"الفصل الرابع و الستون"

730 15 0
                                    

"الفصل الرابع و الستون"
راحت "ولاء" تعنفها بازدراء و هي تنظر من طرفها لـ "يامن":
- أبوكي مين اللي قتل عمك انتي اقتنعني و لا إيه؟
نظرت "يارا" نحوها و هي تقرّ بتلك الحقيقة:
- أيوة قتله.. و هو بنفسه قال ليامن ده قبل ما يموت
انحرفت نظرات "فارس" المشدوهة نحوهُ و كأنه يسأله أنى لها بالعلم، و لكنه لم ينظر نحوه، تسلطت أنظارهِ عليها حين حادت عن شقيقتها لتحدق بهِ بنظرة أشدّ تحسرًا، ثم عادت تنظر نحو "ولاء" و هي تردد اشمئزازًا:
- أنا أول مرة أحس إن بنت أوحش إنسان في الدنيا
و نهضت عن محلّها بتشنج منفعل و هي تنظر نحوها:
- و أكيد انتي طالعاله.. أساسًا إنتي محاولتش تعملي حاجة عشانه، أنانية زيه بالظبط
فنهضت "ولاء" بدورها و هي تهتف مستهجنة ذلك و قد توهج وجهها:
- أنا مش أنانية.. انتي الأنانية، انتي اللي بتعملي فيها دور البريئة دايمًا
و أشارت لساقها و هي تقول بانفعال:
- انتي مش شايفة إني بقيت معاقة بسببك؟ و يا ريتك حتى افتكرتي ده، كمان بتتهميني بالأنانية، انتي ليكي عين تنطقي
فأشارت "يارا" بكفها مردفة باحتدام:
- انتي اللي بقيتي غبية من يوم ما رجعت.. كنتي مبسوطة أوي و انتي بتجرحيني بكل كلمة بتتقال عني يا ولاء مش كده؟ و ليه كلمتيني عشان هوليا يا ولاء؟ ها؟ انطقي.. و لا حبيتي تقهريني أكتر؟
فحاولت "ولاء" دفع التهمة عن نفسها و:
- أنا معملتش حاجة، كان لازم هتعرفي و....
فهدرت بها و قد فقدت آخر ذرات تعقلها:
- أنا مطلبتش أعرف إن أبويا كان متجوز على أمي و لا كنت عايزة أعرف ده لآخر يوم في عمري، كفاية إني عرفت إنه كان قاتل.. قتل حتى أخوه!
نهض "فارس" محاولًا فضّ ذلك الاشتباك و:
- ما تهدوا بقى انتو الاتنين في إيه؟
فنطقت "ولاء" بانفعال و هي تنقل نظراتها بينهما:
- انت مش شايف اللي بتقوله؟بتقولي أنا أنانيّة و أنا اللي كنت هموت بسببها، مين عالم يمكن كانوا مخططين لكل حاجة مع بعض فعلًا زي ما بابا قال.. دايمًا مكنش بيـ....
- بــــــس
تزامن صوته الذي نطق فجأة بعدما فرغ مخزونه من الصبر لاستماع المزيد مع لكمهِ للطاولة براحتهِ، ثم رفع أنظاره القاتمة لينقلها بين الجميع حتى ارتكزت على تلك الفتاة التي يبغضها، و نهض من محلهِ و هو يقول بلهجة حالكة:
- مش عشان سايبك تبعبعي بالكلام هتسوقي فيها
و أطبق على ساعد زوجته و هو يشملها بازدراء:
- انتي تحمدي ربك إنك اتخلقتي بنت.. لأن و رحمة أبويا ده اللي حايشني عنك
و سحب حقيبة زوجتهِ.. دفعها في اتجاهها فأمسكتها قبل أن تسقط على الأرضيّة و هي تشيع أختها بنظراتها الحاقدة، تكز على أسنانها بعنف مفرط، تحرك "يامن" و قد دفع مقعده بعنف للخلف و دفعها للأمام ليسير بجوارها ساحبًا لها، و ما إن خطى بها كانت "يارا" تلتفت لتستكمل كلماتها التي ظلّت عالقة على أطراف لسانها:
- انتي من يوم ما وعيت على الدنيا و انتي بتاخدي مني كل حاجة.. كل حاجة خدتيها و بقيتي انتي حبيبة أبوكي، حتى حلمي الوحيد خدتيه بأنانيك يا بشمهندسة، و يا ريتك عملتي حاجة، إلا إنك استكفيتي باللقب ده و كأنه إنجاز، أي حاجة في إيدي بتبصيلي فيها حتى عرايسي كنتي بتاخديها مني و تبوظيها حتى لو مش عايزاها، إنتي من صغرك و انتي مش بتحبي حد، و إن كان على اللي حصلك بسبي فأنا حصلي كتير بسبب أب عمرنا ما هميناه.. سمعتي، و لا كنا حتى في الهامش.. إحنا كنا أحقر عنده من إننا نكون هامش في حياته .......
و لم تصلها باقي كلماتها المندفعة عقب أن خرجت برفقة زوجها الذي سحبها عنوة، ترقرقت العبرات في عينيّ "ولاء" و انهارت على مقعدها و هي تنتحب دافنة وجهها في كفيها:
- انتي اللي عمرك ما عرفتي تفهميني.. انتي اللي عمرك ما حبيتيني مش أنا، أنا معملتش حاجة أستاهل عليها ده كله،.. معملتش حاجة غير إني عرفتها الحقيقة و بس، انتي حتى متعرفيش حاجة عني، متعرفيش إني لجأت لواحدة طعنتني في ضهري و كانت عايزة تضيعني، انتي مش هامك غير نفسك و بس
نفخ "فارس" مطولًا زفيرًا منزعجًا محاولًا تحرير ذلك الاختناق الذي أطبق على صدرهِ، ثم قال و هو ينظر صوبها:
- خلاص قومي.. انتي برضو هبيتي فيها و انتي متعرفيش حاجة من الـ...
فنظرت نحوهُ بأعينها الدامعة و هي تردد استهجانًا:
- انت كمان هتقف في صفها؟ و لا تكونش حبيتها زي ما حبها!
و نظرت أمامها بتحسر و هي تتابع بمرارة:
- أساسًا هي كل اللي بيشوفها بيحبها، كل حاجة يارا يارا، ولاء ملهاش أي لازمة و لا ليها وجود حتى، ولاء محدش بيفتكرها و هي ماشية تسرق القلوب كلها، أوف
فاستنكر "فارس" تفكيرها الغير مُتعقّل و:
- أحب مين انتي اتجننتي؟
و ثم قال مواجهًا إيّاها بحقيقة شخصيتها:
- أقولك حاجة.. هي مغلطتش، إنتي بتغيري منها و عايزة أي حاجة هي مالكاها
و تعمّد أن يميل عليها و يُخفض نبرتهِ ليكون تأثير كلماتهِ أكثر قوة عليها:
- حتى جوزها.. يا ولاء
نظرت نحوهُ بأعينها الدامعة و قد تحجرت العبرات فيهما، ابتلعت غصة عالقة في حلقها و هي تنقل نظراتها المصدومة بين عينيهِ، حينما كان هو يستقيم في وقفتهِ مخرجًا حافظة نقوده، و أخرج منها مبلغًا نقديًا تركهُ على الطاولة و انصرف لينتظرها في الخارج، فظلت تتابعه بأنظارها الغير مستوعبة و المكلومة في آن واحد.
.............................................................
صدرها ينهج علوًا و هبوطًا من فرط الانفعال و قد اصطبغت بشرتها باللون الأحمر الفاقع، كانت تجلس بوضعٍ متأهّب للغاية و كأنها على وشك اشتباك جديد، حينما كان هو يسألها و هو ينقل نظراته بينها و بين الطريق:
- هديتي؟
فهدرت من بين أسنانها المطبقة و هي تلتفت نحوه:
- هديت!.. المفروض إني أهدى بعد اللي عرفته
و رفعت كتفيها و هي تردد مستهجنة ما علمتهُ:
- أنا واحدة عرفت فجأة إن جوزي هو نفسه ابن عمي!.. المفروض أهدى ببساطة؟
و احتقنت عيناها بالدماء و هي تتابع باحتدام جلّ على تقاسيمها:
- واحدة عرفت إن أبوها اللي ضحت عشانه قتل أخوه عشان فلوسه! المفروض أهدى بعد كل ده
و ضربت بأناملها المتكورة على تابلوه السيارة و هي تلتفت مغمغمة باحتقار:
- و في الآخر ليها عين تنطق و تقولي متفقة معاك!.. كمان كان مفهمها ده و أقنعها إن كل ده كان لعبة
نظر "يامن" نحوها من طرفهِ.. ثم نطق بـ:
- اتغيرتي!
نظرت نحوهُ نظرة مستفهمة و قد انعقد حاجبيها، فأردف موضحًا:
- انتي كمان جرحتيها بالكلام.. مسيبتيش حقك
تقوست شفتيها تذمرًا ثم قالت مناطحة إيّاه بالرأس:
- اتعلمت منك
ظلّ جبينهُ مجعدًا و هو يردد معربًا عن إعجابه على الرغم من تصلّب نبرتهِ:
- عظيم
و أعادت خصلة من خصلاتها خلف أذنها و هي تنظر نحوه بحنق مطول، ثم قالت و هي تضيق عينيها:
- و إيه جرحتها بالكلام دي كمان؟ خير؟.. صعبت عليك؟
خلع نظارتهِ القاتمة ليلتفت نحوها فتبيّنت لها نظراته المظلمة و هو يسألها بتجهّم واضح:
- خيـر انتي؟
أطبقت على أسنانها و هي تشيح بوجهها عنه معتدلة في جلستها، عقدت ساعديها أمام صدرها و هي تزمّ شفتيها في انفعال، حينما أصرّ هو على أن يحصل على إجابة محددة:
- قصدك إيه يا يارا؟
حينها التفتت نحوهُ باندفاع و قد حلت عقدة ساعديها لتهتف بـ:
- قصدي إنها بتحبـك!.. معجبة بيك على الأقل، و إياك تقولي مش عارف أو مش ملاحظ ده
فحاد بنظراته عنها و هو يشجُب قولها بـ:
- لأ الواضح إنك مش بس طارشة.. انتي عامية، مشوفتيش إننا كنا هنقتل بعض جوا و لا إيه؟
لكمت مجددًا التابلوه بأناملها المتكورة و هي تقول بانفعال:
- أنا شوفتها بعيني.. شوفتها بتبص لك إزاي.. شوفت عينيها بتلمع و هي بتسرق منك نظرة كل شوية!
و اعتدلت في جلستها لتنظر أمامها مدمدمة  بسخط:
- أساسًا أنا فاهماها كويس.. عايزة أي حاجة معايا
و تقوست شفتيها بابتسامة ساخرة و هي تتشدق بصوتٍ مسموع:
- متعرفش أساسًا إنك مش معايا!
فكان ردّهُ قاسيًا لدرجة لم تتوقعها و هو يردف:
- الحب مش سهل للدرجة دي،.. مش أي مشاعر تقولي عليها حب، و مش أي نظرة تقولي عليها حب، مش أي حركة تصدر عن أي شخص تقولي عليها حب
و نظر نحوها نظرة ذات مغزى جافّ و هو يتابع:
- انتي كل حاجة بالنسبة لك حب.. لكن صدقيني.. إنتي عايشة في أوهام
و نظر أمامه مشيرًا بعينيه و هو يقول مقوسًا شفتيهِ:
- أختك مش بتحبني.. أختك فاكرة إنها بتحبني، لكن قريب هتعرف إنها كانت غبيّة لما فكرت إن مشاعرها حب!
لم يكن من العسير أن تفهم أنهُ لم يقصد غيرها بكل كلمة جافّة قالها، نظرت نحوهُ باغتياظ حانق و هي تطبق أسنانها، ثم التفتت لتعتدل في جلستها مغمغمة بـ:
- صح.. انت معاك حق، أساسًا مفيش حاجة اسمها حب في زمن الأخ بيقتل فيه أخوه
- بالظبط
فنظرت نحوهُ نظرة متمقّطة من طرفها امتزجت بالحسرة و قد أطبقت كلماتهِ على صدرها، توقفت العبرات على أعتاب مقلتيها فحادت بناظريها عنهُ لتنظر من خلال الزجاج المجاور لها لتستند بمرفقها بحافتهِ، و بكفها احتضنت جانب عنقها، أطبقت جفنيها لتنسال منه عبرة واحدة سارعت بنزحها حينما كان هو يسألها بجفاء:
 - بتعرفي إيطالي ازاي؟
ازدردت "يارا" ريقها، و هي تقبض جفونها، نازحة من جديد عبرة أخرى، و حاولت لملمة شتاتها، و هي تفتح عيونها مرددة بنبرة خاوية من أي مشاعر، بينما تفتح حقيبتها كي تخرج علبة محارمها الورقية:
- درست في كلية سياحة و فنادق، طبعًا لغتنا الأساسية كانت إنجلش بس أنا حبيت أعرف لغات جديدة، درست تركي و إيطالي
أخرجت "يارا" محرمة ورقية، و مسحت وجهها، و أسفل عينيها، و أخفضت جزءً من السيارة كي تتتبيّن لها تلك المرآة، و من ثم أخرجت قلم الكحل الخاص بها من حقيبتها، و شرعت تكحّل عينيها باللون الأسود، تحت وقع أنظارهِ غير المستوعبة لفعلتها، حتى أخرجت "يارا" طلاء الشفاه الورديّ الفاتح، و الذي ليس ملفتًا إلى حدّ ما، و حالما انتهت "يارا" عادت ترفعها لتختفي المرآة، و وضعت متعلقاتها في الحقيبة، و أسندت ظهرها للخلف، استشعرت نظراتهِ العالقة عليها، فالتفتت و هي تجعّد جبينها، مدمدمة من بين شفتيها:
- إيـه؟
حاد "يامن" ببصرهِ عنها، و قد لاحت بسمة شبه ساخرة على شفتيهِ، و شبه مستهجنة لأفعالها نوعًا ما، إلا أنها لم تكترث كثيرًا، بل نظرت عبر زجاج نافذتها، حتى وصلها سؤالهِ الجامد:
- جعانة؟
كان قد أدرك شراهتها للطعام دومًا و إن كانت بعض الأحيان و ليس دومًا في حزنها تتخلى عن عادتها النهمة تلك، و لكنهُ متيقّنًا أنها الآن ستود لو تخرج كل طاقتها المكبوتة في تناول الطعام، و خاصة أنها لم تتناول شيئًا منذ أن غادرا منزل الكهل، حينها أجابتهُ بتعنّد:
- تؤ
فتقوست شفتيهِ و هو ينطق:
- تؤ.. ماشي!
فأجابتهُ و كأنها تفهمت ما يجول في خاطرهِ:
- عظيم!
فالتفت نحوها.. نظرة متعمقة في باطنها و لا تحمل سوى الجفاء في ظاهرها منحها إياها، و لكنها لم تلتفت على الرغم من شعورها بنظراته المسلطة عليها، ارتفع جانب ثغره بشبح ابتسامة و قد عاد ينظر أمامهُ متابعًا الطريق و هو يسألها:
- جعانة؟
فالتفتت لتردد بعفوية تلك المرة مستنكرة تكرار سؤالهِ:
- تؤ.. الله!
فنظر نحوها نظرة جامدة و هو يردد سؤالهِ:
- جعانة؟
حملقت به غير مدركة مقصدهِ من تكرار السؤال، ثم أومأت و هي تعترف:
- أيوة.. عايز إيه بقى؟
فالتفت ليحدق في الزجاج الأمامي و هو يدير المقود و قد لاح شبح ابتسامة على ثغرهِ:
- عظيم!
فوجدت مشاعرها السلبية تُمتصّ.. نظرت نحوهُ نظرة مطولة و لم تمنع ثغرها من الانبعاج بابتسامة متسلية و هي تومئ بحرمة من رأسها:
- عظيم!
ضحكت ساخرة و هي تهز رأسها استنكارًا، ثم عادت تنظر من زجاج بابها و هي تنطق بـ:
- على فكرة كنت بكذب.. أنا جعانة فعلًا
فتقوست شفتيهِ و هو يقول متشدقًا:
- ما كان من الأول
و نزحت خصلاتها المتمردة تلك، لتضعهم خلف أذنيها و هي تسحب شهيقًا عميقًا زفرته على مهل، و كأنها استشعرت أنهُ لن يتركها.. ما دامت الآن جزءً منه، لن يتخلى عنها ببساطة، مجرد تلك الفكرة بددت سخطها، و أعادت صفوها، فراحت تغمغم بشئ من الهدوء، معربة له عن رغبتها في:
- و عايزة أشرب شاي حالًا، لأ نيسكافيه أفضل.. لأني بجد مش شايفة قدامي
و نظرت نحوهُ نظرة مغتاظة من طرفها هامسة:
- ما هو بسبب واحد كنت بجري وراه من هنا لهنا منمتش خمس دقايق على بعض
فسخر منها و هو يحك بطرف سبابتهِ أنفه:
- سلميلي عليه
- يُوصل!
.............................................................
منذ أن أعادها للفندق ريثما يحين موعد زيارتها لطبيبها و هي واجمة، لم تبكِ أكثر من ذلك..و لكنها من حين لآخر تنسال العبرات من عينيها و هي غير واعية لذلك.. جلست على الأريكة أمام التلفاز تتابع ما بداخلهُ بعينيها و ذهنها شاردًا لا يبالى بهِ، و كأنها كلما حاولت أن تحيد بتفكيرها عن تلك النقطة كانت تعود أكثر إليها، فنفخت بقنوط و هي تسحب جهاز التحكُّم و أغلقته و هي تنهض ساحبة قدح مشروب القهوة السريع الممزوج بالحليب الذي أعدّته عقب أن شعرت أن ذهنها يحتاج للراحة.. و لكنها تأبى أن تحظى ببضع دقائق من النوم.

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن