"الفصل الثاني عشر"

753 13 0
                                    

"الفصل الثاني عشر"
البُعد تلك المرة كان مُحاذيًا للمسافة !
________________________________________________
أنّبت نفسها .. و لكنها كانت تعود لتقنع حالها بأن ما فعلتهُ هو الصواب ، و نخرها ضميرها ، و لكنها كانت تُكتِم فاهُ عسى أن يكف ، زفرت حانقة من حالها و هي تجلس على طرف الفراش مجاورة للملاك الصغير ، غلغلت أناملها بين خصلاتها الحريرية و أثناء ذلك كانت تتذكر ما فعلتهُ .
« هجدت الليل.. و لم يكن ليتجرأ النوم على أن يدنو من جفنيها ، ظلت تذرع غرفتها ذهابًا و إيابًا و ذِهنها لا يكف عن التفكير ، تركت زفيرًا حارًا من صدرها و هي تتوقف متوسطة خصرها بذراعيها ، عبثت بهاتفها و هي تتمتم هامسة بـ ضيق :
- و بعديـن ؟ أتصرف ازاي ؟ أنا مش عارفة أعمل ايه !
فتحت " جهات الاتصال " و اتت برقم والدتها ، توقفت عندهُ للحظاتٍ ثم بررت لنفسها:
- ماما الوحيدة اللي هتعرف تنصحني ، أنا عايزة مصلحة يارا و بس !
و نقرت زر الاتصال ثم رفعت الهاتف إلى أذنها ، مرّت دقائق من التوتر المتدفق في أوردتها حتى أتاها صوتها :
- رهيـف ؟ انتي كويسة يا حبيبتي ؟ ايه اللي مصحيكي لحد دلوقتي ؟ و أختك كويسة ؟ طمنيني يا رهـ..
فـ اقتطعت كلماتها بنبرة متوترة :
- احنا كويسين يا ماما .. اهدى في إيه ؟
تغضن جبينها و هي تتمتم بصوتٍ خفيض و قد انسحبت إلى الشُرفة :
- اومال مالك ؟ لسه منمتيش ليه ؟
تنهدت بحرارة قبل أن تسألها بتردد :
- انتي وصلتي ؟
- أيوة .. من نص ساعة تقريبًا
ذمّت شفتيها ثم أردفت مُراوغة :
- طب جدتي أخبارها إيه ؟ اطمنتي عليها ؟
قبضت جفنيها ثم عادت تُفرّقهما متمتمة بتنهيدة مُطولة:
- الحمد لله يا حبيبتي ، الدكتور قال إن حالتها مش خطيرة للدرجة دي
تقوست شفتيها بضيق و هي تهتف مضيقة عينيها:
- بس صوتك بيقول غير كده
- لا متقلقيش
فاحتلّ العبوس قسماتها و هي تردد باستنكار:
- آه .. يبقى أكيد مش هترجعي دلوقتي
ضمّت شفتيها معًا قبل أن تتمتم بنبرة أقرب للرجاء :
- معلش يا رهيف ، انتي عارفة إني مش هقدر أسيبها في الحالة دي ، دي والدتي ، لو أنا مكانها كنتي هترضي تسيبيني ؟
فـ أجابتها بنفيٍ قاطع :
- لأ طبعًا
تجعّد جبينها اثر عقدها لحاجبيها قبل أن تضُم حافتي الشال الصوفي فوق كتفيها و هي تتمتم مُضيقة عينيها :
- تعالي هنا .. قوليلي بقى حصل إيه خلاكي لسه صاحية لغاية دلوقتي ؟ و بعدين سر الاتصال المُفاجئ ده و احنا داخلين على الفجر مش داخل دماغي
فـشرع التردد يغزوها من جديد ..أزاحت خُصلة سقطت على وجنتها و هي تتمتم باضطراب مستنكر:
- متطمنش عليكي يعني ؟
- روڤـي !.. على ماما بردو
توسطت خصرها بكفيها و هي تمضي نحو الفراش ، و جلست مُجاورة للصغيرة ، و بعد لحظات من الصمت تنهدت مُطولًا و كأنها تحاول أن تنزح عن صدرها ذلك العبء، حتى شعرت شفتيها تتفرقان لتنطق بتوترٍ متفاقِم:
- ماما .. فاكرة يارا صاحبتي ؟
لم تحل عقدة حاجبيها و هي تستفسر قائلة:
- يارا مين ؟ يارا الحديدي ؟
أومأت و هي تتمتم باقتضاب:
- أيوة.. هي
لم تتفهم مُرادها فتساءلت مُستوضحة :
- مالها ؟
- جتلي البيت !
ارتفع حاجبيها و هي تتمتم مشدوهة :
- جتلك البيت ؟ في وقت زي ده ؟ ليه ؟ هي حصل لها حاجة ؟
فصوبت خطأها بنبرة خالجها الحزن:
- حجـات .. حصل لها حجـات !
تنهدت بانزعاجٍ ثم أردفت بعدم فهم :
- أنا مش فاهمة حاجة يا رهيف ، ممكن تهدى كده و فهميني من غير ألغاز !
و عقب بُرهةً من التردد كانت تقص عليها :
- الحكاية و ما فيها إن ......
و شرعت تسرد بإيجازٍ ما قصتهُ عليها رفيقتها إلى تلك الشائِعات التي لم يتركها موقعًا إلا و تحدث عنها ، كتمت شِفاها بكفها لتمنع شهقاتِها المذهولة ، توسعت عينيها قبل أن تتمتم بعدم استيعاب :
- ايه اللي بتقوليه ده يا رهيف ؟
بسطت كفها و هي تتمتم بقِلة حيلة :
- ده اللي حصل .. البوليس بيدور عليها ، و أنا مش عارفة أعمل ايه !
فـ أوصتها بـ:
- خدي بالك منها يا بنتي ، حرام اللي بيحصل لها ده !
فـ رفعت حاجبها الأيسر استنكارًا قبل أن تسألها بتعجبٍ و قد توقعت رد فعل مُغاير:
- يعني انتي مش شايفة انها غلطانة ؟
تجعد جبينها و هي تجيبها بشئ من الاحتجاج:
- غلطانة ! يعني الواحد يشوف كل ده و يستحمله ازاي ، يا بنتي ربنا يعينها على اللي هي فيه
فـ وضعت كفها على صدرها تتنفس الصعداء :
- الحمد لله ريحتيني ، كنتي خايفة يكون ليكي رد فعل تاني غير ده !
فعاتبتها بلطف :
-رد فعل تاني ايه يا رهيف ؟ لو موقفتيش جمبها في وقت زي ده هتقفي جمبها امتى ؟ بس أنا طالبة منك حاجة واحدة تعمليها ، و أرجوكي مترفضيهاش
عبثت بأظافرها بتوترٍ جليّ و هي تغمغم بترقّب:
- ايه هي ؟
سحبت شهيقًا عميقًا قبل أن تزفره على مهل :
- كلمي مامتها و عرفيها إنها عندك !
توسعت حدقتيها متمتمة بعدم تصديق :
- إيـه ؟
- زي ما سمعتي يا رهيف
فـ رفضت نهائيًا ما تتفوّه به :
- مستحيـل يا ماما ، ايه اللي بتقوليه ده !
حاولت التبرير فـ أردفت و هي تستند بساعِدها إلى سور الشرفة :
- يا رهيف يا حبيبتي لازم تعملي ده ، أنا أم و عارفة كويس شعور والدتها هيكون ايه دلوقتي !
لم تقتنع .. قطبت جبينها و ارتسم العبوس بوضوح على قسماتها و هي تُجيبها :
- برضو لأ
زفرت مُطولًا بحرارةٍ ثم قالت بصرامة طفيفة:
- رهيـف .. أنا مش بقولك بلغي عن وجودها معاكي ، أنا بقولك مامتها تعرف إنها معاكي
ثم سألت مضيقة عينيها:
- أساسًا والدتها تعرف بيتنا ؟
- لأ
رفعت كتفيها متمتمة ببساطة :
- خلاص.. اتصلي بوالدتها عرفيها إن يارا كويسة ، بـس !.. منه طمنتيها و عرفتيها ان بنتها كويسة ، و منه معرفتيهاش مكانك
فـ أعربت عن مخاوفها قائلة بتوجّس:
- أنا خايفة أبوها المجنون ده يبلغ عنها .. يا ماما ده موقفش جمبها نهائي
تضايقت من نعتها فـعنفتها مرددة:
- احفظي لسانك يا رهيف لو سمحتي .. و بعدين مستحيل يعمل كده ، أيًا كان ده والدها
حكّت عنقها بأظافرها و هي تُدمدم بتوتر:
- مش عارفة ، مش مطمنة !
- أنا أكبر منك و أكتر منك خبرة ، اسمعي نصيحتي .. و بعدين مش انتي بتقولي جوزها عايش ؟
أومأت "رهيف" برأسها و هي تجيبها:
- أكيد .. مفيش أي موقع نشر خبر موته ، لو كان لا قدّر الله مات مكنش هيبقى في موقع مش هينشر الخبر ده !
- ربنا يستر .. الله أعلم رد فعله هيكون إيه لما يصحى !
- أنا خايفة أوي .. ده راجل مُفتري
كادت أن تتحدث و لكن استمعت إلى صوت أخيها من خلفها :
- سُعـاد .. بتعملي ايه دِلوَك " دلوقتي" ؟ ده وجته عاد يا سُعاد ؟
زفرت و هي تجيبها باقتضاب :
- اعملي اللي قولتلك عليه يا رهيف ، أنا مُضطرة أقفل دلوقتي
و أغلقت المُكالمة ثم التفتت إلى أخيها متمتمة بنبرة مستنكرة :
- خير يا متولي ؟ بكلم بنتي ؟ إيه ؟ مطمنهاش ؟
فـ أشار للداخل متمتمة بصوتٍ أجشّ :
- لما انتي جلجانة عليها إكده ، مچيبتهاش ليه حدّاكي ؟ سايباها تجعد لواحدها ليه ؟
- هي عافية يا متولي ، ما قولتلك مرضيتش !
رفع كتفيهِ متمتمًا بنبرة جادة :
- لع  "لأ" يا سعاد لكن بتك " بنتك" ...
فقاطعتهُ و هي تدفعهُ برفقٍ من كتفه :
- ماما تقريبًا بتنادي يا متولي ، عديني !
ثم مرّت من جِواره بينما تابعه بنظراتٍ مشدوهة ثم تمتم متعجبًا :
- لا حول و لا جِوة " قوة" إلا بالله ، العيلة كليتها " كلها " مش طايجاني و لا إيه !
كانت وجنتيها قد تشربتا بالحمرة المُنفعلة و هي تنظر إلى الهاتف بنظراتٍ حانقة ، ثم ألقته بجوارها ودفنت وجهها بين كفيها لتردد مُغتاظة:
- أوف .. ده انت بارد بشكل يا خالي
انتزعت كفيها لتُحدق في الهاتف بنظراتٍ شاردة .. مترددة ، ازدردت ريقها و هي تتمتم بنبرة تائهة :
- و بعديـن .. أعمل إيه ؟
كادت أن تتلمس الهاتف و لكنها سحبت كفها سريعًا و هي تتمتم برفضٍ قاطع :
- لا لا لا .. مستحيل ، يعني هي وثقت فيا و لجأت لي في مِحنتها و أنا بكل بساطة أخون الثقة دي !
نهضت عن الفراش لتوفض نحو النافذة و اجتذبت الستائر لتُسكِنها فوقها و هي تتمتم بنبرة ضائقة :
- مستحيل يا رهيف ، شيلي الفكرة دي من دماغك
و لكن لم يكن ذهنها ليكف عن اختلاق سيناريوهات عِدة لما قد يُصيب تلك السيدة ، ضغطت بكفها على جبينها و هي تطرد زفيرًا من صدرها :
- بس ماما عندها حق .. طالما مش هعرفها مكاني يبقى مفيش مشكلة ، أنا هطمنها على بنتها و خلاص
 مضت نحو الفراش و هي تلتقط هاتفها ، و شرعت تنقر على شاشته ، حتى افتر ثغرها عن ابتسامة و هي تردف :
- كويس جدًا.. معنديش رقمها ، جت من عند ربنا ، أكيد دي إشارة !
كادت أن تضغط الزر الجانبي للهاتف لتُغلقه و لكن سُرعان ما تجمد اصبعها و تلاشت البسمة عن وجهها ليحل محلها الوجوم حين عثُرت على رقم شقيقتها " ولاء"، و أخيرًا.. و بعد ما يُقارب الخمس دقائق من التردد و التجمد بـ محلها ، حركت اصبعها لتنقر على زر الاتصال ، و رفعت الهاتف إلى أذنها مُطبقة جفنيها بقوة و خفقات قلبها تكاد تستمع إليها ، و لكن تغضن جبينها حين استمعت إلى الرسالة الصوتية التي توحي بأن الهاتف مُغلق ، فـ انتزعته عن أذنِها ، و أعادت الاتصال ، و لكن بلا جَدوى ، فتركتهُ بعد العديد من المحاولات ، و حاولت جاهدة أن تحظى ببضع سويعات من النوم لتُريح ذهنها قليلًا ، و لكن باءت مُحاولاتِها بالفشل الذريع .
...........................................................................
 أختك فين ؟
ظلّت فاغرة شفتيها حتى أنها لم تستوعب قولهِ:
- هـاه !
نَفِذ صبره.. دفعها بعنفٍ من كتفها مُزيحًا إياها عن طريقه و اقتحم المنزل و هو يجأر بصوتهِ :
- حسيــــن يا حديـــدي !
تلاشى السخط عن وجههِ لتحتل الصدمة قسماته ، و بدلًا من أن يجيبها حملق بوجهها و كأنهُ لا يستوعب ، و لم تكن منهُ أقل دهشة ، انتفضت و هي تهرع للخارج متناسية حتى أن تسحب حجاب رأسها حتى رأته أمامها ، صدق حِدسها و لم تكن تتخيل رؤيته ، حملقت بوجههِ بحنو أمومي فـ قابل حنانها بجفاء ، تقدّم نحوها و هو ينتوي الهجوم عليها فاقدًا آخر ذرةً بتعقّلهِ و هو يردد مهتاجًا :
- هي فيـن ؟ وديتيها فين ؟
احتضنتهُ بعينيها و هي تتنفس الصعداء و قد شعرت بارتياح يتسلل إلى نفسها المُلتاعة ، همت بأن تتلمس صدغهِ بأطراف أناملها، و كأنها تحاول التيقّن من وجودهِ ، و ابتسامةً تتراقص على شفتيها تزامنت مع تجمع الدموع فيهما ، ثم همست بهمسٍ متقطع و صوت مبحوح لا يكاد يُسمع :
- انت.. انت عايش ؟
التقط كفها و نفضه بعيدًا عنه بحركة عنيفة قبل أن يُتمتم بنبرةٍ جافة :
- عهد عليا مموتش قبل ما آخد بتاري منه !
ارتعدت فرائصها مع حِدة كلماته و تلاشت بسمتها الصادقة ليظل فقط سيل الدموع مُغرقًا وجنتيها ، حتى همس بصوتٍ حالك :
- بنتك فيـن ؟
أحنت بصرها عنه و قد تركت لشهقاتها العنان و هي تردف من بين نشيجها :
- مش عارفة
- أهلًا يا .. يا ابن يوسف
كان صوته البغيض كفيلًا بأن يُشعل فتيل القنبلة بداخلهِ ، كز بعنفٍ على أسنانه و هو يرفع نظراتهِ إليه ، شعر بالدماء تندفع في أوردتهِ و هو يخطو نحوه قاضبًا على تلابيبه و لم يكتفِ.. دفعهُ بعنفٍ حتى حشرهُ بينه و بين الحائط قبل أن يهدر به متوعدًا :
- اسم أبويا ميتنطقش  على لسانك الـ×××× تاني يا حديدي ، بدل ما تندم !
فهدرت به " ولاء" مُحذرة و هي تكاد تخطو نحوه :
- ابعد عن بابا و احتـ..
التفت نحوها ليقذفها بشواظ نظراته فـ تسمّرت قميها في الأرضية ، و تجمدت بمحلها و تخشبت الكلمات على أطراف لسانها رُغم أنفها و هي تزدري ريقها توجسًا ، عاد " يامن" ينظر نحوه و قد احتقن وجهه بالدماء و لكنهُ رسم على ثغرهِ بسمةً جليدية ، قبل أن يردف ساخرًا :
- كنت عارف إنك هتطلع منها سليم.. أصلك زي القطط بسبع أرواح !
فـ افترت شفتيه بابتسامة ساخرة متمتمًا بتهكم :
- كويس انك عارف
تلاشت بلمح البصر و هو يدنو برأسهِ منه فلفحت أنفاسه بشرته ، فحّ في أذنهِ بهمسٍ شيطاني :
- لا بس المستشفى نورت بزيارتك يا حديدي !
تغضن جبينهُ بعدم فهم فـ ابتعد " يامن" قليلًا ليرى تأثير كلماتهِ فـ نظر نحوهُ مستنكرًا ثم تمتم مُستفهمًا :
- انت بتقول ايه ؟
تصلبت ملامحهُ و هو ينزح كفيهِ عن ياقته ، تظاهر بأنه يضبطها له و هو يردد هامسًا بصوتٍ ساخط :
متخافش يا حديدي .. ده سِر بينا !
رفع نظراتهُ القاتمة ليغرسها بعينيّ الأخير ثم بنبرةٍ غامضة:
- بس كله بحسابه !.. مفيش حاجة من غير حِساب !
تغضن جبين "ولاء" و هي تنظر نحو والدتها متعجبة ذلك التهامس بينهما ، فرفعت الأخيرة كتفيها مُعربة عن عدم فهمها ثم عادت كِلتاها يتابعان ما يحث نصب أعينهما ، بينما هو.. بيد أنهُ لم يفهم كلمةً مما قِيلت ، و قبل أن يستفسِر عن مقصده كان "يامن" يردف بصوتٍ هادر تاركًا ياقتهِ :
- وديتها فين يا حديدي ؟
ترك كلماتهِ الغير مفهومة بلا تحليل لها .. اتسعت ابتسامته حتى كادت تصل لأذنيهِ و هو يردد شامتًا :
- دلوقتي بتدور زي المجنون عليها ؟ مش هتوصل لها يا صياد .. مش هتعرف تلاقيها !
فعاد يُردد سؤالهِ ثانيةً بنبرة أكثر احتدامًا و أشد بأسًا و قد التهبت بشرته و هو يكور قبضتيهِ :
- مراتي فيـن يا حديـدي ؟
فرددت " حبيبة" بنبرةٍ مبحوحة و نظراتها تتحدى زوجها :
- متصدقوش.. أصلًا ميعرفش مكانها
فهدر بها محذرًا و قد شعر بدمائهِ تغلى في أوردته :
- حبيبة
رمشت بعينيها تُزيح تلك العبرات العالقة بهما و التي شوشت مجال الرؤية لديها ، وضعت كفها أعلى كتفهِ فـ أجبرتهُ على الالتفات نحوه ، فاضت دموعها و هي تردد بقهر :
- مش لاقيينها .. مشوفنهاش ، ملجأتليش و هي ملهاش حد تلجأ له ، متجيش عليها عشان اللي عملته ، دي.. دي مش بعيد تعمل في نفسها حاجة
لانت نظراته قليلًا و لكن لم ترتخِ تعبيراته المتشنجة ، تسببت كلماتها الموجزة فـي صوتًا آخر برأسه ، و بـتشوش أكبر لذهنه ، بينما تقوست شفتيها بحزنٍ بالغ و هي تردد بصوت خالجتهُ المرارة :
- عمرها ما أذت حد يا يامن .. عمرها ما ضرت حد ، أنا بنتي متعملش كده .. و لو عملت ، هي نفسها مش هتسامح نفسها ، أنا خايفة تعمل حاجة في نفسها ! سامحها يا ابني .. عشان خاطر يوسف سامحها
فـ إذ به يهدر بصوتٍ أجفل الجميع إثره :
- مش بمزاجها ، مش بمزاجها تأذي نفسها و مش بمزاجها تحدد مصيرها !
استجمعت رباطة جأشها لتردد بصوت ملتاع :
- البوليس بيدور عليها .. يارا ضعيفة ، ضعيفة أوي ، مش هتستحمل كل ده ، متسيبهاش أرجوك .. اعمل حاجة
ذلك الشعور الذي يبغضهُ تمامًا يتملك منه ، شعور العجز شرع يتسلل إلى داخله ، أخذ ذهنه يستعيد لمحات ماضية كانت بها الأضعف.. لمحات انتقت بها الطريق الأسهل من المواجهة ، انتقت الفرار و الانسحاب ، شعور آخر تزاحم مع عجزهِ .. شعور الاضطراب و التوتر يتفاقم بداخله ، خشى أن يكون ما تفكر به صحيحًا ، خشى أن تكون هذه اللحظة التي تنساب كـ حبةِ رمال من بين أصابعه فارقًا بحياتها ، كوّر قبضته بعنفٍ حتى ابيضت مفاصله ، ثم استدار ليبرح مكانه ، و قبل أن يلج للخارج كان يركُل بقدمهِ طاولة صغيرة مزمجرًا بغضبٍ أعمى حدقتيهِ فـ سقط ما فوقها متهشمًا مصدرًا دوي مزعج ، التفت نحو " حسين" الذي شملهُ بنظراتٍ ساخطة ليردف بتوعدٍ شرس :
- الحساب بينا مخلصش يا حديدي .. ده لسه بيبدأ !
ثم صفع الباب صفعةً عنيفة تزامن مع سقوطها على الأريكة تبكى حسرةً على ابنتها ، حينما كانت "ولاء" تُعنفها على فعلتها بامتعاض:
- انتي حصل لعقلك حاجة!.. ده أول ما يلاقيها هيقتلها! ازاي تـ..
فصرخت "حبيبة" بتشنجٍ تام من بين نشيجها:
- مش عايزة أسمع حاجة، اسكتي يا ولاء، مش عايــزة!
و أثناء ذلك كان الجميع يستمع إلى صوت زئيرهِ و هو يهبط الدرجات :
- متسيبوش مكان متدوروش فيه ، تقلبوا القاهرة بيت بيت و شارع شارع ، مش عايز اليوم يعدي و هي مش معايا !.. فاهمين ؟
دفع "حسين" بقدمهِ إحدى الشظايا بعنفٍ و هو يسبّه بأقذع الألفاظ لاعنًا إياه و عائلته ، و من ثم تحرك نحو غرفته صافقًا الباب بعنفٍ من خلفه
.............................................................................
- أنا هعمل اللي عليا و بس .. مش أكتر و لا أقل !
كلماتٍ وجهتها و هي تُحاول التبرير لنفسها ، ثم خطت بخطواتٍ حذِرة نحو غرفتها ، أدارت المقبض و دلفت متسللة للداخل ، حتى دنت منها ، جثت على الفراش أمامها و بكفها ملست على خُصلاتِها الحريرية ، قوّست شفتيها بحزن و هي تتأمل ملامحها الذابلة على غير المُعتاد فقد عهِدتها دومًا شخصيةً مرحة مُبهجة ، و اليوم ترى النقيض تمامًا ، أعينًا ذابلة ، و جفونًا مُنتفخة ، بشرةً شاحبة ، و أنفًا انتفخ من كثرة بكائها ، نهضت و انحنت بجذعها لتطبع قبلة حانية على جبينها ، ثم تمتمت مُعتذرة :
- سامحيني يا يارا ، بس صدقيني أنا هطمنها عليكي و بس ، أنا عايزة مصلحتك و الله ، و خايفة عليها زي ما خايفة عليكي !
ثم انتصبت و تركتها لتوفض للخارج موصِدة الباب خلفها ، كادت تخطو و لكن اصطدمت ساقيها بجسدٍ صغير ، فـ توقفت لتُخفض نظراتها لتجد ملاكِها الصغير عاقدة لساعديها أمام صدرها و على وجهها امارات العبوس بادية ، زمّت شفتيها قبل أن تلوى ثغرها بابتسامة زائفة و هي تنحني لتوازيها و مسحت على وجنتها برفقٍ و هي تتمتم :
- روڤي .. انتي صحيتي ؟
فسخرت منها الصغيرة :
- لأ لسه نايمة
فـ داعبت وجنتيها بأصابعها و هي تُشاكسها :
- أومال بتكلميني ازاي ؟
انتزعت كفيها عن وجهها و هي تتمتم بعبوس طفُولي :
- رهف .. مش تكلميني تاني ،" رهف أنا "زعلانة
فـ داعبت أرنبة أنفها و هي تلوى شفتيها بابتسامة مرحة :
- و "رهف أنا " زعلانة ليه ؟
فتمتمت و قد جعّدت جبينها باستهجان :
- عشانك سيبتيني أنام و مش قولتيلي يارا زعلانة ليه !
فبررت لها قائلة :
- يا روڤي انتي كنتي تعبانة مرضيتش أصحيكي !
هزت رأسها نفيًا ثم :
- لأ .. أنا مش كنت تعبانة
- لأ كنتي تعبانة
- لأ
- أه
- لأ
- أه
فـ صاحت بها مُتذمرة :
- رهف مش تقولي آه ، أنا مش كنت تعبانة
قوّست " رهيف " شفتيها باستهجان و هي ترفع ساعدها لتُحدق بساعة مِعصمها ، ثم رددت بنبرة محتجّة و هي ترفع نظراتها إليها :
- روڤي .. احنا كده مش هنخلص ، و رهيف عندها مشوار هتخلصه بسرعة و ترجع !
استقامت و تركتها لتلج لغرفتها ، فتغضن جبين " رهف" و قد لاحظت ثوبها  ثم تتبعتها متسائلة بنبرة طفولية :
- مشوار ؟ هتروحي فين ؟
كانت تقف أمام مرآتها تعقد حجاب شعرها ذو اللون الكافيه الفاتح حول رأسها ، و الذي تناسب لونهُ مع لون  ثوبِها الذي يصل حتى أخمص قدميها ،أجابتها بنبرة غير مفهومة بسبب دبابيس الحجاب و قد وضعتهم بين شفتيها :
- معلش يا روڤي هرجع بسرعة
- عايزة شيبسي يا رهف
انتزعت احدى الدبابيس من شفتيها لتغرسها في حجاب رأسها و نظرت لانعكاس صورة الصغيرة بالمرآة و قد افترّ ثغرها بابتسامة باهتة ثم رددت :
- ماشي يا ستي ، ممكن تبطلي رغي بقى عشان بتعطليني !
فـ أوفضت نحو منضدة الزينة و تسلقت المِقعد حتى صعدت بصعوبة لتعتليه ، عقدت ساعديها أمام صدرها و هي تجيبها بتعند :
- لأ .. مش هبطل غير لما تقوليلي يارا زعلانة ليه !
فلم تجد سوى قول :
- اتخانقت هي و عمو جوزها
ارتفع حاجبيها و هي تقول متحمسة بطفولية:
- هي يارا بقى عندها جوز ؟
غرست آخر دبابيس حجابها ثم داعبت بطرف اصبعها أرنبة أنفها و هي تقول:
-  جوز!..أيوة يا أم لسانين ، ينفع تبطلي لماضة بقى
تغضن جبينها بعدم فهم :
- يعني إيه لماضة ؟
- يـــوه
قالتها و هي تسحب حقيبتها الصغيرة و علقتها على كتفها ، ثم خرجت من الغرفة و هي تقول :
- اتأخرت يا روڤي و الله
تبعتها كـ الصاروخ مُبتلعة الأرضية و هي تهتف بوداعة :
- طب ينفع أقعد مع يارا
سحبت جِهاز التحكم لتفتح التِلفاز ثم رددت رافضة :
- لأ يا روڤي .. انتي كده هتصحيها و احنا مش عايزنها تصحى !
تغضن جبينها و هي مُحدقة بالتلفاز و كأنها تتذكر شيئًا بعينه ، نظرت نحو ساعة الحائط لتشهق بصدمة ، انطلقت كـ الذريعة  نحوها لتختطف جِهاز التحكم و هي تردد بفزع:
- توم و جيري .. يا رب مش يكون خلص .. يا رب !
ارتفع حاجبيّ " رهيف" بدهشة و هي تتابعها و فور أن وجدت القناة شرعت تثب بمحلها عدة مرات :
- أوه..ييس .. ييس ، توم و جيري شغال .. ييس
ثم صعدت فوق الأريكة لتعتليها و جلست تضع جامّ تركيزها بـ مشاهدة تلك الرسُوم المتحركة ، حتى بدت لديها أنها تناستها و تناست " يارا" و تناست الجميع ، فـ رددت و هي تمضي نحوها :
- روڤي خدي بالك من نفسك ، ماشي
أومأت برأسها و هي تمط عنقها للجانب لتستكمل المتابعة و قد حجبت عنها " رهيف" الرؤية ، فـ تقوست شفتيّ " رهيف" و هي تتابع مستكملة النصائح:
- و لو يارا صحيت و سألت عليا قوليلها هتشتري حاجة و ترجع ، و تاخدي بالك من نفسك و لو حد خبط على الباب متعمليش صوت خالص ، كأن مفيش حد في البيت ، تمام ؟
وجدت أنها من الصعب عليها تركِها هكذا و قد شرع ذهنها يُصور لها العديد من السيناريوهات التي قد تحدث ، فـ تغضن جبينها و هي ترمقها بنظراتٍ حانية ثم مسحت برفقٍ على وجنتها :
- روڤي تعالي معايا أحسن
دفعت كفها عن وجنتها و هي تتمتم بامتعاض و كأنها لم تستمع إليها :
-" رهف أنا" عايزة تتفرج و انتي مدارية الشاشة ، حاسبي يا رهف
فـ زفرت و قد تهدل كتفيها ثم رددت :
- طب سمعتي أنا قولتلك إيه طيب ؟
فـ رددت بتذمر :
- ايوة ، حاسبي بقى
- حاضر يا لمضة
انتصبت لتُعلق الحقيبة على كتفها من جديد و هي تُلقى عليها نظراتٍ أخيرة ، ثم تنهدت بحرارةٍ و هي تخطو نحو الباب ، أدارت المِقبض و ولجت للخارج ، ثم أوصدت الباب من خلفِها ، توقفت قليلًا حتى تغرس المُفتاح بثقب الباب و أدارتهُ لتوصده به ، ثم انتزعته ، و دسته في الحقيبة ، كفّت عقلها إجباريًا عن التفكير بصعوبة أو مناقشةِ حالها فيما تنتوي فعله ، ثم برحت محلها و شرعت تهبط الدرجات .
........................................................................
ذلك الكمّ من الأخبار على مواقِع التواصل الاجتماعيّ لم تكن تتخيله ، كانت مستيقظة منذ البكُور فلم تحظَ بنوم سِوى ساعاتٍ قليلة لم تكفي لإراحة ذهنها ، تفاجئ الجميع بما تفتعلهُ .. حيث أنها جلست بـ حديقةِ القصر أسفل إحدى المِظلّات تحتمي من شمسٍ لم تسطع من الأساس ، طلبت مشروبها الدافئ ريثما يستيقظ زوجها ، و كأن ابنها ليس على فِراش الموت ، انحنت الخادمة قليلًا بـ جِذعها لتسند القدح على الطاولة أمامها ، ثم انتصبت و هي تضم كفيها معًا متمتمة بنبرة ثابتة :
- تؤمريني بحاجة تانية يا هانم ؟
فـ أجابتها متأففة، و بنبرة صارمة:
- لأ .. روحي انتي
أومأت برأسها و هي تنسحب عائدة نحو الداخل ، سلكت إحدى الممرات المؤدية للمطبخ ، و ما لبثت أن دلفت حتى استمعت إلى النِقاش الدائر:
- و لا كأن ابنها بيموت !
- واحدة معدومة الإحساس ، أنا مش فاهمة دي أم ازاي ؟
- و لا كمال بيه !
- ده فارس بيه يلي هو ابن عمه مرجعش البيت من امبارح و بايت معاه ، و عمه راجع نايم من بدري و لا كأنه ما صدق يخلص منه
- طب عمه و احنا عارفين إنه مش بيطيقه ..
- لكن أمه !
- خارجة تقعد في الحديقة ! هه .. دي شوية هتحتفل و ترقص
- ربنا يعافينا من النفوس المريضة دي !
- العيلة كلها مفيهاش فرد بيطيق التاني 
قرصتها الخادمة الأخرى و هي تقذفهم بالنظرات المُحذرة فصمت الجميع متفهمين إشارتها ، فـ كان " كمال" يقف على أعتاب المطبخ ، ارتفع حاجبه الأيسر و هو يدلف موزعًا النظرات ، تمكن بسهولة من إدراك أن الحديث كان مُنصبًا عليه حيث انخفضت الأصوات جميعًا فور رؤيته ، توتر الجميع فـ تولت إحدى الخادمات القول بصوتٍ مرتبك:
- مدام هدى في الجنينة يا كمال بيه ، تحب أديها خبر إن حضرتك صحيت؟
شملها بنظرات جامدة ثم مضى نحو البراد و فتحه ليخرج احدى زجاجات المياه أثناء قوله غير مكترث للرد على سؤالها:
- حضروا الفطار
و فتح الزجاجة ليتجرع منها ثم أغلقها و هو يعيدها ، التفت و هو يمرر النظرات متمتمًا بنبرة ذات مغزى:
- و بس!..تحضروا الفطار من غير كلام كتير
و بنبرة تهديدية أثناء اقتناص الارتباك الطاغي عليهن أردف:
- أحسن ما كل واحدة تلاقي اللي مش هيعجبها ، و أظنكوا شوفتوا اللي حصل لـ " سهير " امبارح!.. اللي عايزة تلحقها ، تكتر في الكلام!
تعالت الهمهمات الغير مفهومة فيما بينهن ، بينما كان قد أنهى ما لديه ، فـ صفع البراد بعنف و هو يحدجهن بنظراتٍ مستشاطة ثم ولج خارجًا .
............................................................................
تركت الكوب يسارًا أعلى الطاولة و عيناها متسعتان عن آخرهما ، و ما لبث أن تحول ذلك إلى ابتسامة خبيثة و بريق المكر فاض بمقلتيها ، حتى انتفضت على تلك القبلة التي تُركت أعلى كتفِها ، التفتت لتجده يحيط بكتفيها و هو يتمتم مبتهجًا:
- صباح النور
ارتفع حاجبها الأيسر استنكارًا و هي تتابع بشدوه ، بينما كان قد دار حولها ليسحب احدى المقاعد و اعتلاه بينما كانت تتمتم ساخرة:
- ايه الحنية دي كلها ؟
فـ فاجأها بكفه يتلمس خصلاتها الناعمة و هو يردف بنبرة رخيمة:
- هو لما أقول لمراتي صباح النور يبقى أجرمت و لا إيه؟
عقدت حاجبيها باستهجان وسريعًا ما تركت هاتفها جانبًا و هي تتلمس بأناملها جبهته أثناء قولها المهتم :
- انت تعبان و لا ايه يا كمال ؟
فـ كركر ضاحكًا اثر قولها ثم استطرد حديثه و الابتسامة لا تكاد تفارق شفتيه:
- لا تعبان و لا حاجة يا ستي
و غمز بطرفهِ و هو يتابع بمكر:
- بس مقولتليش .. ها؟ إيه رأيك؟
لم تحل عقدة حاجبيها و تركت جبنها مُجعدًا، ضيقت عينيها و هي تتمعن النظر لملامحه المبتهجة و هي تتمتم مستفسرة :
- رأيي في إيـه؟
بعينيهِ أشار لهاتفها الذي تركته أعلى الطاولة:
- في الأخبار اللي شوفتيها ؟ عجبتك؟.!
تلك المرة حلت حاجبيها لترفع أحدهما بينما نظراتها المستوضحة تطالبهُ بتفسير ، و بنبرة شبه محتدة قالت:
- كمـال.. ما تفهمني!
عاد بظهرهِ للخلف و هو يستند بساعده على الطاولة ، و احتل اللؤم حدقتيه و هو يقول بمكرٍ طاف حول ملامحه:
- تؤ!.. إيه يا هدهد؟ انتي كنتي فاكراني هسيب بنت حسين من غير ما أعمل معاها الواجب!
تغضن جبينها مجددًا و هي تتمتم بعدم فهم:
- انت مش على بعضك ليه يا كمال؟
و احتدت و هي تستطرد:
- مش دي البت اللي كنت هتموت عليها من كام يوم!.. إيه اللي جد؟
فسخر منها على الفور :
- و انتي صدقتي اني أزعل على بنت حسين مثلًا؟.. و لا أقولها تعالي في حضني و اعتبريني أبوكي التاني؟
فـ ضربت براحتها على سطح الطاولة و قد استبد الغضب بها و نطقت بلهجة ساخطة:
- أومال كنت عامل فيها الأب الحنون ليه لما قولتلك تتصرف!
و بثوانٍ قست ملامحه و هو يُملي عليها خِطته :
- عشان الباشا ابنك ممكن يكون حاططلنا واحدة من الخدامات تتصنت علينا!.. انتي و مفهوم انك بتكرهيها، انما أنا كان لازم عشان الخطة اللي كانت في دماغي.. كان لازم أحسسه إني بدأت أقتنع بوجودها!
رمشت بعينيها البارقتين ببريق الظفر أثناء قولها :
- خطة!.. خطة إيه؟
تجهم وجهه و امتعضت نبرته و هو يجيبها:
- خطة!.. ما راحت الخطة بسببه، لحق البت و كشفني
ثم تلمس عنقه بأطراف أنامله و هو يدمدم ساخطًا:
- كان هيخلص عليا !
فلم تمنع نفسها من الضحك الساخر فـ التهب وجهه بالحمرة المغتاظة و هو يشيعها بنظراتٍ كـ السهام ، سئم حين لم تتمكن من السيطرة على حالها فتعالى صوت كركرتها ، فـ شملها بازدراء قائلًا:
- هو ده اللي فالحة فيه!.. ماشي يا هدى
سيطرت على حالها و هي تتظاهر بأنها تكتم شِفاها بأطراف أناملها بينما كانت تقول بأسف مزيف:
- سوري يا كيمو!.. بس مش قادرة بصراحة
و عادت تنفجر ثانية فعنفها قائلًا و هو يضرب بكفهِ سطح الطاولة حتى ارتجف قدح القهوة :
- بس بقى!
ضمت شفتيها معًا محمحمة و قد أدركت أنها انسجمت فيما تفعل ، نفضت بأطراف أصابعها خصلاتها للخلف بينما كان يردد متشنجًا:
- المهم.. سيبك من اللي فات! مش كمال الصياد اللي يتعمل فيه كده ، أنا رديتله الضربة!
ضيقت عينيها و هي تتأمل ملامحه ، فتفهمت تعبيره بقصد آخر :
- قصدك ان انت اللي نشرت الكلام ده ؟
ازدرد ريقه بارتباك و قد أدرك أنه كاد يُقرّ بما فعل ، فـ أزاح التوتر عن نبرته بصعوبة و هو يقول بتوعد:
- أيوة.. أومال انتي فاكراني هسيبها!
سحبت هاتفها و فتحته لتمر بعينيها على تلك الشائعات مجددًا و تسائلت باهتمام:
- كل اللي اتقال مفهوم، لكن إيه حكاية المخزن دي؟
تغضن جبينه و هو يتطلع إليها بعدم فهم:
- مخزن؟.. مخزن إيـه؟
فـ بسطت كفها بالهاتف ثم :
- شوف بنفسك!.. انت مقرأتش الأخبار؟
لم يكن قد اكتشف ذلك ،حيث قد خلد إلى نومٍ هانئ عقبها مكتفٍ بما استمع إليه ، مرر نظراته على الكلمات فما لبث أن ارتفع حاجبيه بشدوه و هو يتمتم لاكمًا براحتهِ سطح الطاولة ثم أردف مذهولًا:
- عملها ابن يوسف!..عملها عشان بنت حسين!
....................................................................
كانت تحثّ الصعود للأعلى و كأنها تلتهم الدرجات الفاصلة ، فـ اخترق أذنيها ذلك الصوت الشرس القادم من الأعلى ، تجعّد  جبينها اثر تقطيبها و قد توقفت تلتقط أنفاسها اللاهثة و تنظر حيث الأعلى لتتفاجأ بأحدهم يهبط الدرجات و يتحدث بالهاتف معنفًا آخر ، استنكرت طريقتهِ العنيفة و كأنه يحادث عبادًا له و ليس بشرًا مثله ، لم تكترث لأمره كثيرًا و لم تُدقق النظر لملامحه ، و واصلت صعوها للأعلى و أثناء ذلك كان قد دنا منها و هو يتجرّع الدرجات للأسفل ، اعتقدت بسذاجتها أنه سيفسح لها الطريق و لكنهُ لم يكترث لها ، بل بدا أنه لم ينتبه إليها من الأساس ، فـ ارتطمت بجسدهِ العريض الذي سدّ المجال للمرور أمامها ، شهقت و قد كادت تسقط اثر اختلال توازنها فاجتذب مرفقها ليحافظ على توازنها و قد انحرفت نظراتهِ الشرسة إليها ، خجلت من تلك الوضعية و تشربت وجنتيها بحمرة الخجل و هي مخفضة لنظراته عنه باستحياء مبرر قبل أن تسحب مرفقها من قبضتهِ القوية و بنبرة هامسة تمتمت و كأنها من أخطأت:
- آسفة
فـ كانت الصدمة حين دفعها بعنفٍ من كتفها ليُفسح الطريق أمامه و هو يزأر بها و قد نفذ صبره:
- حاسبـي!
ارتفع حاجبها الأيسر استنكارًا ، بل و فغرت شفتيها من فرط صدمتها و هي ترفع نظراتها إليه لتتبين ملامحه فلم يمنحها نظرةً واحدة و هو يتابع الطريق للأسفل بينما يردد بجأر:
- يعني إيـه مش لاقيه ؟ راح فين يعني؟
فـ كان " فارس" يرد بينما يتجول بسيارته في الطرقات متنهدًا بحرارة:
- معرفش!.. معرفش اتزفت راح فين بعد الكلام اللي قاله
فـضرب بقبضتهِ الدرابزون بعنفٍ و هو يزأر بصوتٍ أفزعها:
- تلاقي ابن الـ×××× الإعلامي اللي نشر الكلام ده على مراتي ، و تلاقيلي الزفت ده لو تحت طقاطيق الأرض! فاهمني ، و لا هتستغبى ما انت ميُعتمدش عليك أصلًا!.. سايبهالك أمانة أرجع ألاقي حصل لها كده! أومال لو بقولك خلص عليها هتعمل فيها إيه!
- يا ابني اسمعني!.. البت حاولت تقتلك في المستشفى ، يعني هي مخططة لكل...
فقاطعهُ و قد التهب وجههُ و كأنه جذوة مشتعلة و هو يقاطعه :
- اخـرس يا ××× ، اقفل!.. اقفل بدل ما و رحمة أبويا هرتكب جناية النهاردة !
 و لم ينتظر ثوانٍ و كان يُنهي المكالمة و هو يسب بأقذع الألفاظ بينما كانت الأخيرة متيبسة بمحلها و هي تتابعه بأعين متسعة عن آخرها ، أجبرت ساقيها المتيبستين على الحراك لتهبط من خلفهِ هادرة بصوتٍ مرتفع تزامن مع سبهِ:
- يا أستاذ!.. لو سمحت استنى ، انت يا حضرت؟
فلم يكترث لها و هو يستكمل طريقه و قد صاحب الانفعال خطواته ، فـ هرولت من خلفهِ حتى كادت تتعثر و تسقط عن الدرج لأكثر من مرة ، اضطربت أنفاسها و هي توفض نحوه حتى بلغ المدخل فـ كاد يخرج منه لولا أن سدّت الطريق أمامه فلم يتوقف عن السير قبض بعنفٍ على عضدها و هو يبعدها عن طريقهِ آمرًا :
- غوري من وشي ، أنا مش ناقص!
فـ شحذتهُ قائلة بتوسل:
- يا أستاذ اسمعني لو سمحت ، مش حضرتك يامن الصياد؟
دفعها للخلف ليتمكن من المرور و لسانهِ لا يكف عن اللعن ، كادت قدماهُ أن تطأ المدخل لولا أن استوقفهُ صوتها الهادر باسمها فـ جعل قدماهُ تتيبّسان تلقائيًا:
- أنا أعرف مكان يارا مراتك!
............................................................................
"الفصل الثاني عشر"
البُعد تلك المرة كان مُحاذيًا للمسافة !
________________________________________________
أنّبت نفسها .. و لكنها كانت تعود لتقنع حالها بأن ما فعلتهُ هو الصواب ، و نخرها ضميرها ، و لكنها كانت تُكتِم فاهُ عسى أن يكف ، زفرت حانقة من حالها و هي تجلس على طرف الفراش مجاورة للملاك الصغير ، غلغلت أناملها بين خصلاتها الحريرية و أثناء ذلك كانت تتذكر ما فعلتهُ .
« هجدت الليل.. و لم يكن ليتجرأ النوم على أن يدنو من جفنيها ، ظلت تذرع غرفتها ذهابًا و إيابًا و ذِهنها لا يكف عن التفكير ، تركت زفيرًا حارًا من صدرها و هي تتوقف متوسطة خصرها بذراعيها ، عبثت بهاتفها و هي تتمتم هامسة بـ ضيق :
- و بعديـن ؟ أتصرف ازاي ؟ أنا مش عارفة أعمل ايه !
فتحت " جهات الاتصال " و اتت برقم والدتها ، توقفت عندهُ للحظاتٍ ثم بررت لنفسها:
- ماما الوحيدة اللي هتعرف تنصحني ، أنا عايزة مصلحة يارا و بس !
و نقرت زر الاتصال ثم رفعت الهاتف إلى أذنها ، مرّت دقائق من التوتر المتدفق في أوردتها حتى أتاها صوتها :
- رهيـف ؟ انتي كويسة يا حبيبتي ؟ ايه اللي مصحيكي لحد دلوقتي ؟ و أختك كويسة ؟ طمنيني يا رهـ..
فـ اقتطعت كلماتها بنبرة متوترة :
- احنا كويسين يا ماما .. اهدى في إيه ؟
تغضن جبينها و هي تتمتم بصوتٍ خفيض و قد انسحبت إلى الشُرفة :
- اومال مالك ؟ لسه منمتيش ليه ؟
تنهدت بحرارة قبل أن تسألها بتردد :
- انتي وصلتي ؟
- أيوة .. من نص ساعة تقريبًا
ذمّت شفتيها ثم أردفت مُراوغة :
- طب جدتي أخبارها إيه ؟ اطمنتي عليها ؟
قبضت جفنيها ثم عادت تُفرّقهما متمتمة بتنهيدة مُطولة:
- الحمد لله يا حبيبتي ، الدكتور قال إن حالتها مش خطيرة للدرجة دي
تقوست شفتيها بضيق و هي تهتف مضيقة عينيها:
- بس صوتك بيقول غير كده
- لا متقلقيش
فاحتلّ العبوس قسماتها و هي تردد باستنكار:
- آه .. يبقى أكيد مش هترجعي دلوقتي
ضمّت شفتيها معًا قبل أن تتمتم بنبرة أقرب للرجاء :
- معلش يا رهيف ، انتي عارفة إني مش هقدر أسيبها في الحالة دي ، دي والدتي ، لو أنا مكانها كنتي هترضي تسيبيني ؟
فـ أجابتها بنفيٍ قاطع :
- لأ طبعًا
تجعّد جبينها اثر عقدها لحاجبيها قبل أن تضُم حافتي الشال الصوفي فوق كتفيها و هي تتمتم مُضيقة عينيها :
- تعالي هنا .. قوليلي بقى حصل إيه خلاكي لسه صاحية لغاية دلوقتي ؟ و بعدين سر الاتصال المُفاجئ ده و احنا داخلين على الفجر مش داخل دماغي
فـشرع التردد يغزوها من جديد ..أزاحت خُصلة سقطت على وجنتها و هي تتمتم باضطراب مستنكر:
- متطمنش عليكي يعني ؟
- روڤـي !.. على ماما بردو
توسطت خصرها بكفيها و هي تمضي نحو الفراش ، و جلست مُجاورة للصغيرة ، و بعد لحظات من الصمت تنهدت مُطولًا و كأنها تحاول أن تنزح عن صدرها ذلك العبء، حتى شعرت شفتيها تتفرقان لتنطق بتوترٍ متفاقِم:
- ماما .. فاكرة يارا صاحبتي ؟
لم تحل عقدة حاجبيها و هي تستفسر قائلة:
- يارا مين ؟ يارا الحديدي ؟
أومأت و هي تتمتم باقتضاب:
- أيوة.. هي
لم تتفهم مُرادها فتساءلت مُستوضحة :
- مالها ؟
- جتلي البيت !
ارتفع حاجبيها و هي تتمتم مشدوهة :
- جتلك البيت ؟ في وقت زي ده ؟ ليه ؟ هي حصل لها حاجة ؟
فصوبت خطأها بنبرة خالجها الحزن:
- حجـات .. حصل لها حجـات !
تنهدت بانزعاجٍ ثم أردفت بعدم فهم :
- أنا مش فاهمة حاجة يا رهيف ، ممكن تهدى كده و فهميني من غير ألغاز !
و عقب بُرهةً من التردد كانت تقص عليها :
- الحكاية و ما فيها إن ......
و شرعت تسرد بإيجازٍ ما قصتهُ عليها رفيقتها إلى تلك الشائِعات التي لم يتركها موقعًا إلا و تحدث عنها ، كتمت شِفاها بكفها لتمنع شهقاتِها المذهولة ، توسعت عينيها قبل أن تتمتم بعدم استيعاب :
- ايه اللي بتقوليه ده يا رهيف ؟
بسطت كفها و هي تتمتم بقِلة حيلة :
- ده اللي حصل .. البوليس بيدور عليها ، و أنا مش عارفة أعمل ايه !
فـ أوصتها بـ:
- خدي بالك منها يا بنتي ، حرام اللي بيحصل لها ده !
فـ رفعت حاجبها الأيسر استنكارًا قبل أن تسألها بتعجبٍ و قد توقعت رد فعل مُغاير:
- يعني انتي مش شايفة انها غلطانة ؟
تجعد جبينها و هي تجيبها بشئ من الاحتجاج:
- غلطانة ! يعني الواحد يشوف كل ده و يستحمله ازاي ، يا بنتي ربنا يعينها على اللي هي فيه
فـ وضعت كفها على صدرها تتنفس الصعداء :
- الحمد لله ريحتيني ، كنتي خايفة يكون ليكي رد فعل تاني غير ده !
فعاتبتها بلطف :
-رد فعل تاني ايه يا رهيف ؟ لو موقفتيش جمبها في وقت زي ده هتقفي جمبها امتى ؟ بس أنا طالبة منك حاجة واحدة تعمليها ، و أرجوكي مترفضيهاش
عبثت بأظافرها بتوترٍ جليّ و هي تغمغم بترقّب:
- ايه هي ؟
سحبت شهيقًا عميقًا قبل أن تزفره على مهل :
- كلمي مامتها و عرفيها إنها عندك !
توسعت حدقتيها متمتمة بعدم تصديق :
- إيـه ؟
- زي ما سمعتي يا رهيف
فـ رفضت نهائيًا ما تتفوّه به :
- مستحيـل يا ماما ، ايه اللي بتقوليه ده !
حاولت التبرير فـ أردفت و هي تستند بساعِدها إلى سور الشرفة :
- يا رهيف يا حبيبتي لازم تعملي ده ، أنا أم و عارفة كويس شعور والدتها هيكون ايه دلوقتي !
لم تقتنع .. قطبت جبينها و ارتسم العبوس بوضوح على قسماتها و هي تُجيبها :
- برضو لأ
زفرت مُطولًا بحرارةٍ ثم قالت بصرامة طفيفة:
- رهيـف .. أنا مش بقولك بلغي عن وجودها معاكي ، أنا بقولك مامتها تعرف إنها معاكي
ثم سألت مضيقة عينيها:
- أساسًا والدتها تعرف بيتنا ؟
- لأ
رفعت كتفيها متمتمة ببساطة :
- خلاص.. اتصلي بوالدتها عرفيها إن يارا كويسة ، بـس !.. منه طمنتيها و عرفتيها ان بنتها كويسة ، و منه معرفتيهاش مكانك
فـ أعربت عن مخاوفها قائلة بتوجّس:
- أنا خايفة أبوها المجنون ده يبلغ عنها .. يا ماما ده موقفش جمبها نهائي
تضايقت من نعتها فـعنفتها مرددة:
- احفظي لسانك يا رهيف لو سمحتي .. و بعدين مستحيل يعمل كده ، أيًا كان ده والدها
حكّت عنقها بأظافرها و هي تُدمدم بتوتر:
- مش عارفة ، مش مطمنة !
- أنا أكبر منك و أكتر منك خبرة ، اسمعي نصيحتي .. و بعدين مش انتي بتقولي جوزها عايش ؟
أومأت "رهيف" برأسها و هي تجيبها:
- أكيد .. مفيش أي موقع نشر خبر موته ، لو كان لا قدّر الله مات مكنش هيبقى في موقع مش هينشر الخبر ده !
- ربنا يستر .. الله أعلم رد فعله هيكون إيه لما يصحى !
- أنا خايفة أوي .. ده راجل مُفتري
كادت أن تتحدث و لكن استمعت إلى صوت أخيها من خلفها :
- سُعـاد .. بتعملي ايه دِلوَك " دلوقتي" ؟ ده وجته عاد يا سُعاد ؟
زفرت و هي تجيبها باقتضاب :
- اعملي اللي قولتلك عليه يا رهيف ، أنا مُضطرة أقفل دلوقتي
و أغلقت المُكالمة ثم التفتت إلى أخيها متمتمة بنبرة مستنكرة :
- خير يا متولي ؟ بكلم بنتي ؟ إيه ؟ مطمنهاش ؟
فـ أشار للداخل متمتمة بصوتٍ أجشّ :
- لما انتي جلجانة عليها إكده ، مچيبتهاش ليه حدّاكي ؟ سايباها تجعد لواحدها ليه ؟
- هي عافية يا متولي ، ما قولتلك مرضيتش !
رفع كتفيهِ متمتمًا بنبرة جادة :
- لع  "لأ" يا سعاد لكن بتك " بنتك" ...
فقاطعتهُ و هي تدفعهُ برفقٍ من كتفه :
- ماما تقريبًا بتنادي يا متولي ، عديني !
ثم مرّت من جِواره بينما تابعه بنظراتٍ مشدوهة ثم تمتم متعجبًا :
- لا حول و لا جِوة " قوة" إلا بالله ، العيلة كليتها " كلها " مش طايجاني و لا إيه !
كانت وجنتيها قد تشربتا بالحمرة المُنفعلة و هي تنظر إلى الهاتف بنظراتٍ حانقة ، ثم ألقته بجوارها ودفنت وجهها بين كفيها لتردد مُغتاظة:
- أوف .. ده انت بارد بشكل يا خالي
انتزعت كفيها لتُحدق في الهاتف بنظراتٍ شاردة .. مترددة ، ازدردت ريقها و هي تتمتم بنبرة تائهة :
- و بعديـن .. أعمل إيه ؟
كادت أن تتلمس الهاتف و لكنها سحبت كفها سريعًا و هي تتمتم برفضٍ قاطع :
- لا لا لا .. مستحيل ، يعني هي وثقت فيا و لجأت لي في مِحنتها و أنا بكل بساطة أخون الثقة دي !
نهضت عن الفراش لتوفض نحو النافذة و اجتذبت الستائر لتُسكِنها فوقها و هي تتمتم بنبرة ضائقة :
- مستحيل يا رهيف ، شيلي الفكرة دي من دماغك
و لكن لم يكن ذهنها ليكف عن اختلاق سيناريوهات عِدة لما قد يُصيب تلك السيدة ، ضغطت بكفها على جبينها و هي تطرد زفيرًا من صدرها :
- بس ماما عندها حق .. طالما مش هعرفها مكاني يبقى مفيش مشكلة ، أنا هطمنها على بنتها و خلاص
 مضت نحو الفراش و هي تلتقط هاتفها ، و شرعت تنقر على شاشته ، حتى افتر ثغرها عن ابتسامة و هي تردف :
- كويس جدًا.. معنديش رقمها ، جت من عند ربنا ، أكيد دي إشارة !
كادت أن تضغط الزر الجانبي للهاتف لتُغلقه و لكن سُرعان ما تجمد اصبعها و تلاشت البسمة عن وجهها ليحل محلها الوجوم حين عثُرت على رقم شقيقتها " ولاء"، و أخيرًا.. و بعد ما يُقارب الخمس دقائق من التردد و التجمد بـ محلها ، حركت اصبعها لتنقر على زر الاتصال ، و رفعت الهاتف إلى أذنها مُطبقة جفنيها بقوة و خفقات قلبها تكاد تستمع إليها ، و لكن تغضن جبينها حين استمعت إلى الرسالة الصوتية التي توحي بأن الهاتف مُغلق ، فـ انتزعته عن أذنِها ، و أعادت الاتصال ، و لكن بلا جَدوى ، فتركتهُ بعد العديد من المحاولات ، و حاولت جاهدة أن تحظى ببضع سويعات من النوم لتُريح ذهنها قليلًا ، و لكن باءت مُحاولاتِها بالفشل الذريع .
...........................................................................
 أختك فين ؟
ظلّت فاغرة شفتيها حتى أنها لم تستوعب قولهِ:
- هـاه !
نَفِذ صبره.. دفعها بعنفٍ من كتفها مُزيحًا إياها عن طريقه و اقتحم المنزل و هو يجأر بصوتهِ :
- حسيــــن يا حديـــدي !
تلاشى السخط عن وجههِ لتحتل الصدمة قسماته ، و بدلًا من أن يجيبها حملق بوجهها و كأنهُ لا يستوعب ، و لم تكن منهُ أقل دهشة ، انتفضت و هي تهرع للخارج متناسية حتى أن تسحب حجاب رأسها حتى رأته أمامها ، صدق حِدسها و لم تكن تتخيل رؤيته ، حملقت بوجههِ بحنو أمومي فـ قابل حنانها بجفاء ، تقدّم نحوها و هو ينتوي الهجوم عليها فاقدًا آخر ذرةً بتعقّلهِ و هو يردد مهتاجًا :
- هي فيـن ؟ وديتيها فين ؟
احتضنتهُ بعينيها و هي تتنفس الصعداء و قد شعرت بارتياح يتسلل إلى نفسها المُلتاعة ، همت بأن تتلمس صدغهِ بأطراف أناملها، و كأنها تحاول التيقّن من وجودهِ ، و ابتسامةً تتراقص على شفتيها تزامنت مع تجمع الدموع فيهما ، ثم همست بهمسٍ متقطع و صوت مبحوح لا يكاد يُسمع :
- انت.. انت عايش ؟
التقط كفها و نفضه بعيدًا عنه بحركة عنيفة قبل أن يُتمتم بنبرةٍ جافة :
- عهد عليا مموتش قبل ما آخد بتاري منه !
ارتعدت فرائصها مع حِدة كلماته و تلاشت بسمتها الصادقة ليظل فقط سيل الدموع مُغرقًا وجنتيها ، حتى همس بصوتٍ حالك :
- بنتك فيـن ؟
أحنت بصرها عنه و قد تركت لشهقاتها العنان و هي تردف من بين نشيجها :
- مش عارفة
- أهلًا يا .. يا ابن يوسف
كان صوته البغيض كفيلًا بأن يُشعل فتيل القنبلة بداخلهِ ، كز بعنفٍ على أسنانه و هو يرفع نظراتهِ إليه ، شعر بالدماء تندفع في أوردتهِ و هو يخطو نحوه قاضبًا على تلابيبه و لم يكتفِ.. دفعهُ بعنفٍ حتى حشرهُ بينه و بين الحائط قبل أن يهدر به متوعدًا :
- اسم أبويا ميتنطقش  على لسانك الـ×××× تاني يا حديدي ، بدل ما تندم !
فهدرت به " ولاء" مُحذرة و هي تكاد تخطو نحوه :
- ابعد عن بابا و احتـ..
التفت نحوها ليقذفها بشواظ نظراته فـ تسمّرت قميها في الأرضية ، و تجمدت بمحلها و تخشبت الكلمات على أطراف لسانها رُغم أنفها و هي تزدري ريقها توجسًا ، عاد " يامن" ينظر نحوه و قد احتقن وجهه بالدماء و لكنهُ رسم على ثغرهِ بسمةً جليدية ، قبل أن يردف ساخرًا :
- كنت عارف إنك هتطلع منها سليم.. أصلك زي القطط بسبع أرواح !
فـ افترت شفتيه بابتسامة ساخرة متمتمًا بتهكم :
- كويس انك عارف
تلاشت بلمح البصر و هو يدنو برأسهِ منه فلفحت أنفاسه بشرته ، فحّ في أذنهِ بهمسٍ شيطاني :
- لا بس المستشفى نورت بزيارتك يا حديدي !
تغضن جبينهُ بعدم فهم فـ ابتعد " يامن" قليلًا ليرى تأثير كلماتهِ فـ نظر نحوهُ مستنكرًا ثم تمتم مُستفهمًا :
- انت بتقول ايه ؟
تصلبت ملامحهُ و هو ينزح كفيهِ عن ياقته ، تظاهر بأنه يضبطها له و هو يردد هامسًا بصوتٍ ساخط :
متخافش يا حديدي .. ده سِر بينا !
رفع نظراتهُ القاتمة ليغرسها بعينيّ الأخير ثم بنبرةٍ غامضة:
- بس كله بحسابه !.. مفيش حاجة من غير حِساب !
تغضن جبين "ولاء" و هي تنظر نحو والدتها متعجبة ذلك التهامس بينهما ، فرفعت الأخيرة كتفيها مُعربة عن عدم فهمها ثم عادت كِلتاها يتابعان ما يحث نصب أعينهما ، بينما هو.. بيد أنهُ لم يفهم كلمةً مما قِيلت ، و قبل أن يستفسِر عن مقصده كان "يامن" يردف بصوتٍ هادر تاركًا ياقتهِ :
- وديتها فين يا حديدي ؟
ترك كلماتهِ الغير مفهومة بلا تحليل لها .. اتسعت ابتسامته حتى كادت تصل لأذنيهِ و هو يردد شامتًا :
- دلوقتي بتدور زي المجنون عليها ؟ مش هتوصل لها يا صياد .. مش هتعرف تلاقيها !
فعاد يُردد سؤالهِ ثانيةً بنبرة أكثر احتدامًا و أشد بأسًا و قد التهبت بشرته و هو يكور قبضتيهِ :
- مراتي فيـن يا حديـدي ؟
فرددت " حبيبة" بنبرةٍ مبحوحة و نظراتها تتحدى زوجها :
- متصدقوش.. أصلًا ميعرفش مكانها
فهدر بها محذرًا و قد شعر بدمائهِ تغلى في أوردته :
- حبيبة
رمشت بعينيها تُزيح تلك العبرات العالقة بهما و التي شوشت مجال الرؤية لديها ، وضعت كفها أعلى كتفهِ فـ أجبرتهُ على الالتفات نحوه ، فاضت دموعها و هي تردد بقهر :
- مش لاقيينها .. مشوفنهاش ، ملجأتليش و هي ملهاش حد تلجأ له ، متجيش عليها عشان اللي عملته ، دي.. دي مش بعيد تعمل في نفسها حاجة
لانت نظراته قليلًا و لكن لم ترتخِ تعبيراته المتشنجة ، تسببت كلماتها الموجزة فـي صوتًا آخر برأسه ، و بـتشوش أكبر لذهنه ، بينما تقوست شفتيها بحزنٍ بالغ و هي تردد بصوت خالجتهُ المرارة :
- عمرها ما أذت حد يا يامن .. عمرها ما ضرت حد ، أنا بنتي متعملش كده .. و لو عملت ، هي نفسها مش هتسامح نفسها ، أنا خايفة تعمل حاجة في نفسها ! سامحها يا ابني .. عشان خاطر يوسف سامحها
فـ إذ به يهدر بصوتٍ أجفل الجميع إثره :
- مش بمزاجها ، مش بمزاجها تأذي نفسها و مش بمزاجها تحدد مصيرها !
استجمعت رباطة جأشها لتردد بصوت ملتاع :
- البوليس بيدور عليها .. يارا ضعيفة ، ضعيفة أوي ، مش هتستحمل كل ده ، متسيبهاش أرجوك .. اعمل حاجة
ذلك الشعور الذي يبغضهُ تمامًا يتملك منه ، شعور العجز شرع يتسلل إلى داخله ، أخذ ذهنه يستعيد لمحات ماضية كانت بها الأضعف.. لمحات انتقت بها الطريق الأسهل من المواجهة ، انتقت الفرار و الانسحاب ، شعور آخر تزاحم مع عجزهِ .. شعور الاضطراب و التوتر يتفاقم بداخله ، خشى أن يكون ما تفكر به صحيحًا ، خشى أن تكون هذه اللحظة التي تنساب كـ حبةِ رمال من بين أصابعه فارقًا بحياتها ، كوّر قبضته بعنفٍ حتى ابيضت مفاصله ، ثم استدار ليبرح مكانه ، و قبل أن يلج للخارج كان يركُل بقدمهِ طاولة صغيرة مزمجرًا بغضبٍ أعمى حدقتيهِ فـ سقط ما فوقها متهشمًا مصدرًا دوي مزعج ، التفت نحو " حسين" الذي شملهُ بنظراتٍ ساخطة ليردف بتوعدٍ شرس :
- الحساب بينا مخلصش يا حديدي .. ده لسه بيبدأ !
ثم صفع الباب صفعةً عنيفة تزامن مع سقوطها على الأريكة تبكى حسرةً على ابنتها ، حينما كانت "ولاء" تُعنفها على فعلتها بامتعاض:
- انتي حصل لعقلك حاجة!.. ده أول ما يلاقيها هيقتلها! ازاي تـ..
فصرخت "حبيبة" بتشنجٍ تام من بين نشيجها:
- مش عايزة أسمع حاجة، اسكتي يا ولاء، مش عايــزة!
و أثناء ذلك كان الجميع يستمع إلى صوت زئيرهِ و هو يهبط الدرجات :
- متسيبوش مكان متدوروش فيه ، تقلبوا القاهرة بيت بيت و شارع شارع ، مش عايز اليوم يعدي و هي مش معايا !.. فاهمين ؟
دفع "حسين" بقدمهِ إحدى الشظايا بعنفٍ و هو يسبّه بأقذع الألفاظ لاعنًا إياه و عائلته ، و من ثم تحرك نحو غرفته صافقًا الباب بعنفٍ من خلفه
.............................................................................
- أنا هعمل اللي عليا و بس .. مش أكتر و لا أقل !
كلماتٍ وجهتها و هي تُحاول التبرير لنفسها ، ثم خطت بخطواتٍ حذِرة نحو غرفتها ، أدارت المقبض و دلفت متسللة للداخل ، حتى دنت منها ، جثت على الفراش أمامها و بكفها ملست على خُصلاتِها الحريرية ، قوّست شفتيها بحزن و هي تتأمل ملامحها الذابلة على غير المُعتاد فقد عهِدتها دومًا شخصيةً مرحة مُبهجة ، و اليوم ترى النقيض تمامًا ، أعينًا ذابلة ، و جفونًا مُنتفخة ، بشرةً شاحبة ، و أنفًا انتفخ من كثرة بكائها ، نهضت و انحنت بجذعها لتطبع قبلة حانية على جبينها ، ثم تمتمت مُعتذرة :
- سامحيني يا يارا ، بس صدقيني أنا هطمنها عليكي و بس ، أنا عايزة مصلحتك و الله ، و خايفة عليها زي ما خايفة عليكي !
ثم انتصبت و تركتها لتوفض للخارج موصِدة الباب خلفها ، كادت تخطو و لكن اصطدمت ساقيها بجسدٍ صغير ، فـ توقفت لتُخفض نظراتها لتجد ملاكِها الصغير عاقدة لساعديها أمام صدرها و على وجهها امارات العبوس بادية ، زمّت شفتيها قبل أن تلوى ثغرها بابتسامة زائفة و هي تنحني لتوازيها و مسحت على وجنتها برفقٍ و هي تتمتم :
- روڤي .. انتي صحيتي ؟
فسخرت منها الصغيرة :
- لأ لسه نايمة
فـ داعبت وجنتيها بأصابعها و هي تُشاكسها :
- أومال بتكلميني ازاي ؟
انتزعت كفيها عن وجهها و هي تتمتم بعبوس طفُولي :
- رهف .. مش تكلميني تاني ،" رهف أنا "زعلانة
فـ داعبت أرنبة أنفها و هي تلوى شفتيها بابتسامة مرحة :
- و "رهف أنا " زعلانة ليه ؟
فتمتمت و قد جعّدت جبينها باستهجان :
- عشانك سيبتيني أنام و مش قولتيلي يارا زعلانة ليه !
فبررت لها قائلة :
- يا روڤي انتي كنتي تعبانة مرضيتش أصحيكي !
هزت رأسها نفيًا ثم :
- لأ .. أنا مش كنت تعبانة
- لأ كنتي تعبانة
- لأ
- أه
- لأ
- أه
فـ صاحت بها مُتذمرة :
- رهف مش تقولي آه ، أنا مش كنت تعبانة
قوّست " رهيف " شفتيها باستهجان و هي ترفع ساعدها لتُحدق بساعة مِعصمها ، ثم رددت بنبرة محتجّة و هي ترفع نظراتها إليها :
- روڤي .. احنا كده مش هنخلص ، و رهيف عندها مشوار هتخلصه بسرعة و ترجع !
استقامت و تركتها لتلج لغرفتها ، فتغضن جبين " رهف" و قد لاحظت ثوبها  ثم تتبعتها متسائلة بنبرة طفولية :
- مشوار ؟ هتروحي فين ؟
كانت تقف أمام مرآتها تعقد حجاب شعرها ذو اللون الكافيه الفاتح حول رأسها ، و الذي تناسب لونهُ مع لون  ثوبِها الذي يصل حتى أخمص قدميها ،أجابتها بنبرة غير مفهومة بسبب دبابيس الحجاب و قد وضعتهم بين شفتيها :
- معلش يا روڤي هرجع بسرعة
- عايزة شيبسي يا رهف
انتزعت احدى الدبابيس من شفتيها لتغرسها في حجاب رأسها و نظرت لانعكاس صورة الصغيرة بالمرآة و قد افترّ ثغرها بابتسامة باهتة ثم رددت :
- ماشي يا ستي ، ممكن تبطلي رغي بقى عشان بتعطليني !
فـ أوفضت نحو منضدة الزينة و تسلقت المِقعد حتى صعدت بصعوبة لتعتليه ، عقدت ساعديها أمام صدرها و هي تجيبها بتعند :
- لأ .. مش هبطل غير لما تقوليلي يارا زعلانة ليه !
فلم تجد سوى قول :
- اتخانقت هي و عمو جوزها
ارتفع حاجبيها و هي تقول متحمسة بطفولية:
- هي يارا بقى عندها جوز ؟
غرست آخر دبابيس حجابها ثم داعبت بطرف اصبعها أرنبة أنفها و هي تقول:
-  جوز!..أيوة يا أم لسانين ، ينفع تبطلي لماضة بقى
تغضن جبينها بعدم فهم :
- يعني إيه لماضة ؟
- يـــوه
قالتها و هي تسحب حقيبتها الصغيرة و علقتها على كتفها ، ثم خرجت من الغرفة و هي تقول :
- اتأخرت يا روڤي و الله
تبعتها كـ الصاروخ مُبتلعة الأرضية و هي تهتف بوداعة :
- طب ينفع أقعد مع يارا
سحبت جِهاز التحكم لتفتح التِلفاز ثم رددت رافضة :
- لأ يا روڤي .. انتي كده هتصحيها و احنا مش عايزنها تصحى !
تغضن جبينها و هي مُحدقة بالتلفاز و كأنها تتذكر شيئًا بعينه ، نظرت نحو ساعة الحائط لتشهق بصدمة ، انطلقت كـ الذريعة  نحوها لتختطف جِهاز التحكم و هي تردد بفزع:
- توم و جيري .. يا رب مش يكون خلص .. يا رب !
ارتفع حاجبيّ " رهيف" بدهشة و هي تتابعها و فور أن وجدت القناة شرعت تثب بمحلها عدة مرات :
- أوه..ييس .. ييس ، توم و جيري شغال .. ييس
ثم صعدت فوق الأريكة لتعتليها و جلست تضع جامّ تركيزها بـ مشاهدة تلك الرسُوم المتحركة ، حتى بدت لديها أنها تناستها و تناست " يارا" و تناست الجميع ، فـ رددت و هي تمضي نحوها :
- روڤي خدي بالك من نفسك ، ماشي
أومأت برأسها و هي تمط عنقها للجانب لتستكمل المتابعة و قد حجبت عنها " رهيف" الرؤية ، فـ تقوست شفتيّ " رهيف" و هي تتابع مستكملة النصائح:
- و لو يارا صحيت و سألت عليا قوليلها هتشتري حاجة و ترجع ، و تاخدي بالك من نفسك و لو حد خبط على الباب متعمليش صوت خالص ، كأن مفيش حد في البيت ، تمام ؟
وجدت أنها من الصعب عليها تركِها هكذا و قد شرع ذهنها يُصور لها العديد من السيناريوهات التي قد تحدث ، فـ تغضن جبينها و هي ترمقها بنظراتٍ حانية ثم مسحت برفقٍ على وجنتها :
- روڤي تعالي معايا أحسن
دفعت كفها عن وجنتها و هي تتمتم بامتعاض و كأنها لم تستمع إليها :
-" رهف أنا" عايزة تتفرج و انتي مدارية الشاشة ، حاسبي يا رهف
فـ زفرت و قد تهدل كتفيها ثم رددت :
- طب سمعتي أنا قولتلك إيه طيب ؟
فـ رددت بتذمر :
- ايوة ، حاسبي بقى
- حاضر يا لمضة
انتصبت لتُعلق الحقيبة على كتفها من جديد و هي تُلقى عليها نظراتٍ أخيرة ، ثم تنهدت بحرارةٍ و هي تخطو نحو الباب ، أدارت المِقبض و ولجت للخارج ، ثم أوصدت الباب من خلفِها ، توقفت قليلًا حتى تغرس المُفتاح بثقب الباب و أدارتهُ لتوصده به ، ثم انتزعته ، و دسته في الحقيبة ، كفّت عقلها إجباريًا عن التفكير بصعوبة أو مناقشةِ حالها فيما تنتوي فعله ، ثم برحت محلها و شرعت تهبط الدرجات .
........................................................................
ذلك الكمّ من الأخبار على مواقِع التواصل الاجتماعيّ لم تكن تتخيله ، كانت مستيقظة منذ البكُور فلم تحظَ بنوم سِوى ساعاتٍ قليلة لم تكفي لإراحة ذهنها ، تفاجئ الجميع بما تفتعلهُ .. حيث أنها جلست بـ حديقةِ القصر أسفل إحدى المِظلّات تحتمي من شمسٍ لم تسطع من الأساس ، طلبت مشروبها الدافئ ريثما يستيقظ زوجها ، و كأن ابنها ليس على فِراش الموت ، انحنت الخادمة قليلًا بـ جِذعها لتسند القدح على الطاولة أمامها ، ثم انتصبت و هي تضم كفيها معًا متمتمة بنبرة ثابتة :
- تؤمريني بحاجة تانية يا هانم ؟
فـ أجابتها متأففة، و بنبرة صارمة:
- لأ .. روحي انتي
أومأت برأسها و هي تنسحب عائدة نحو الداخل ، سلكت إحدى الممرات المؤدية للمطبخ ، و ما لبثت أن دلفت حتى استمعت إلى النِقاش الدائر:
- و لا كأن ابنها بيموت !
- واحدة معدومة الإحساس ، أنا مش فاهمة دي أم ازاي ؟
- و لا كمال بيه !
- ده فارس بيه يلي هو ابن عمه مرجعش البيت من امبارح و بايت معاه ، و عمه راجع نايم من بدري و لا كأنه ما صدق يخلص منه
- طب عمه و احنا عارفين إنه مش بيطيقه ..
- لكن أمه !
- خارجة تقعد في الحديقة ! هه .. دي شوية هتحتفل و ترقص
- ربنا يعافينا من النفوس المريضة دي !
- العيلة كلها مفيهاش فرد بيطيق التاني 
قرصتها الخادمة الأخرى و هي تقذفهم بالنظرات المُحذرة فصمت الجميع متفهمين إشارتها ، فـ كان " كمال" يقف على أعتاب المطبخ ، ارتفع حاجبه الأيسر و هو يدلف موزعًا النظرات ، تمكن بسهولة من إدراك أن الحديث كان مُنصبًا عليه حيث انخفضت الأصوات جميعًا فور رؤيته ، توتر الجميع فـ تولت إحدى الخادمات القول بصوتٍ مرتبك:
- مدام هدى في الجنينة يا كمال بيه ، تحب أديها خبر إن حضرتك صحيت؟
شملها بنظرات جامدة ثم مضى نحو البراد و فتحه ليخرج احدى زجاجات المياه أثناء قوله غير مكترث للرد على سؤالها:
- حضروا الفطار
و فتح الزجاجة ليتجرع منها ثم أغلقها و هو يعيدها ، التفت و هو يمرر النظرات متمتمًا بنبرة ذات مغزى:
- و بس!..تحضروا الفطار من غير كلام كتير
و بنبرة تهديدية أثناء اقتناص الارتباك الطاغي عليهن أردف:
- أحسن ما كل واحدة تلاقي اللي مش هيعجبها ، و أظنكوا شوفتوا اللي حصل لـ " سهير " امبارح!.. اللي عايزة تلحقها ، تكتر في الكلام!
تعالت الهمهمات الغير مفهومة فيما بينهن ، بينما كان قد أنهى ما لديه ، فـ صفع البراد بعنف و هو يحدجهن بنظراتٍ مستشاطة ثم ولج خارجًا .
............................................................................
تركت الكوب يسارًا أعلى الطاولة و عيناها متسعتان عن آخرهما ، و ما لبث أن تحول ذلك إلى ابتسامة خبيثة و بريق المكر فاض بمقلتيها ، حتى انتفضت على تلك القبلة التي تُركت أعلى كتفِها ، التفتت لتجده يحيط بكتفيها و هو يتمتم مبتهجًا:
- صباح النور
ارتفع حاجبها الأيسر استنكارًا و هي تتابع بشدوه ، بينما كان قد دار حولها ليسحب احدى المقاعد و اعتلاه بينما كانت تتمتم ساخرة:
- ايه الحنية دي كلها ؟
فـ فاجأها بكفه يتلمس خصلاتها الناعمة و هو يردف بنبرة رخيمة:
- هو لما أقول لمراتي صباح النور يبقى أجرمت و لا إيه؟
عقدت حاجبيها باستهجان وسريعًا ما تركت هاتفها جانبًا و هي تتلمس بأناملها جبهته أثناء قولها المهتم :
- انت تعبان و لا ايه يا كمال ؟
فـ كركر ضاحكًا اثر قولها ثم استطرد حديثه و الابتسامة لا تكاد تفارق شفتيه:
- لا تعبان و لا حاجة يا ستي
و غمز بطرفهِ و هو يتابع بمكر:
- بس مقولتليش .. ها؟ إيه رأيك؟
لم تحل عقدة حاجبيها و تركت جبنها مُجعدًا، ضيقت عينيها و هي تتمعن النظر لملامحه المبتهجة و هي تتمتم مستفسرة :
- رأيي في إيـه؟
بعينيهِ أشار لهاتفها الذي تركته أعلى الطاولة:
- في الأخبار اللي شوفتيها ؟ عجبتك؟.!
تلك المرة حلت حاجبيها لترفع أحدهما بينما نظراتها المستوضحة تطالبهُ بتفسير ، و بنبرة شبه محتدة قالت:
- كمـال.. ما تفهمني!
عاد بظهرهِ للخلف و هو يستند بساعده على الطاولة ، و احتل اللؤم حدقتيه و هو يقول بمكرٍ طاف حول ملامحه:
- تؤ!.. إيه يا هدهد؟ انتي كنتي فاكراني هسيب بنت حسين من غير ما أعمل معاها الواجب!
تغضن جبينها مجددًا و هي تتمتم بعدم فهم:
- انت مش على بعضك ليه يا كمال؟
و احتدت و هي تستطرد:
- مش دي البت اللي كنت هتموت عليها من كام يوم!.. إيه اللي جد؟
فسخر منها على الفور :
- و انتي صدقتي اني أزعل على بنت حسين مثلًا؟.. و لا أقولها تعالي في حضني و اعتبريني أبوكي التاني؟
فـ ضربت براحتها على سطح الطاولة و قد استبد الغضب بها و نطقت بلهجة ساخطة:
- أومال كنت عامل فيها الأب الحنون ليه لما قولتلك تتصرف!
و بثوانٍ قست ملامحه و هو يُملي عليها خِطته :
- عشان الباشا ابنك ممكن يكون حاططلنا واحدة من الخدامات تتصنت علينا!.. انتي و مفهوم انك بتكرهيها، انما أنا كان لازم عشان الخطة اللي كانت في دماغي.. كان لازم أحسسه إني بدأت أقتنع بوجودها!
رمشت بعينيها البارقتين ببريق الظفر أثناء قولها :
- خطة!.. خطة إيه؟
تجهم وجهه و امتعضت نبرته و هو يجيبها:
- خطة!.. ما راحت الخطة بسببه، لحق البت و كشفني
ثم تلمس عنقه بأطراف أنامله و هو يدمدم ساخطًا:
- كان هيخلص عليا !
فلم تمنع نفسها من الضحك الساخر فـ التهب وجهه بالحمرة المغتاظة و هو يشيعها بنظراتٍ كـ السهام ، سئم حين لم تتمكن من السيطرة على حالها فتعالى صوت كركرتها ، فـ شملها بازدراء قائلًا:
- هو ده اللي فالحة فيه!.. ماشي يا هدى
سيطرت على حالها و هي تتظاهر بأنها تكتم شِفاها بأطراف أناملها بينما كانت تقول بأسف مزيف:
- سوري يا كيمو!.. بس مش قادرة بصراحة
و عادت تنفجر ثانية فعنفها قائلًا و هو يضرب بكفهِ سطح الطاولة حتى ارتجف قدح القهوة :
- بس بقى!
ضمت شفتيها معًا محمحمة و قد أدركت أنها انسجمت فيما تفعل ، نفضت بأطراف أصابعها خصلاتها للخلف بينما كان يردد متشنجًا:
- المهم.. سيبك من اللي فات! مش كمال الصياد اللي يتعمل فيه كده ، أنا رديتله الضربة!
ضيقت عينيها و هي تتأمل ملامحه ، فتفهمت تعبيره بقصد آخر :
- قصدك ان انت اللي نشرت الكلام ده ؟
ازدرد ريقه بارتباك و قد أدرك أنه كاد يُقرّ بما فعل ، فـ أزاح التوتر عن نبرته بصعوبة و هو يقول بتوعد:
- أيوة.. أومال انتي فاكراني هسيبها!
سحبت هاتفها و فتحته لتمر بعينيها على تلك الشائعات مجددًا و تسائلت باهتمام:
- كل اللي اتقال مفهوم، لكن إيه حكاية المخزن دي؟
تغضن جبينه و هو يتطلع إليها بعدم فهم:
- مخزن؟.. مخزن إيـه؟
فـ بسطت كفها بالهاتف ثم :
- شوف بنفسك!.. انت مقرأتش الأخبار؟
لم يكن قد اكتشف ذلك ،حيث قد خلد إلى نومٍ هانئ عقبها مكتفٍ بما استمع إليه ، مرر نظراته على الكلمات فما لبث أن ارتفع حاجبيه بشدوه و هو يتمتم لاكمًا براحتهِ سطح الطاولة ثم أردف مذهولًا:
- عملها ابن يوسف!..عملها عشان بنت حسين!
....................................................................
كانت تحثّ الصعود للأعلى و كأنها تلتهم الدرجات الفاصلة ، فـ اخترق أذنيها ذلك الصوت الشرس القادم من الأعلى ، تجعّد  جبينها اثر تقطيبها و قد توقفت تلتقط أنفاسها اللاهثة و تنظر حيث الأعلى لتتفاجأ بأحدهم يهبط الدرجات و يتحدث بالهاتف معنفًا آخر ، استنكرت طريقتهِ العنيفة و كأنه يحادث عبادًا له و ليس بشرًا مثله ، لم تكترث لأمره كثيرًا و لم تُدقق النظر لملامحه ، و واصلت صعوها للأعلى و أثناء ذلك كان قد دنا منها و هو يتجرّع الدرجات للأسفل ، اعتقدت بسذاجتها أنه سيفسح لها الطريق و لكنهُ لم يكترث لها ، بل بدا أنه لم ينتبه إليها من الأساس ، فـ ارتطمت بجسدهِ العريض الذي سدّ المجال للمرور أمامها ، شهقت و قد كادت تسقط اثر اختلال توازنها فاجتذب مرفقها ليحافظ على توازنها و قد انحرفت نظراتهِ الشرسة إليها ، خجلت من تلك الوضعية و تشربت وجنتيها بحمرة الخجل و هي مخفضة لنظراته عنه باستحياء مبرر قبل أن تسحب مرفقها من قبضتهِ القوية و بنبرة هامسة تمتمت و كأنها من أخطأت:
- آسفة
فـ كانت الصدمة حين دفعها بعنفٍ من كتفها ليُفسح الطريق أمامه و هو يزأر بها و قد نفذ صبره:
- حاسبـي!
ارتفع حاجبها الأيسر استنكارًا ، بل و فغرت شفتيها من فرط صدمتها و هي ترفع نظراتها إليه لتتبين ملامحه فلم يمنحها نظرةً واحدة و هو يتابع الطريق للأسفل بينما يردد بجأر:
- يعني إيـه مش لاقيه ؟ راح فين يعني؟
فـ كان " فارس" يرد بينما يتجول بسيارته في الطرقات متنهدًا بحرارة:
- معرفش!.. معرفش اتزفت راح فين بعد الكلام اللي قاله
فـضرب بقبضتهِ الدرابزون بعنفٍ و هو يزأر بصوتٍ أفزعها:
- تلاقي ابن الـ×××× الإعلامي اللي نشر الكلام ده على مراتي ، و تلاقيلي الزفت ده لو تحت طقاطيق الأرض! فاهمني ، و لا هتستغبى ما انت ميُعتمدش عليك أصلًا!.. سايبهالك أمانة أرجع ألاقي حصل لها كده! أومال لو بقولك خلص عليها هتعمل فيها إيه!
- يا ابني اسمعني!.. البت حاولت تقتلك في المستشفى ، يعني هي مخططة لكل...
فقاطعهُ و قد التهب وجههُ و كأنه جذوة مشتعلة و هو يقاطعه :
- اخـرس يا ××× ، اقفل!.. اقفل بدل ما و رحمة أبويا هرتكب جناية النهاردة !
 و لم ينتظر ثوانٍ و كان يُنهي المكالمة و هو يسب بأقذع الألفاظ بينما كانت الأخيرة متيبسة بمحلها و هي تتابعه بأعين متسعة عن آخرها ، أجبرت ساقيها المتيبستين على الحراك لتهبط من خلفهِ هادرة بصوتٍ مرتفع تزامن مع سبهِ:
- يا أستاذ!.. لو سمحت استنى ، انت يا حضرت؟
فلم يكترث لها و هو يستكمل طريقه و قد صاحب الانفعال خطواته ، فـ هرولت من خلفهِ حتى كادت تتعثر و تسقط عن الدرج لأكثر من مرة ، اضطربت أنفاسها و هي توفض نحوه حتى بلغ المدخل فـ كاد يخرج منه لولا أن سدّت الطريق أمامه فلم يتوقف عن السير قبض بعنفٍ على عضدها و هو يبعدها عن طريقهِ آمرًا :
- غوري من وشي ، أنا مش ناقص!
فـ شحذتهُ قائلة بتوسل:
- يا أستاذ اسمعني لو سمحت ، مش حضرتك يامن الصياد؟
دفعها للخلف ليتمكن من المرور و لسانهِ لا يكف عن اللعن ، كادت قدماهُ أن تطأ المدخل لولا أن استوقفهُ صوتها الهادر باسمها فـ جعل قدماهُ تتيبّسان تلقائيًا:
- أنا أعرف مكان يارا مراتك!
............................................................................

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن