"الفصل الحادي و الخمسون"

717 18 0
                                    

" الفصل الحادي و الخمسُـون"
جسدها مُتدليّا و ذلك الحبل الغليظ يُحيط عنقها، مُطبقة جفنيها، بشرتها شاحبة شحوب الموتى، ساقيها المشبعين بالزرقة و اللذان برزا من أسفل ثوبها الذي يصل لما بعد ركبتيها، ذلك الكرسيّ ساقطًا على جانبه و كأنها قامت بدفعهِ بعد أن أطبقت بذلك الحبل الغليظ على عنقها، شمل كل ذلك بنظرة واحدة، و كأن وقع الصدمة أشدّ عليهِ من قوته على التحمّل، و لكنهُ تدارك نفسه سريعًا و لملم شُتاتهِ المبعثر، ليركض نحوها مستوفضًا، أطبق على ساقيها المتدليتين بين ذراعيهِ و هو يجأر بـ:
- هُــــــــدى!
و لم يصلهُ سوى صوت شهقات "سهير" التي اخترقت أذنيهِ گالسياط.. ابتعد قليلًا ليرفع نظراته نحوها، مرر إحدى ذراعيه خلف ركبتيها، و بكفهِ الآخر و أخرج سلاحهِ من ملابسه ليقتطع الحبل بطلقة واحدة، ثم تركهُ يسقط أرضًا و هو يحتوى جسدها بين ذراعيه، إحداهما خلف ركبتيها، و الآخر خلف ظهرها، ارتكز بصرهُ على وجهها، و قد اغرورقت دموع لا يعلم كيف وجدت طريقها لمقلتيهِ، أغرق وجهه في عنقها يتشمم عبقها و هو يقول راجيًا إياها للمرة الأولى:
- قومي يا هدى، قومي أنا جيت عشانك.. قومي و كلميني!
أطبق أكثر بذراعيه على جسدها البارد گقطع من الثلج، و قد أغرقت عبراتهِ التي انسدلت حتى دون وعي منه خصلاتها، ابتعد قليلًا ليتجول بعينيهِ على وجهها الشاحب، و كأن تلك اللحظة أعادت لديهِ ذكرياتٍ أكثر بشاعة، لحظةً واحدة حملت الماضي بين راحتيها إليهِ، حين فقد والدهِ، دون أن يتمكن من استعادتهِ، و اليوم هو يعايش نفس الشعور البغيض، شعر أن ساقيهِ لا يقويان على حملهِ، و گأن ذلك الجبل الشامخ لم يكن، و كأنهُ مجرد طفل فقد والدتهِ العزيزة و فقط، خرّ على ركبتيهِ و هي بين ذراعيه لا يفلتها، ثم ترك جسدها برفقٍ و هو يحرر ذراعه عن ركبتيها على الأرضية، و ترك ذراعه المحيط لظهرها ليدفنها أكثر في أحضانهِ، تأمل ملامحها و قد تشوشت عينيه بالدموع التي لم يدركها حتى، نزح خصلاتها المبتلة بدموعهِ و التي التصقت بجانب وجهها، و هو يقول:
- عايزة تسمعيها مني! ماشي.. قومي يا ماما، قـومي
و حاول مراضاتها و هو يطبق على فكها برفقٍ ليحدق في وجهها:
- مسامحك.. مسامحك صدقيني، مسامحك على أي حاجة، خليكي معايا يا هدى، متسيبينيش للعذاب ده، متعذبينيش أكتر من كده
محاولاتهِ أجمع تبوء بالفشل، و هي ساكنة لا يصدر عنها رد فعل، و فجأة احتد، عيناهُ صارتا أقرب لجمرتين متوقدتين و هو يُطبق بأناملهِ الغليظة على فكها بعنف:
- افتحي عينك يا هدى.. افتحى عينك و كلميني، كفاية تعذيب فيا بقى.. كفايـة!
و اشتدت قبضتهِ على فكّها، دون وعيٍ منه و قد احتدمت نبرتهِ أكثر و هو يردد معنّفًا:
- انتي بترتاحي لما تشوفيني بتعذب قدامك، صح؟ لكن مش هسمحلك تعذبيني المرة دي.. مش هسمحلك تعملي كده فيا و تسيبيني أتعذب بذنبـك، مش هسمحلــك!
كانت متكومة على نفسها ملتصقة بأقصى زاوية تبكي بحرقة إثر كلماتهِ، حتى التفت نحوها و هو يجأر باهتياج:
- اخرسي.. مش عايز أسمع صوت، اخـــــرسي!
كتمت فاهها بكفيها و هي تدفن وجهها في ركبيتها فزجرها بنظرة حامية و قد تحجرت الدموع في مقلتيه:
- بتعيطي ليــه؟، هي هتقوم.. هي بتعمل كده عشان أسامحها، و هتقوم
و راحت أنظارهِ تتجه نحوها مجددًا و هو يجأر بها بسخطٍ تام:
- هـــــــدى!
لحظـةً واحدة.. لحظة واحدة مرت بها تفاصيل حلمهِ نصب عينيه و كأنهُ عذاب جديد، ذلك الكابوس الذي كان عبارة عن رموز بشعة لم يتمكن من حل شفراتها، على عكس ما رآهُ قبل موت والدهِ فكان واضحًا، صدرهُ ينهج علوًا و هبوطًا و هو يرخى أناملهِ عن فكّها، تكورت قبضتهِ المجروحة و هو يضمّ وجهها مجددًا لصدرهِ، أبعدها قليلًا ليشمل وجهها المصطبغ بالزرقة، فأطبق جفنيه بعنفٍ و هو يواري ذلك الجحيم الذي استعرت نيرانه بحدقتيهِ، انحنى قليلًا ليترك جسدها يتسطّح الأرضية ثم ترك قبلة مطولة على جبينها.. و هو يتمنى لو كانت قيد الحياة، لو لم تغادر الروح جسدها فتستشعر قبلته، و راح يدفن وجهه مجددًا في عنقها و خصلاتها ليهمس بكلمة واحدة بجوار أذنها:
- سامحيني.. حقك هيرجع، حتى لو مني!
و تركها.. ابتعد عنها بـ شِقّ الأنفُس و نهض مستقيمًا في وقفته، و قطع المسافة الفارقة بينه و بين الباب و هو يخرج مستوفضًا، متمنيًّا أن يكون ما يدور بخلدهِ أكذُوبـة.
.....................................................................
  اسبُــوع..
  ‏اسبوع مر و هي تتجاهل اتصالاتها مجددًا.. حتى أن والدتها اقامت عليها حصارًا محكمًا عقب أن فرت من المنزل بعدما تلقت دعوة زفافهما، و الآن هي عالقة.. تتوسلها بكل ما اوتيت لها الفرصة و هي تتلمس وترها الحساس و تثير فيها مشاعرها حيثُ رددت:
  ‏ـ انتي عايزاني أحس فعلًا اني معاقة يا ماما! مجرد معاقة محبوسة في بيتي مش هخرج منه أبدًا
  ‏تركت "حبيبة" الصحن في الحوض و اغلقت الصنبور و هي تلتفت نحوها لتزجرها:
  ‏ـ كفاية بقى يا ولاء.. انتي مش معاقة، بطلي تقنعي نفسك بده بقى، بطلي
  ‏نفخت "ولاء" بانزعاج شديد و هي تقول مستنكرة:
  ‏ـ يعني بردو مش هتسيبيني انزل؟
  ‏فصاحت بها "حبيبة":
  ‏ـ قولت لأ.. مفيش نزول، انا مش ناقصة تنزلي و يحصل لك حاجة تاني أنا معرفهاش، أنا مش باقي لي غيرك
  ‏و نظرت نحوها باحتداد و هي تتابع مُستشعرة ذلك الثقل الذي يلقى على كاهليها:
  ‏ـ و لا مش شايفة ان المسؤولة عنكم.. ابوكم هنا، و برضو انا المسؤولة و لا كأنه جه.. و صدقيني، يا ريتني حتى ما شوفته تاني، يا ريته قضى حياته هناك
  ‏و راحت تفتح الصنبور مجددًا و هي تسحب احدى الصحون لتشرع بتنظيفه و قد ولّت ظهرها لها، موارية تلك العبرة التي انسابت من بين جفنيها، بينما "ولاء" تقف كمن تقف على مرجل.. نفخت بصوت مسموع متأففة و هي تخرج من المطبخ نهائيًا بخطواتها المتعرجة، و رغمًا عنها.. تعثرت قدمها بطرف البساط فكادت تنكفأ على وجهها، لولا انها استندت بكفيها للحائط أمامها، مما سعّر النيران بصدرها أكثر و هي تستشعر و كأن حالها يسوء، صرخت صرخة مدوية و هي تضرب الأرض بقدمها الأخرى.. ثم انتقلت لغرفتها صافقة الباب بعنف من خلفها، رو راحت تبحث يمينًا و يسارًا عن هاتفها حتى وجدتهُ، فأعادت الاتصال و لكنها لم تحد ردًا فشعرت بطاقة رهيبة من الغضب المكبوت بداخلها و لا تعلم كيف يمكنها تنفيثهُ.. القت الهاتف بعنف فوق الفراش و هي تدلك جبينها محاولة تخفيف حدة الصداع بينما تتوسلها بخفوتٍ هامس:
  ‏ـ أرجوكي يا وداد، ارجوكي تردي بقى.. مفيش حد بيفهمني غيرك، ردي ارجوكي
  ‏...........................................
  صـار يحمل طاقة بغض مكبوتة ناحية ذلك الثريّ الذي جعلها هكذا.. تجلس شامخة بذقنها كالجبل الصلد، لا تخشى شيئًا، و على العكس تمامًا، بل أنها تهددهُ بنظراتها و تتحداهُ بها..
  ‏يجلسُون جميعًا و گأنهم بمحاكمة عائليّة.. راحت العجوز تضرب بعكازها الأرضية و هي تمرر النظرات المستهجنة فيما بينهم عاقدة حاجبيها:
  ‏ـ كيف يعني اللي عتجولوه دِه يا ولاد ولادي؟!
  ‏شبكت "رهيف" كفيها معًا بثبات انفعالي ثُمّ غمغمت:
  ‏ـ زي ما حضرتك سمعتي يا جدتي.. لا انا موافقة على الجوازة دي، و لا حتى راشد
  ‏نظرت العجوز صوب حفيدها و هي تؤنبه:
  ‏ـ و أنا اللي جولت مفيش غير راشد اللي هيسمع كلمتي و مهيكسرليش كلمة؟.. ايه اللي غير حالك اكده يا ولدي؟
  ‏تقوست شفتيّ "راشد" و هو ينظر لـ"رهيف" شزرًا، ثم أجابها حانقًا:
  ‏ـ أنا آسف يا جدتي.. لكن انا مديتش كلمة موافقة مني لحضرتك، و لما بدأت أتقبل الموضوع عشان خاطرك و حاولت أقنع رهيف.. فشلت، هي مقبلتش ده!
  ‏فتحرك بُؤبؤي العجوز نحو ابنتها التي تجلس كما ابنتها، ثابتة، فقالت باستهجان واضح:
  ‏ـ و انتي ايه جولك يا بتي؟.. موافجة على كلام بتك؟
  ‏كانت تنظر نخو ابنتها ثُم نظرت نحو والدتها و هي تحتوى كف ابنتها:
  ‏َ أيوة يا ماما، طالما هي مش موافقة.. مقدرش أجبرها على ده!
  ‏و نظرت صوب "راشد" بشئ من الأسف و هي تردف:
  ‏ـ للأسف.. مقدروش يتفقوا،.. يبقى ليه نجبرهم انهم يكملوا باقى حياتهم فـ....
  ‏قاطعها "راشد" و هو يتحدى "رهيف" بنظراتهِ:
  ‏ـ غلط يا عمتي.. بالعكس، الفترة اللي فاتت حسيت فيها قد ايه رهيف انسانة مسؤولة، و اقدر اتوافق معاها.. لكن للأسف هي اللي مش قادرة تقبلني في حياتها
  ‏و نظر نحو والده الصامت الذي بيد و كأنه يجلس على مرجل، نظراته التي يُطلقها نحوها كالشواظ المترامي، ثم قال بلهجة ذات مغزى:
  ‏ـ كلنا عارفين يا جدتي ان رهيف كانت متعلقة بوالدها جدًا
  ‏و عاد ينظر نحوها غير ممانعًا من لوي ثغره ببسمة ظافرة:
  ‏ـ و اعتقد ده السبب اللي مش مخليها تقبلني ابدًا، بسبب مشاكل بابا مع والدها
  ‏ـ راشــد
  ‏دوى صوتها المحذر و قد احتقنت الدماء في وجهها و هي تطبق أناملها.. فاحـتدت نبرتهِ:
  ‏ـ في ايه يا رهيف؟.. غلطان؟ مش انتي اللي قولتي كدا بلسانك؟ خايفة تتجوزيني عشان أرض أبوكي! مش ده كلامك و لا أنا جايبه من عندي
  ‏تكاد تُنفث نيرانًا من اذنيها بعد كلماته التي حطّت گالشهاب الثاقب، اطبقت أسنانها و قد تبدل حالها تمامًا، عيناها بعثتا شرارة نحوه و هي تتوعده بالرد، بينما كانت الجدة تضيق عينيها و هي تنظر نحو حفيدتها:
 ‏ـ الكلام دِه صح يا بتي؟     
  ‏طردت "رهيف" ذلك الزفير من صدرها و نظراتها تتجه نحو والده، و كأنه يبعث برسالة مضنية إليها أن جدتها لن تقتنع بما تقول.. و ستنكر ما تقول و تعتبرهُ تبريرًا كاذبًا كي تتخلص من تلك الزيجة التي لا تتقبلها مُطلقًا منذ الرمق الأول، عليها أن تفكر بحكمة قبل أن تتهور، شددت من ضغطها على عضلات فكيها و هي تنظر نحوه مجددًا، و كأنها تقبل ذلك التحدى الذي أعلنه عليها اليوم، فأومأت و هي تقول:
  ‏ـ هكون بكذب لو قلت لأ يا جدتي.. لكن صدقيني لو أنا بحب راشد، او لو انا و هو متفاهمين، مكونتش ههتم بأي حاجة تانية، لا كنت ههتم بمشاكل قديمة ملهاش أي لازمة دلوقتي
فقالت الجدة و هي ترمقها بامعتاض:
‏ـشوفي يا بتي الكلام دِه مهيفرجش معايا عاد، طالما راشد موافج، خلاص
‏فاحتجت "رهيف" و قد فقدت آخر ذرات تعقلها:
‏ـ يعني ايه يا جدتي؟ أنا ماليش رأي، مش أنا اللي هتجوز بردو!
‏و حاولت " سعاد" تأييد ابنتها:
‏ـ يا ماما خلاص بقى..هي عافية! رهيف مش موافقة!
‏نهضت العجوز و هي تقرع الأرضية الصلبة بعكازها و بصرامة علّقت:
‏ـ شوفي يا بتي.. الموضوع ده مهيتفتحش تاني معايا، هتتجوزي راشد، و دِه آخر كلام عندي
‏و أعقبت كلماتها و هي تشمخ بذقنها:
‏ـ لو ده محصلش.. لا انتي و لا أمك هتاخدو جرش واحد من الورث
‏و اتجهت أنظارها صوب ابنها و ولده و:
‏ـ راشد و متولي موافجين.. انتي و بتك اللي معارضيني!، خلاص.. تدفعوا تمن عنادكم دِه!
‏و راحت تخطو بصعوبة نحو الدرجات لتصعدها، فربتت "سعاد" على كف ابنتها قبل أن تنهض عن جلستها:
‏ـ اوعي تتضايق، انا هحاول معاها و لو للمرة المليون، متخافيش يا رهيف، انا لا هاممني ورث و لا غيره
و انصرفت تتبع والدتها محاولة مساعدتها على السير، و لكنها أعرضت و هي تدفع كفها بعيدًا و هي تستأنف سيرها،  بينما النظرات المتبادلة بين ثلاثتهم تكاد تُضرم النيران في الأجواء، و ما هي إلا ثوان و كان "متولي" ينهض عم جلسته و هو يفرك ذقنه المُشبع بالشعيرات البيضاء، نظرة ظافرة منه جعلت نيرانها تستعر أكثر و أكثر و خاصة حين أردف:
ـ مبجاش عِندك حل تاني، هتبيعيلي الأرض دي و تخلصي من الجوازة
نهضت مستقيمة بوجه مرفوع أمامه و هي تقول باصرار و هي تضغط على كلماتها بينما عيناها المتوقدتين تكادان تلتهمانه:
ـ أرض أبويا مش هبيعها لو حطيت السكينة على رقبتي! نجوم السما أقربلك منها يا خالي
زمجر غاضبًا و هو يشيعها بنظرات ممتعضة ثم اردف متوعدًا:
ـ بكرة نشوف يا بت أختي الأيام هتوصلنا لفين
و برح محله منصرفًا تتبعه نظراتها.. انحرفت نظراتها نحوه حين نهض عن جلستهِ ليقف أمامها، أساريره متهللة و هو يرمقها بانتشاء لم يتمكن من اخفائهِ، فأردفت "رهيف" من بين أسنانها و هي ترمقه بازدراء:
ـ انا أول مرة أعرف فيها انك انسان قذر بالشكل ده يا راشد.. حقيقي انا كل ثانية بتعدي عليا بكرهك فيها أكتر و أكتر
فتجهم و هو يقطب حبينه مُحتجًا على نعتها لهُ:
ـ قذر عشان عايزك بالحلال؟ قذر عشان عايز اتجوزك؟!.
فأجابته باشمئزاز و قد تقلصت ملامحها:
ـ لا قذر عشان غرضك اللي عايز تاخده مني انت و ابوك.. لكن صدقني، مش هتنولوه أبدًا
و برحت محلها متحركة بخُطى متشنجة، تتابعها أنظاره و قد تراخت ملامحه و هو يهمس لنفسه بإصرار:
ـ صدقتي أو لا يا رهيـف، لكن انتي غرضي الوحيد
و أحنى نظراته متابعًا بتصميمٍ لم يخبُـ:
ـ و مش ناوي أبدًا أضيعك من ايدي
...................................................
مُنذ أن أدركت أنهُ تركها رغم محاولاتها الجمّة في استبقائهِ أُصيبت بغضبٍ محموم، استشعرت أنهُ فضّل عليها والدتهِ التي تعتبرها سببًا رئيسيًا في شخصيّته تلك، و للحق يقال أنها تكنّ لها حقدًا مبررًا عقب ما فعلت و تسببت بهِ لها، و بدلًا من أن تستيقظ فتجده جوارها.. استيقظت على سرابهِ.
ارتدت "يارا" كنزتها الصوفيّة ذات العنق الطويل بحيث تُدفئ رقبتها، و إحدى درجات اللون البني الفاتح المميزة، و من أسفلها بنطال من الجينز الأسود، استعانت برابط الشعر لتعقد خصلاتها و هي تسير نحو الباب منتوية و بأي شكلٍ من الأشكال اللحاق بهِ أينما وُجد، و إن كانت ستجبر أحد رجالهِ أو تحاول إقناعهم، و لكنها توقفت في اللحظة الأخيرة، انعقد حاجبيها و نظراتها تتوجّه نحو غرفة تبديل الملابس الملحقة بغرفتهِ، و فكرة ما تلوح في الآفاق، لربما هو بالأسفـل، لربما لم يرحل.
و من تلك الفكرة استمدت أملًا واهيًا، غيّرت "يارا" وجهتها، و دلفت للغرفة.. مضت نحو ذلك الباب الداخليّ الذي لم تكن تعرفه قبلًا، و اكتشفته قبل مدة قليلة، فتحته و عبرت.. فكان يكشف عن سلمًا دائريّا يقودها للأسفل، حيث غرفة مكتبه، و انتهت بها الدرجات لباب آخر، فتحتهُ و خطت عبره، فتوقفت محلها و هي تشمل الغرفة المظلمة بنظراتها الباحثة عنهُ هو، و لكنها لم تجده، عبست و قد تقوست شفتيها للأسفل، و عقدت العزم على البحث في أرجاء القصر.. أو تسأل عنه العجوز عسى أن يكون رآه، خطت بداخل الغرفة و هي تنير ضوئها فغرقت الغرفة فيه، حتى توقفت.. تيبس جسدها تمامًا و نظراتها تتسلط على تلك المزهرية الذهبية اللون و التي عكست ما خلف الأريكة و...............
 
......................................................................
و گأنها تود لو تطبق على عنقه بكفيها فتتخلص منهُ من فورها، عقب ما تعانيهِ بسببهِ و بسبب تواجده، أو بالأحرى بسبب أنه وُجد في حياتها من الأساس.
انعقد ساعديّ" ولاء" و هي ترمقه بامتعاض واضح:
ـ مش عايزة أتزفت خلاص.. غيرت رأيي
ترك "فارس" كوب الشاي الخاص به جانبًا و قد ارتشف منه القليل ثم قال متجاهلًا لها و هو يرفع نظراته نحو والدتها:
ـ مدام حبيبة.. أنا جاي أطلب إذنك اني آخد بنتك
و نظر نحوها نظرة حالكة و هو يُتمم كلماتهِ المنتقصة:
ـ مشوار صغير.. لكن مهم بالنسبة لها
و لكنها عادت تحتجّ مجددًا:
ـ ماما.. أنا قولت مش رايحة في حتة، خلاص انا راضية بالقعدة الزفتة دي
فنظرت "حبيبة" صوبها و هي تقول مستنكرة:
ـ مكنش ده حالك الصبح و انتي بتزني عليا عشان تخرجي يا ولاء
نفخت "ولاء" بانزعاج شديد، بينما كان "فارس" يرمقها بنظرات تحمل التحذير بين طيّاتها، انعقد حاجبيها و قد استشعرت أنهُ يقدم على فعلة ما، و ما هي إلا ثوان و كان يقول ببرود فاركًا صدغهِ بسبابته و هو يحرف نظراته نحو "حبيبة":
ـ متقلقيش يا مدام حبيبة.. هتكون في أمان معايا
و نظر نحوها متابعًا بتهديدٍ مُبطّن انبعث إليها من نظراتهِ:
ـ أكيد مش هرجعهالك تعبانة زي المرة اللي فاتت
ازدردت ريقها و قد شعرت ببوادر دهاء منه، رمشت عدة مرات بينما كانت تقول " حبيبة" و هي تشير اليها بعينيها:
ـ قومي يا ولاء غيري هدومك
و بامتعاضٍ.. نهضت و هي تحدجه بنظرات محتدة و قد شعرت بأنها حُشرت رسميّا في الزاوية، راحت تخطو خارج غرفة استقبال الضيوف بخطى متعرجة و متشنجة في نفس الآن.. بينما هُو يتابعها بنظرات غامضة، حتى انتبه الى قول "حبيبة" و هي تطلق زفيرًا مطولًا من بين سفتيها:
ـ أنا لولا اني واثقة فيك يا ابني مكونتش هوافق على دا
أومأ" فارس" و هو يسحب كوبه ليرتشف ما بقى منه ثم قال بعد أن ابتلع رشفته:
ـ متقلقيش يا مدام حبيبة.. اللي حصل لها كان بسببي، و انا هحاول أصلحه بطرقي
........................................................................
شعرت بأطرافها گالثلوج متجمدة لا تقوى على تحريكها، دوت خفقات قلبها الجازعة في أذنيها فـ كادت تصمّها ، أخفضت نظراتها و هي تحاول جاهدة التحكم بانفعالاتها و عدم إظهار ذلك الهلع الذي احتلّ ملامحها ، استدارت لتمنع عنه فرصة التلذذ بفزعها ، و تظاهرت بأنها تعبث بالهاتف ، حتى انتقت رقمًا وهميًا و رفعت الهاتف إلى أذنها متظاهرة بأنها تُحادث أحدهم و هي تُجبر ساقيها اليابستين على التحرك للخارج فـ بدت خطواتها بطيئة للغاية بينما كان صوتها يخرج متلعثمًا من بين شفتيها:
ـ ولاء.. أخبارك إيـه؟ وحشاني
و انتظرت و كأنها تستمع للرد على الطرف الآخر ، ثم ما لبثت أن أجابت:
ـ تمام.. أنا تمام جدًا ، بجد المكان هنا تُحفة ، يا ريت لو أقدر أكون هنا على طـو..!
و قبل أن تُتم كلماتِها كان صوت رنين هاتفها يرتفع و قد انبثق اسم "رهيف" عليها، توسعت عيناها بهلعٍ و هي تبعد الهاتف عن أذنها لتحملق بشاشتهِ، هوى قلبها في قدميها حين استمعت لصوتهِ البغيض و قد تفهّم على الفور أنها رأته ، فـ خرج من مخبأهِ:
ـ ليه كده يا قمر؟ بتعجلي بنهايتك ليه؟
و قبل أن تلفت حتى، صرخت بذعرٍ تملك من خلاياها أجمع و قد شحذت قواها الخائرة لتوفض للخارج ، أدارت المقبض بكفين متوترين يرتجفان وجلًا ، ثم استأنفت الهرولة المُبتعدة، و هي تتلفت للخلف فـ كان يسير بتؤدة و كفيه مدسوسين في جيبيه ، مُصدرًا صفيرًا متسليًا من بين شفتيه و كأنه يثق ألا مجال للفرار.
 و بينما تتلفت خوفًا من أن يدنو أو تتقلص المسافة ، اصطدمت قدميها بجسم ما ، فـ أدى ذلك لفقدانها توازنها ، فـشهقت قبل أن تسقط مفترشة الأرضية و قد اصطدمت رأسها بعنفٍ بـ الأرضية فـ اهتزت الصورة أمامها و شعرت بالأرض تميد بها ، أطبقت جفنيها قبل أن تحاول استجماع شتات نفسها لتنهض حتى جلست بوضع مستقيم ، شعرت و كأن ساقيها رخوتين ، و لكن غريزة المُحافظة على حياتها كادت تكون الأقوى ، فـ كربت تستند بكفيها على الأرضية ، لولا أن نظراتها الزائغة التقطت شيئًا بجوارها..أو اصطدمت بهِ تحديدًا ، جسد العجوز مُخضّب بالدماء التي سالت بغزارة من جُرحٍ غائر في رأسِه نتج عن طلقٍ ناري أودى بـ حياتهِ على الفور ، صرخت بهلعٍ و قد شحذت قواها الهلعة لتنهض فـ شخصت أبصارها ، و تلاحقت أنفاسها و قد شعرت بـ الخوف يسرى بشرايينها فور نهوضها.. عبر الضوء الخافت المتسلل من النوافذ في بهو القصر..جثث مُتناثرة هنا و هناك اكتُظت بها الساحة الداخلية للقصر ، انقطع صوت صراخها و قد شعرت بحبالها الصوتية تتمزق ، تيبّس جسدها بمحله و عيناها جاحظتان غير مُستوعبة بعد أن ما تراه هو واقعًا و ليس ضربًا من خيال ، حتى انتفض جسدها اثر صوتهِ القادم من خلفها :
ـ متخافيش أوي كده يا قطة!..ما انتي هتلحقيهم!
لم تجد ما تفعله سوى اطلاق ساقيها للريح ، أوفضت نحو السلم متعثرة بتلك الأجساد المنتشرة، و راحت تصعد درجاته و صدرها ينهج علوًا و هبوطًا ، حينًا تنفلت صرخاتها المريبة ، و حينًا تشعر بتجمّد أحبالها الصوتية فلا تقوى على الصراخ ، لم تكن تدرى أين تفرّ بينما تشعر بألا مفر لها ، و أن النهاية مقبلة لا محالة ، خاصّة حين انتفض الأخير مُهرولًا خلفها بخطواته الواسعة ، حتى أنهت الدرجات صعودًا و انعطفت في احدى الممرات قاصدة وجهة مُحددة ، لولا أن كفهُ قد امتد ليجتذبها بعنفٍ من خصلاتها ، تركت العنان لصراخاتها و هي تحاول تخليص خصلاتها و قد شعرت بهِ يكاد يجتثها من جذورها ، بينما كان يُدمدم بصوتٍ أجشّ و قد قست تعبيراته :
ـ ما قولتلك يا حلوة..مش هتعرفي تهربي!.. أصل مش أنا اللي حتة عيلة زيك تلعب عليا!
قالها و هو يستلّ من جيب سترتهِ القاتمة من الجلد سكينًا ذو نصل حاد فـ جعل مقاومتها تخبو و هي محملقة بـ النصل و قد انعكس ضوء النافذة الخافت على نصلهِ فـ عكس البريق في مقلتيها :
ـ قبل ما آخد منك حاجة بسيطة أوي!.. بعدها هتهربي زي ما انتي عايزة، بس مش هتلاقي غير مكان واحد تهربيله! السماء.
و قبل أن يرفع السكين عاليًا كانت قد التقطت كفهُ لتغرس أسنانها الحادة بهِ حتى سالت الدماء منها ، فـ أسقط السكّين و هو ينتفض منتزعًا كفهِ بعنف من قواطِعها متألمًا ، و اضطرّ أن يُحرر كفه الآخر عن خصلاتها و هو يسبّها بـ أقذع الألفاظ:
ـ آه يا بنت الـ***** يا ******
و ما ان وجدت الفُرصة سانحة حتى هرولت مُبتعدة عنه ، فـ أخرج سلاحهُ الناري و هو يتمتم بنبرة باردة :
ـ لاحظي انك قاعدة تصعبي عليا الموضوع!
أطلق رصاصةً طائشةً كـ تهديد صريح فلم تتوقف ، فـ صوّب الرصاصة التالية لرأسها ، و فور أن صدح صوت الطلقة انبطحت لتتفاداها و هي تنعطف لإحدى الغرف تصيح بهلع ، و فور ان دلفت صفعت الباب خلفها ، و استعانت بـ المفتاح المُندس به لتوصده ، ثم استندت عليهِ بظهرها و صدرها يعلو و يهبط من فرط الذُعر ، دفنت وجهها الشاحب شحوب الموتى بين كفيها و هي تنحني قليلًا لتلهث محاولة التقاط أنفاسِها ، أجفل جسدها حين ردد الأخير بصوتٍ قاسي هادرًا :
ـ انتي اللي بتصعبي نهايتك يا قطة..كده كده هتموتي ، كنت عايز اكون رحيم بيكي.. بس انتي اللي اختارتي!
و أُعقِبت كلماته بصوت ضحك جلل صداه في أنحاء القصر ، و انقطع الصوت تمامًا بعدها، كتمت بكفيها شهقاتها و صوت تنفسها، و هي تُرهِف السمع، و حين لم تٌجدى محاولتها تحولت نظراتها نحو الشباك الموارب ، فـ مضت نحوه على الفور لتوصده جيدًا ، و كذلك فعلت مع باب الشرفة ، و من بعدهِ باب غرفة الملابس، ثم أوفضت نحو الخزانة  لتفتحها ، و اندست بجسدها في الرف السُفلي منها ثم أوصدت الباب ، جلست كل ذرةٍ بجسدها تنتفض ، كتمت بكفيها المرتجفين فاهِها و أطبقت جفنيها بعنفٍ حتى ارتجفا ، و فور أن اخترقت تلك الرائحة النفّاذة أنفها ، فرّقت المسافة بين جفنيها لتحدق بما حولها ، أزاحت كفيها المرتجفين عن فاهها لتسحب احدى قمصانهِ ، ثم قرّبتهُ لأنفها لتشتمّ عبقهِ العالق ، أطبقت جفنيها بعنفٍ و هي تدفن وجهها بهِ و كأنها تدفنهُ في صدره ، كادت تنفجر بالبكاء.. تماسكت بصعوبة قاسية لئلا يصدر عنها صوتًا ، و لكنها انتفضت و بلغ قلبها حنجرتها حين استمعت إلى صوت الباب و قد انخلع من مفاصلهِ فـ هوى على الأرضية الصلبة مُصدرًا دوي مُرعب ، انفلتت منها صرخة مُرتعدة رغمًا عنها.  فتركت القميص جانبًا و هي تكتم صوتها و أطبقت جفنيها بعنفٍ و أنفاسها تتهدج و قد أدركت ألا مفر لها ، هـو..هو فقط من احتلّ كافـة خلاياها في تلك اللحظة ، هو من استحوذ على تفكيرها ، و صورته تلوح في الآفاق المُظلمة أثناء إطباقها لجفنيها ، لو إنهُ كان بحوارها لما كان ما كان.. و لو أنه لم يتخلَ عنها لكانت بـ مأمنٍ الآن ، لو و لو و لو.. و بالرغم من ذلك لم تكن عليه حانقة بل لم تتمنَ سِوى أن يأتى و يُخلصها من موتٍ مُحـتّم ، و لكنها عادت تردع أفكارها و تغتال أمنياتها و لسان حالها يُعنفها مستنكرًا :
ـ غبية.!غبية عشان في آخر دقايق من عمري مفكرش غير فيك و أقول انك هتيجي! غبيك عشان فكرت اني مهمة بالنسبة لك و مش هتسيبني
و فور أن استمعت لصوت باب الخزانة ينفتح على مصراعيه ، صرخت بارتعادٍ و هي تدفن وجهها أكثر في كفيها ، رافضة أن ترفع نظراتها نحوه ، و تفاقم هلعها حين امتد كفهُ ليقبض على مرفقها مُجتذبًا إياها و:
ـ يـارا..!
شعرت للحظات و كأن الكرة الأرضية توقفت عن الدوران في مسارِها ، ثوانٍ من عدم الاستيعاب حتى تنبّهت خلاياها و هي تنتزع كفيها عن وجهها لتُبصره أمامها ، تهدجت أنفاسها و هي تتمتم بهذيان:
ـ يامن
اعتقدت بأنهُ سرابًا برع ذهنها في تجسيده ، لولا إنهُ أحاط وجنتها بكفهِ مستشعرًا برودة بشرتها فـ دمدم بصوتٍ جامد :
ـ متخافيش..أنا هنا!
فهمهت بصوتٍ مُلتاع متهدّج و هي تعطف نظراتها بين عينيه :
ـ يامن!..يـ..يـامن ، انت..انت هنا؟
فـ كرر بصوتٍ صلب بينما نظراته تحاول تهدأتها :
ـ أنا هنا!..
على الفور طوّقت عنقه بذراعيها متعلقة بهِ و هي تتمتم بهلع متلهف مكررة اسمهُ العديد من المرات من بين تلعثمها و كأن لسانها لا يحفظ سوى اسمه:
ـ يامن.. يامن.. يامن!
و كلما حاولت أن تتلفظ بكلمةٍ أخرى لا يجد لسانها سوى اسمه تهتف به باستنجاد ، بينما طوق هو ظهرها بذراعه و بكفهِ كان يُثبت مؤخرة رأسها مقربًا لها منه أكثر ، أثناء قولهِ الهادئ بالرغم من تصلّب صوته :
ـ شـشـش..اهدى ، أنا هنا!
فـ شهقت و هي تجهش بالبكاء الحار تاركة العنان لدموعها :
ـ آه..يامن!
رفع ساعدهُ ليحتسب الدقائق التي مرت و هو يكز على أسنانه بينما كفه الآخر يمسد برفقٍ على خصلاتها ، حاول إبعادها عنه و هو يدمدم بصوت خافت:
ـ خلينا نطلع من هنا
فـ لم تقتنع ، أرادت أن تقص عليهِ ما حدث و فور أن ابعد رأسها عن كتفه نازحًا دموعها ، كان تستند برأسها على جبينه فـ ارتطمت أنفاسها الحارة بصفحة وجهه بينما كانت تردد من بين شهقاتها:
ـ ماتوا..كلهم ماتوا بسببي يا يامن، مفضلش منهم حد
أطبق جفنيه بعنفٍ و هو يقول بصوتٍ قاتم:
ـ عارف
ابتعدت عنه قليلًا لتتابع بلوعةٍ:
ـ كلهم ماتـ...
فردد من بين اسنانه المطبقة و هو يقبض برفقٍ على مرفقها:
ـ مش وقته يا يارا، هسمعك بس مش وقته!..لازم نمشي
قالها و هو يُطوّق خصرها ليسير بخطواتهِ الواسعة، لم تقوَ على السير بساقيها الرخوتين فـ تمتمت بخفوتٍ و قد شعرت و كأنها ستفقد الوعي في أي لحظة:
ـ مش قادرة امشي.. رجلي مش قادرة أحركـ..
و بحركةٍ خاطفة كان يمرر ذراعه خلف ركبتيها ليحملها بين ذراعيهِ مستكملًا سيره فـ ابتلعت كلماتِها و هي تدفن وجهها في كتفهِ و تُحيط عنقه بكفيها ، تراخى جسدها بالكامل بين ذراعيه ، فـ بدت و كأنها فاقدة للوعي ، ضعف مُعدّل تنفسها تدريجيًا ، فـ أراحت رأسها مستسلمة لذلك الشعور الغريب بالأمان بين ذراعيه ، و عبقهِ المُحبب يخترق أنفها ، بينما كان يمضي دالفًا للخارج و انعطف من احدى الممرات ، استشعر سكونها المفاجئ فـ أخفض نظراته يتفحصها فكانت مُطبقة الجفون ، فتمتم بصوتهِ لغليظ مناديًا:
ـ يارا..!
فهمهمت بخفوتٍ و هي تفتح عيناها:
ـ ممممم
كان قد بلغ السلم ، فشرع يهبط الدرجات و هو يدفن وجهها أكثر في عنقهِ مُحاولًا ألا ترى المشهد و هو يأمرها:
ـ غمضي عينيكي!
فلم تقوَ و قد استشعرت تلك الحرارة بينما الأدخنة السامّة ممتزجة برائحة أُخرى و كأنه اختراقًا للحوم طغت على عبقهِ ، تغضن جبينها و قد بدت لا تفهم  ما يدور من حولها، التفتت لتتفحص المشهد المهيب خاصة في الباحة الداخلية.. ألسنة اللهب تلتهم بنهم ما يُقابلها ، و الجثث بالأسفل قد تشبّثت بها النيران الناشبة، الدماء تتلاشى بسبب ابتلاع النيران لها فبدت و كأنها ترتشفها، بينما الجثث قد تآكل جلدها فـ شرعت النيران تفتك باللحوم مُتغذية عليها مُرضية جوعها الذي لا يشبع ، و كأن جُهنم قد فتحت بابًا لها هنا ، مشهدًا..لن تنساه ما حييت ، كادت تتقيأ و قد سرت قشعريرة بجسدها ، فهدر "يامن" بها آمرًا و هو يضمّ جسدها إليه:
ـ بصيلي!
تفاجأ بها تدفن وجهها في كتفهِ تاركة العنان لصرخاتها الممتزجة بنشيجها، بينما كان "جاسِم" يهبط الدرجات من خلفه و هو يتحدث:
ـ زي ما حضرتك توقعت يا يامن بيه!.. القصر فاضي
اهتاج و قد شعر بالدماء تغلي في أوردتهِ ، فهدر بدون أن يلتفت بصوتٍ أجفلها:
ـ تقلبوا عليه الدنيا و تجيبوهولي! حتى لو في بطن الحوت
انفلتت صرخةً مفزوعة منها فـ كز بعنفٍ على أسنانه و هو يلقى نظرةً نحوها ، بينما كان الأخير يردد منكسًا رأسه:
ـ أمرك يا يامن بيه
كان يهبط آخر الدرجات اضطر أن يُخفض صوته لئلا يُفاقم حالة الذعر التي هي بها:
ـ اجمع الحرس و اخلوا البيت!..
فتمتم بصوتٍ ثابت:
ـ هنأمن خروج حضرتك أول يا يامن بيه
ـ نفذ اللي قولته!
فـ حاول أن يُبدي اعتراضًا يدرك جيّدًا أنه لن يسمن و لن يغني من جوع، و لكن رغبتهِ في توفير الحماية لهُ حتى يضمن خروجهِ عن هنا طغت على أي شعور آخر:
ـ بس...
حانت منه التفاتة نحوه.. نظرةً مُحذرة وحيدة من جمرتيهِ الملتهبتين كانت كافية ليقف الأخير جامدًا منكسًا لرأسهِ صاغرًا لهُ:
ـ أوامرك يا يامن بيه
و برح مكانهُ مرتقيًا الدرجات من جديد للأعلى ليمضي نجو باقي أفراد الحراسة و قد كان المخرج من الباب الرئيسي مُستحيلًا و تلك النيران مُندلعة في الأسفل ، و فور أن تجمّع الجميع بإحدى الغرف كان يبلغهم بأوامر رب عملهم:
ـ الباشا بيقول نمشي
فـ ردد آخر مستفسرًا:
ـ طب و الوضع تحت ازاي؟
فـ ردد و هو يمضي نحو الشرفة:
ـ مش هنقدر نخرج..النار ماسكة في كل حاجة تحت
فعقد آخر حاجبيه بقلق و هو يسأل باهتمامٍ:
ـ و الباشا؟
التفت "جاسِم" و هو يقول بثباتٍ تام:
ـرفض حد يساعده.. أمرني اني إخلي المكان
فـ صاح مستنكرًا:
ـ ازاي يعني؟ ايه اللي بتقوله ده
فلم يحتج فرد آخر و هو يردد بنبرة باردة:
ـ مش شغلنا..احنا شغلنا ننفذ الأوامر و بس
و اضطر الجميع لاتخاذ الطريق الأكثر إمنًا للخروج ، فـ شرعوا يتسلقون من الشرفة باحترافية متمرسة للتعامل في تلك الأوقات حتى هبط آخر الأفراد ، فـ انطلقوا مبتعدين عن الوسط بأكمله .
.............................................................................
كان الأمـر شِبه مُستحيلًا..أن يعبر بها من بين تلك الأجساد التي تتغذي النيران الشرهة عليها.. و من بين ألسنة اللهب المُتأججة تتراقصُ في زهو ، حتى يصل إلي الباب الخشبي العريض و الذي شرع يتآكل و تُلتهم مفاصله فـ كاد يهوي فوق أحد الجُثث ، ليلج بها للخارج من خِلاله ، فلم يبقَ لديه حلًا.. استدار لـ يمضي بها بحذرٍ من بين ألسنة اللهب قاصدًا إلى المطبخ و بلغهُ بالفعل بعد معاناة ، حيث كان العبور من بين النيران الناشبة و بينما يستنشق ذلك الدخان السام الذى مُلأت رئتيهِ به لا يتمكن حتى من سد فتحتيّ أنفهِ ، على عكسها و هي دافنة وجهها بين أحضانه..و قد استكانت بالكاد إلا من ذلك النشيج الخافت الذي على الأقل كان يُطمأنه عليها..، و لكن الأمر لم يكن بتلك السهولة ، فقد طالتهُ الألسنة الشرهة أيضًا ، و لكن لم يكن لديه خيارًا آخر.. و فور أن وطأه بـ قدميه إذ بـ حافّة الباب الضخم الخشبية العلوية تُنتزع من محلها و كأنها تستهدفها ، على الفور ضمّها أكثر إليه و هو يلتفت لتكون الضربة من نصيبه ، حيث سقط الحافّة الخشبي المُضطرمة بعنفٍ فوق كتفهِ لتتشبث جذوة النار بـسترتهِ ، فـ لم تهدأ سِوى أن التهمت سترته و قميصه من أسفلها ، و اخترقت جلده فـ نهمت منه ما أشبع جوعها ، كانت هي و كأنها بـ عالم آخر فـ لم تنتبه حتى لما أصابهُ ، لم يكترث.. مضى بها دالفًا للمطبخ المُتفحّم ، و حثّ خُطاه فلم تكن ليتركه اللهب المتوقد، حتى بلغ الباب الخارجيّ الذي يطل على الحديقة التي لم تسلم من النيران مُطلقًا..
ارتفع رأسها عن كتفهِ لتشمل الحريق بنظراتها و الذي شرع يلتهم الحشائش الأرضيّة و أوفضت الألسنة تغزو السيقان الطويلة للأشجار وصولًا لورقاتها الخضراء التي أنبتت زهورًا ، كل قِطعة فيها تركت جزءً منها، كل بُقعة تركت بها ذكرى مختلفة، ورودها التي أينعت و لكنها ابتُلعت بفعل النيران، حمامتها البيضاء سقطت هنا، ابتسمت هنا، عبست هنا، هنا كان جوارها، هنا كان يعتنى بها، هنا وبخها لنسيانها ادويتها مجددًا
هُنـا.. حيث أُقيم الحفل الذي بيد أنه بدل حياتها تمامًا، لقد عاشت هنا أجمل الأيام برفقته، عاشت أيّامًا لن تنساها.. كما لن تنسى ذلك اليوم البشع مُطلقًا، لم تكن متيقظة إلى تلك الدرجة التي تستوعب فيها أن ما بحدث ليس ضربًا من خيال،.. و لكن حين عبر ليخطو من بين الجذوات الملتهبة، حتى بلغ الاسطبل الذي يقع قرب البوابة الخارجيّة .. نظرة منها إلى أقصى اليسار جعلها تتجمد، و ما لبثت ان تشنجت بين ذراعيه و هي تحرك ساقيها:
ـ أشهـــب، لا.. لا.. لا، سيبني الحقه يا يامن..سيبني
لولا ذراعيه اللذان يكادا يُهشمان عظامها من فرط اطباقه على جسدها لكانت فرّت من حصارهِ و سعت لنجدتهِ، زجرته بنظرات حامية و هي تحاول الفكاك من بين ذراعيهِ هادرة:
ـ نزلني.. نزلني أنا هروحله، نزلني يا يامن نزلني
و نظرت للخلف و هي ترى الاسطبل يكاد يتلاشى من امامها و هو يمضى بها كسرعة البرق، بسطت كفها و كأنها تحاول الامساك بالاسطبل المُتفحم تمامًا فمحى اي فرصة لكون أيّا من الخيول على قيد الحياة:
ـ لــــــا، أشهـــب
.........................................................
.................................
....................
 
 
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now