محبوسة بين أربع حيطان، مش هفضل أستنى الوقت اللي حضرتك هتعدمني فيه و هتكتب عليا أتحرم من ابني اللي معرفش باللي بيحصلنا هشوفه و لا لأ
فـ أطبق بأناملهِ على عضدها و هو يردد بلهجة مُحتدمة:
- و أنا قولت مش قبل ما يتولد، قولت مش هطلقك غير لما يبقى في حضني
فجأرت بهِ و قد نفذت آخر ذرات مخزونها من الصبر:
- أنا تعبت.. انت مبتزهقش، مبتتعبش.. أنا تعبت، تعبت من محاولاتي الفاشلة معاك، تعبت من محاولاتي إني أخليك تعترف، تعبت فاهمني.. تعبت
و صمتت هنيهة لتلتقط أنفاسها اللاهثة ثم نقرت بعنفٍ على مرات على صدرهِ و هي تردد بأعين ضاقت بلوم جاف:
- انت مبتحسش؟.. مبتحسش أبدًا؟ مبتحسش بيا و لا باللي بيحصل لي كل ثانية معاك؟ مبتحسش أبدًا؟ مش معقول محسيتش، مش معقول
ارتفع جانب ثغره بابتسامة هازئة حملت في طياتها مرارة متوارية و هو يشيح بوجههِ عنها مرددًا:
- تـؤ.. مبحسش، و قولتلك دا قبل كدا لكن انتي رافضة تفهمي
ناطحتهُ بالرأس و قد ارتفعت نبرتها بصراخٍ مُحتد:
- و أنا حاولت مليون مرة معاك لكن إنت رافـــض، رافض التغيير، لسه زي ما انت مفيش حاجة اتغيرت، رافــض أي محاولة مني، رافــض تتتغير عشاني عشان حتى ابنك اللي جاي، رافــض
و أشارت بكفها و هي تبتعد قليلًا قيد ما تمكنت إذ لم يحل كفه عن عضدها بعد:
- الجميلة حبت الوحش لما اتغير، الوحش اتغير عشانها، لكن أنا حبيتك زي ما إنت.. و انت لسه لغاية دلوقتي رافض أي محاولة للتغيير
أجبرها أن تنظر لعينيهِ و هو يُكشر عن أنيابهِ مرددًا بامتعاض:
- هو دا اللي انتي عايشة فيه يا بنت حسين؟.. هو دا اللي في دماغك؟ الجميلة و الوحش؟ لسه كل دا مش قادرة تخرجي من الحكايات اللي ملهاش أي قيمة؟ لسه لغاية دلوقتي مش قادرة تقتنعي إن دي حكايات أطفال تافهة ملهاش وجود؟.. مش قادرة؟
نظرت لعينيهِ مباشرة باستنكارٍ شاجب و صدرها ينهج علوًا و هبوطًا من فرط انفعالها، حينما كان يتابع و هو يغرس أناملهُ كثر في عضدها متعمدًا غرس كلماتهِ في ذهنها:
- الانسان بس.. هو اللي بيتحول لوحش يا بنت حسين، لكن الوحش عمره ما يتحول لإنسان، الانسان بيتغير للأسوأ.. و عنده رغبة في التغيير للأسوأ، لكن عمره ما يتغير للأحسن، دي الحقيقة الوحيدة اللي لازم تعقليها، عشان متتعبيش كتير
و كأن كلماتهِ نفذت إلى أوردتها كشرابٍ من حميم، نظرت مطولًا لعينيه و قد تجمعت العبرات مجددًا في مقلتيها ثم أحنت بصرها قليلًا ليكن صدرهُ على مستوى بصرها و هي تنطق بارتعاشة غلّفت نبرتها:
- صح
فراحت يتابع و قد تقلصت تلك المسافة بين حاجبيه و هو يرخى أنامله قليلًا عنها:
- متوقعة النهاية تكون إزاي يا بنت حسين؟.. متوقعة إن الوحش هيتغير و الجميلة هتعيش معاه في تبات و نبات.. إنتي بجد متوقعة دا؟
ارتفعت نظراتها المكلومة التي ومضت ببريق الدموع نحو عينيهِ، فتابع بلهجة أشدّ قتامة من بين أسنانه المطبقة بتمقُّط:
- متتفائليش.. متتوقعيش الأحسن يا بنت حسين، لأن الدنيا وظيفتها تعمل عكس اللي عايزينه، متتوقعيش الأحسن لأن الدنيا وظيفتها تحطمك و تدوس عليكي، وظيفتها تدمر الأحلام و الأوهام اللي انتي بتسميها أمل، دي الدنيا.. سيبك بقى من الحكايات و الروايات دي و عيشي الواقع شوية، لأن النهاية هتكون أبشع مما تتخيلي.. اتوقعي بقى الأسوأ لأن اللي هيحصل هيكون أسوأ من اللي خيالك هيصورولك، مُمـكن؟
 لم تقوَ الاحتفاظ بذلك الكمّ من الدموع التي تزاحمت في عينيها، أصرفت بصرها عنه و قد شعرت بكلماتهِ كحجر جثُم على صدرها، و هي تتشبث بمحاولاتها الجمّة للتماسك أمامه، عبرة واحدة نفرت من عينيها و هي تدمدم بارتجافة طافت حول نبرتها:
- ممكن
فشدد من قبضتهِ على عضدها مُرددًا بلهجة أشدّ ليؤكد لها نفس المعنى:
- ممكن؟
نظرت لعينيهِ مباشرة بلومٍ و هي تهز رأسها بإيماءة صغيرة أثناء نطقها:
- ممكن
فأرخى قبضتهِ عن عضدها و هو يردد بلهجة حالكة:
- عظيم
 و رحل.. انصرف عقب أن منحها نظرة أخيرة أشد وطأة على نفسها الملتاعة و صفق الباب من خلفهِ، انهار جسدها على طرف الفراش ،انهمرت دموعها الحارقة على وجنتيها و قد سمحت لشهقاتها الملتعجة بالصعود، تركت لنفسها العنان عقب أن تماسكت لفترة طويلة، و قد سئمت حقًا ما أجبرت على معايشتهِ..
لم تخطئ.. لم تقترف إثمًا يجبرها على أن تتعايش مع تلك الأحداث القاسية، هي تعلم أنهُ مجروح.. و تعلم أن جرحهِ من العسير رتقهِ، و تعلم أنه حتى يرفضُ أن يرتقهِ يرفض أن تجعلها تضمدهُ له، إنه يأبى للرمق الأخير..
 و لكن ما ذبها هي؟.. ذنبها الوحيد بالفعل أنها أصابتها عدوتهِ.. و صارت بعشقه مريضة.. أسيرة و هو يأبى تحريرها، و في الوقت ذاتهِ يطالبها بالدحُـور، و كأنه بيدها حيلة لتفعل و هي تراهُ أمامها ليلًا نهارًا، كيف يأمرها بالابتعاد و هو يسكن قلبها و يستعمرهُ وحده، أنّى لها بالفرار و قد أُحكم الأسر حولها حتى صارت الأغلال تُقيد عنقها، أنّى لها بالارتياح.. في وجودهِ وصب، و في غيابهِ جحيم، ماذا تفعل إذًا؟ لقد صارت عالقة بالمنتصف، أُحصرت في منتصف طريق وعر.. على شفا جرفٍ هارٍ سـ ينهار بها إلى جُهنم، و إن همّت بالعودة فستجد حُمم بركانية توفض نحوها، أنى لها بالرحيل إذًا.. و أنى لها بالفرار، و أنى لها باتخاذ القرار و قد صارت مُجددًا مُجبرة.. مجبرة على الوقوف في المنتصف، و الرضاء بأيّ القدرين، فكلًا منهما يحمل التعاجًا أشدّ لنفسها المُمزقة.
..........................................................
تركت هاتفها بانفعال و هي تسبّ بخفوت من بين شفتيها مُدمدمة بفتورٍ:
 " لعنـك الله"alla senı kahretsın -انسان متخلف..
و هزت ساقها في انفعال و هي تتخصّر بكفيها:
- مكانش المفروض أثق في واحد زيك.. أوف
و نفخت في اغتياظٍ، نهضت عن جلستها و راحت تخطو نحو الباب مغمغمة:
sıkıntı yokأطلع بس من هنا و أنا هتصرف..!" لا مُشكلة"
و ما إن أدارت المقبض حتى تفاجأت برجلين أشدّاء ينتصبان في وقفتيهما أمامها، و بادر أحدهم بصوتٍ غليظ:
- عايزة حاجة يا هانم؟
توسعت زرقاويها بغيظٍ بيّن، ثم غمغمت استهجانًا و هي تحاول العبور:
- أيوة عايزة.. عدوني، بتعملوا إيه هنا أصلًا؟
فسدّ كلاهما الطريق أمامها و قد تناوب الآخر في الردّ اللبق:
- آسفين يا هانم.. معندناش أوامر بده!
تيبست محلها و هي تتخصر بكفيها، رمقت كلاهما باستهجان، ثم نطق بترفُّع:
- إزاي تقدروا تمنعوا يورا هانم من حاجة هي عايزاها؟.. إحنا لو كنا في اسطنبول كنت وريتكم شغلكم
و ضاقت عيناها و قد أُثيرت حفيظتها، فسألتهما باستنكار:
" اللي اتجرأ يعمل عملة زي دي و يحبسني هناHayvan- مين الـ "
حمحم أحدهما ليزيح التحشرج عن نبرتهِ ثم ردد بخشونة:
- احـم.. يامن بيه
فتلوت شفتيها فتورًا و هي تردد باستهزاء:
- و يامن بيه بتاعكم دا فاكر إنه كدا هيمنعني، يبقى ميعرفش مين يورا الحديدي لسـه!
و صفقت الباب بعنفٍ في وجهيهما، نفخت بسخط من أعماقها، ثم راحت تخطو نحو الشرفة و هي تردد بظفر و قد رفعت ذقنها في إباء:
- أنا قدرت أهرب من ماما.. مش هقدر أهرب منك إنت!
و توقفت أمام النافذة، تقوست شفتيها بابتسامة مُنتشية و هي تفتح النافذة و قد شعرت أنها لقت خلاصها، و لكن تيبس وجهها، و تلاشت ابتسامتها حين وجدت رجلًا آخر أمامها، عقد الأخير كفيهِ خلف ظهره و هو يحمحم مُدمدمًا بغلظة:
- احم.. مش هتقدري تهربي يا هانم، كل الشبابيك واقف عليها حراسة
 تشرّبت وجنتي "يـورا" بحمرة فاقعة و هي تطبق أسنانها في حنقٍ واضح، صفقت "يورا" الضلفتين في وجههِ بعنفٍ و هي تُطلق زمجرة عنيفة ساخطة، ركلت الأرض بقدمها بغضب بيّن، ثم دمدمت بحردٍ و هي تدلك جبينها:
- أوف.. واضح إنك مش سهل أبدًا يا يامن بيه، أنا استقليت بيك فعلًا!
.......................................................
و ها هي مُجبرة مجددًا على الجلوس على مقعدًا حول طاولة الطعام بالمطبخ عقب أن فشلت بكل الطرق في الفكاك منهُ، نظرت لما يضعهُ أمامها من أطعمة أخرى أعاد شرائها بعدم اشتهاء، ترك "يامن" صحن الحساء أمامها و هو ينظر نحوها نظرة مختلسة من طرفهِ، لم يكن من العسير ملاحظة ذلك الاحمرار الذي لطخ أنفها و عينيها، نفخ بشئ من الإنزعاج، ثم سأل مستندًا بكفيه للطاولة:
- بتعيطي؟
- تـؤ
سحبت الصحن نحوها، شرعت تقلبهُ قليلًا بعدم اشتهاءٍ له في محاولة منها لتأخير ابتلاعهِ، ثم همّت بأن ترتشف منه رشفة عقب أن ملأت الملعقة، فاستوقفها و هو يتلمس ذقنها بأناملهِ.. رفع وجهها إليه و أمعن النظر فيه، ثم ردد مرتديًا قناع البرود:
- بتعيطي ليه؟
دحرت كفه عن وجهها و هي تتمتم بفتور:
- انت شايفني بعيط؟
و أصرفت بصرها عنهُ، شرعت تنفخ في ملعقة الحساء قبل أن ترتشف منها، انزلقت عبرة عابرة من بين جفنيها أثناء ذلك لم تتمكن من منعها، و لكنه التقطها بطرف إصبعهِ من فور قبل أن تصل لوجهتها، ارتفعت أنظارها إليه و قد شعرت أن جميع حصونها المنيعة سـ تتهاوى من فوره..
 و طاقة الغضب التي شحذتها نحوهُ سـ تتلاشى فور أن رأت تلك العبرة التي نفرت من عينهِ هو الآخر، فواراها من فورهِ و هو يلتفت بعيدًا عنها، استدار موليًا ظهره لها و هو ينزحها بطرف إصبعه آبيًا أن تراها، و سحب صحنًا جديدًا بلاستيكيّا مغلفًا، و بسط ذراعهِ ليضعه أعلى الطاولة عقب أن نزح غلافهِ دون أن يلتفت إلا نصف التافتة، أبعدت "يارا" صحن الحساء بطول ذراعها و أطبقت على كفهِ قبل أن يسحبه و قد انهمرت الدموع من عينيها كمطرٍ غزير في ليلة عاصفة باردة، ظلّ كما هو.. لم يتحرك قيد أنملة، فقط قبض جفونه محررًا ذلك اللهيب المشتعل عن صدرهِ، حينها نكست "يارا" رأسها و هي تدمدم بخفوتٍ:
- عارفة.. إنك تعبان زيي.. و يمكن أكتر مني كمان
و ارتفعت أنظارها نحوه مجددًا و هي تردد بالتعاج اختلط مع نشيجها الذي شرعت فيهِ توًا:
- أنا معملتش دا غير عشان ابني.. أنا مش عايزة أتحرم منه زي ما هي اتحرمت منك، هي استحملت تشوفك بتكبر قدامها و مش بتقول لها ماما، لكن أنا مش هستحمل دا، أنا مش زيها يا يامن
فرّق جفونه فتطاير الشرر منها، سحب كفه من قبضتها بجفاء و هو يردد بنبرة قاتمة:
- مش عايز السيرة دي تتفتح تاني.. أنا معنديش أم غير هدى الله يرحمها
تقوست شفتيها بألمٍ بالغ و هي تطرق رأسها، عبثت بأناملها بتوتر أعقبتهُ بسؤالها:
- كنت فاكراه كويس.. و كنت بقول نفسي تكون زيه، لكن.. دلوقتي بدعي ربنا إنك متعملش زيه
إندلعت النيران في أوردتهِ فـ أطبق على أسنانهِ و هو يستند بكفيهِ لرخام المطبخ، فأصرفت "يارا" بصرها تلقائهِ و هي تتابع بتحسّر غير مستوعب:
- يامن انت.. انت بجد ممكن تحرمني من ابني؟.. ممكن تعمل زيه و تحرمني حتى من حق إني اسمع منه كلمة ماما؟
فجأر حينئذ و هو يفرق أسنانهِ ملتفتًا نحوها نصف التفاتة:
- خلاص.. كفايـة
و نظر نحوها، نفخ بامتعاض و هو يشير لصحونها و:
- كملي أكلك
و همّ بالانصراف، حينما كانت تردد من بين نشيجها و هي تبعد الصحون عن أمامها:
- ماليش نفس.. و مبحبش آكل لوحدي و انت عارف
 فزفر حانقًا و هو يسحب مقعدًا له جوارها، و جلس مغمغمًا بفتور:
- اتنيلت قعدت.. كملي أكلك
ابتلعت غِصة عالقة في حلقها، و هي تنظر للصحون بنفور، و لكنها أُجبرت أن تسحب صحن الحساء، و شرعت تتناول منه مجددًا وسط سكونٍ مُطبق إلى من تأففهِ ما بين الحين و الآخر، تقلصت تقاسيمها فحذرها من أن تتقيأ مجددًا للمرة الرابعة على التوالي:
- شـشـش.. إياكي
فأبعدت الصحن و قد شعرت باكتفائها تمامًا و:
- مش قادرة أبدًا.. حاسة إني هرجع تاني
اعتدل في جلستهِ متأهبًا، تناول كفها بحركة عفوية و هو يردد بلهجة جادة:
- متقرفيش نفسك، إهدي
كم اشتاقت لسماع كلمتهِ المُخدرة تلك، كم اشتاقت لأن تنعم بدفء أحضانهِ، كم اشتاقت إليه.. و كأنه لا يجلس جوارها تمامًا!
و كأنه ليس هنا.. إنه نائيًا بنفسه عنها على الرغم من كونهُ برفقتها، نظرت لعيناهُ مباشرة فشعرت بأنها على المحك مستشعرة ملمس أناملهِ، و فور أن انتبه لفعلتهِ كان يسحب كفه عنها و هو يشيح بوجهه بجفاء، نظرت لكفها الذي تركهُ توًا و فقد ملمس يده، اختلست النظرات نحوهُ لتجد عبرة أخرى انزلقت من عينهِ مجددًا فوارها بالتفاتهِ، و كأنه يكبت انهياره الوشيك بشقّ الأنفس، انهمرت دموعها مجددًا، أصرفت وجهها و هي تنزح عبراتها، فنظر نحوها من طرفهِ، ثم سألها عقب أن حرر زفيرًا محتدمًا من صدره:
- عايزة تاكلي إيه و أنا أجيبه؟
فـ أحنت بصرها بفتور و هي تجيبه:
- ماليش نفس لحاجة.. مش عايزة آكل أي حاجة
زفر مجددًا، ثم ردد بلهجة جادة قبل أن يعقد ساعديهِ:
- اعملي حسابك..هننزل بكرة للدكتورة اللي هتتابعي معاها
تلمست تلقائيًا بأطراف أناملها بطنها، ثم أومأت إيماءة عادية و هي تتهرب بنظراتها منهُ، انزلقت عبرة أخرى من عينها فتنهد بانزعاج شديد، مال عليها قليلًا و هو يحل عقدة ساعديه لينزح تلك العبرة بطرف إصبعه أثناء قولهِ المحتد الآمر:
- كفاية بقى
فتولت هي مهمة نزح عبرتها الأخرى التي انسدلت في أعقاب الأولى و هي تدمدم بفتور:
- مش عارفة في إيه.. تقريبًا عندي حساسية في عيني
فسحب أناملهُ بعيدًا عنها و هو مرتكزًا ببصرهِ عليها، تقبّض كفه على المنضدة.. هم بالنهوض و لكنه لم يتمكن، و ظلّ هكذا يأبى الابتعاد و يأبى الاقتراب و احتوائها.
 حينما كانت هي تنزح باقي عبراتها التي انسدلت تباعًا، شعرت و كأن هنالك ما أطبق على صدرها من فرط شعورها بالاختناق، و من فرط كبتها أمامهِ و محاولاتها الجمّة للجم إنهيارها الوشيك، تلمست بأطراف أناملها عنقها، حينما كان هو يُخلل أنامله في خصلاتها في حركة لم يتمكن من منع نفسه من فعلها، ثم سألها مستهجنًا فعلتها:
- عملتي كدا ليه؟
ارتفع كتفيها و هي تعرب لهُ عن عدم معرفتها و ابتسامة هازئة حملت من المرارة ما تفيضُ نفسها بهِ و هي تمنحه نظرة منها:
- مش عارفة بالظبط.. يمكن كنت بعاقب نفسي! مش عارفة
فسألها بجمود:
- ليـه؟
نظرت لعينيهِ مباشرة بعتاب جاف، ثم ضاقت عيناها و هي تدمدم:
- تفتكر ليه؟.. يمكن عشان غدرت بيك و اتفقت مع نائف من ورا ضهرك، مع إنك متأكد إني كنت مجبورة على دا
همّ بالحديث القاسي و لكنهُ أطبق أسنانهِ و هو يشيح بوجهه عنها و قد اصطبغ وجهه بالحمرة القانية، ثم التفت نحوها ليسألها و قد شعر برأسهِ يكاد يغلي من الغيظ:
- شوفتيه فيـن؟
 أحنت بصرها و هي تردد بخفوتٍ جاف:
 - عرف مكاني.. و جه لبيتي و معاه أمنية!.. و اكتشفت بعد كدا ان البنت اللي ساعدتني أهرب من المستشفى كانت تبعه!
«- إنت مجنـون!.. أكيد مجنون
احتوت "أمنية" المرتجف جسدها بين ذراعيها و هي تنظر نحوهُ باستهجان أثناء ترديدها تلك الكلمات، حينما كان يدسّ كفيه بجيبيهِ و هو يردد بنبرة حالكة:
- الجنان اللي على أصوله هتشوفيه لو رفضتي
فراحت تردد بلهجة أشد بأسًا و هي تمسح على وجه أمنية برفق:
- أكيد مش هرفض إني أخليها معايا، لكن صدقني أول ما هتمشي من هنا هكون مكلمة يامن و قايلاله على مكان أمنية
استند "نائف" بكتفهِ على إطار الباب و هو يردد بلهجة مُهددة:
- ابقى بس فكري تعملي كدا يا.. يا يارو، ساعتها هتشوفي وشي الحقيقي
اندلعت النيران بين عينيها و هي تنظر نحوهُ بتمقُّط أثناء قولها و قد شاب الغلّ نبرتها:
- و أنا كل دا مشوفتوش.. لما حرقت بيت المزرعة بكل اللي فيه و مهمكش إنهم أرواح بريئة ملهمش ذنب في أي حاجة، كل دا مشوفتـوش يا نائف؟
ضحك "نائف" ببرود ثم غمغم و هو يعقد ساعديهِ أمام صدره:
- لا يا روحي.. صدقيني دا مش حاجة جمب اللي هيحصل في حبيب القلب لو بس عرفت إنك كلمتيه
و أشار بعينيهِ لبطنها في حركة جعلت الهلع ينساب بأوردتها و هو يدمدم بلهجة خبيثة:
- و لا وليّ العهـد، مش عايز أقولك إيه اللي هيحصل له
ارتجافة طالت جسدها و قد شعرت بقلبها يبلغ حنجرتها، اصطكت أسنانها ببعضهم البعض و دقات قلبها قد بلغت أذنيها و دوّت فيهما، أطبقت على أسنانها و هي تحيد بنظراتها التي بزغ الرعب من بينهم لتردد بصوتٍ حاولت قدر المستطاع أن تحافظ على تماسكهِ:
- اللي.. اللي متعرفوش إن ابني مات خلاص.. يعني مش...
صوت ضحكاتهِ المجلجلة جعلتها تبتلع رغمًا عنها كلكمتها و هي تنظر نحوهُ بوجل، فردد "نائف" من بين ضحكاتهِ:
- ليـه؟ فاكراني أهبل هتخيل عليا الكذبة دي؟
و اتسعت ابتسامتهِ المتسليّة و قد خبى صوت ضحكاتهِ و هو يميل عليها قليلًا مرددًا بخبثٍ غلّف نبرتهُ:
- اوعي تكوني فاكرة إن الدكتورة اللي كذبت على جوزك عملت كدا عشان الفلوس لا سمح الله، و لا الممرضة اللي هربتك من المستشفى، تبقى أغبى ما كنت أتوقع يا يارو!
تيبس وجهها و قد شملت الصدمة تعبيراتها، تلاحقت نبضاتها فشعرت بها سـ تصُم أذنيها حينما كانت تسأله بتشكك:
- انت؟
أومأ "نائف" و هو يحكّ صدغهِ بإبمهامه مردفًا ببرود:
- طبعًا يا حبيبتي، شوفتي بقى أنا بحبك إزاي و ساعدتك تنفدي من جوزك، لازم ترديلي جميلي!
و تصلّب وجهه تمامًا لتبهعث عيناهُ شواظًا بين نظراته القاتمة و هو يتابع:
- و للأسف أنا مش كريم للدرجة دي.. لو جميلي متردليش فبعتبرهُ إهانة.. و لازم أخد حقي!»
...............................................................
و صمتت و هي تبتلع كلماتٍ كادت ترددها متجنبة إشعال فتيل قنبلتهِ لتنفجر في وجه "نائف" فتكون العواقب غير محمودة، ضمّت شفتيها و هي تحني بصرها عنهُ متابعة باحتداد:
- و بس.. قالي أخبيها معايا، و عشانها و عشانك و عشان ابني.. اضطريت أوافق!
أطلق سبة خافتة من بين شفتيه و هو يشيح بوجههِ عنها، فغمغمت "يارا" قبل أن تنهض عن محلها:
- أنا تعبانة.. عايزة أرتاح شوية
و كأن مقصدها كان أكثر عمقًا و قد تعمّدت ذلك، و لكنها تفاجأت بهِ يتصيّد كفها متشبثًا بهِ، تسمرت محلها و هي تلتفت نحوه كالملسوعة غير مصدقة فعلتهِ، حينما كان هو يردد متابعًا:
- كنتي ناوية تحرميني من ابني لغاية امتى يا.. بنت حسين
و راحت أمانيها هباءً، اعتقدتهُ سـ يلين من أجلها و لو بمقدارٍ ضئيل، و لكنه استوقفها ليتابع تأنيبهُ الجاف لها، سحبت كفها منه و هي تغمغم باشتداد:
- لغاية ما يتولد.. لغاية ما يبقى بين إيدي و أضمن إنه يكون بخير
فحكّ بظهر إبهامهِ ذقنه و هو قيد جلستهِ مرددًا باستهزاء:
- و كنتي عايزة تكملي لعبتك لغاية ما تولدي و تسيبيني أتعذب بذنب معملتوش!
و نظر نحوها و قد تصلّب وجههُ و بعثت يناه شررًا متطايرًا و هو يضرب براحتهِ في اهتياج مفاجئ مرددًا باستهجان:
- و يا ترى يا هانم لما تولدي.. كنتي هتيجي تقوليلي على كذبتك، و لا كنتي هتاخدي ابني و تهربي بيه
استشاطت غيظًا من استئنافهِ الشجار بدلًا من أن يحاول الصلح أو يبتدأ بهِ بدلًا عن ذلك الجو الشائك الذي مقتتهُ حقًا، فراحت تبسط أناملها الأربع في وجههِ:
- أنا محرمتكش من ابنك غير أربع أيام يا يامن.. أربعــة!
و ضمت أناملها لتطرق بسبابتها فقط على الطاولة أمامهِ:
- و مع ذلك بتحاسبني على ذنب بردو مرتكبتوش، بتحاسبني عشان كنت بفكر!.. انت مستوعب دا
أشاح بوجهه عنها و هو يشدد على عضلات فكيه، ثم نهض عن جلسته و هو يشير بسبابتهِ و قد اتقّدت عيناه بنذير غير مبشر:
- و مكنش دا اللي هيحصل؟.. و لا بعاقبك على حاجة مفكرتيش تعمليها
احتدت نظراتها و تشنجت عضلات وجهها و هي تتصيّد كلمتهُ مشيرة إليهِ:
- شوفت!.. أديك قولتها بنفسك، فكرت
و ارتفع كتفيها و هي تتابع بسخط:
- يعني انت بتحاسبني على تفكيري! مش كدا؟
و ضاقت عيناها و هي تقوس شفتيها فتورًا:
- يامن.. صدقني أنا تعبت، يا ريت تبطل تحاسبني و تعمل فيها قاضي، لأن انت غلطاتك متتقارنش بغلطاتي، غلطت.. لكن انت غلطتك معايا كان أكبر، تمـام؟
و صمت بالاستدارة مما جعلهُ يستشيط، فسحبها بعنفٍ نحوه من مرفقها و هو يردد بزئير:
- لما أكلمك متسيبينش و تمشي
تكوّرت أناملها مُطبقة عليهم و قد تشرّبت الحمرة الغاضبة وجنتيها و هي تضرب كتفهِ المصاب بقبضتها:
- كفايــة
أطبق على أسنانه و قد تيبس وجههُ حينما كانت هي تردد و هي تلكم كتفهِ مجددًا:
- كفايـة.. تمام؟ كفايـة، أنا بنسحب.. بنسحب من الحرب دي، أنا خلاص طاقتي خلصت.. خلصت
و أعادت الكرة و هي تهتف مُشددة على كلماتها المهتاجة:
- أنا خلاص.. يئست يئست يا يامن، أنا مشوفتش زيك في حياتي و لا هشوف
أشاح بوجههِ عنها و هو يحرر زفيرًا حانقًا من صدره، شدد على عضلات فكيه فانزلقت تلك العبرة المتمردة مجددًا من إحدى عينيهِ المحتدمتين حينما كانت هي تتأملهُ و صدرها ينهج علوًا و هبوطًا في انفعالٍ تام، فغرت شفتيها لتدمدم بصوتٍ ساخط و هي تحني بصرها قليلًا لكتفهِ المصاب، و ضربت عليه مجددًا و هي تردد باستهجان:
- انت مش حاسس بألم؟.. مش حاسس؟ مبتتوجعش ليه؟
عبرة أخرى شرعت تشقّ طريقها على وجنتهِ و قد أدرك مقصدها العميق ليس السطحيّ الذي ابتغتهُ، حينما كانت تسأله مجددًا بتمقُّط:
- محرم على نفسك قولة آه؟.. للدرجة دي انت بتعذب نفسك؟ طب ليـــه؟
و أخفضت كفها قليلًا لموضع قلبهُ.. بسطت أناملها لتضرب عليهِ براحتها و هي تتابع بلهجة آمرة:
- قول آه.. قول إنك بتتوجع، قول إن في حاجة جواك وجعاك و مش قادر تتحملها، قول إنك مخنوق و تعبان، قــول.. متسكتش، هتسكت لامتى؟ هتكتم في نفسك لامتى و انت مفهم نفسك إنك كويس و إن كل حاجة تمام.. ها؟ لامتى؟
أصرف بصرهُ تلقاء زرقاوتيها المستهجنتين، فضاقت عيناها و هي تُعلق نظراتها بنظراتهِ متابعة باستهجان:
- اوعي.. تمام؟ اوعي تقول إنك كويس، اوعي تكرر كلامك الغبي دا، اوعي لأني مش هصدق، اوعي تقول إنك مش حاسس بحاجة، لأني يمكن غبية.. لكن مش للدرجة دي
زمت شفتيها بقنوطٍ و قد تراءى لها تلك العضلة التي اهتزت من جانب صدغهِ إثر إطباقه المشدد على عضلات فكيهِ، تلاحقت أنفاسها المنفعلة و هي تستطرد باستنكارٍ تام:
- ليـه؟ ها؟ ليـه؟.. انت ملكش ذنب، و هي ملهاش ذنب، لو حد غلط فكان هو.. لو حد ارتكب جريمة متحاسبش عليها هو يوسف.. و خلاص مات، ليه بتعذب نفسك و بتعذبها و بتعذبني أنا و ابنك معاك.. ليــه؟
فحاد ببصرهِ عنها و هو ينزح عبراته بجفاء بظهر إبهامهِ:
- عمرك ما هتفهمي يا بنت حسين
أومأت برأسها و هي تتمتم بنبرة أشد بأسًا:
- فاهمة.. فاهماك كويس و عارفة شعورك لأني عيشته
و أشارت بسبابتها و هي تردد بلهجة أشدّ احتدامًا:
- و يمكن أصعب من شعورك كمان.. لما كنت فاكرة أبويا ملاك و اكتشفت عنه كل حاجة واحدة بواحدة، لما اكتشفت إنه ملياردير أولًا، و بعدين اكتشفته إنه قاتل و أناني و مبيحبش غير نفسه و الفلوس و بس، و بعدين اكتشفت إنه متجوز على أمي اللي قضت عمرها تحافظ على شرفه و بيته في غيابه، و بعدين اكتشفت إنه مقتلش بس عشان الفلوس، دا قتل أخوه و هو عارف إنه أخوه، و بعدين فجأة.. أكتشف إن كان عندي أخت توأم معرفش عنها حاجة كانت عايشة مع مرات أبويا، دا معناه إن أبويا خدها من أمي.. و إداها لمراتهُ التانية و حرم أمي منها!
ثم تابعت مستنكرة و هي تنقل نظراتها بين عينيهِ:
- دي أسباب كفاية تخليك تعرف إني فاهماك؟
هز رأسهُ بالسلب و هو يتابع باستهجان:
- تـؤ.. مش كفاية
 و أشار بسبابتهِ و هو يتابع بلهجة مُوقدة:
- جربتي إنك تكتشفي.. فجأة، إن حياتك كلها كذبة، إنك مجرد.. مجرد...
و أطبق جفنيه بألم بالغ و قد تعذر عليهِ استئناف ما بدأه، فأصرف بصره عنها مستصعبًا النظر لعينيها، تفهمت هي ما يعتملُ في صدرهِ، فهشّت من فورها.. تابعت و هي تحتضن إحدى وجنتيهِ بكفها:
- مش غلطك.. مكنش ذنبك
فرّق "يامن" جفنيه لينظر لعينيها مباشرة مُستطردًا بابتسامة هازئة و قد انحدرت عبرة أخرى على وجنتهِ تزامنًا مع قولهِ الساخر:
- نتيجة ذنب، نتيجة جريمة ****** زي دي!
هزت رأسها بحركة مستنكرة و قد انعقد حاجبيها إشفاقًا، و قبل أن تهمّ بالحديث كان يتابع و الابتسامة الهازئة لا تفتؤ تحتلّ وجههُ:
- أمي اللي عمرها ما عاملتني زي ابنها مش أمي.. و أبويا اللي وسخت إيدي بالدم عشانه طلع مجرد واحد قذر، و أمي الحقيقة اللي أبويا اغتصبها فشل حتى إنه يحاول يكفر عن ذنبه و شغلها خدامة تحت رجليه، و ابنه حرمه حتى من حقّ إنه يعرف أصلـه، و عاش عمره مع اتنين **** من بعض
و اتسعت ابتسامتهِ الساخرة و هو يحيد بنظراتهِ عنها متابعًا:
- و أخويا.. أخويا اللي كنت بحاول أحميه من عمه الـ****، طلعت بحميه من أبوه!
و عاد ينظر نحوها متابعًا بمرارة غلّفت نبرتهِ التي حاول أن تكون جافة:
- أخويا مش أخويا!.. أخويا طلع ابن عمي اللي قتل أبويا عشان فلوسه، و قتل اللي كنت فاكرها أمي عشان متكشفش الحقيقة، و قتل خالتي و جوزها عشان يهدد أمي
وقعت كلماتهِ و اعترافهِ الأخير عليها وقع الصاعقة، ترقرقت العبرات في مقلتيها تأثرًا،  بسطت كفها و حتفظت بهِ على موضع قلبهِ الخافق، حينما كان هو يتابع بنفس ابتسامتهِ و قد فاضت عيناهُ بالدموع التي أغرقت وجنتيهِ رغم أنفهِ:
 
- و ابني.. عيشت الأربع أيام دول في عذاب الندم و أنا فاكر نفسي قتلته!
أطبقت جفونها لتنساب عبراتها على طول وجنتيها و هي تمسح بكفها الآخر برفقٍ على وجنتهِ، استندت بجبينها على جبينهُ حينما كان هو يردد:
- تعبان؟.. منكرش، تعبان.. و عارف إني مش هرتاح طول ما أنا عايش، حتى بعد موتي مش هرتاح
تصاعدت شهقاتها الملتاعة و هي تقبض جفونها أكثر و قد شعرت بكلماتهِ تدهس فؤادها بلا هوادة، حينما كان هو ينزح كفها عن وجنتهِ و هو يبتعد بجبينه عنها مرددًا بلهجة جادة:
- متقربيش يا بنت حسين.. أنا لعنة فعلًا.. لعنة ممكن تقضي على أي حد قريب مني، اللعنة اللي خلت أمي ترضي تتجوز راجل نجس عشان خاطري، و اللي خلتها ترضى تعيش خدامة تحت رجليه عشاني، اللي خليتها  تعيش كأنها ميتة.. ملهاش وجود أو كرامة، اللي خليتها تعيش لغاية النهاردة كاتمة السر دا عشان مبعدش عنها، و برضو مش قادر أعترف بيها و أقف قدامها، مش قادر أسامحها على غلط مكانش ليها ذنب فيه، أنا لعنـة يا.. بنت عمي!
أبت في حركة صريحة منها الابتعاد كما أمر، و راحت تدنو أكثر.. حتى طوقت عنقه بذراعيها، عبثت بأطراف خصلاتهِ ممرة كفها عليهِ و عبراتها الحارقة تنساب مُغرقة كتفهِ، و لكنه نبذها، دحرها عنهُ و برح محلهِ منصرفًا آبيًا حتى أن يمنحها نظرة جديدة، راح يخطو نحو المرحاض، توقف أمام الحوض و أدار الصنبور فطغى خرير المياه على ضوضائهِ.. ملأ كفيهِ بالمياه الباردة ليضرب بها صفحة وجههُ و كأنه يود الاستفاقة من تلك الغفلة الإجبارية التي اتخذها فـ باح بمكنوناتٍ لم يكن ليبوح بها و لو بعد حين، و لكنهُ أُنهك بتلك الكلمات المُهلكة التي ضجّ صدره بها، أراد أن يفرغ عن نيرانهِ قليلًا لربما تُخمد..و إن كان يعلم أنها لا مُخمد لها، حتى انتهى.. و لكنه لم يكتفِ، كم ودّ لو اخترقت تلك المياه الصقيعيّة داخله فتُطفأها، و لكن هيهات.
ارتفعت أنظارهِ لينظر من خلال المرآة لانعكاس صورتهِ.. من هُـو؟ أهو ذلك الذي تعهد ألا تُلطخ يداه بالدماء؟ أم أنه ذلك الذي سفك دماء العديد من البشر، أهو ابن "هُدى الريحانيّ" التي كانت تتفاخر بصنيعها بهِ، أم أنه ابن "سهير" الخادمة التي توارت عن الأعين و راقبته من وراء حجاب؟
 أهو ابن "يوسُف" الذي كان يعتبر نفسهُ وحشًا جوارهِ، أم أنه ابن "يوسُف" الذي صار اليوم يتأفف اشمئزازًا إن ذُكر اسمه، أخطأ حين ظنّ أنه تغلب على الأمر و أنه لم يعد يكترث لهُ، و الحال أنه لا يقوى حتى على استيعاب أن من يراهُ في ذلك الانعكاس ما هو إلا هُـو؟!.
ذاتهِ التي صار ينبذها أكثر من أي وقت مضى عليهِ تساقطت قطرات المياه عن وجههُ الذي أغرقه فراح يمسح عليه بقوة، و لم يقوَ حتى أن يتلمس وجهه.. و كأنه اشمئزّ أكثر من حالهِ، فلم يشعر بنفسهِ سوى و هو يكور قبضتهِ مطبقًا على أنامله، زمجر بعنفٍ و هو يلكم صورتهِ المنعكسة بالمرآة، عدة مرات باهتياجٍ تام و قد فقد سيطرته كليًا فتهشمت المرآة و تناثرت شظاياها هنا و هناك، و انجرح كفهُ.. شرعت الدماء تسيل منه بغزارة و لمكنهُ لم يكترث حتى نجح في أن يدمر المرآة تمامًا فلم يعد يرى نفسهُ، حينها فقط شعر أنه اكتفى و سكن اهتياجهِ المفاجئ قليلًا و هو يُطرق رأسه مستندًا بكفيه على حافة الحوض، حتى استمع إلى صوتها الهلع و قد وصلها أصوات الضجيج:
- يامـن؟
أطبق على أسنانهِ ثم استقام في وقفتهِ ليعبر من جوارها للخارج حينما كانت تسأله بارتياع:
- إيه اللي حصل؟
فـ أجابها بجفاءٍ قاسي:
- مفيش
خرج للصالة الخارجية.. سحب سترتهِ عن الأريكة و التقط مفاتيحه و هاتفهِ غير مباليًا بنزيف كفهِ الذي لم تلحظه، فسألته في وجل:
- انت.. نازل؟
توقفت خلفه مباشرة حينما كان يدير المقبض، ثم غمغم قبل أن ينصرف رافضًا أن يمنحها نظرة واحدة:
- مش هتأخر
و خرج صافقًا الباب من خلفهِ، تيبست هي محلها و قد تعلقت نظراتها بطيفهِ الذي تلاشى، و لم تقوَ على الوقوف أكثر، تهالك جسدها على الأريكة و هي تدمدم في تضرعٍ بآسى شمل نبرتها:
- يا رب خفف عنه.. يا رب
....................................................................
لم تجد سوى مُهاتفتهِ عقب أن تعسّر عليها السيطرة على والدتها و جعلها تعدل عن قرارها الذي اتخذتهُ بالعودة فورًا لأرض الوطن تهيّئًا لاستعادة ابنتها التي حُرمها منها زوجها البغيض الذي شعرت و كأنها لم ترتكب ذنبًا في حياتها سوى أنها شغفها حبهُ، خرجت "ولاء" باستعانة عكازها من غرفتها عقب أن عانت من انهيارٍ عصبيّ لم يتمكن الأطباء من السيطرة عليه سوى بحقنها بإبرة مُهدئة فتخدرت حواسها و راحت في نومٍ عميق، و ما إن تلقّت ردّهُ حتى غمغمت مستنجدة بهِ من بين تهدّج أنفاسها:
- فارس.. الحقني، ماما لما عرفت إني عندي أخت توأم انهارت، و مصممة تنزل القاهرة عشان تشوفها!
ترك "فارس" جهاز حاسوبهِ جانبًا و هو يستقيم في وقفتهِ، ثم ردد و هو يغضن جبينه:
- نعم يا أختي!.. أخت مين؟
أطبقت جفونها و هير تُصحح خطأها بـ:
- قصدي يعني أخت يارا التوأم.. يعني أختي بردو بس مش توأمي!
توسعت عيناه و هو يحكّ مؤخرة رأسهِ غير مستوعبًا ذلك النبأ المريب:
- بنت عم تـــاني! انتو كام واحدة؟
فزجرتهُ بقولها المُنفعل:
- دا وقتهُ يا فارس.. اتصـرف!
فجعّد جبينه و هو يستهجن قولها:
- أتصرف إيه!.. انتي مجنونة يا ولاء؟ ابقى اتغطي كويس قبل ما تنامي لاحسن عقلك اتلحس!
فزفرت "ولاء" بنفاذ صبر ثم هتفت بضجرٍ مُتشنج:
- احترم نفسك يا فارس و بطل سخافة، أنا بتكلم جدّ مش بهزر، أنا أصلًا لسه عارفة بدا
حكّ "فارس" فقرات عنقهِ و هو يدمدم باستنكار و حاجبيهِ لا يفتآن معقودان:
- يعني إيه؟.. نمتي صحيتي فـ إذ بـ فجأة تعرفي إن أختك عندها أخت توأم؟
فنطقت بتمقُّط من بين اسنانها التي أطبقتها توًا:
- أيوة يا خفيف.. لأن بابا الله يسامحه خدها من ماما و فهمها إنها ماتت، و وداها لمراته التانية.. هوليا هانم!
استشعر "فارس" جديّة الموقف عقب قولها المريب، فنفخ مغتاظًا و هو يُطبق جفونه محاولًا تقبّل الأمر، ثم دمدم و هو يفرق جفنيه بتريّث:
- يعني إنتي عايزة تفهميني إن يارا.. عندها أخت توأم كانت مع هوليا، مش كدا؟
أومأت "ولاء" و هي تجلس على أقرب مقعد تاركة عكازها جوارها:
- أيوة.. بالظبط كدا!
فردد "فارس" و هو يُدلك جبينهُ بحيرة:
- و إيه اللي جابها دي؟
- مش عارفة، تقريبًا متفقة مع نائف الزفت، لأنها كانت بتمثّل على يامن إنها يارا
فتذكر توًا صوتها الذي التقطهُ:
- إيـه! هي اللي كانت معاه دي كانت توأم أختك!
- أيـوة
فتغضن جبينه و هو يدمدم متشككًا:
- استنى استنى.. انتي تعرفي بنائف منين؟
ارتفع كتفيها و هي تردد مُوضحة له:
- من يارا أكيد، اللي أعرفه إن هو و يامن بينهم عداوة كبيرة، لكن معرفش حاجة أوي يعني
و عبست و هي توبّخه بانزعاج شديد:
- أوف.. و دا وقته يا فارس، بقولك ماما منهارة جوا، و لولا خدت حقنة مهدئة مكنتش هعرف أسيطر عليها، اتصـرف بقى
- طيـ..
و قبل أن ينهى كلماتهِ كان يتلقى اتصالًا آخرـ فغمغم و هو يعيد الهاتف لأذنهِ:
- يامن بيتصل، هكلمك تاني
و أنهى المكالمة في وجهها، فُغرت شِفاها و هي تنظر للهاتف بأعين حانقة، قبضت عليه بأناملها و هي تردد بحرد تام:
- أوف.. يعني بتسيبني عشانه، دا إيه الغباء دا!
تنبّهت لقول "جاسم" الذي يقف على مقربة منها:
- هترجعي الفندق يا هانم؟
هزت "ولاء" رأسها بالسلب و هي تجيبهُ عقب أن أطلقت سراح تنهيدة حارة خرجت من أعماقها:
- لأ يا جاسم، هفضل مع ماما لغاية ما نشوف هيحصل إيه
فـ أومأ في إذعان متمتمًا بخشونة:
- أمرك يا هانم
- اسمعني كويس.. تبعت تجيب حبيبة بأي شكل، أنا عايزها تكون قدامي النهاردة، طيارة خاصة.. زفت ، بس عايزها النهاردة
كان ذلك صوتهُ القاتم الذي صدح من الهاتف، فردد "فارس" مُستدركًا:
- أساسًا هي من أول ما عرفت إن بنتها عايشة و هي مصممة ترجع
فلم يكترث كثيرًا ليستوضح منه أني لهُ بالعلم، و شدد على كلماتهِ الحاسمة:
- فارس.. تتصرف، أنا عايزها النهاردة بأي شكل
أومأ "فارس" و هو يردد بلهجة جادة:
- طيب طيب، متشغلغش بالك، مش حاجة صعبة
و زم شفتيه بشئ من التشكك، ثم سألهُ:
- انت فين دلوقتي؟
لوى "يامن" عنقهُ للجانبين فصدرت طقطقات فقراتهِ، تقوست شفتيهِ بشراسة و هو يدمدم من بين أسنانهِ:
- واحد عليه جميل ليا.. حلفت ميت يمين ما يعدي اليوم غير لما أردهولهُ!
و قبل أن يهمّ "فارس" بالاعتراض أو الاحتجاج.. كان "يامن" قد أنهى المكالمة نازعًا سماعة البلوتوث عن أذنه، و أدار المقود لينعطف لطريقٍ جانبي أثناء غمغمتهِ الساخطة:
- و جمايلك زادت أوي.. بس معلش، مينفعش أنحيك من الدنيا غير لما أردهملك، واحد.. واحد!
............................................................
..................
.......................................................................

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن