"الفصل التاسع و الثلاثون"

659 12 1
                                    

"الفصل التاسع و الثلاثُون"
"لا تتعجل باتخاذ القرار، فـ قرارك.. سـ تُشيد عليهِ حياتك"
گانت تسير من خلفهِ فاقدة للحياة، خاصة عقب ذلك الوداع الجاف من عمها، و كأنهُ كان سيفعل بالفعل، و كأنهُ كان سيطردها من منزلهِ في أي دقيقة، للحظة حمدت الله في نفسها أنها أدركت في الوقت المناسب، كي لا يُخدش كبريائها أكثر من ذلك.
استقلت السيارة في المقعد المجاور له و أجلست "رهف" الغافية على قدميها، ضمتها إلى صدرها و كأنها تستمد منها القوة التي ستحتاجها قطعًا بالأيام القادمة عقب قرارها الخاطئ الذي اتخذتهُ بلحظة هوجاء، انتبهت إليه حين قال لها مغضنًا جبينه و هو يحرف نظراته بينها و بين شقيقتها، و يعرضُ عليها:
- هاتيها يا رهيف، أنيمها ورا
هزت رأسها نفيًا و هي تضمها أكثر إليها، ثم أشاحت بأنظارها المُكفهرة عنه و هي ترفض ذلك:
- لأ، سيبها في حضني
فـ حذرها قائلًا:
- الطريق طويل يا رهيف، هتتعبي
أطبقت جفنيها وهنًا و لم تجبهُ، في حين لِسان حالها يقول:
- أنا تعبت خلاص، مش لسه هتعب
تنهد "راشد" بحرارة ثم زمّ شفتيه و هو يدير المحرك حين لم يجد منها ردًا شافيًا، و اقتاد سيارتهِ مخلفًا كومة من الغبار.
...........................................................
التفت گالملسُوع إثر صوتها الذي يحفظه عن ظهر قلب، فقد كانت تقف على أعتاب المطبخ بجوار الباب، و قد بدا التوجس على صفحة وجهها، ارتخت قبضتهِ عن "سهير" و هو يرمق "هُدى" بازدراء، ثم مضى منتويًا الخروج مارًا من جوارها، غير عابئًا بها، و دون أن يعيرها اهتمامًا، و لكنها توقفت امامه برشاقة فسدت الطريق عليه و هي تسحب كفهُ إليها متوسلة إياهُ:
- كفاية بقى يا يامن، كفاية قسوة عليا، ده.. ده أنا مشوفتكش يمكن من شهر، و عايز تمشي من غير ما تشوفني
تقوست شفتيه بسخرية جافة و هو يجتذب كفهُ منها أثناء قولهِ المستهجن:
- و إيه الجديد؟ ما أنا كنت بقعد شهور مبتشوفيش خلقتي؟
احتضنت وجهه بين كفيها و هي ترمقه بنظرات واجمة كئيبة تشبعت بالرجاء و هي تهتف:
- يـ..يامن!.. أرجوك، أرجوك طلعه يا يامن
و أحنت بصرها عنه لتهتف باختناق و قد غصّ صدرها:
- أنا.. عارفة إنك.. مش طايقه خصوصًا لما عرفت إآ...
نفض كفيه عنها بقسوة و قد كشّر عن أنيابهِ بينما يقاطعها بلهجة قاتمة:
- حاسبي
دفها برفقٍ نوعًا ما من كتفها ليزيحها عن طريقه و مضى غير مكترثٍ لها، ارتفعت عيناها الدامعة لـ "سهير" التي هزت رأسها استنكارًا لما تفعل، ثم ما لبثت أن هرولت من خلفهِ لتتبعه، حتى وصلت إليه فباتت على بعد خطوة منه محاولة مجاراة خطواتهِ الواسعة، امتد كفها لتقبض برفقٍ على عضدهِ المعضل و هي تقول بقهر:
- اسمعني يا يامن أرجوك، اسمعني، أنا.. هعمل أي حاجة انت عايزها، أي حاجة تطلبها مني هعملها، بس تطلعه
تكورت قبضتهِ مشددًا على أصابعه حتى ابيضت مفاصله بينما يستكمل سيره غير مكترث لها، حتى خطت لتقف أمامه فكاد يدفها عن طريقه و هو يجأر بها:
- ابعـ....
ابتلع كلماتهِ حين سحبت كفه و قد تعالت شهقاتها بينما تقول:
- أبوس إيدك.. أبوس إيدك طلعه يا يامن!
اجتذب كفه من قبضته و هو يزجرها بلهجة عنيفة:
- بتعملي إيه؟ اتجننتي؟!
فدنت منهُ أكثر لتقف على أطراف أقدامها مطوقة عنقه بذراعيها و هي تدفن رأسها في كتفهِ لتنتحب بأنين مسموع، مغمغمة بمرارة من بين شهقاتها:
- مش قادرة.. مش قادرة أعيش من غيره، أنا هتـ..هتجنن في بعده
احتقن وجهه بالدماء المتقدة و قد برزت عروق جانبي رأسه و هو يُطبق على أسنانه  حتى اهتزت عضلات صدغيهِ، في حين كانت تستطرد:
- أنا.. وحيدة في البيت ده لوحدي، كلكم سيبتوني، حتى عمر سابني، كلكم سيبتوني
و دفنت وجهها أكثر في تجويف عنقهِ فأغرقتهُ بدموعها الحارقة و هي تقول من بين نشيجها:
- رجعـ..ـهولي يا يامن، مش عارفة أعيش من غيره
شعرو كأن بركانهِ على وشك أن يثور في أي لحظة فيُطيح بحميمهِ ما حوله من الأخضر و اليابس، كلمة واحدة مُحذرة لفظها من بين أسنانه المُلتصقة:
- كفايـة
و لكنها لم تكتفِ.. حيث راحت تردد من بين شهقاتها:
- أنا ممكن أموت من غيره، ممكن أموت لو عيشت من غيره أكتر من كده
اجتذبها بعنفٍ من مرفقها ليبعدها عنهُ بينما يجأر و قد كشّر عن أنيابهِ:
- كفايـة، كفايـــة، ابعدي عني
نزحت دموعها و هي تصرخ به بهستيرية:
- أنا حملتك في بطني 9 شهور،أنا غذيتك على حبي ليك فيهم، أنا.. أنا اللي اتحملت عيشة أبوك عشان خاطرك، استحملت 11 سنة معاه عشانك انت بس!، اتحملت كل حاجة عشانك، و في الآخر جاي ببساطة تحاسبني!
شملها بازدراء فاضت بهِ نظراته، دنا منها مقلصًا المسافات بينهما و هو يناظرها بعينيهِ المتوهجتين ليقول بلهجة حالكة:
- ما تطلعي من الفيلم الأبيض و اسود اللي انتي عايشة فيه ده، مش لايق عليكي دور الأم اللي ضحت عشان إبنها! اللعب بقى على المكشوف يا هدى، فوقي بقى
و منحها نظرة أخيرة قاتمة، ثم مر من جوارها حتى تيبست قدماه تمامًا حين التفتت إليه لتقول بلهجة قويّة ذات مغزى و قد التهبت أنظارها:
- يبقى صح.. اللي كمال قاله كان صح!
تقلصت المسافة بين حاجبيهِ دون أن يلتفت، فكانت تدنو منهُ بينما تقول متعمدة سكب البنزين فوق  نيرانهِ المُضطرمة:
- كمال قالي.. لكن أنا مصدقتش، قالي البت وقعت إبنك، قولتلهُ استحالة
و عقدت ساعديها و هي تقف أمامه مباشرة لترفع ذقنها أثناء قولها:
- فضلت أربيك السنين دي كلها.. استحملت قساوتك معايا، عشان في الآخر تقع في حب بنت حبيبة
فارت الدماء بعروقهِ، فلم يشعر بنفسهِ سوى و هو يقبض على مرفقها ساحبًا جسدها إليه و هو يجأر بزمجرة عنيفة:
- حب مين اللي بتتكلمي عنه يا هدى!
غرست نظراتها المحتدة في عينيه و هي تقول بإيماءة متشنجة:
- أيوة.. أيوة حبيتها
 و رفعت كفها لتضرب بعنفٍ براحتها على موضع قلبه و هي تقول بلهجة محتدمة:
- القلب اللي قفلته من سنين اتفتح عشان بنت حبيبة!، متنكرش ده
و تقوست شفتيها ازدراءً و هي ترمقه بنظرة هازئة:
- خلاص بقى واضح اوي
و تعمدت أن تنقر بسبابتها على موضع قلبهِ عدة مرات و هي تسطرد:
- اللي سيبتها تطعنك و منتقمتش منها و دفعتها تمن غلطها غالي.. تبقى مش بس وقعت في حبها، ده انت بقيت زي الخاتم في صباعها تحركك زي ما هي عايزة
- كفايـــــة!
صرخة مشبعة بغضبهِ المكبوت عنها بـ شِقّ الأنفُس خرجت منه گالرعد الهادر، وجههُ صار و كأنهُ كتلة من النيران المتأججة، و خُضرة عينيهِ التهمتها النيران متغذية عليهما، حدجها بنظرة ناريّة مميتة، قبل أن ينفض كفه عنها دافعًا لها فارتد جسدها للخلف، و سار منتويًا الخروج قبل أن يفقد آخر ذرات تعقّلهِ، كل خطوة يخطوها تتردد فيها كلماتها ممزوجة مع صياحها الذي لم يتوقف:
- ليه كفاية؟ عشاني بقول الحقيقة اللي بتنكرها، البت دي غيرتك يا يامن، غيرتك، ضيعت سنين تربيتي، ضيعت تعبي فيك، خليتك عبد ليها، يامن الصياد اللي الكل بيخاف من اسمه بس بقى عبد، مجرد عبد لبنت قاتل أبوه!
لا يعلم كم دفع في طريق خروجه و كمّ الشظايا الذي تناثر هنا و هناك حتى تمكن و أخيرًا من الولوج خارجًا و نيرانهِ تكاد تلتهم أحشائهِ من فرط احتدامها.
.......................................................
كانت عقارب الساعة تدق الثانية عشر.. حينما كان المكان يعجّ بالضوضاء و الأغاني الأجنبيّة الحماسية الممزوجة مع الهتافات من الثنائيّات الراقصة التي اكتظ بهم مسرح الرقص، بينما هي تتابع ما يجري بأعين مستمعة مرتشفة آخر رشفة من كوب شرابها، ثم وضعتهُ على الباب لتقول للنادل:
- كمان واحد يا جيمي بليز
 كانت "ولاء" تتابعها و قد شعرت بالارتياب، بسطت كفها لتتناول هاتفها، ثم نظرت في شاشته و قد بدأ القلق يخترق صفحة وجهها فبدا جليّا للعيان، رمشت عدة مرات و قد شعرت و كأن أذنها تؤلمها من فرط ارتفاع الأصوات، ارتفعت أعينها عن الهاتف حين مرّ ذلك الوقح من جوارها و هو يمنحها غمزة بطرفهِ، ازدردت ريقها و هي تحيد بأنظارها عنه، حتى أن جسدها سرى بهِ قشعريرة إثر خوفها الذي حطّ على قلبها، و ما فاقم من ارتعادها حين توقف أمامهما، و هو يشمل جسدها بنظراته لجريئة، و كأنها سلعة رخيصة لا ثمن لها، ثم ارتفعت أنظارهِ إلى صديقتها التي هللت مرحبة به:
- دومي.. انت هنا أخيرًا
فوجه أنظاره مجددًا لصديقتها و هو يقول مشيرًا لـ "ولاء" بنبرة لا تخلو من الخُبث:
- أهلًا دودي.. مش تعرفينا؟
فـ أومأت عدة مرات و هي تهتف مشيرة إليها:
- ولاء صاحبتي الجديدة، أدهم الحناوي يا لولي
امتد كفهُ إليها ينتظر مصافحتها لهُ:
- أهلًا بيكي
رمشت عدة مرات و هي تضم جسدها بذراعيها بينما تحرف نظراتها المتوجسة بين عينيهِ و كفه، اصطكت أسنانها خوفًا، و لكنها بالنهاية حسمت أمرها، فامتد كفها لتصافحهُ و هي تغمغم:
- أهلًا
و كادت تسحبه و لكنهُ أطبق على أناملها بكفهِ الخشن، ابتلعت لعابها و هي ترفع نظراتها إليه، فافرّ ثغره عن ابتسامة ذات مغزى، ثم أفلت كفها بالنهاية، حادت بأبصارها عنه حين أردفت "وداد" و هي تقدم إليها كأسًا:
- لولي بليز بقى اشربي، بليــز!
هزت "ولاء" رأسها نفيًا و هي تقول:
- لأ،.. أنا، عمري ما جربت الحاجات دي!
ارتفع حاجبي "أدهم" عاليًا و هو يتابعها، ثم عقد ساعديه أمام صدره و هو يقول باستنكار:
- أكيد بتهزري، عمرك ما شربتي؟
فأجابته باقتضاب و هي تنظر نحوه من طرف عين:
- لأ
تغضن جبين "وداد" و قد عبست:
- لولي، بجد إنتي لو مشربتيش ده.. أنا هزعل منك
تسلطت أنظار "ولاء" على الكوب و قد تقوست شفتيها، فحثّها "أدهم" بقولهِ دون أن يدري حتى:
- ده انتي شكلك مالكيش في حاجة خالص
 و وجه أنظاره نحو "وداد" و هو يقول ساخرًا:
- صاحبتك دي شكلها بريئة أوي، جايباها هنا تعمل إيه!
استشاطت غيظًا من استهوانهِ بها، فناظرته بتحدي و هي تقول و قد أصابها الحنق من ذلك الشعور:
- على فكرة عادي، أنا مش ضعيفة و لا حاجة!، و هشربها، أوكي؟
 و سحبت الكوب، و شرعت ترتشف منهُ أول رشفة حتى شعرت بتلك القبضة التي دفعت كوبها فسقط متهشمًا، و تلك المحرمة الورقية التي كممت فاهها و بصوتهِ المحتدم الآمر الذي هدر بها:
- تُفي اللي شربتيه
رغمًا عنها بصقت ما بفمها، ليس امتثالًا لأمرهِ، و لكن لشعورها بصعوبة في الابتلاع و قد شعرت بذلك الطعم اللاذع على لسانها، أبعد "فارس" المحرمة الورقيّة عن شفتيها و ألقاها بلا اكتراث على الأرضية، ارتفعت أنظارها الحانقة إليه فبادلها نظراتٍ مشمئزة، شملها بازدراء تجلى على ملامحه، ثم خلع عنهُ سترتهِ الرمادية و تركها أعلى كتفيها العاريين، تحت أنظار "وداد" المذهولة و هي تقول:
- لولي، who is this?
لم تنحرف نظرات "فارس" نحو المتحدثة، فقط اكتفى بسكب شرر عينيهِ بين حدقتيها، ثم سحب مرفقها قابضًا عليه بقوة و هو يهمّ بالتحرك بها:
- امشي
و استدار بها لولا ذلك الكف الذي لكز كتفه و هو يقول متعمدًا التحقير من شأنهِ:
- تمشي على فين يا كابتن،.. انت مين أصلًا؟
تيبست قدماه بالأرضيّة و هو يلتفت ليحدجه بأنظاره القاتمة، قبل أن يقول مكشرًا عن أنيابهِ:
- خطيبها!
و سحبها معهُ محاوطًا جسدها محاولًا إبعادها عن تلك الأجساد المترنحة.
.......................................................
حالتهُ إينذاك لم تكن توصَف.. حتى أنهُ  لم يعلم كم ظل يدور في الطرقات بسيارتهِ قبل أن يختار العودة متغاضيًا عن السبب الرئيسي الذي أتى بهِ إلى القاهرة، فحالتهِ تلك لم تكن لتسمح له بأي شئ، نيران.. فقط نيرانًا تتأجج بصدره و كلماتها المستفزة لأقصى حد تتردد على أذنيهِ و كأنها وليدة اللحظة، عروق جانبيّ رأسه بارزة، و أسنانهِ المطبقة تهتز إثرها عضلات صدغيهِ، و هو يتذكر ما عايشهُ برفقتها خلال تلك الأسابيع الماضية، شعر و كأنه أحمقًا.. يُلبي طلباتها، يعتني بها، يحاول جاهدًا استرداد حقها، يحميها، ما هذا حقًا؟.. كيف تمكنت تلك "الغبية" من أن تعبث بهِ بتلك الطريقة؟، كيف انصاع هو خلفها تاركًا السبب الرئيسيّ للعلاقة بينهما، اشتدت قبضتيهِ على المقود دون شعور منه و تقلصت أصابعه عليهِ، و هو يشدد أكثر على عضلات فكيه، و گأن بداخلهِ بركانًا يُهدد بالإنفجار الوشيك في أي لحظة، فراح يدمدم من بين أسنانه المُطبقة:
- مش يامن الصيّاد اللي واحدة تلعب بيه!، اللعبة دي هتخلص،.. لكن في الوقت اللي أحدده!
......................................................
- أيوة يا مدام حبيبة،.. لأ، معايا، متقلقيش هي كويسة، في المستشفى، أه.. تعبت شوية امبارح و اتنقلت هناك، حاضر يا مدام حبيبة، احنا في الطريق
 و أنهى المكالمة و هو يصفّ سيارته أمام إحدى محال الملابس الشهيرة، رمقها من زاوية عينها و هو يقول بلهجة آمرة:
- انزلي
فأجابته بتعند:
- مش نازلة
نظر نحوها نظرة حامية و هو يقول مهتاجًا:
- انتي ليكي عين تبجحي؟ اتنيلي انزلي
التفتت نحوه لتهدر باستهجان:
- ازاي تقول حاجة زي دي؟ ازاي تدعي إنك خطيبي
 فناطحها الرأس بالرأس و:
- و انتي ازاي تروحي ديسكو؟، ازاي تشربي خمرة يا هانم؟، و أمك الغلبانة اللي بتدور عليكي من امبارح دي مهمتكيش!، تولع تفطس عادي؟
عقدت ساعديها أمام صدرها و هي تلتفت لتنظر من خلال الزجاج الأمامي أثناء قولها البارد:
- أنا حُـرة، أعمل اللي عايزاه، و بعدين إيه يعني دخلت ديسكو؟ ما البنات كلها بتروحه!
فهدر بها:
- لأ ده الـ****** بس اللي بيروحوه!
توسعت عيناها غيظًا و هي تلتفت نحوه لتحدجه باستهجان، ثم صرخت في وجههِ:
- متحاولش تقنعني إنك عمرك ما دخلت ديسكو أو شربت، و لا عشانك راجل يبقى تعمل ما بدالك!
لم يكترث "فارس" لقولها، بل جأر بها و هو يرمقها بنظرة محتدمة:
- و يا ترى بقى كنتي بايتة فين امبارح؟
حادت بأنظارها عنه لتردد بامتعاض:
- و الله دي حياتي الشخصية، مسمحلكش تتدخل فيها أصلًا!
حذرها بلهجة قاتمة:
- بت انتي.. انطقي متخلينيش أتغابى عليكي، أنا لو مسكتك و رب العزة ما سايب فيكي حتة سليمة!
رمشت عدة مرات غير مستوعبة و هي تلتفت نحوه لتحدجه بنظرات ناقمة أثناء قولها المحتد:
- نعـم يا بابا!، مين دي اللي تتغابي عليها، انت فاكر نفسك ولي أمري!
التوت شفتيه بينما يقول بلهجة مزدرية:
- أنا مش عارف جايبة عين تتكلمي منين؟
هزت ساقها انفعالًا و هي تعقد ساعديها أمام صدرها مجددًا لتقول بلا اكتراث:
- و الله أنا قولتلك، دي حياتي و أنا حرة فيها، أعيشها بالشكل اللي عايزاه، و أروح المكان اللي عايزاه، لا إنت.. و لا أي حد يقدر يحاسبني!
لكزها بعنفٍ في كتفها و هو يهدر قبل أن يترجل:
- انزلي.. انزلي لأني لو سمعت منك كلمة تانية مش عارف ممكن أعمل إيـه، إنزلــي!
و لم ينتظر ردًا منها، حيث صفق الباب، و دار حول السيارة ليفتح بابها، و سحبها بعنفٍ ليجبرها على الترجل، ثم صفق بابها صفقة عنيفة، و سار و هي تعصف من خلفه يمينًا و يسارًا غير مباليًا باحتجاجها و محاولاتها الجمّة للفكاك منه:
- إنت أساسًا إنسان همجي و غبي، حاسب سيب إيدي، مين إداك الحق إنك تعمل كده، و عرفت مكاني إزاي بقى؟ إنت بتراقبني؟، سيب إيدي يا غبي، حاســب!
هو بالأصل كان يعلم منذ رآها للمرة الأخيرة أن تلك الهوجاء تخفي شيئًا حتمًا، فوضع خلفها رجلًا من رجالهِ يتابعها أينما تذهب، منذ أن وصلهُ مكالمة والدتها.. فـ تمكن بيُسر بالغ من الوصول إليها.
..............................................................
كان استقبال جدتها لها جافّا للغاية، حتى بعدما أعلنت موافقتها، و كذلك خالها الذي لم يكن راضيًا عن تلك الزيجة، لم تُستقبل بحفاوة سوى من قبل والدتها، حتى تمكنت من الإنفراد بها في إحدى الغرف التي ستُجهز لها، حينها فقط راحت تؤنبها:
- إزاي وافقتي يا رهيف؟ ده أنا خلاص كنت قولت لجدتك إنك مش هتوافقي، كنت هحاول معاها تاني!
تركت "رهيف" جسدها يتراخى على الأريكة  بعدما تركت شقيقتها الصغيرة في فراشها، و هي تنظر نحوها من طرف عينها، ثم تشدقت:
- انتي محاولتيش أولاني أصلًا يا ماما، عشان تحاولي تاني
تغضن جبين "سعاد" و هي تنظر نحوها بعتاب:
- إيه اللي بتقوليه ده يا رهيف؟ انتي متعرفيش أنا عملتك إيه عشان أحاول أوقف الجوازة دي، لكن..
تنهد "رهيف" بحرارة ثم قاطعتها بوهن و هي تنهض عن جلستها لتدنو من فراشها:
- أنا تعبانة يا ماما، لو سمحتي سيبيني أرتاح
و راحت تندس بجسدها أسفل الأغطية تتابعها نظرات والدتها القانطة، ثم قالت محاولة الدفاع عن ذاتها:
- يا رهيف أنا..
ضمّت "رهيف" جسد شقيقتها إليها لتدفن رأسها في خصلاتها الشقراء الناعمة أثناء قولها الهادئ:
- بليز يا ماما سيبيني، مش قادرة اتكلم في أي حاجة، المشوار كان طويل، و أنا تعبت
تركت "سُعاد" زفيرًا حارًا من صدرها، ثم مسحت على خصلاتها الحرة برفق و هي تقول:
- حاضر يا حبيبتي، حاولي ترتاحي
 و تركتها.. و لكنها لم تكن تتمنى أن تفعل، أرادتها أن تعارض رغبتها الظاهرة، تمنت لو أدركت كلماتها العميقة.. لا السطحيّ منها، و فور أن استمعت لإغلاق الباب وجدت نفسها تنجرف في نوبة حارة من البكاء، حتى بللت دموعها الحارقة عنق أختها و خصلاتها، فراحت تتململ في نومتها لتضمها إليها.. و كأنها ستشعر مدى معاناتها.
..........................................................
و گأن روحها رُدت إليها بعد غياب.. ضمتها و هي تشتم عبقها المميز و قد أغرقت دموعها عنق ابنتها و خصلاتها المنسدلة، و هي تُرحب بعودتها، و تعرب لها عن مدى خوفها و اشتياقها إليها، لم تنتبه إلى تأففها حتى.. فكل ما صبّت تركيزها عليه هو عودتها سالمة بعد غيابها، حتى تركتها "ولاء" بملابسها المحتشمة التي اختارها "فارس" رغمًا عنها، و أجبرها أن تبدلها في المحل، تابعها "فارس" بأنظارهِ حتى اختفت خلف باب غرفتها الذي صفقته، انتبه إلى والدتها التي قالت و هي تنزح دموعها:
- معلش يا ابني اعذرني، سايباك على الباب، اتفضل
أشار بكفهِ و هو يقول بلهجة جادة:
- مالوش لزوم يا مدام حبيبة
تقوست شفتيها شجنًا و هي تمسح برفقٍ على كتفهِ قائلة بامتنان:
- مش عارفة أشكرك ازاي يا ابني، رغم كل حاجة انت لسه بتساعدنا، مش عارفة من غيرك كنت عملت إيه!
زم شفتيه ثم قال بلهجة حانقة و أنظاره تتجه نحو الباب الموصد:
- أنا معملتش حاجة يا مدام حبيبة، خدى بس بالك من بنتك
و بدت نبرتهِ عميقة و هو يستطرد بتنهيدة مطولة:
- أصلها تعبانة أوي
فتعاطفت "حبيبة" للغاية معها و قد شعرت بقلبها يُعتصر في صدرها من اتهامها الباطل لها:
- يا حبة عيني، و أنا اللي كنت فاكراها مع صاحبتها، تطلع متبهدلة كده، و أنا مكنتش جمبها
أجفل "فارس" نظراتهِ الغامضة نحوها و هو يطرد زفيرًا حارًا من صدرهِ ثم قال باقتضاب:
- عن إذنك يا مدام حبيبة
فعرضت عليهِ بلهفة
- أوام كده يا ابني، طب استنى اشر..
قاطعها بصوت خشن:
- مالوش لزوم، مع السلامة
و منح بابها نظرة أخيرة غامضة، قبل أن يستدير منصرفًا قبل حتى أن يستمع لردها، و برأسهِ تُعصف مئات الأفكار.
.............................................................
كانت تقف بنفس المكان، و كأنها ودّت أن يكون هُنا اللقاء بعد فراق لم يدُم طويـلًا، و لكنها شعرت بكل ثانية تمضي كدهرٍ يقتنص من عُمرها دون أن تدري، لا بضع ساعاتٍ فقط.
 تمسك بمرشة المياه، و تسقى الزهور التي شعرت بها تنتمي إليها بشكلٍ أو بآخر، و شعرت بالمسؤولية تجاهها رغم عودة البستانيّ المسؤول عن الحديقة، و لكنها استأذنتهُ لتروي هي تلك الزهور تحديدًا، تنهدت بحرارة و هي تتركها جانبًا، ثم راحت تتلمس الخطوط الضئيلة للغاية التي تشبعت بها ورقاتها الخضراء المحيطة للوريقات التي ستُزهر فيما بعد، حتى اخترقت حاسة الشمّ لديها عبقه المصاحب لتواجده، تغضن جبينها و قد شعرت بدقات قلبها تدوي في أذنيها، التفتت لتبحث عنه فلم تجده، هُنا و هناك.. كالمجنونة،  و خفقات قلبها تتعالى أكثر، اندفع الادرنالين في عروقها، فراحت قدامها تسوقانِها إليه، تُنقب عنه في كل بقعة من حولها، و لكنها لم تعثر عليه بعد، حتى دلفت للقصر، تقابلت في طريقها مع العجوز فسألتهُ بينما تتلفت حولها:
- هو يامن جه يا أحدب؟
تجعد جبينه إثر تقطيبه و قد التوى ثغره ببسمة صغيرة مكررًا كلمتها:
- أحـدب!
انتبهت توًا لقولها، فتسلطت أنظارها عليه و قد توهجت وجنتيها خجلًا و هي تعتذر منه:
- أنا آسفة.. مقصدش
أشاح بكفه و هو يقول ببشاشة:
- ده أحسن لقب بسمعه يا بنتي، و لا يهمك
فسألتهُ بتلهف و هي تزدري ريقها:
- هو يامن مجاش؟
أشار بكفهِ للدرجات و هو يقول:
- جه يا بنتي، لسه طالع أوضته حالًا!
توسعت عيناها و قد اغتاظت قليلًا:
- جـه!، امتى؟
- ما أنا بقولك، لسه داخل حالًا
عضّت شفتها السفلى بحنق، ثم أردفت و هي تبتعد عنه:
- شكرًا يا عم منصور
و راحت ترتقي الدرجات و قد شعرت بالحنق لدى تجاهلهُ إياها عكس الأسابيع الماضية التي أمضتها برفقتهِ، حتى بلغت غرفتهِ، فلم تتردد و هي تفتح بابها مباشرة، عقدت حاجبيها سويّا و هي تبحث عنهُ في أرجائها، و لكنها لم تجده، فأوصدت الباب بهدوء، و سارت نحو باب المرحاض، حتى استمعت إلى هديل المياه فتفهمت أنهُ يستحمّ، ابتعدت عن الباب و راحت تتجول في غرفتهِ ريثما يخرج، تلك الغرفة تجزم أنها أضخم الغرف بذلك القصر، الفراش الوثير الذي يتوسط إحدى الحوائط على جانبيهِ اثنين من الكومود، و مقابلًا لها أريكة ذات ملمس ناعم مُزركشة من اللون الأزرق الأنيق المختلط بالأبيض و الذي يتناسب مع لون الأثاث، بيد أنهُ لم يأتي هنا منذ مُدة، فاللون السائد ليس الأسود كما اعتادت، و ليس كباقي غرفهِ، يمينًا الشرفة الواسعة التي تتطاير الستائر الزرقاء القاتمة من فوقها، و على جانبًا آخر منضدة الزينة ذات التصميم الغريب قليلًا و التي تحمل فوقها الكثير من العطور المختلفة و كريمات الشعر و كل ذو ماركاتٍ عالمية، و الخزانة التي لم تبدُ كبيرة للغاية تناسبًا مع حجم الغرفة.
 التفتت يسارًا حيث ذلك الباب الموصد، و راحت تخطو نحوهُ، و فتحته و دلفت، فتبينت لها غرفة تبديل الملابس، مضت للداخل و هي تتلفت حولها، فكانت الشماعات التي تحمل ملابسه التي اكتظت بها الغرفة، و بجوارها رفوفًا خاصة بأحذيتهِ ، و أعلاها رفوف ساعاتهِ الثمينة، و رفوف أخرى لنظاراتهِ الشمسيّة، و على الجانب الآخر مرآة عريضة اتخذت عرض الحائط بأكملهِ، مضت فقط نحو إحدى رفوف الساعات، و بسطت كفها و قد برقت إحداهن في عينيها، فتلمستها بأيدٍ مستكشفة، ثم تركتها في جيب بنطالها الجينز الأنيق ذو اللون البنفسجيّ الفاتح "لاڤندر"، و قد ارتدت أعلاهُ كنزة صوفيّة بيضاء اللون تصل أكمامها حتى رسغيها، ذات فتحة صدر دائريّة ضيقة أبرزت بالكاد عظمتيّ الترقوة.
 مضت "يارا" لتترك تلك الغرفة و قد شعرت و كأنها تأخرت قليلًا هنا، و أوصدت بابها الجرار من خلفها، و راحت تجلس على طرف فراشه بأريحية، نظرت يسارًا لتجد سترته التي خلعها و ألقاها هنا بإهمال، تغضن جبينها و هي تسحبها إليها و قد ضيّقت عينيها حين لمحت شيئًا ما، و ما لبثت أن توسعت عيناها غيظًا و قد شعرت بدمائها تغلي في عروقها، أطبقت أسنانها و هي تتلمس تلك الخُصلة الشقراء و كأنها تود إشعالها، ألقت سترتهِ جانبًا و راحت تحدق بأعين ملتهبة فيما وجدت، و من بين أسنانها المطبقة كانت تغمغم:
- بقى كدا! هو دا السبب اللي نزلت عشانه؟
و نهضت عن فراشه و هي تهتف منادية عليهِ بلهجة محتدمة:
- يــامن!
 نظراتها تتبعت ذلك الوميض الذي صاحب إضاءة شاشة هاتفهِ الموضوع أعلى منضدة الزينة، فتحركت بخطى متشنجة نحوه و قد فَطِنت أنها رسالة مبعوثة إليه، و لم يخطر ببالها إلا كونها رسالة من تلك المرأة التي كان بأحضانها، سحبت الهاتف بحركة عنيفة و هي تحدق في شاشتهِ، لم ترتخِ ملامحها و هي تقرأ أجزاء من الرسائل من الخارج دون أن تتمكن من فتحها:
- "رد عليا يا يامن أرجوك، أرجوك، أنا محتاجك.. محتاجك أوي، رد عليا اشتمني زعقلي، بس سمعني صـ..."
-"يامن.. أنا طول عمري عيشت يتيم الأب، لكن محسيتش باليُتم ده غير..."
-" أرجوك يا يامن، و حياة أغلى حاجة عندك ترد عليا"
-" لو عايزني أكلمها أعتذرلها هعمل ده، لو عايزني أبوس إيديها عشـ.."
-" طب أعمل إيه عشان ترضى عني"
-" أنا كنت فاكر هعرف أعيش من غيرك، لكن طلعت مغفل"
-" يامن.. مش هترد بقى"
- " طب لو مرديتش مش هبطل.. هقرفك من هنا للسنة الجاية، اعملي بلوك حتى هجيلك بردو"
- "يامن!"
- " طب.. هحكيلك، أنا النهاردة يومي كان........."
و كادت تمر بعينيها على باقي الرسائل و لكن الهاتف اختُطف من كفها، ارتفعت أنظارها و قد اشتمت رائحة سائل الاستحمام المنعشة و قد تعبقت بها الغرفة، فكان يرتدي فقط بنطالهِ، حتى أنه لم يكترث لتجفيف صدره العاري و خصلاتهِ، فكانت المياه تقطر منهما، بينما ملامحهِ الممتعضة تكاد تنبأها بأنها فعلت كارثة أو ارتكبت جرمًا، أعينه الملتهبة تسلطت عليها أثناء جأرهِ:
- بتهببي إيــه؟.. ازاي تمسكي موبايلي؟
و لكنها لم تكترث، ارتفع ذقنها و هي تناظره باحتداد عاقدة ساعديها، أشارت بعينيها للهاتف و هي تقول بلهجة قوية:
- مبتردش على أخوك ليه؟
- و انتي مالك؟
تطلعت إليه باستهجان جلي، ثم حلت ساعديها لتقف بوضعٍ متأهب و هي تقول بانفعال:
- انت قرأت رسايل أخوك اللي تقطع القلب؟ و لا حتى مهتمتش تعرف حاجة عنه؟
امتد كفهُ الغليظ لمرفقها ليقبض عليه مجتذبًا جسدها إليه و هو يهدر بلهجة حاسمة مشتعلة:
- آخر مرة تلمسي حاجتي، انتي فاهمة؟
كزّت على أسنانها و هي تحرف نظراتها المتوهجة بين عينيهِ، شعرت و كأن تلك المرأة كانت سببًا بتغيّره الجذري ذاك، فما زادها ذلك إلا عنادًا:
- لأ.. مش فاهمة
اشتدت قبضته على مرفقها و هو يطبق أسنانه ليردف من بينهما بلهجة محذرة:
- اسمعي.. أنا عفاريت الدنيا بتتنط في وشي، عـدي يومك!
فهدرت بهِ مستوضحة و قد ضاق بها ذرعًا:
- في إيه يا يامن؟ كل ده عشان مسكت موبايلك؟ انت رجعت كأنك واحد تاني!
فكان ردهُ قاتمًا:
- لأ مش واحد تاني، يامن.. يامن الصياد، لكن الظاهر إنك نسيتي ده!
 اهتزت عضلة من جانب وجهها و هي تحرف نظراتها المحتدة بين عينيهِ، حاولت سحب مرفقها من قبضته و هي تقول بلهجة متراخية و قد خبت نبرتها، و كأنها تؤنبه:
- يمكن.. يمكن نسيت، الظاهر إني نسيت فعلًا، لكن انت فكرتني، أشكرك!
و راحت تشير بعينيها للهاتف و هي تقول محاولة نصحهِ:
- لكن نصيحة مني متقساش على أخوك أكتر من كده، أخوك محتاجلك و هو مش...
قاطعها و قد برزت عروق جانبيّ رأسهُ مطبقًا أكثر على مرفقها:
- انتي هتقوليلي أعمل إيه و معملش إيه؟ انتي نسيتيني نفسك؟
و ضاقت عيناهُ المتقدتين و هو يردد باستنكارٍ:
- مفكرة نفسك مين؟.. اوعي تكوني فاكرة نفسك مراتي؟ و لا تكوني فاكرة اللعبة قلبت جد؟
و استطرد بلهجة مُشتدة:
- و لا فاكراني مش فاهم اللي بتحاولي تعمليه؟.. شايفاني حالة عجيبة بتحاولي تدرسيها و يكون لك شرف تغييرها مش كده؟
و قبل أن تتفوه ببنت حرف كان يتابع بنبرتهِ الحامية:
- انتي مجرد واحدة اتجوزتها عشان أنتقم من ابوها، متنسيش ده، مجرد وسيلة آخد بيها انتقامي و لما آخد حقي كامل و أصفي حسابي.. مش هيبقى لك مكان في حياتي!
و أشار بسبابتهِ و هو يُكشر عن أنيابهِ ليقول مستهجنًا:
- اوعي تكوني فاكرة إني بعت أخويا عشان خاطرك؟، لأ.. أنا بعتهُ عشاني.. عشاني أنا، لأني مبحبش في حياتي غير نفسي اللي فاكرة نفسك بتحاولي تغيري فيها! بعته و قريب هبيعك زيه، انتي مش أغلى عندي منه، و صدقيني إنتي مش غالية عندي أبدًا..انتي أصلًا على الهامش.. اللي قريب أوي هيتمحى!
كل حرف يتفوّه بهِ كان يترك خدشًا في روحها، كل كلمة.. كل جملة، كل نظرة من عينيهِ اخترقت قلبها گأسهمٍ راشقة، أسهم مسمومة بيد أن سُمها انساب في أوردتها گالجمرات المشتعلة، و كأن هنالك ما أطبق على صدرها، و كأن قبضتهِ التي تشتد على مرفقها لا تقبض إلا على قلبها، و هي غير قادرة على نفض أناملهِ الغليظة عنه، انحرفت نظراتها المكلومة بين عينيهِ، حاولت التحدث و لكنها في البداية شعرت و كأنها تائهة، لا تقوى على استجماع أحرفًا تُعينها لبدء كلماتها، ابتلعت غصة عالقة في حلقها گالشوكة، كل ما حاولت فعلهِ هو عدم البكاء، و عدم إظهار التأثر، و لكنها لم تشعر و تلك العبرات تترقرق في مقلتيها حتى شوشت رؤيتها، دمعة واحدة عبرت أعتاب جفنيها لتهبط فتشق طريقها الذي افتقدتهُ، تزامنًا مع لهجتها المزدرية:
- تعرف.. أنا فعلًا غبية زي ما بتقول، و أكتر مرة في حياتي احس إني أكبر غبية، عشان حسيت إنك يمكن يكون عندك قلب.. و عشان فكرت للحظة.. إنك إنسان!
و سحبت مرفقها بصعوبة من بين أناملهِ و راحت توفض للخارج صافقة الباب من خلفها تركت عنان دموعها لتتدحرج على وجنتيها، و لكنها لم تتركها تؤثر على نبرتها و هي تخرج هاتفها لتحادثه بلهجة قويّة أثناء هبوطها الدرجات برشاقة:
- ألو.. أيوة يا نائف، أنا عايزة الفلاشة توصلك في أسرع وقت، معرفش إزاي، اتصرف و بطل جبن بقى، اتصــــرف!
..............................................................
.................
................................................................................
 
 
"الفصل التاسع و الثلاثُون"
"لا تتعجل باتخاذ القرار، فـ قرارك.. سـ تُشيد عليهِ حياتك"
گانت تسير من خلفهِ فاقدة للحياة، خاصة عقب ذلك الوداع الجاف من عمها، و كأنهُ كان سيفعل بالفعل، و كأنهُ كان سيطردها من منزلهِ في أي دقيقة، للحظة حمدت الله في نفسها أنها أدركت في الوقت المناسب، كي لا يُخدش كبريائها أكثر من ذلك.
استقلت السيارة في المقعد المجاور له و أجلست "رهف" الغافية على قدميها، ضمتها إلى صدرها و كأنها تستمد منها القوة التي ستحتاجها قطعًا بالأيام القادمة عقب قرارها الخاطئ الذي اتخذتهُ بلحظة هوجاء، انتبهت إليه حين قال لها مغضنًا جبينه و هو يحرف نظراته بينها و بين شقيقتها، و يعرضُ عليها:
- هاتيها يا رهيف، أنيمها ورا
هزت رأسها نفيًا و هي تضمها أكثر إليها، ثم أشاحت بأنظارها المُكفهرة عنه و هي ترفض ذلك:
- لأ، سيبها في حضني
فـ حذرها قائلًا:
- الطريق طويل يا رهيف، هتتعبي
أطبقت جفنيها وهنًا و لم تجبهُ، في حين لِسان حالها يقول:
- أنا تعبت خلاص، مش لسه هتعب
تنهد "راشد" بحرارة ثم زمّ شفتيه و هو يدير المحرك حين لم يجد منها ردًا شافيًا، و اقتاد سيارتهِ مخلفًا كومة من الغبار.
...........................................................
التفت گالملسُوع إثر صوتها الذي يحفظه عن ظهر قلب، فقد كانت تقف على أعتاب المطبخ بجوار الباب، و قد بدا التوجس على صفحة وجهها، ارتخت قبضتهِ عن "سهير" و هو يرمق "هُدى" بازدراء، ثم مضى منتويًا الخروج مارًا من جوارها، غير عابئًا بها، و دون أن يعيرها اهتمامًا، و لكنها توقفت امامه برشاقة فسدت الطريق عليه و هي تسحب كفهُ إليها متوسلة إياهُ:
- كفاية بقى يا يامن، كفاية قسوة عليا، ده.. ده أنا مشوفتكش يمكن من شهر، و عايز تمشي من غير ما تشوفني
تقوست شفتيه بسخرية جافة و هو يجتذب كفهُ منها أثناء قولهِ المستهجن:
- و إيه الجديد؟ ما أنا كنت بقعد شهور مبتشوفيش خلقتي؟
احتضنت وجهه بين كفيها و هي ترمقه بنظرات واجمة كئيبة تشبعت بالرجاء و هي تهتف:
- يـ..يامن!.. أرجوك، أرجوك طلعه يا يامن
و أحنت بصرها عنه لتهتف باختناق و قد غصّ صدرها:
- أنا.. عارفة إنك.. مش طايقه خصوصًا لما عرفت إآ...
نفض كفيه عنها بقسوة و قد كشّر عن أنيابهِ بينما يقاطعها بلهجة قاتمة:
- حاسبي
دفها برفقٍ نوعًا ما من كتفها ليزيحها عن طريقه و مضى غير مكترثٍ لها، ارتفعت عيناها الدامعة لـ "سهير" التي هزت رأسها استنكارًا لما تفعل، ثم ما لبثت أن هرولت من خلفهِ لتتبعه، حتى وصلت إليه فباتت على بعد خطوة منه محاولة مجاراة خطواتهِ الواسعة، امتد كفها لتقبض برفقٍ على عضدهِ المعضل و هي تقول بقهر:
- اسمعني يا يامن أرجوك، اسمعني، أنا.. هعمل أي حاجة انت عايزها، أي حاجة تطلبها مني هعملها، بس تطلعه
تكورت قبضتهِ مشددًا على أصابعه حتى ابيضت مفاصله بينما يستكمل سيره غير مكترث لها، حتى خطت لتقف أمامه فكاد يدفها عن طريقه و هو يجأر بها:
- ابعـ....
ابتلع كلماتهِ حين سحبت كفه و قد تعالت شهقاتها بينما تقول:
- أبوس إيدك.. أبوس إيدك طلعه يا يامن!
اجتذب كفه من قبضته و هو يزجرها بلهجة عنيفة:
- بتعملي إيه؟ اتجننتي؟!
فدنت منهُ أكثر لتقف على أطراف أقدامها مطوقة عنقه بذراعيها و هي تدفن رأسها في كتفهِ لتنتحب بأنين مسموع، مغمغمة بمرارة من بين شهقاتها:
- مش قادرة.. مش قادرة أعيش من غيره، أنا هتـ..هتجنن في بعده
احتقن وجهه بالدماء المتقدة و قد برزت عروق جانبي رأسه و هو يُطبق على أسنانه  حتى اهتزت عضلات صدغيهِ، في حين كانت تستطرد:
- أنا.. وحيدة في البيت ده لوحدي، كلكم سيبتوني، حتى عمر سابني، كلكم سيبتوني
و دفنت وجهها أكثر في تجويف عنقهِ فأغرقتهُ بدموعها الحارقة و هي تقول من بين نشيجها:
- رجعـ..ـهولي يا يامن، مش عارفة أعيش من غيره
شعرو كأن بركانهِ على وشك أن يثور في أي لحظة فيُطيح بحميمهِ ما حوله من الأخضر و اليابس، كلمة واحدة مُحذرة لفظها من بين أسنانه المُلتصقة:
- كفايـة
و لكنها لم تكتفِ.. حيث راحت تردد من بين شهقاتها:
- أنا ممكن أموت من غيره، ممكن أموت لو عيشت من غيره أكتر من كده
اجتذبها بعنفٍ من مرفقها ليبعدها عنهُ بينما يجأر و قد كشّر عن أنيابهِ:
- كفايـة، كفايـــة، ابعدي عني
نزحت دموعها و هي تصرخ به بهستيرية:
- أنا حملتك في بطني 9 شهور،أنا غذيتك على حبي ليك فيهم، أنا.. أنا اللي اتحملت عيشة أبوك عشان خاطرك، استحملت 11 سنة معاه عشانك انت بس!، اتحملت كل حاجة عشانك، و في الآخر جاي ببساطة تحاسبني!
شملها بازدراء فاضت بهِ نظراته، دنا منها مقلصًا المسافات بينهما و هو يناظرها بعينيهِ المتوهجتين ليقول بلهجة حالكة:
- ما تطلعي من الفيلم الأبيض و اسود اللي انتي عايشة فيه ده، مش لايق عليكي دور الأم اللي ضحت عشان إبنها! اللعب بقى على المكشوف يا هدى، فوقي بقى
و منحها نظرة أخيرة قاتمة، ثم مر من جوارها حتى تيبست قدماه تمامًا حين التفتت إليه لتقول بلهجة قويّة ذات مغزى و قد التهبت أنظارها:
- يبقى صح.. اللي كمال قاله كان صح!
تقلصت المسافة بين حاجبيهِ دون أن يلتفت، فكانت تدنو منهُ بينما تقول متعمدة سكب البنزين فوق  نيرانهِ المُضطرمة:
- كمال قالي.. لكن أنا مصدقتش، قالي البت وقعت إبنك، قولتلهُ استحالة
و عقدت ساعديها و هي تقف أمامه مباشرة لترفع ذقنها أثناء قولها:
- فضلت أربيك السنين دي كلها.. استحملت قساوتك معايا، عشان في الآخر تقع في حب بنت حبيبة
فارت الدماء بعروقهِ، فلم يشعر بنفسهِ سوى و هو يقبض على مرفقها ساحبًا جسدها إليه و هو يجأر بزمجرة عنيفة:
- حب مين اللي بتتكلمي عنه يا هدى!
غرست نظراتها المحتدة في عينيه و هي تقول بإيماءة متشنجة:
- أيوة.. أيوة حبيتها
 و رفعت كفها لتضرب بعنفٍ براحتها على موضع قلبه و هي تقول بلهجة محتدمة:
- القلب اللي قفلته من سنين اتفتح عشان بنت حبيبة!، متنكرش ده
و تقوست شفتيها ازدراءً و هي ترمقه بنظرة هازئة:
- خلاص بقى واضح اوي
و تعمدت أن تنقر بسبابتها على موضع قلبهِ عدة مرات و هي تسطرد:
- اللي سيبتها تطعنك و منتقمتش منها و دفعتها تمن غلطها غالي.. تبقى مش بس وقعت في حبها، ده انت بقيت زي الخاتم في صباعها تحركك زي ما هي عايزة
- كفايـــــة!
صرخة مشبعة بغضبهِ المكبوت عنها بـ شِقّ الأنفُس خرجت منه گالرعد الهادر، وجههُ صار و كأنهُ كتلة من النيران المتأججة، و خُضرة عينيهِ التهمتها النيران متغذية عليهما، حدجها بنظرة ناريّة مميتة، قبل أن ينفض كفه عنها دافعًا لها فارتد جسدها للخلف، و سار منتويًا الخروج قبل أن يفقد آخر ذرات تعقّلهِ، كل خطوة يخطوها تتردد فيها كلماتها ممزوجة مع صياحها الذي لم يتوقف:
- ليه كفاية؟ عشاني بقول الحقيقة اللي بتنكرها، البت دي غيرتك يا يامن، غيرتك، ضيعت سنين تربيتي، ضيعت تعبي فيك، خليتك عبد ليها، يامن الصياد اللي الكل بيخاف من اسمه بس بقى عبد، مجرد عبد لبنت قاتل أبوه!
لا يعلم كم دفع في طريق خروجه و كمّ الشظايا الذي تناثر هنا و هناك حتى تمكن و أخيرًا من الولوج خارجًا و نيرانهِ تكاد تلتهم أحشائهِ من فرط احتدامها.
.......................................................
كانت عقارب الساعة تدق الثانية عشر.. حينما كان المكان يعجّ بالضوضاء و الأغاني الأجنبيّة الحماسية الممزوجة مع الهتافات من الثنائيّات الراقصة التي اكتظ بهم مسرح الرقص، بينما هي تتابع ما يجري بأعين مستمعة مرتشفة آخر رشفة من كوب شرابها، ثم وضعتهُ على الباب لتقول للنادل:
- كمان واحد يا جيمي بليز
 كانت "ولاء" تتابعها و قد شعرت بالارتياب، بسطت كفها لتتناول هاتفها، ثم نظرت في شاشته و قد بدأ القلق يخترق صفحة وجهها فبدا جليّا للعيان، رمشت عدة مرات و قد شعرت و كأن أذنها تؤلمها من فرط ارتفاع الأصوات، ارتفعت أعينها عن الهاتف حين مرّ ذلك الوقح من جوارها و هو يمنحها غمزة بطرفهِ، ازدردت ريقها و هي تحيد بأنظارها عنه، حتى أن جسدها سرى بهِ قشعريرة إثر خوفها الذي حطّ على قلبها، و ما فاقم من ارتعادها حين توقف أمامهما، و هو يشمل جسدها بنظراته لجريئة، و كأنها سلعة رخيصة لا ثمن لها، ثم ارتفعت أنظارهِ إلى صديقتها التي هللت مرحبة به:
- دومي.. انت هنا أخيرًا
فوجه أنظاره مجددًا لصديقتها و هو يقول مشيرًا لـ "ولاء" بنبرة لا تخلو من الخُبث:
- أهلًا دودي.. مش تعرفينا؟
فـ أومأت عدة مرات و هي تهتف مشيرة إليها:
- ولاء صاحبتي الجديدة، أدهم الحناوي يا لولي
امتد كفهُ إليها ينتظر مصافحتها لهُ:
- أهلًا بيكي
رمشت عدة مرات و هي تضم جسدها بذراعيها بينما تحرف نظراتها المتوجسة بين عينيهِ و كفه، اصطكت أسنانها خوفًا، و لكنها بالنهاية حسمت أمرها، فامتد كفها لتصافحهُ و هي تغمغم:
- أهلًا
و كادت تسحبه و لكنهُ أطبق على أناملها بكفهِ الخشن، ابتلعت لعابها و هي ترفع نظراتها إليه، فافرّ ثغره عن ابتسامة ذات مغزى، ثم أفلت كفها بالنهاية، حادت بأبصارها عنه حين أردفت "وداد" و هي تقدم إليها كأسًا:
- لولي بليز بقى اشربي، بليــز!
هزت "ولاء" رأسها نفيًا و هي تقول:
- لأ،.. أنا، عمري ما جربت الحاجات دي!
ارتفع حاجبي "أدهم" عاليًا و هو يتابعها، ثم عقد ساعديه أمام صدره و هو يقول باستنكار:
- أكيد بتهزري، عمرك ما شربتي؟
فأجابته باقتضاب و هي تنظر نحوه من طرف عين:
- لأ
تغضن جبين "وداد" و قد عبست:
- لولي، بجد إنتي لو مشربتيش ده.. أنا هزعل منك
تسلطت أنظار "ولاء" على الكوب و قد تقوست شفتيها، فحثّها "أدهم" بقولهِ دون أن يدري حتى:
- ده انتي شكلك مالكيش في حاجة خالص
 و وجه أنظاره نحو "وداد" و هو يقول ساخرًا:
- صاحبتك دي شكلها بريئة أوي، جايباها هنا تعمل إيه!
استشاطت غيظًا من استهوانهِ بها، فناظرته بتحدي و هي تقول و قد أصابها الحنق من ذلك الشعور:
- على فكرة عادي، أنا مش ضعيفة و لا حاجة!، و هشربها، أوكي؟
 و سحبت الكوب، و شرعت ترتشف منهُ أول رشفة حتى شعرت بتلك القبضة التي دفعت كوبها فسقط متهشمًا، و تلك المحرمة الورقية التي كممت فاهها و بصوتهِ المحتدم الآمر الذي هدر بها:
- تُفي اللي شربتيه
رغمًا عنها بصقت ما بفمها، ليس امتثالًا لأمرهِ، و لكن لشعورها بصعوبة في الابتلاع و قد شعرت بذلك الطعم اللاذع على لسانها، أبعد "فارس" المحرمة الورقيّة عن شفتيها و ألقاها بلا اكتراث على الأرضية، ارتفعت أنظارها الحانقة إليه فبادلها نظراتٍ مشمئزة، شملها بازدراء تجلى على ملامحه، ثم خلع عنهُ سترتهِ الرمادية و تركها أعلى كتفيها العاريين، تحت أنظار "وداد" المذهولة و هي تقول:
- لولي، who is this?
لم تنحرف نظرات "فارس" نحو المتحدثة، فقط اكتفى بسكب شرر عينيهِ بين حدقتيها، ثم سحب مرفقها قابضًا عليه بقوة و هو يهمّ بالتحرك بها:
- امشي
و استدار بها لولا ذلك الكف الذي لكز كتفه و هو يقول متعمدًا التحقير من شأنهِ:
- تمشي على فين يا كابتن،.. انت مين أصلًا؟
تيبست قدماه بالأرضيّة و هو يلتفت ليحدجه بأنظاره القاتمة، قبل أن يقول مكشرًا عن أنيابهِ:
- خطيبها!
و سحبها معهُ محاوطًا جسدها محاولًا إبعادها عن تلك الأجساد المترنحة.
.......................................................
حالتهُ إينذاك لم تكن توصَف.. حتى أنهُ  لم يعلم كم ظل يدور في الطرقات بسيارتهِ قبل أن يختار العودة متغاضيًا عن السبب الرئيسي الذي أتى بهِ إلى القاهرة، فحالتهِ تلك لم تكن لتسمح له بأي شئ، نيران.. فقط نيرانًا تتأجج بصدره و كلماتها المستفزة لأقصى حد تتردد على أذنيهِ و كأنها وليدة اللحظة، عروق جانبيّ رأسه بارزة، و أسنانهِ المطبقة تهتز إثرها عضلات صدغيهِ، و هو يتذكر ما عايشهُ برفقتها خلال تلك الأسابيع الماضية، شعر و كأنه أحمقًا.. يُلبي طلباتها، يعتني بها، يحاول جاهدًا استرداد حقها، يحميها، ما هذا حقًا؟.. كيف تمكنت تلك "الغبية" من أن تعبث بهِ بتلك الطريقة؟، كيف انصاع هو خلفها تاركًا السبب الرئيسيّ للعلاقة بينهما، اشتدت قبضتيهِ على المقود دون شعور منه و تقلصت أصابعه عليهِ، و هو يشدد أكثر على عضلات فكيه، و گأن بداخلهِ بركانًا يُهدد بالإنفجار الوشيك في أي لحظة، فراح يدمدم من بين أسنانه المُطبقة:
- مش يامن الصيّاد اللي واحدة تلعب بيه!، اللعبة دي هتخلص،.. لكن في الوقت اللي أحدده!
......................................................
- أيوة يا مدام حبيبة،.. لأ، معايا، متقلقيش هي كويسة، في المستشفى، أه.. تعبت شوية امبارح و اتنقلت هناك، حاضر يا مدام حبيبة، احنا في الطريق
 و أنهى المكالمة و هو يصفّ سيارته أمام إحدى محال الملابس الشهيرة، رمقها من زاوية عينها و هو يقول بلهجة آمرة:
- انزلي
فأجابته بتعند:
- مش نازلة
نظر نحوها نظرة حامية و هو يقول مهتاجًا:
- انتي ليكي عين تبجحي؟ اتنيلي انزلي
التفتت نحوه لتهدر باستهجان:
- ازاي تقول حاجة زي دي؟ ازاي تدعي إنك خطيبي
 فناطحها الرأس بالرأس و:
- و انتي ازاي تروحي ديسكو؟، ازاي تشربي خمرة يا هانم؟، و أمك الغلبانة اللي بتدور عليكي من امبارح دي مهمتكيش!، تولع تفطس عادي؟
عقدت ساعديها أمام صدرها و هي تلتفت لتنظر من خلال الزجاج الأمامي أثناء قولها البارد:
- أنا حُـرة، أعمل اللي عايزاه، و بعدين إيه يعني دخلت ديسكو؟ ما البنات كلها بتروحه!
فهدر بها:
- لأ ده الـ****** بس اللي بيروحوه!
توسعت عيناها غيظًا و هي تلتفت نحوه لتحدجه باستهجان، ثم صرخت في وجههِ:
- متحاولش تقنعني إنك عمرك ما دخلت ديسكو أو شربت، و لا عشانك راجل يبقى تعمل ما بدالك!
لم يكترث "فارس" لقولها، بل جأر بها و هو يرمقها بنظرة محتدمة:
- و يا ترى بقى كنتي بايتة فين امبارح؟
حادت بأنظارها عنه لتردد بامتعاض:
- و الله دي حياتي الشخصية، مسمحلكش تتدخل فيها أصلًا!
حذرها بلهجة قاتمة:
- بت انتي.. انطقي متخلينيش أتغابى عليكي، أنا لو مسكتك و رب العزة ما سايب فيكي حتة سليمة!
رمشت عدة مرات غير مستوعبة و هي تلتفت نحوه لتحدجه بنظرات ناقمة أثناء قولها المحتد:
- نعـم يا بابا!، مين دي اللي تتغابي عليها، انت فاكر نفسك ولي أمري!
التوت شفتيه بينما يقول بلهجة مزدرية:
- أنا مش عارف جايبة عين تتكلمي منين؟
هزت ساقها انفعالًا و هي تعقد ساعديها أمام صدرها مجددًا لتقول بلا اكتراث:
- و الله أنا قولتلك، دي حياتي و أنا حرة فيها، أعيشها بالشكل اللي عايزاه، و أروح المكان اللي عايزاه، لا إنت.. و لا أي حد يقدر يحاسبني!
لكزها بعنفٍ في كتفها و هو يهدر قبل أن يترجل:
- انزلي.. انزلي لأني لو سمعت منك كلمة تانية مش عارف ممكن أعمل إيـه، إنزلــي!
و لم ينتظر ردًا منها، حيث صفق الباب، و دار حول السيارة ليفتح بابها، و سحبها بعنفٍ ليجبرها على الترجل، ثم صفق بابها صفقة عنيفة، و سار و هي تعصف من خلفه يمينًا و يسارًا غير مباليًا باحتجاجها و محاولاتها الجمّة للفكاك منه:
- إنت أساسًا إنسان همجي و غبي، حاسب سيب إيدي، مين إداك الحق إنك تعمل كده، و عرفت مكاني إزاي بقى؟ إنت بتراقبني؟، سيب إيدي يا غبي، حاســب!
هو بالأصل كان يعلم منذ رآها للمرة الأخيرة أن تلك الهوجاء تخفي شيئًا حتمًا، فوضع خلفها رجلًا من رجالهِ يتابعها أينما تذهب، منذ أن وصلهُ مكالمة والدتها.. فـ تمكن بيُسر بالغ من الوصول إليها.
..............................................................
كان استقبال جدتها لها جافّا للغاية، حتى بعدما أعلنت موافقتها، و كذلك خالها الذي لم يكن راضيًا عن تلك الزيجة، لم تُستقبل بحفاوة سوى من قبل والدتها، حتى تمكنت من الإنفراد بها في إحدى الغرف التي ستُجهز لها، حينها فقط راحت تؤنبها:
- إزاي وافقتي يا رهيف؟ ده أنا خلاص كنت قولت لجدتك إنك مش هتوافقي، كنت هحاول معاها تاني!
تركت "رهيف" جسدها يتراخى على الأريكة  بعدما تركت شقيقتها الصغيرة في فراشها، و هي تنظر نحوها من طرف عينها، ثم تشدقت:
- انتي محاولتيش أولاني أصلًا يا ماما، عشان تحاولي تاني
تغضن جبين "سعاد" و هي تنظر نحوها بعتاب:
- إيه اللي بتقوليه ده يا رهيف؟ انتي متعرفيش أنا عملتك إيه عشان أحاول أوقف الجوازة دي، لكن..
تنهد "رهيف" بحرارة ثم قاطعتها بوهن و هي تنهض عن جلستها لتدنو من فراشها:
- أنا تعبانة يا ماما، لو سمحتي سيبيني أرتاح
و راحت تندس بجسدها أسفل الأغطية تتابعها نظرات والدتها القانطة، ثم قالت محاولة الدفاع عن ذاتها:
- يا رهيف أنا..
ضمّت "رهيف" جسد شقيقتها إليها لتدفن رأسها في خصلاتها الشقراء الناعمة أثناء قولها الهادئ:
- بليز يا ماما سيبيني، مش قادرة اتكلم في أي حاجة، المشوار كان طويل، و أنا تعبت
تركت "سُعاد" زفيرًا حارًا من صدرها، ثم مسحت على خصلاتها الحرة برفق و هي تقول:
- حاضر يا حبيبتي، حاولي ترتاحي
 و تركتها.. و لكنها لم تكن تتمنى أن تفعل، أرادتها أن تعارض رغبتها الظاهرة، تمنت لو أدركت كلماتها العميقة.. لا السطحيّ منها، و فور أن استمعت لإغلاق الباب وجدت نفسها تنجرف في نوبة حارة من البكاء، حتى بللت دموعها الحارقة عنق أختها و خصلاتها، فراحت تتململ في نومتها لتضمها إليها.. و كأنها ستشعر مدى معاناتها.
..........................................................
و گأن روحها رُدت إليها بعد غياب.. ضمتها و هي تشتم عبقها المميز و قد أغرقت دموعها عنق ابنتها و خصلاتها المنسدلة، و هي تُرحب بعودتها، و تعرب لها عن مدى خوفها و اشتياقها إليها، لم تنتبه إلى تأففها حتى.. فكل ما صبّت تركيزها عليه هو عودتها سالمة بعد غيابها، حتى تركتها "ولاء" بملابسها المحتشمة التي اختارها "فارس" رغمًا عنها، و أجبرها أن تبدلها في المحل، تابعها "فارس" بأنظارهِ حتى اختفت خلف باب غرفتها الذي صفقته، انتبه إلى والدتها التي قالت و هي تنزح دموعها:
- معلش يا ابني اعذرني، سايباك على الباب، اتفضل
أشار بكفهِ و هو يقول بلهجة جادة:
- مالوش لزوم يا مدام حبيبة
تقوست شفتيها شجنًا و هي تمسح برفقٍ على كتفهِ قائلة بامتنان:
- مش عارفة أشكرك ازاي يا ابني، رغم كل حاجة انت لسه بتساعدنا، مش عارفة من غيرك كنت عملت إيه!
زم شفتيه ثم قال بلهجة حانقة و أنظاره تتجه نحو الباب الموصد:
- أنا معملتش حاجة يا مدام حبيبة، خدى بس بالك من بنتك
و بدت نبرتهِ عميقة و هو يستطرد بتنهيدة مطولة:
- أصلها تعبانة أوي
فتعاطفت "حبيبة" للغاية معها و قد شعرت بقلبها يُعتصر في صدرها من اتهامها الباطل لها:
- يا حبة عيني، و أنا اللي كنت فاكراها مع صاحبتها، تطلع متبهدلة كده، و أنا مكنتش جمبها
أجفل "فارس" نظراتهِ الغامضة نحوها و هو يطرد زفيرًا حارًا من صدرهِ ثم قال باقتضاب:
- عن إذنك يا مدام حبيبة
فعرضت عليهِ بلهفة
- أوام كده يا ابني، طب استنى اشر..
قاطعها بصوت خشن:
- مالوش لزوم، مع السلامة
و منح بابها نظرة أخيرة غامضة، قبل أن يستدير منصرفًا قبل حتى أن يستمع لردها، و برأسهِ تُعصف مئات الأفكار.
.............................................................
كانت تقف بنفس المكان، و كأنها ودّت أن يكون هُنا اللقاء بعد فراق لم يدُم طويـلًا، و لكنها شعرت بكل ثانية تمضي كدهرٍ يقتنص من عُمرها دون أن تدري، لا بضع ساعاتٍ فقط.
 تمسك بمرشة المياه، و تسقى الزهور التي شعرت بها تنتمي إليها بشكلٍ أو بآخر، و شعرت بالمسؤولية تجاهها رغم عودة البستانيّ المسؤول عن الحديقة، و لكنها استأذنتهُ لتروي هي تلك الزهور تحديدًا، تنهدت بحرارة و هي تتركها جانبًا، ثم راحت تتلمس الخطوط الضئيلة للغاية التي تشبعت بها ورقاتها الخضراء المحيطة للوريقات التي ستُزهر فيما بعد، حتى اخترقت حاسة الشمّ لديها عبقه المصاحب لتواجده، تغضن جبينها و قد شعرت بدقات قلبها تدوي في أذنيها، التفتت لتبحث عنه فلم تجده، هُنا و هناك.. كالمجنونة،  و خفقات قلبها تتعالى أكثر، اندفع الادرنالين في عروقها، فراحت قدامها تسوقانِها إليه، تُنقب عنه في كل بقعة من حولها، و لكنها لم تعثر عليه بعد، حتى دلفت للقصر، تقابلت في طريقها مع العجوز فسألتهُ بينما تتلفت حولها:
- هو يامن جه يا أحدب؟
تجعد جبينه إثر تقطيبه و قد التوى ثغره ببسمة صغيرة مكررًا كلمتها:
- أحـدب!
انتبهت توًا لقولها، فتسلطت أنظارها عليه و قد توهجت وجنتيها خجلًا و هي تعتذر منه:
- أنا آسفة.. مقصدش
أشاح بكفه و هو يقول ببشاشة:
- ده أحسن لقب بسمعه يا بنتي، و لا يهمك
فسألتهُ بتلهف و هي تزدري ريقها:
- هو يامن مجاش؟
أشار بكفهِ للدرجات و هو يقول:
- جه يا بنتي، لسه طالع أوضته حالًا!
توسعت عيناها و قد اغتاظت قليلًا:
- جـه!، امتى؟
- ما أنا بقولك، لسه داخل حالًا
عضّت شفتها السفلى بحنق، ثم أردفت و هي تبتعد عنه:
- شكرًا يا عم منصور
و راحت ترتقي الدرجات و قد شعرت بالحنق لدى تجاهلهُ إياها عكس الأسابيع الماضية التي أمضتها برفقتهِ، حتى بلغت غرفتهِ، فلم تتردد و هي تفتح بابها مباشرة، عقدت حاجبيها سويّا و هي تبحث عنهُ في أرجائها، و لكنها لم تجده، فأوصدت الباب بهدوء، و سارت نحو باب المرحاض، حتى استمعت إلى هديل المياه فتفهمت أنهُ يستحمّ، ابتعدت عن الباب و راحت تتجول في غرفتهِ ريثما يخرج، تلك الغرفة تجزم أنها أضخم الغرف بذلك القصر، الفراش الوثير الذي يتوسط إحدى الحوائط على جانبيهِ اثنين من الكومود، و مقابلًا لها أريكة ذات ملمس ناعم مُزركشة من اللون الأزرق الأنيق المختلط بالأبيض و الذي يتناسب مع لون الأثاث، بيد أنهُ لم يأتي هنا منذ مُدة، فاللون السائد ليس الأسود كما اعتادت، و ليس كباقي غرفهِ، يمينًا الشرفة الواسعة التي تتطاير الستائر الزرقاء القاتمة من فوقها، و على جانبًا آخر منضدة الزينة ذات التصميم الغريب قليلًا و التي تحمل فوقها الكثير من العطور المختلفة و كريمات الشعر و كل ذو ماركاتٍ عالمية، و الخزانة التي لم تبدُ كبيرة للغاية تناسبًا مع حجم الغرفة.
 التفتت يسارًا حيث ذلك الباب الموصد، و راحت تخطو نحوهُ، و فتحته و دلفت، فتبينت لها غرفة تبديل الملابس، مضت للداخل و هي تتلفت حولها، فكانت الشماعات التي تحمل ملابسه التي اكتظت بها الغرفة، و بجوارها رفوفًا خاصة بأحذيتهِ ، و أعلاها رفوف ساعاتهِ الثمينة، و رفوف أخرى لنظاراتهِ الشمسيّة، و على الجانب الآخر مرآة عريضة اتخذت عرض الحائط بأكملهِ، مضت فقط نحو إحدى رفوف الساعات، و بسطت كفها و قد برقت إحداهن في عينيها، فتلمستها بأيدٍ مستكشفة، ثم تركتها في جيب بنطالها الجينز الأنيق ذو اللون البنفسجيّ الفاتح "لاڤندر"، و قد ارتدت أعلاهُ كنزة صوفيّة بيضاء اللون تصل أكمامها حتى رسغيها، ذات فتحة صدر دائريّة ضيقة أبرزت بالكاد عظمتيّ الترقوة.
 مضت "يارا" لتترك تلك الغرفة و قد شعرت و كأنها تأخرت قليلًا هنا، و أوصدت بابها الجرار من خلفها، و راحت تجلس على طرف فراشه بأريحية، نظرت يسارًا لتجد سترته التي خلعها و ألقاها هنا بإهمال، تغضن جبينها و هي تسحبها إليها و قد ضيّقت عينيها حين لمحت شيئًا ما، و ما لبثت أن توسعت عيناها غيظًا و قد شعرت بدمائها تغلي في عروقها، أطبقت أسنانها و هي تتلمس تلك الخُصلة الشقراء و كأنها تود إشعالها، ألقت سترتهِ جانبًا و راحت تحدق بأعين ملتهبة فيما وجدت، و من بين أسنانها المطبقة كانت تغمغم:
- بقى كدا! هو دا السبب اللي نزلت عشانه؟
و نهضت عن فراشه و هي تهتف منادية عليهِ بلهجة محتدمة:
- يــامن!
 نظراتها تتبعت ذلك الوميض الذي صاحب إضاءة شاشة هاتفهِ الموضوع أعلى منضدة الزينة، فتحركت بخطى متشنجة نحوه و قد فَطِنت أنها رسالة مبعوثة إليه، و لم يخطر ببالها إلا كونها رسالة من تلك المرأة التي كان بأحضانها، سحبت الهاتف بحركة عنيفة و هي تحدق في شاشتهِ، لم ترتخِ ملامحها و هي تقرأ أجزاء من الرسائل من الخارج دون أن تتمكن من فتحها:
- "رد عليا يا يامن أرجوك، أرجوك، أنا محتاجك.. محتاجك أوي، رد عليا اشتمني زعقلي، بس سمعني صـ..."
-"يامن.. أنا طول عمري عيشت يتيم الأب، لكن محسيتش باليُتم ده غير..."
-" أرجوك يا يامن، و حياة أغلى حاجة عندك ترد عليا"
-" لو عايزني أكلمها أعتذرلها هعمل ده، لو عايزني أبوس إيديها عشـ.."
-" طب أعمل إيه عشان ترضى عني"
-" أنا كنت فاكر هعرف أعيش من غيرك، لكن طلعت مغفل"
-" يامن.. مش هترد بقى"
- " طب لو مرديتش مش هبطل.. هقرفك من هنا للسنة الجاية، اعملي بلوك حتى هجيلك بردو"
- "يامن!"
- " طب.. هحكيلك، أنا النهاردة يومي كان........."
و كادت تمر بعينيها على باقي الرسائل و لكن الهاتف اختُطف من كفها، ارتفعت أنظارها و قد اشتمت رائحة سائل الاستحمام المنعشة و قد تعبقت بها الغرفة، فكان يرتدي فقط بنطالهِ، حتى أنه لم يكترث لتجفيف صدره العاري و خصلاتهِ، فكانت المياه تقطر منهما، بينما ملامحهِ الممتعضة تكاد تنبأها بأنها فعلت كارثة أو ارتكبت جرمًا، أعينه الملتهبة تسلطت عليها أثناء جأرهِ:
- بتهببي إيــه؟.. ازاي تمسكي موبايلي؟
و لكنها لم تكترث، ارتفع ذقنها و هي تناظره باحتداد عاقدة ساعديها، أشارت بعينيها للهاتف و هي تقول بلهجة قوية:
- مبتردش على أخوك ليه؟
- و انتي مالك؟
تطلعت إليه باستهجان جلي، ثم حلت ساعديها لتقف بوضعٍ متأهب و هي تقول بانفعال:
- انت قرأت رسايل أخوك اللي تقطع القلب؟ و لا حتى مهتمتش تعرف حاجة عنه؟
امتد كفهُ الغليظ لمرفقها ليقبض عليه مجتذبًا جسدها إليه و هو يهدر بلهجة حاسمة مشتعلة:
- آخر مرة تلمسي حاجتي، انتي فاهمة؟
كزّت على أسنانها و هي تحرف نظراتها المتوهجة بين عينيهِ، شعرت و كأن تلك المرأة كانت سببًا بتغيّره الجذري ذاك، فما زادها ذلك إلا عنادًا:
- لأ.. مش فاهمة
اشتدت قبضته على مرفقها و هو يطبق أسنانه ليردف من بينهما بلهجة محذرة:
- اسمعي.. أنا عفاريت الدنيا بتتنط في وشي، عـدي يومك!
فهدرت بهِ مستوضحة و قد ضاق بها ذرعًا:
- في إيه يا يامن؟ كل ده عشان مسكت موبايلك؟ انت رجعت كأنك واحد تاني!
فكان ردهُ قاتمًا:
- لأ مش واحد تاني، يامن.. يامن الصياد، لكن الظاهر إنك نسيتي ده!
 اهتزت عضلة من جانب وجهها و هي تحرف نظراتها المحتدة بين عينيهِ، حاولت سحب مرفقها من قبضته و هي تقول بلهجة متراخية و قد خبت نبرتها، و كأنها تؤنبه:
- يمكن.. يمكن نسيت، الظاهر إني نسيت فعلًا، لكن انت فكرتني، أشكرك!
و راحت تشير بعينيها للهاتف و هي تقول محاولة نصحهِ:
- لكن نصيحة مني متقساش على أخوك أكتر من كده، أخوك محتاجلك و هو مش...
قاطعها و قد برزت عروق جانبيّ رأسهُ مطبقًا أكثر على مرفقها:
- انتي هتقوليلي أعمل إيه و معملش إيه؟ انتي نسيتيني نفسك؟
و ضاقت عيناهُ المتقدتين و هو يردد باستنكارٍ:
- مفكرة نفسك مين؟.. اوعي تكوني فاكرة نفسك مراتي؟ و لا تكوني فاكرة اللعبة قلبت جد؟
و استطرد بلهجة مُشتدة:
- و لا فاكراني مش فاهم اللي بتحاولي تعمليه؟.. شايفاني حالة عجيبة بتحاولي تدرسيها و يكون لك شرف تغييرها مش كده؟
و قبل أن تتفوه ببنت حرف كان يتابع بنبرتهِ الحامية:
- انتي مجرد واحدة اتجوزتها عشان أنتقم من ابوها، متنسيش ده، مجرد وسيلة آخد بيها انتقامي و لما آخد حقي كامل و أصفي حسابي.. مش هيبقى لك مكان في حياتي!
و أشار بسبابتهِ و هو يُكشر عن أنيابهِ ليقول مستهجنًا:
- اوعي تكوني فاكرة إني بعت أخويا عشان خاطرك؟، لأ.. أنا بعتهُ عشاني.. عشاني أنا، لأني مبحبش في حياتي غير نفسي اللي فاكرة نفسك بتحاولي تغيري فيها! بعته و قريب هبيعك زيه، انتي مش أغلى عندي منه، و صدقيني إنتي مش غالية عندي أبدًا..انتي أصلًا على الهامش.. اللي قريب أوي هيتمحى!
كل حرف يتفوّه بهِ كان يترك خدشًا في روحها، كل كلمة.. كل جملة، كل نظرة من عينيهِ اخترقت قلبها گأسهمٍ راشقة، أسهم مسمومة بيد أن سُمها انساب في أوردتها گالجمرات المشتعلة، و كأن هنالك ما أطبق على صدرها، و كأن قبضتهِ التي تشتد على مرفقها لا تقبض إلا على قلبها، و هي غير قادرة على نفض أناملهِ الغليظة عنه، انحرفت نظراتها المكلومة بين عينيهِ، حاولت التحدث و لكنها في البداية شعرت و كأنها تائهة، لا تقوى على استجماع أحرفًا تُعينها لبدء كلماتها، ابتلعت غصة عالقة في حلقها گالشوكة، كل ما حاولت فعلهِ هو عدم البكاء، و عدم إظهار التأثر، و لكنها لم تشعر و تلك العبرات تترقرق في مقلتيها حتى شوشت رؤيتها، دمعة واحدة عبرت أعتاب جفنيها لتهبط فتشق طريقها الذي افتقدتهُ، تزامنًا مع لهجتها المزدرية:
- تعرف.. أنا فعلًا غبية زي ما بتقول، و أكتر مرة في حياتي احس إني أكبر غبية، عشان حسيت إنك يمكن يكون عندك قلب.. و عشان فكرت للحظة.. إنك إنسان!
و سحبت مرفقها بصعوبة من بين أناملهِ و راحت توفض للخارج صافقة الباب من خلفها تركت عنان دموعها لتتدحرج على وجنتيها، و لكنها لم تتركها تؤثر على نبرتها و هي تخرج هاتفها لتحادثه بلهجة قويّة أثناء هبوطها الدرجات برشاقة:
- ألو.. أيوة يا نائف، أنا عايزة الفلاشة توصلك في أسرع وقت، معرفش إزاي، اتصرف و بطل جبن بقى، اتصــــرف!
..............................................................
.................
................................................................................
 
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now