"الخاتمة"

1.6K 46 16
                                    

"الخاتمة"
ثلاث كلمات أنهت بهم رحلة مُطولة للغاية قضتها برفقة شخُوص روايتها الأولى، في سردٍ لما ظهر من نفوسهم و ما بطن منها، و كأنها كانت فردًا منهم، شخصية رئيسيّة تلعبُ دور المتفرج، عايشت مشاعرًا مختلفة، تألمت لتألمهم، جَذلت لحبورهم، ابتسمت لابتسامتهم، و أدمعت عيناها تأثرًا لبكائهم، بل و انتحب حينًا مع كلمات لم تكن من وحي خيالها تمامًا، حُشرت بين الصفحات و لم تجد لنفسها ملجأً غيرها، انزوت بين السطور و لم تتمكن من التملّص منها، الأحرف كانت أسرها، و نعمَ ذلك الاسر.
و بينما تخُط آخر الكلمات، كانت العبرات الملتاعة تنساب بصمتٍ على وجنتيها، تقبضُ شفتيها بقوةٍ مبالغ فيها لتتمكن من كبح شهقاتها الحارقة، و بينما تتجوّل أناملها، بحثًا عن الزر الأخير على لوحة المفاتيح، حتى وجدتهُ، نقرت الزر.. فـ وكأنها نقرت زرّ إفلات الزمام، تشوشت رؤيتها لدى تلك العبرات المُكتظة في المقلتين حين رفعت أنظارها عن لوحة المفاتيح لشاشة الحاسوب، فبلا سابق إنذار كانت الشهقات تنفلت منها واحدة تلو الأخرى في شجن لم يُنتقص مقدار ذرة، و قهر لا مثيل لهُ، انهارت داخرة لنوبة بكاء حادة و هي تستند بساعديها لسطح المكتب مرتكنة بجبينها إليهما، مستأنفة بكائها الممزق لنياط القلوب، و كأن تلك اللحظة لم يمرّ عليها سوى بضع دقائق.
انتحاب.. امتزجت شهقاتهِ مع الأنّات الموجوعة، و الآهات الملتاعة، و كأن تلك العبرات ليست ماءً مملحًا، بل هي دماء نزفتها العيون التي حرمت نعمة رؤيته منذ أمـد، ثانية جرّت دقيقة جرّت ساعة.. يومًا..أسبوعًا.. شهرًا.. سنة.. اثنان.. ثلاث..أربع.. أم ثماني!
ثماني سنون مرّت، و لا تفتؤ تظنّ أن الوقت لا يمر، و أن الثماني سنون كثماني ثوانٍ بالنسبة إليها، الوقت يمضي ببطء مميت لحواسها، ذابحٌ لروحها، و كأنها مذبحةً.. مذبحة للقلوب.
حتى استشعرت تلك اللمسة الحانية على كتفها، أجفل جسدها قليلًا، و هي ترفع رأسها لتجدهُ يبادر بنزح عبراتها، لات ابتسامة أشرقت وجهها على محياها، مستشعرة لمستهِ الخشنة أعلى وجنتها، حينما كان يقول:
- كفاية بقى، الموضوع خلص!
.................................................................
الحوافر تقرع الأرضيّة بعنفوانٍ من أسفلهِ، في صوت امتزج مع الصهيل العنيف الصادر عنه، و هو يركض بقوائمهِ الأربع، محاولًا بلوغ السرعة المطلوبة من الجالس فوقهُ، أشعة الشمس الذهبيّة داعبت بشرته الخشنة و عيناهُ الثاقبتين في مناغشة لم يتقبلها، فاحتلّ التجهم وجههُ ذو التقاسيم الصارمة، الحاجبين المعقودين في  امتعاضٍ جعلا الجبين يتغضّن و تتجعد بشرتهِ القمحيّة، عيناهُ الخضراوين من أسفلهما تبيّنا كغابة نشبت بها جذوة من النيران الموقدة، و ذلك الأنف المعقوف و الشفتين اللتان قلّما يتفرجان بالابتسام، و الخصلات الحالكة المُصففة للخلف.. تُنبأك تلك الملامح بأنهُ... گالغُداف.
سحب اللجام حالما استكفى و قد شعر توًا أنه دحر للغاية عن الحدّ، توقف بهِ الجواد و هو يستأنف صهيلهُ، فمسح برفقٍ على عنقه و هو يتفحص بعينيهِ الحالكتين الوسط من حوله، ثم قال بلهجة جادة:
- بعدنا أوي يا "أشهب"، خلينا نرجع
و اجتذب اللجام مجددًا و هو يضغط بساقيه على جسد الجواد، ليسير بالطريق العكسيّ، عودة لقصرهِ.
.........................................................
تكاد تجن و هي تنقّب هُنا و هناك بحثًا عنه كونهُ انصرف دون أن يعلمها حتى بذلك، تجوّلت "يارا" في بهو القصر ذهابًا و إيابًا، و قد أرغمت طفلتها ذات السبع سنوات و نصف _و التي اكتسبت منها الكثير من ملامحها_على الجلوس أمامها و كأنها مقيّدة فعبست الصغيرة كونها لا تسمح لها بالحراك حتى، لا يزال الهلع ينتابها خوفًا من نفس المصير، و أنى لها بتجاوز تلك المرحلة العسيرة التي مرّت بها قبلًا؟ 
للمرة الألف لا يجيب كعادتهِ على اتصالاتها، مما جعل منسوب الفزع يرتفع لديها، هزت "يارا" رأسها بالسلب، و قالت بإصرارٍ تام:
- لأ.. أنا مش هفضل واقفة عاجزة و أنا مش عارفة انت فين، مش هيتكرر تاني.. اللي حصل مش هيتكرر تاني.. أبدًا!
و تهيّأت لأن ترتقي الدرجات عقب أن أوصت الجدّة بأن تعتني بحفيدتها في غيابها، و لكنها تسمرت محلها حين رأتهُ يدلف غير عابئًا عبر باب القصر المفتوح، حملقت به بعتاب تام، ثم أوفضت نحوه و هي تردد باستهجان:
- بقى كده!.. ينفع تقلقني عليك بالشكل ده!
لم يجبها، منحها نظرة عابرة من عينهِ، و همّ بأن يتابع مسيره، و لكنها استوقفتهُ و هي تقف أمامهُ لتسد الطريق عليه، عاقدة ساعديها أمام صدرها، مرددة باستهجان:
- كنت فين يا عاقد الحاجبين؟
زفر متأففًا و هو يحيد بوجهه عنها، حكّ عنقه بشئ من الانفعال و هو يردد بضجر:
- ينفع تبطلي اللقب ده، لو سمحتي يعني!
و تركها.. مرق من جوارها ليستأنف طريقه للأعلى غير عابئًا بها، فالتفتت "يارا" لتتابعهُ بسخطٍ تام، ثم نادتهُ باستهجان:
- يامن.. انت هتسيبني كده!
- رائـد
أتاها الصوت من خلفها، فالتفتت "يارا" نحوها و هي تعقد حاجبيها في عدم فهم، فرددت الجدة من جديد و هي تهز رأسها بإيماءة مؤكدة:
- رائد يا يارا، مش يامن!
أناملٌ غليظة تقبض على كفوف قلبها الملتاع، حررت "يارا" زفيرًا ملتهبًا من صدرها، ثم خطت لتجلس على الأريكة ذات الملمس المريح أمامها، فتابعت "سهير" قائلة:
- لسه بتغلطي في إسمه لغاية دلوقتي!
ابتلعت غصة عالقة في حلقها، ثم حانت منها نظرة نحو ابنتها التي رددت بضجر:
- مامي.. ينفع أقوم بقى بليـز؟
 تنهدت "يارا" و هي تومئ برأسها، فنهضت الصغيرة من أحضان جدتها لتبتلع الأرضية اسفل منها، صعودًا للأعلى حيث توأمها، تابعتها "سُهير" بنظراتها حتى اختفت، فقالت و ابتسامة مرتعشة تتراقص على أطراف ثغرها:
- تلاقيها رايحالهُ.. أنا عارفاها
- لسـه!.. و هو ممكن ييجي وقت و مناديش رائد باسمه!
غمغمت "يارا" بها بشرودٍ مستنكر، و كأنها لم تُصغي لكلماتها الأخيرة، فتبددت بسمة "سهير" ليحتل ملامحها الألم العميق، مالت قليلًا بجذعها عليها و هي تربت على كفيها، ثُم دمدمت:
- تمن سنين يا بنتي.. تمن سنين عدوا و انتي لسه زي ما انتي، حاولي تنسي، عشان خاطرهم!
غرست "يارا" عينيها في عينيّ "سهير" البراقتين بالعبرات، ثُم سألتها و هي تعقد حاجبيها استنكارًا:
- و انتي نسيتي يا ماما سهير؟
فقالت "سهير" باستنكار موارية المرارة في نبرتها:
- هو في أم بتنسى ضناها يا بنتي!
فلاحت ابتسامة باهتة على أطراف شفتيها، و هي تغمغم:
- و أنا كمان مقدرش أنسي!.. محدش بينسي حياته
و قبل أن تخوض في حديث لا تود التوغل فيه، قالت "يارا" و هي تنهضُ عن جلستها:
- عن إذنك.. هطلع أشوفه
تابعتها "سهير" بمقلتيها حتى اختفت، فحررت زفيرًا ملتاعًا عن أضلعها، دومًا كانت تعيسة الحظ، و لكنها لم تتخيل أنها ستعيش، و سيموت من حيت من أجلهِ و يواريه التراب، لولا طفليهِ لكانت روحها تفيض لبارئها حزنًا و التياعًا لفقدانها له، و لكن ما خفف عنها حِدة القدر، من حملا دمهِ، و خاصّة "رائـد" الأقرب إليها، كونهُ نسخة مصغرة عن فلذة كبدها المتوفي.
..............................................................
- قولتلك امشي و سيبيني لوحدي بقى، انتي مبتفهميش، ده الحمار بيفهم أكتر منك!
فلم تطرق مجددًا، أدارت المقبض و دلفت و هي تنظر نحوهُ بعتاب مُقرّعة إياه:
- بقى أنا الحمار بيفهم أكتر مني!
خلع "رائد" قفازيّ الملاكمة عن كفيه و صدره ينهج علوًا و هبوطًا، ثم ردد من بين تهدج أنفاسهِ و هو يتهرب بنظراته منها:
- فكرتك إيلارا! بقالها سنة بتزن عليا عشان أدخلها!
أوصدت "يارا" الباب من خلفها و هي تعقد ساعديها من صدرها، لم يعتذر.. كالمعتاد، و كأنها صِفة أخرى اكتسبها منه ، تابعتهُ و هو يخطو نحو زجاجات المياه و فتح إحداها و هو يتجرّع ا يتعدى نصف الزجاجة، فقالت بلهجة مؤنّبة:
- ما أنا عارفة، شايفاها ماشية من عندك مفطورة من العياط
ترك "رائد" الزجاجة جانبًا عقب أن ابتلع المياه، ثم نظر نحوها بضيق، ثم قال باستهجان:
- بت "غبيّة"، كل ما أكلمها تقلبها مناحة!
خفقاتها دوّت في أذنيها كالطبول، أطبقت "يارا" جفونها مستجمعة شتاتها المبعثر، ثم فرّقتهم لتمنحهُ نظرة صارمة و هي تردد احتجاجًا:
- رائد، حسن أسلوبك شوية مع أختك، أومال لو مكونتوش..
قاطعها "رائد" و هو يلوي شفتيه في فتور متابعًا نيابة عنها:
- لو مكوناش مع بعض تسع شهور، خلاص يا ماما، أنا حفظت الجملة دي
و بدى الحنق في نبرتهِ المتذمرة و هو يردف:
- مش فاهم أنا استحملتها تسع شهور إزاي، ده أنا مش مستحملها دقيقتين!
نفخت "يارا"في سئمٍ، ثم رددت بصرامة جادّة:
- رائـد، من الآخر.. يا تعامل أختك زي الناس، و إلا...
فقاطعها "رائد" من جديد بامتعاضٍ مستنكر و حاجبيه لا يفتآن معقودين:
- و إلا إيـه؟
فتحدّتهُ بقولها الثابت:
- و إلا مفيش "أشهب" الأسبوع ده.. حلو كده؟
فـ همّ بالاحتجاج بضراوة:
- يا ماما مـ...
قاطعتهُ "يارا" بحزمٍ _بكلماتٍ كان يرددها دومًا_:
- مات الكلام في الموضوع ده يا رائد، عظيم؟
نفخ "رائد" معربًا عن حنقه رغمًا عنه، ثم قال بإيجاز مُحتد:
- عظيم
هزّت "يارا" رأسها بإيماءة بحركة لا تكاد تلحظ، ثم قالت بجمود راضٍ عن إذعانهِ:
- عظيم
و أشارت بعينيها بحركة آمرة و هي تردد:
- روح يالا غير هدومك عشان ننزل نتغدى مع نينة!
فبزغ صوتهُ الفاتر و هو يقول:
- مش عايز
قبضت "يارا" فكيها، ثم فرّقت أسنانها لتردد بتوعّد:
- ماشي يا رائد، براحتك
و تهيّأت للانصراف، و قبل أن تسحب المقبض لتوصد الباب كانت تقول عن عمدٍ:
- أختك قالتلي لو مش هتتغدى هي كمان مش هتاكل
و صمتت هنيه، ثم تابعت و كأنها لم تتذكر سوى توًا:
- آه.. و بتقولك هي مش قصدها تضايقك و إنها كانت قلقانة عليك، و بتقولك متزعلش منها!
و خرجت.. حينما كان هو يقف متصلّبًا، زفر بحنقٍ و هو يردد ممرًا أنامله بين خصلاتهِ:
- مش هتاكل!.. تتفلق
...........................................................
عشر دقائق و كان يقف أمام باب غرفتها رغمًا عن أنفه، حتى استهجن وجودهُ هنا، و ردد بخفوتٍ:
- و أنا مالي، ما إن شالله عنها ما كلت، أوف!
و تهيّأ للانصراف، لولا أنهُ أرهف السمع حين صدرت شهقة مكتومة منها، ليتسلل نحيبها إلى مسامعه، زفر "رائد" بحنق و قد تسمرت قدماه بالأرضيّة، غير قادرًا على أن يخطو خطوة إضافية دُحورًا، نفخ مجددًا بانزعاج شديد:
- أوف!
متعمدًا الحذر.. خطى "رائد" ولوجًا للداخل متعمدًا ألا تلاحظهُ "إيلارا"، عقب أن أدار المقبض، حتى وجدها متكوّرة على نفسها بجوار الفراش على الأرضية، تعانق دميتها، و نهنهتها الباكية تصلهُ، فعبس و هو يمضي أمامها، حينما لاحظتهُ "إيلارا".. ارتفعت نظراتها نحوه، فلم تكد تراه من فرط العبرات الممتلئة بها حدقتيها، رمشت عدة مرات لتنزح تلك الدموع التي تحول دون رؤية وجه توأمها الغير مماثل لها، ثم غمغمت بخفوتٍ مبحوح:
- رائد!
فسألها باستهجان:
- بتعيطي ليه؟
أجابتهُ "إيلارا" و هي تنزح دموعها بظهر كفها، و قد انفلتت شهقة منها رغمًا عنها:
- عشانك زعلان مني!
تقوست شفتيه في سخطٍ تام لطفوليّتها الزائدة، و بعُسر بالغ كبح لجام سبّه و سخطه عليها، ثم قال من بين أسنانه بلهجة آمرة:
- انزلي كلي و بطلي تفاهة
منحتهُ "إيلارا" نظرة صارمة و هي تستعين بمنديل ورقيّ لتمسح أنفها المُحمرّ، ثم أجابته بعناد:
- لأ!
فشدد من قولهِ و هو يقبض كفيه:
- قولت إنزلي!
فصرخت في وجهه بالمقابل بعنادٍ تام:
- قولت لأ.. مش هنزل غير لما تنزل معايا!
زفر "رائد" أنفاسه الحارة و هو يشيح بوجهه عنها، ثم نظر نحوها و هو يردد مضيقًا عينيه:
- لو نزلت هتنزلي؟
أومأت "إيلارا" من فورها عدة مرات و قد بدأ الإشراق يغزو محياها:
- أيوة!
تنهد "رائد" بامتعاض، ثم قال مشيرًا بكفه:
- طب قومي
نهضت "إيلارا" عن الأرضية تاركة دميتها جانبًا، ووقفت أمامه و هي ترمش عدة مرات لتنزح العبرات العالقة بأهدابها، لم تصل بطولها سوى تقريبًا لكتفيهِ، فـ "رائد" ذو طول فارع بالنسبة لسنّه، و ليس فقط طوله، بل أن تقاسيم وجهه الصارمة و الحالكة، و عيناه المحتدتين، و صفاتهِ لا تكاد تنبأك أنهُ لم يتعدَ الثماني سنوات بعد إطلاقًا، نظرت توأمتهِ نحوهُ بعينيها اللامعتين، و سألت في تشكك:
- هتنزل معايا؟
أومأ "رائد" دون أن يواري الضجر البادي على ملامحه، فابتهجت "أيارا" و كأنهُ قدّم لها الدنيا على طبق من ذهب، ثم سألت:
- يعني مش زعلان مني؟
- تـؤ!
- Yes
و لفّت ذراعيها حول عنقه لتفرض وجودها في أحضانهِ عليه إرغامًا، همّ "رائد" أنا يدحرها عنهُ، و لكنهُ استسلم لها في النهاية تاركًا لها بأحضانهِ، عقب أن نجح في كفّ بكائها، و كاد أن يمسد بكفيه في لحظة على ظهرها، و لكنهُ توقف في اللحظة الأخيرة مرخيًا ذراعيه جواره.
 و لم ينتبه كلاهما لـ "يارا" التي تتابعهما من وراء الباب الموارب، فشلت.. في أن تسيطر على "رائد" و سخطه و نقمه الدائم، و فشلت في أن تتملّك زمامهِ، فـ "رائد" لم ينفعهُ تربيتها، و لم يتأثر سوى بالچينات التي توارثها عن أبيه، فصار نسخة مصغرة منه، خلف وقفتهِ الباردة تلك و كأنهُ لوح من الثلج، كان يحمل قلبًا دافئًا ينبع بالحُب، و لكنه اعتبره إثمًا، و وارهُ عن الجميع، خوفًا من أن يجرح جرحًا جديدًا، يكفيه أنهُ نشأ دون أبّ.
...............................................................
شمس يومٍ جديد تشقّ سبيلها لتعتلي كبد السماء، فأرسلت أسلاكًا ذهبيّة شبه باهتة، فـ شمس الشتاء.. غير أي شمس.
شمس أشرقت بنور ربها، فـ أضاءت بِقاع القاهرة و شوارعها و أراضيها، شمسًا كانت تغمر الجميع، و فشلت في أن تحظى هي بنورها، فظلّت شمسها غاربة، سمائها مُلبدة بالغيوم الثِقال.
عينيها تلتقط الكلأ من حولها، و الأشجار المصفوفة و قد حمل النسيم الرقيق عبق الياسمين و الفُل و الريْحان غيرها من مزروعاتها المميزة، التي تهتمّ بها بنفسها، تتحرك للأمام تارة و للخلف تارة على الأرجوحة..
 أخفضت "يارا" أهدابها و هي تطلق زفيرًا حارًا من صدرها قابضة جفونها، تعلم أنها تحاول الفرار بشتى الطرق من مراجعة الفصل الأخير من الرواية، تحسّبًا لوجود أي أخطاء إملائية أو لغوية أو نحويّة، كونها أنهت كتابتهِ البارحة و أغلقت الحاسوب من فورها، و لكنها لم تجد بُدّا من ذلك..
 فرّقت جفونها و هي تبسط كفها لتسحب قدح قهوتها الصباحيّة، و شرعت ترتشف منها متلذذة بطعمها على أطراف شفتيها، أو متلذذة بذكرياتٍ خلّدتها في روايتها، حتى يتسنى لها استعادة أيّ منها فور أن تريد بالتفصيل الدقيق، ثُم ارتكزت بعينيها على الكلمات في شاشة حاسوبها، تركت القدح جانبًا، ثم شرعت تعدّل بعض الأحرف و قد أخطأت في كتابتهم، فبدا و كأنها نقرت زرًا آخر غير المنشود، حتى تسمر كفيها لدى تلك المشاهد الأليمة، حاولت أن تنزح ذلك الشعور عنها، و لكنها لم تتمكن، قبضت جفونها ساحبة شهيقًا محملًا برائحة الريحان، و زفرته على مهل، و إذ بعبرة حارقة تعبر حدود جفنيها، و تخطو من بينهم، شرعت "يارا" عينيها فتبينت زرقاويها من خلفهم، حتى انتفضت جسدها قليلًا مع تلك اللمسة لذراعهِ التي لفّها حول عنقها، ليحتوى بكفهِ عنقها و ذقنها، فتلقّى تلك الدمعة العابرة، أصغت "يارا" لصوتهِ الهامس بقشعريرة أجفلت جسدها:
- شـشـش، كفايـة
شهقت و هي تنتفض في جلستها تمامًا حتى أسقطت حاسوبها أرضًا، دومًا ما تتخيل وجوده، و دومًا ما تشعر بروحهِ تحوم من حولها، لا تعلم أهو فقط شعورها، أم أن والدتهِ تشعر بذلك أيضًا، و للحق أنها تخشى أن تسألها..
نهج صدرها علوًا و هبوطًا، حين التفتت لتُصعق حين رأتهُ لا يزال أمامها، توسعت عيناها في عدم تصديق، فـ عادة تستشعر لمسة منه.. و تصغى لصوته بكلمات منه، و ما إن تلتفت لا تجده، كمن لدغهُ عقربٌ توًا، حين أومأ "يامن" بحركة لا تكادُ تلحظ، ثم قال مؤكدًا:
- أيوة.. أنا معاكي!
كتمثالٍ متسمّر، حملقت "يارا" بـ "يامن" بعدم استيعاب، بدى وجهها شاحبًا كشحوب الموتى، و هي تُفرق شفتيها لتهمس باسمه بخفوت تام:
- يـ..يامن!
فـ أعرب "يامن"  على غير عادتهِ عن اشتياقهِ لنطقها لاسمهِ:
- وحشني اسمي من بين شفايفك!
صرخة ملتاعة صدرت عنها أعقبتها بصراخها باسمهِ و قد تهدجت أنفاسها في حبورٍ لا يُوصف:
- يامـــن!
و لفّت ذراعيها حول عنقه و هي تدفن وجهها في تجويفهِ، نهج صدرها علوًا و هبوطًا في عدم تصديق لما يجري، فاستشعرت ذراعيهِ يطوقان ظهرها، ابتعدت "يارا" قليلًا و قد غربت بسمتها، ثم رددت من بين أنفاسها اللاهثة:
- انت.. انت هنا بجد؟
أومأ "يامن" مشيرًا بعينيهِ لنقطة ما:
- أيوة.. هنا!
كمن وجدت موطنها أخيرًا بعد طول انتظار و ترقّب، نهضت "يارا" عن جلستها لتلتفّ حول الأرجوحة متخلصة من ذراعيه المطوقين لها بعُسر بالغ، حتى وقفت أمامه مباشرة، تزال لا تستوعب، فمسحت بأطراف أناملها على صدغيه متلمسة بشرته الخشنة، حتى وجدت ذلك التشويه المصيب لوجنتهِ اليسرى، و المتواري قليلًا أسفل لحيته، حملقت بعينيهِا الملتمعتين في اشتياقٍ مستعرّ، فرمشت عدة مرات بعدم تصديق، و بلا وعي منها عادت ترتمي في أحضانهِ و هي تنخرط في بوكة متأثرة من البكاء المرير:
- يامـــن
استشعرت لمستهِ الناعمة لخصلاتها التي تعمد إلى اقتصاصها دومًا، كما تركتهُ فيكون شعرها يصل بالكاد لكتفيها، ثم همس بصرامة جادة:
- شـشـش، أنا هنا!
بعُسرٍ بالغ انسلّت "يارا" من بين أحضانه لتحدق في وجهه، تلك الابتسامة الباهتة المتراقصة على أطراف شفتيها تناقض العبرات الحارقة المنسالة من عينيها، مسحت مجددًا على وجهه و هي تبتلع ريقها، ثم سألت بتهدج غير مستوعب:
- انت.. انت هنا يا يامن؟، صح؟ انت هنا، انت معايا
أومأ "يامن" مجددًا، و هو يشير لنقطة معيّنة:
- أنا هنا!
تركتهُ كالبلهاء مبتعدة عنهُ و هي تسير بشكلٍ عكسي، متعمدة ألا يغيب عن عينيها للحظة واحدة:
- خليك هنا، لحظة واحدة، اوعي تتحرك!
 فتابعها "يامن" و قد التوت شفتيه رغمًا عن أنفه بابتسامة لم تصل لعينيه، حتى اضطرت "يارا" أن تستدير لتدلف للقصر، و بأعلى صوتٍ لديها هدرت بـ:
- يا ماما.. ماما سهيـر!
نهضت "سهير" عن جلستها و قد تركت حفيدتها محررة إياها من أحضانها، فقالت "أيارا" بعبوس:
- مش هتكملي قصة الجميلة و الوحش يا نينة
ابتسمت "سهير" لها و هي تترك الكتاب جانبًا:
- هشوف ماما عايزة إيه و أكملهالك يا روح نينة، خليكي هنا
و تركتها.. نهضت "سهير" عن جلستها و قد ارتابت قليلًا، حتى بلغت "يارا" التي أوفضت نحوها فور أن أبصرتها، و بتهدج متلعثم فرحًا قالت:
- جه يا ماما.. جه!، رجع!.. رجع يا ماما، رجع
انعقد حاجبيّ "سهير" بعدم فهم، ثُم سألت:
- هو مين ده اللي جه؟
فصاحت "يارا" فجأة:
- يامن!
تمتمت "سهير" عفويّا:
- رائد فوق يا حبيبتي، جه منين بس؟
 هزت "يارا" رأسها نفيًا، و الدموع تتسابق للولوج خارج مقلتيها، ثم رددت و قد ارتعشت شفتيها تأثرًا، و اختنق صوتها من فرط مشاعرها المختلجة:
- يامن يا ماما.. يامن ابنك رجع!
تنهدت "سهير" في آسى و هي تربت على كتفها، و قد استشعرت أنها جنت أو شئ من هذا القبيل، فقالت "سهير" أسفًا:
- أنا عارفة إن غيابه مأثر معاكي رغم السنين دي كلها، لكن مينفعش كده يا بنتي، حاولي تتماسكي شوي
أنّبتها "يارا" بقولها و هي تعقد حاجبيها:
- انتي مش مصدقاني يا ماما؟
و سحبت ساعدها لتجبرها على السير و هي تتحداها بقولها الجَذِل:
- دلوقتي هنشوف يا ماما، تعالي معايا و أنا أوريكي!
عبرت باب القصر، و دارت في الحديقة الملحقة بهِ حيثُ نفس البقعة التي تركتها توًا، و هي تشير لنقطة بعينهاو هي تنظر لـ "سهير" المحملقة في شدوهٍ:
- شوفتي.. مش قولتلك رجع!
و أطبقت بكفيها محتوية كفيّ الأخيرة و هي تغمغم من بين أنفاسها اللاهثة:
- يامن رجع.. ابنك رجع يا ماما، رجـع!
ارتكزت "سهير" على بؤبؤيّ "يارا"، و اضطرت أن تصدمها بالقول و قد فغرت شفتيها لثوانٍ:
- مفيش حد هنا يا بنتي
تنهدت "يارا" في ضيق و هي تنظر أمامها، خلف الأرجوحة قائلة:
- يا ماما يامن هناك، انتي ليه مش...
و ارتخى كفيها تمامًا، عادت "يارا" خطوة للخلف و هي تتجول بعينيها في المحيط، ثم رددت بقلق و قد تغضن جبينها:
- يامن؟
ذلك الإشراق الذي احتلّ ملامحها تلاشى تمامًا، و ارتسمت الكآبة بخطوطها العرضة على ملامحها و هي تردد في خفوتٍ هامس، تترقّب إجابتهِ للنداء:
- يامن؟.. انت روحت فين؟
وقفت "سهير" أمامها مباشرة و هي تتنهد في التياع، و برفقٍ بسطت كفيها لتحاول ضمها، و لكن "يارا" نفضت كفيها عنها و هي تتراجع خطوة للخلف، مسلطة عيونها عليها و هي تردد باستهجان مُصرّ:
- هو كان هنا يا ماما.. صدقيني كان هنا، قالي إن هو هنا!
و تجمدت ملامحها.. تحجّرت العبرات في مقلتيها و هي تخفض نظراتها لموضع قلبها الخافق، متذكر أن "يامن" أشار بعينيه لقلبها عدة مرات و هو يحاول إقناعها أنهُ هنا، و بدا أنهُ كان يقنعها أنه مستوطنٌ بقلبها، ارتعشت شفتاها في عدم استيعاب لما يدور معها، و لم تتمكن من كبح عبراتها الملتاعة و هي تردد محاولة إقناع نفسها قبل "سهير":
- هو كان هنا يا ماما سهير، و الله كان هنا!
تمكن "سهير" بعد معاناة من حركات ذراعيها المتشنجة و قد انهارت في نوبة بكاء هستيريّة من أن تضُم جسدها لصدرها، حتى استكان جسدها، و لكن أنى لروحها بالاستكانة؟.. صرخت "يارا" صرخة مُدوّية من بين شهقاتها الممزقة لنياط القلوب، و النابعة من الصميم:
- هو كان هنا يا ماما، كان هنا صدقيني، يا يامـــن، يامــــــن،آآآآه!
و عادت تتشنج ين ذراعيها حتى تخلّصت منهما، خارت على ركبتيها و هي تدفن وجهها بين كفيها منحنية بجذعها للأمام متابعة صراخها المستهجن:
- يامــــن..آآه!
أُجهض أملها، و غربت سعادتها اللحظيّة، و استرقت الدنيا تلك اللحظة العابرة التي مضت عليها فظنّت فيها أنه عاد، و كأنهُ سيترك مقبرته عقب تلك السنون ليعود إليها، و استفاقت من جديد على الحقيقة المُظلمة، لقد رحل، وراهُ التراب و لم يعد هناك محالًا للعودة، رحـل، و من يرحل عن الدنيا، لا يعود.
........................................................................
يومًا آخر.. و آخر.. و آخر، أيام عِدة، و لا تدري كيف تمر و لا تستشعر مرورها، و كأن احساسها بالوقت مُنعدم، و منذ انهيارها الأخير، كانت تخشى حتى أن تُعيد فتح حاسوبها من جديد، فتعاد تلك اللحظة عقب أن حاولت تجاوز أنها عايشتها، ليتها ما استشعرت ذلك من جديد، فرؤيتهِ بذلك الوضوح المتجسّد، و الشعور بكل لمسة منه، و الإحساس بصوتهِ العميق، گالنفخ في الرماد فيتجدد تأججهِ.
كانت النهايـة التي ودّت لو كتبتها في روايتها، حيثُ يجلس الجميع في الحديقة حول تلك الطاولة المُمتدة التي وضعت خصيصًا لأجل ذلك اليوم، حيثُ حفلة الشواء، نهاية لا ينقصها سواهُ.
وقفت منزوية على نفسها، عاقدة ساعديها أمام صدرها، و شمسُ الشتاء تداعبُ بأشعتها اللطيفة الهادئة صفحة وجهها، تتابع بعينيها الشاردتين الضحكات المتبادلة بين الجميع، و الإشراق المحتل لوجوههم جميعًا.
تحملُ "يورا" ابن أختها "ولاء" ذو الستّ سنوات قسرًا بين ذراعيها، و لأنها تعلمُ أنها تستفزّه ما إن تعبث بخصلاتهِ و تخربها، فشرعت تفعلها مرارًا و تكرارًا و هي تضحك بابتهاجٍ طفولي كونها تنجح في أن تثير أعصابهِ، فلكزها عدة مرات و هو يصرخ بها:
- سيبيني.. سيبيني بقى، يــوه!
فقالت "ولاء" باستهجانٍ:
- يا بنتي حرام عليكي بهدلتيه، سبيه في حاله!
نظرت "يورا" نحوها بضيق، ثم هزت رأسها استنكارًا و هي تغمغم:
- الله الله، أنا بعمل حاجة، أنا بنكش شعره بس و ... آآه
تأوهت حين اجتذب "أصيل" كفها ليغرس أسنانه فيه، فانتفضت و هي تحرر ذراعيها عنه رغمًا عنها:
- آه يا ابن العضاضة!
 تمكن أخيرًا من النهوض، انسلّ "أصيل" من بين ذراعيها ليقف أرضًا و هو يضبط هندامه، و يحاول ضبط خصلاته التي تبعثرت، ثُم قال بسخطٍ بدى على وجهه العابس:
- و الله لو جيتي جمب شعري تاني لاقطعلك شعرك!
ارتفع حاجبيّ "يورا" في شدوهٍ و هي تصدر تأوهًا خافتًا من بين شفتيها متلمسة أسنانهِ التي تركت أثرًا في كفها، ثم حادت عنه لتنظر لـ "ولاء" التي كركرت ضاحكة حين رمقها "أصيل" بنظرة شرزة، ثم تركها و رجل و هو يزمجر غاضبًا، فشكت "يورا" إليها بامتعاض:
- شايفة ابنك!
فقالت "ولاء" من بين ضحكاتها:
- تستاهلي يا خالتو، عشان تبقى تبوظيله شعره!
خطى "أصيل" نحوها، ثم توقف أمامها مباشرة و هو عابس الوجه، فتبيّنت ملامحه الغاضبة التي شبّهت ملامح "فارس" للغاية، ثم قال بضيق و هو ينظر من طرفهِ بتمقّط لـ "يورا":
- ماما.. هاتيلي المشط و سرحيلي شعري
دسّت "ولاء" كفها في حقيبتها التي تركتها على الأريكة جوارها، و أخرجتهُ منها و:
- حاضر يا حبيبي! ثواني
فبزغ صوت "يورا" المذهول:
- شايلاله مشط في الشنطة!
فشرعت "ولاء" تُصفف خصلات صغيرها و هي تقول:
- طبعًا، هو اللي قالي عشان عارف إن خالته مجنونة حبتين
ضاقت عينا "يورا" و هي تحدجه بتوعّد، ثم قالت:
- اوعي تفكر إن حتة البتاع ده هيفرق معايا، لا يا بابا، انسى، و الله لو عملت إيه ما سايبة شعرك بردو
أطلق سبة خافتة من بين شفتيه و هو يشملها بازدراء، ثم ابتعد عنها و هو يغمغم بكلماتٍ ساخطة، حينما كانت "يورا" تتابعهُ باستنكار:
- هاه!.. ابنك بيبرطم بيقول إيه!
لم تتمكن "ولاء" من كبح ضحكاتها، فتوهجت وجنتيّ "يورا" احمرارًا و هي تهمّ بالنهوض عن جلستها:
- طب و الله ما سايباه ابن فارس، مفكر نفسه مين المغرور ده!
فاجتذبتها "حبيبة" لإجبارها على الجلوس و هي تقول محذرة:
- بس بقى يا يورا، سيبي ابن أختك في حاله بدل ما يخرشمك زي كل مرة
فكشفت "يورا" عن جرحٍ عميق في ساعدها لدى غرس "أصيل" أظافره فيه قبلًا، ثم قالت باستهزاء:
- أكتر من كده، متقلقيش يا ماما، أنا اعودت خلاص
فرددت "ولاء" من بين كركرتها:
- متتخيليش أنا فرحانة فيكي قد إيه
- طب و الله لاقول لجوزك!
و تغضّن جبينها و هي تسأل في جديّة:
- آه صحيح.. هو مقالش هييجي امتي من لندن؟
نفت "ولاء" برأسها و قد تلاشت بسمتها، ثم قالت عقب أن حررت تنهيدة حارة من صدرها:
- لأ.. لسه مكلماه قالي مش عارف!
فابتسمت "يورا" ابتسامة ذات مغزى و هي تلكزها برفقٍ في كتفها، ثم قالت غامزة:
- و لا عاملك مفاجأة زي كل مرة و هتروحي تلاقيه في وشك!
تزين ثغر "ولاء" بابتسامة حالمة و قد راقت لها تلك الفكرة، فتحمّست و هي تردد:
- هو ده ممكن؟
أومأت "يورا" برأسها و هي تردد بيقين:
- أكيد يا بنتي، ما كل مرة بيقولك مش عارف و فجأة بتلاقيه في وشك!
و لكزتها في جانبها برفقٍ و هي تشير لـ "يوسف" قائلة:
- بقولك إيه، ما تسألي يوسف يمكن قاله، حاولي توقعيه كده
ارتفع حاجبيّ "ولاء" و هي تقول مادحة:
- مش سهلة أبدًا، سوسـة!
فـ أبدت "يورا" غطرسة و هي تردد:
- طبعًا يا بنتي، ده أنا دكتورة يورا، أومال انتي مفكرة إيه!
فتلوت شفتيّ "ولاء" سخطًا و هي تغمغم هازئة:
- خلاص يا دكتورة.. متشكرين على النصيحة
و نهضت من جوارها تاركة إياها لتخطو نحو "يوسف" الجالس جوار زوجتهِ، و قد بدى و كأنهُ يغازلها بكلماتٍ خافتة فكانت تبتسم حينًا بخجل، و تلكزه في كتفهِ ليكفّ عما يفعلهُ حينًا آخر، حمحمت "ولاء" لتنبههما لوجودها، فاعتدل "يوسف" في جلسته، جلست "ولاء" أمامهما و هي تسأل موجهة حديثها لـ "يوسف":
- يوسف.. بأمانة، فارس مكلمكش
هزّ "يوسف" رأسه بالإيجاب و هو يقول بسلاسة:
- كلمني امبارح، ليـه؟
 انعقد حاجبيّ "ولاء" و هي تسأله:
- طب مقالش هييجي امتى؟
حمحم "يوسف" و هو يلتفت لينظر نحو "رهيف"، ثم عاد ينظر نحوها و هو يقول ساخرًا:
- كان لازم السؤال ده!
فقالت "رهيف" و هي تعبس بوجهها:
- قايله على فكرة، و من إمبارح و هو مش راضي يقولي!
حكّ "يوسف" صدغه و هو ينظر من طرفه لـ "رهيف"، فسألت "ولاء" من جديد بإلحاح:
- طب بليـز، بلـيز يا يوسف قولي، و أنا مش هقوله إنك قولتلي حاجة
هزّ "يوسف" رأسه نفيًا و هو يقول:
- بجد مقدرش، فارس مأكد عليا إنك أكتر واحدة المفروض متعرفش!
ارتفع حاجب "ولاء" استنكارًا و هي تردد متوعدة:
- بقى كده يا يوسف؟.. ماشي! الله يسامحك
فاحتجّ قائلًا:
- و أنا مالي!.. قولي لجوزك
- دادي.. دادي!
بزغ صوت طفلتهما الباكي و هي تخطو نحوهُ، فحملها "يوسف" بين ذراعيه ليجلسها على ساقيه فكانت تردد من بين شهقاتها الباكية و هي تشكوه:
- دادي، "أصيل" ضربني
لاح على ثغره ابتسامة و هو يمسح برفقٍ على خصلاتها الناعمة، ثم قال:
- خلاص متزعليش، أنا هضربه الوقتي
فنهضت "ولاء" عن جلستها و هي تبحث عن إبنها المشاكس لتعنّفهُ:
- يا "أصيل"
و شرعت تخطو مبتعدة عنهم، فاصطدمت دون قصد بـ "مايا" التي تشاجرت مع خطيبها من جديد، فتركتهُ و برحت ملحهما، فاستوقفتها و هي تردد باستنكار:
- يا بنتي تاني!.. مش قولتلك حاولي تفهميه شوية
فرددت "مايا" باستنكار:
- أنا بحاول يا ولاء، هو اللي مش بيحاول، و أنا بصراحة تعبت!
فقالت "ولاء" مقلصة وجهها بضيق، محاولة أن تهدأ من غضبها الثائر:
- خلاص اهدي شوية، انتي عارفة إن "عمر" مش سهل تفهميه، لأن "يامن" اللي مربيه
و فور أن ذكرت اسمهِ، تنهدت "ولاء" بحرارة و هو يحني أهدابها، ثم قالت هامسة:
- الله يرحمه
و لكن ثائرة "مايا" لم تهدأ، عقدت ساعديها أمام صدرها و هي تقول باحتجاج:
- طب و أنا مالي!.. أتحمل أنا كل ده ليه
- يا بنتي آ..
- مايــــا!
بزغ صوت "عُمر" المحتد من خلفهما، فنظر صوب "ولاء" نظرة عابرة، ثم أردف موجهًا حديثه لخطيبته، و هو يقبض على عضدها:
- امشي معايا
اجتذبت "مايا" ذراعها منهُ بعنفٍ و هي تردد باستهجان:
- مش جاية معاك حتى يا عُمر، أنا همشي من هنا، لأن الجو خنق فجأة
كور "عمر" أناملهُ و هو يحذرها باستهجان رافعًا حاجبهُ الأيسر:
- بت انتي.. و عزة جلال الله إن ما مشيتي و بطلتي عناد معايا لأوريكي، أنا لو اتغابيت عليكي مش هتطلعي من تحت إيدي سليمة!
لاح على ثغر "ولاء" بسمة مشتاقة، متذكرة كلمات "فارس" المماثلة لـ "عمر" الذي صار شابًا مفتول العضلات ذو طول فارع، فأضحى نسخة ممثالة لأخيه الذي فارقهن في سنٍ مشابه لسنّه، كونهُ يملك وجه "يوسف" و الذي هو وجه "كمال" أيضًا، دونًا عن "فارس الذي شابه والدتهُ بالأخصّ، و التي رأت مسبقًا صورتها التي يحملها معهُ دومًا، دون أن تدري أن "عمر" لم يكن يُشابه "يوسف"، بل أنهُ شابه "كمال" كونهُ من صلبه.
تنهدت "ولاء" و هي تحاول جاهدة فضّ العراك الذي يوشك على أن ينشُب بينهما:
- يا جماعة خلاص، اهدوا شوية بقى مش كده!
أشار "عُمر بسبابتهِ لـ"ولاء" في صرامة مرددًا:
- ولاء.. لو سمحتي متدخليش
فرددت "مايا" تتحداهُ بأعين بعثت شررًا:
- لا اتدخلي يا ولاء
فقال "عُمر" من بين أسنانه المطبقة في استهجان:
- و أنا قولت مش هتتدخل
خطت "مايا" خطوة فاصلة بينها و بينهُ لتغرس عينيها المتحديتين في عينيه المتوقدتين الحالكتين و هي تردد:
- هتدخل
- مش هتتدخل
- هتتدخل
- مش هتتدخل
- هتتدخل
- بـــــس!
و أشارت "ولاء" بكلتا كفيها المبسوطين جوار وجهها، ثم رددت بجديّة:
- لا أتدخل و لا متدخلش، أنا ماشية
فقالت "مايا" باحتجاج و هي تراها تنصرف:
- استني يا ولاء، انتي كده مش هتتدخلي!
و ضربت الأرض بقدمها بعصبيّة و هي تنفخ في تذمر:
- أوف!
فتوعّدها "عُمر" بنذير غير مبشّر:
- نفخي.. نفخي كمان عشان لو اتشخرمتي الوقتي يبقي عندي حق!
كركرت "ولاء" ضاحكة و قد كانت كلمات "عمر" آخر ما وصل إليها و هي تخطو مبتعدة باحثة عن صغيرها المشاغب، حتى أرهف السمع، مميزة ذلك الصراخ الذي تعلم جيّدًا مصدره، التفتت "ولاء" يسارًا و حثّت خُطاها، لتجد "أصيل" قد أسقط "يورا" أرضًا، و جثى فوقها و هو يجتذب خصلاتها بعنفٍ مفرط، و قد تبيّن لها خصلاتهِ البنيّة المشعثة، فأدركت ما حدث بيُسر بالغ، حملقت عيناها، ثم شهقت بخفوتٍ و هي تردد باستنكار:
- "أصيل"!.. إيه اللي عملته ده؟
- الحقيني يا ولاء، ابنك طلع شعري في إيده المفتري!
خطت نحوهما و هي تجتذب الصغير بعُسر عن خالتهِ، و قد كان متشبثًا بخصلاتها بإصرارٍ مبالغ فيه، فتأوهت "يورا" و هي تعتدل في جلستها و صرخت بـ:
- آه.. حاسبي يا متخلفة إنتي بتشديه بشعري، منك لله انتي و ابنك، مش مسامحاكم أبدًا
أحاطت "ولاء" ابنها بإحدى ذراعيها و بكفها الآخر حاولت تخليص خصلاتها من قبضته المتشبثة بها، و هو يصرخ في توعدٍ شرس:
- و الله لاخليكي قرعة عشان تبطلي تقرفيني!
ضربت "ولاء" على كفهِ عقب أن فشلت في تخليصه من خصلات شعر أختها الصارخة، ثم قالت باحتدام:
- سيب شعرها يا مؤذي، و الله لقايلة لابوك
- مش هيعمل لي حاجة، هو قالي لما حد ييجي جمبك خد حقك بإيدك!
فرددت "يورا" من بين صراخها المتألم:
- آه، و نعم التربية يا ولاء، آه.. شعري يا مؤذي، الله يخربيتك
- "أصيـــل"!
نهج صدره علوًا و هبوطًا و هو يلتفت دون أن يفلت خصلات خالتهِ، و لكنهُ أرخى أنامله قليلًا عنها، فـ أمرهُ "رائد" بعينيهِ بلهجة مُشتدة:
- سيبها!
فـ احتجّ "أصيل" و هو يزمجر غضبًا:
- بس يا رائد هي شـ...
فكرر "رائد" بلهجة حازمة:
- سيبها!
تنهد الصغير في قنوط و هو يلتفت نحو خالته ليرمقها شزرًا، و على مضض، حرر أنامله على خصلاتها، فشرعت "يورا" تحاول تمشيط خصلات بكفيها و هي تردد حنقًا:
- عيل متخلف، و الله لاوريك يا "أصيل"
تنفست "ولاء" الصعداء، و هي تجتذب صغيرها إليه منتصبة في وقفتها، حينما كان "رائد" يرمقها من طرفهِ، ثم برح محله و تركهم عقب أن فضّ العراك بيُسر بالغ، حملقت "ولاء" في إثره، و كذلك "يورا" بشدوه، ثم التفتت نحو "ولاء" و هي تردد متعجبة:
- إيه دا!
تقوست شفتيّ "ولاء" و هي تهز رأسها في سخرية:
- ابن يامن يا يورا، عايزاه يكون إيـه!
نهضت "يورا" عن جلستها و هي تحدج ابنها بنظرة متوعّدة عقب أن تأوهت ألمًا، ثم قالت موجهة حديثها لشقيقتها:
- طب أنا رايحة أشوفه بيعمل إيه
 - روحي
تركتها "يورا"، و راحت تتبع "رائد" الذي انتقى أكثر الأماكن هدوئًا من حديقة القصر، حيثُ يقف فيتنسى لهُ رؤية والدتهِ التي تقف "سهير" برفقتها، كما كان دومًا، كانت أكثرهم تفهمًا لها، حتى عن والدتها، فـ "يامن" كان يمثل لكليهما حياة كاملة، توقفت "يورا" خلفه مباشرة، و قد تعمّدت ألا تصدر صوتًا أثناء سيرها، عاقدة العزم على محاولتها لإثارة خوفهِ، حيث كان يقف عاقدًا ساعديه أمام صدره، مولّيها ظهرهُ، و حالما همّت بالتنفيذ، كان "رائد" يُغمغم:
- بتعملي إيه هنا!
زفرت "يورا" في يأسٍ، ثم رددت باستهجان:
- أوف.. مش هعرف أخضك في مرة قبل ما أموت!
وقفت "يورا" جواره مباشرة، و بفضولٍ راحت تنظر إلى حيثُ ينظر هو في ثباتٍ دون أن تحيد عيناه، ثم سألت و هي تهُم بأن تعبث في خصلاته بعفويّة:
- بتبص على إيه كده؟
قبض "رائد" على معصمها و هو ينظر للأعلى محذرًا إياها بقولهِ:
- إيّاكي!
كركرت "يورا" ضاحكة بخفوت و هي تسحب معصمها بحذر منه، ثم قالت:
- خلاص خلاص، مكنتش أقصد
فردد "رائد" و هو يقوس شفتيه فتورًا:
- تعرفي، انتي تستاهلي اللي كان هيجرالك
ارتفع حاجبيها في شدوهٍ من كلمتهِ المباغتة، ثم قالت باستيضاح:
- نعم!
فتابع "رائد" بتأفف و هو يعقد ساعديه من جديد:
- عشان تحرّمي!
رمشت "يورا" عدة مرات في عدم استيعاب، ثم رددت متصنعة البراءة:
- بقى كده يا رائد؟.. ترضى إن خالتك حبيبتك يحصل لها كده!
فكان جوابهُ المباغت كقصفٍ لجبهتها:
- أيوة
حمحمت "يورا" و هي تزيح خصلاتها عن عينيها لتعيدها خلف أذنها، ثم قالت بصوتٍ خفيض:
- احم.. إيه الإحراج ده!
ضاقت عينا "رائد" المرتكزتين على والدته، ثم سأل:
- إيـه ده!
- إيــه؟
- مش ده فارس؟
نظرت "يورا" نحوهما، ثم ارتفع حاجبيها و هي تردد بخبث التمع في عيونها:
- بقى كده!.. يعني جيت بردو و مرضيتش تزعّل مراتك يا فروسة!
نظر "رائد" نحوها من طرفهِ، ثم قال:
- في حد معاه!
تغضن جبين "يورا" و هي تسأل باستفسار و كأنها لا تعرف الإجابة:
- حد!.. حد مين؟
- جاسِم!
فـ بزغ صوت ""إيلارا"" من خلفهم و هي تصيح مهللة مقبلة على "رائد" بالأخص:
- رائد، عمو فارس جه، تعالى بسرعة
و همت بأن تجتذبهُ من عضده، و لكنه استوقفها بقولهِ الجامد:
- و فيها إيه يعني؟.. انتي أول مرة تشوفيه!
- بس..
- بطلي بقى تفاهة يا إيلارا، اكبري شويـة، انتي مبقيتيش صغيّرة
عبست "إيلارا" في وجههِ لقسوته المفرطة معها، ثم قالت و هي تقوس شفتيها:
- أنا زعلانة منك يا رائد، عشان كل شوية تزعقلي
رقّت "يورا" لعبوس الكفلة، فمغمغت تُؤنب "رائد":
- ليه كده يا رائد؟.. بالراحة شوية عليها!
فضمّت "إيلارا" شفتيها و هي تردد و كأنها تشكوهُ إليها:
- أنا مش عايزة أكلمه تاني يا خالتو، و لما بابا ييجي أنا هخليه يزعقله عشان ...
فقاطعها "رائد" بنفاذ صبر و قد اهتاج فجأة:
- بطلي تفاهة بقى!.. بطلي تعيشي نفسك في الأوهام يا أيار، بابا مــات، خلاص مات، مات من قبل ما نتولد حتى، و انتي بغبائك مستنياه ييجي!
هزت "إيلارا" رأسها بالسلب و هي تردد بقهر و قد بدأت الدموع تنبجسُ من مقلتيها:
- لأ غلطـان، ماما و خالتو قالولي إن بابا سافر لمكان بعيد، و هييجي قريب، و ...
قاطعها "رائد" بمنتهى القسوة، و هو يضرب بالواقع في وجهها:
- بطلي غباء بقى، بابا مات.. مــات، عارفة يعني إيه مات؟ يعني عمرنا ما هنشوفه، أبـدًا!
فرددت "يورا" تعنّفهُ بحزمٍ جل على وجهها:
- رائـد، كفاية كده، انت زودتها أوي
أشاح "رائد" بكفه باستنكار ، ثم ردد بجفاء:
- انتو اللي زودتوها، كفاية تضحكوا على عقلها بكلامكم التافه، و تقنعوها إن بابا هيرجع تاني!
و تابع "رائد" بجملة صاغها بطريقة مختلفة، قرأها على حين غفلة من والدتهِ حين كانت تكتبها:
- انتو بتعيشوها على أمل هتفضل تستناه، و في الآخر هتتسبوا في اللي هيحصل لها، و أنا مش هسمح لـ "إيلارا" تتعذب بسببكم لما تفهم يعني إيه بابا مات بعد ما فضلت تستناه!
و برح محلّه تاركًا لهما، تابعتهُ "إيلارا" بعينيها الدامعتين، ثم انفجرت باكية بكاءً حارقًا و هي تردد من بين شهقاتها:
- أنا مش بحبك يا رائد، أنا مش هحبك تاني لأنك مش بتحبني، و لما بابا يرجع هخليه يزعقلك
هشّ قلب "يورا" لبكائها، فجثت على ركبتيها أمامها لتوازيها، و شرعت تنزح عبراتها و هي تمسح على بشرتها الرقيقة برفق، ثم قالت:
- خلاص يا روحي، و الله ما تزعلي
هزت "إيلارا" رأسها بالسلب، ثم سألتها بحرقة:
- هو رائد بيكرهني ليه يا خالتو؟ هو أنا عملت فيه حاجة عشان يكرهني
انعقد حاجبيّ "يورا" و هي ترمقها بتأثر، ثم قالت مستدركة:
- حبيبتي مين قال كده؟.. رائد بيحبك و بيموت فيكي كمان، بس هو بس عصبي حبتين!
- أومال ليه بيخليني أعيط على طول؟
فقبّلت "يورا" وجنتها بحنو، ثم قالت و هي تجتذبها لأحضانها محتوية جسدها بين ذراعيها:
- معلش يا حبيبتي، هو مش قصده يخليكي تعيطي أبدًا
- إيلارا؟
ارتفعت أنظار "يورا" المرتبكة رويدًا رويدًا بتلكؤٍ حتى بلغت وجهه، فشحب لون وجهها، و أصابها الارتباك اللذيذ برؤيتهِ، أصابها الحرج كونها تجلس جاثية على ركبتيها، حينما كانت "إيلارا" تنسلّ من أحضانها حين استمعت لصوتهِ، نظرت نحوهُ و هي تقف على قدميها رويدًا رويدًا، حينما كان هو ينحني قليلًا ليتلقّى "إيلارا" بين ذراعيه حاملًا إياها، فدفنت وجهها في كتفهِ و هي تقول بعبوس:
- جاسم.. رائد زعقلي و خلاني أعيط تاني!
ربّت "جاسم" برفقٍ على وجنتها و هو يحيد بأنظارهِ عن "يورا"، حمحم ليزيح ذلك التحشرج عن صوتهِ، ثم قال:
- أخبارك إيه يورا.. هانم؟
نهضت "يورا" سريعًا عن جلستها و كأن عقربًا لدغها، ثم قالت بخفوت متلعثم:
- كـ..كويسة، و انت؟
أومأ "جاسم" قائلًا باقتضاب:
- تمام
ثم أشار بعينيه للصغيرة، و قال مبررًا بحثهِ عنها بارتباك محاولًا مواراتهِ:
- كنت.. بدور على إيلارا، فارس بيه عايز يشوفها
تقوست شفتيها في ابتسامة مرتعشة، ثم قالت و هي تومئ بتلعثُم:
- أيوة طبعًا.. اتفضل!
و بجانب آخر..
لا تزال عابسة في وجههِ، كونهُ لم  يكلف نفسه عناء إخبارها أنه سيأتي اليوم كما ظلّت ترجوه، حينما كان هو ينحني ليحمل طفلهُ بين ذراعيه، ثم انتصب من جديد ليجدها تنظر نحوها بوجه متقلص، فزفر متأففًا و هو يقول باستنكار:
- هتفضلي مبوزة في وشي كده كتير؟
- كان هيحصل إيه لو عرفتني إنك جاي!
فأجابها "فارس" بفتورٍ متذمر:
- قولتلك كنت عايز أتنيل أعملهالك مفاجأة، لكن لو أعرف إنك هتقلبيلي وشك كده كنت قولتلك، انتي مش وش مفاجأت أساسًا
تخصّرت "ولاء" و هي تردد باستهجان بلهجة عصبية:
- قصدك إيه يعني يا فارس.. إني نكدية؟
- لأ خالص.. أنا امتي قولت كده!
و أشاح بوجهه عنها لينظر لطفله الذي همس في أذنهِ:
- سيبك منها يا بابا، هتفضل تزعق، خدها على قد عقلها
فأحكم "فارس" من حملهِ لطفله و هو يقول:
- معاك حق با ابني و الله
فهدرت "ولاء" و هي توزع نظرها بينهما:
- انتو بتتوشوشوا في إيه!
- و لا حاجة يا حبيبتي، "أصيل" بيقولي إني وحشته، مش كدا يا حبيبي؟
- كدا يا بابا
لا تزال "ولاء" متشككة، فهزت ساقها في عصبية، ثم قالت بانفعال:
- و بيوشوشك بيها ليه؟ دي حاجة سر؟.. و لا انتو بتستعبوطني
فـ أشاح "فارس" بوجهه عنها، ليواري تقلص تعبيراتهِ المتشنجة و هو يهمس ساخطًا:
- أبو الجواز على اللي عايز يتجوز
 كانت "يارا".. تلعب دور المتفرج ، ترمقُ كل ثنائيّ منهم بنظرة مختلفة، و بسمة باهتة تلوح على أطراف شفتيها، حتى رددت "سهير" و هي تربت على كتفها برفقٍ:
- هشوف فارس و أجيلك يا حبيبتي!
أومأت" يارا" برأسها موافقة و هي تغمغم بخفوت:
- اتفضلي يا ماما، براحتك
و تابعت "سهير" التي مضت نحو "فارس"، و قد بدا أنها أنقذتهُ من عراك كاد ينشب بينه و بين زوجته، فاتسعت ابتسامة "يارا" الزائفة، ابتسامة لا تعنى شيئًا، سوى أن تحتفظ بوجه شبه مشرق في وجه جميع ضيوفِها..
هبّت رياحٌ حملت إليها رائحة الياسمين المنعشة لحواسها، ضمّت طرفي الشال الصوفيّ لصدرها، و قد سرت قشعريرة في جسدها البارد، الذي لم يدفأ منذ ثماني سنوات كاملة، و على الرغم من كون قلبها يتلظى كل ليلة، كلما نضج و بات رمادًا، تضطرم النيران مجددًا، فـ ترفُض الشعلة الأخيرة أن تُخمد، و لو مرّت آلافُ السنون.
كلٌ.. لديه قِصة مختلفة، "فارس" و "ولاء"، "يوسف" و "رهيف"، "عمر" و "مايا"، و مستقبلًا كما تتنبأ.. سيكون هناك "جاسم" و "يورا" أيضًا، قصص بعضها تُوّج بالزواج، و البعض الآخر لم يُكتب له ذلك بعد، كل طائر منهم وجد إلفًا يُشاطره سنوات حياته القادمة، و للحق هي وجدت أيضًا، يكفيها طفلين من صُلبه يكبرن أمامها يومًا بعد يومًا.
مررت ذراعيها بحركة متكررة على عضديها، علّها تتمكن من بثّ الدفء لجسدها قليلًا، حتى تيبّست و كأن دلوًا من الثلج سُكب فوق رأسها، طالت الزرقة التي اصبغ وجهها بها شِفاها، و قد شعرت أنها على حافّة الجنون تمامًا، حين استشعرت ذلك الملمس الدافئ أعلى كتفيها، حملقت عيناها دون أن تقوى على تنحية بصرها إليه، إلا بعدما تلمّست السترة بأطراف أناملها، ظلّت متصلبة لدقائق طويلة لا تقوى على إصدار ردّ فعل على الرغم من اشتمامها عبقهِ العالق بها، حتى غمغم بخشونة:
- النعناع برد يا يارا، اعملي غيرهُ!
هُـو.. تكاد تقسم أنه هو، بأحجية كلماته التي تحتاج لحلّ شفراتها العميقة، و رغم ذلك ظلت متيبّسة، لا تقوَ على النظر إليه، أطبقت جفونها و هي تهمس بخفت:
- انت مش حقيقة، انت مجرد خيال عايش جوايا
حكّ "يامن" بظهر إبهامهِ ذقنه و هو يمرر أنظاره على الجميع بارتباكٍ يحاول مواراتهِ، و بجهدٍ مضاعف بذله كي يتمكن من مواراة تلك العبرة الحارقة التي انسالت من بين جفنيه، ثم ارتكز عليها مجددًا و هو يسأل بفضولٍ على الرغم من جديّة نبرتهِ:
- بنت و لا ولد؟
ازدردت ريقها في وجل، ثم قالت بصوتٍ خفيض و هي تناظرهُ من طرفها:
- الاتنين!
- سميتيهم إيـه؟
رمشت عدة مرات، غير قادرة على استيعاب ما يجري من حولها، التفتت لترمقهُ بنظرة مطولة، ثم حادت عنهُ و هي تردد بتنهيدة ملتاعة:
- ياريتك تفضل معايا دايمًا، لو حتى طيفك.. أنا راضية بيه!
انتبهت إلى اجتذاب بنطالها القماشيّ للأسفل، فنزحت عبرة علقت بأهدابها، ثم أخفضت بصرها نحو صغيرتها "أيارا" التي رددت:
- ماما.. ماما، هو مين ده؟
نبضاتها الخافقة تكاد تصُم أذنيها و هي ترى ابنتها تشير لنقطة ما جوارها، و دون أن تحيد عنها أو يرفّ لها جفن، سألت مستشعرة جفاف حلقها:
- ميـن؟
- ده يا ماما!
انحرفت "يارا" كالملسوعة بنظراتها جوارها إلى حيث تشير "أيار" بكفها، و لكن خبى انفعالها حين لم تجد سوى السراب، فعادت تنظر نحوها و هي تسألها بوهن:
- فيـن؟
فقالت "أيار" مشيرة لتلك الرسمة التي صنعتها على كفها المبسوط باستخدام القلم الحبريّ، فأفسدت مظهرهِ، قائلة:
- ده يا ماما، تعرفي أنا رسمت مين؟.. ده رائد، شوفي شبه الشبح ازاي!
عبست "يارا" و هي تحملق في كفها مطولًا، و رددت تعنّفها بضيق:
- ينفع كده يا أيار، في بنت كيوت زيك تعمل كده في إيدها
و نفخت في ضيقٍ محاولة استجماع شتاتها المبعثر، ثم قالت و هي تصحبها للداخل:
- تعالي معايا أغسلك إيدك قبل ما ناكل
 
و على تلك الطاولة العامرة بأشهى و أطيب الأصناف، اجتمع الجميع من حولها، و قد عَمد "فارس" لترك المقعد المترأس فارغًا، و كأنهُ سيأتي ليحتلّهُ عقب قليل!
منحته "يارا" نظرة قانطة، ثم سحبت مقعدها لتجلس جوار مقعدًا شاغرًا من أجلهِ،  مررت عينيها مجددًا على الجميع، حتى ارتكزت ببصرها على "رائد" الجالس جوارها في عبوس شديد، فمالت عليه و هي تهمس:
- انت كويس يا رائد؟
- أيوة
- انت مخاصم أختك؟
فاستهجن قولها:
- مخاصمها!.. إيه التفاهة دي يا ماما، انتي ليه بتعامليني كأني طفل!
فزفرت "يارا" بضيق، ثم قالت في خفوت:
- خلاص يا رائد، متتعصبش، مكانتش كلمة هي
و شرعت تتناول قِطع اللحم المشويّة بشوكتها، و تقضُم منها، تشاركهم الأحاديث المرحة من قِبلهم دون أن تبادلهم أي نوع من المرح حينًا، و تلتزم الصمت حينًا، حتى قال "فارس" حينما كان يُحادث "يوسف":
- لا متقلقش.. كل واحد جايبله هدية على زوقي يا رب تعجبه!
و ارتكز ببصره على "رائد" و هو يقول في شئ من المرح:
- بصراحة محدش تعبني في اختيار الهدايا قد رائد
فقال "رائد" و ابتسامة ساخرة ترتسم على ثغرهِ و كأنهُ استنبط ماهيتها:
- لو لعبة تافهة فخليهالك أحسن!.. يمكن تنفعك!
شرقت "يارا" و قد شعرت بتوقف قِطعة اللحم في منتصف حلقها، ثم سعلت عدة مرات و هي تسحب كأس المياه القريب، ثم رددت تعنف ابنها على ما بدر منهُ من ردٍ وقح و هي تترك الكأس جانبًا:
- رائد، إيه الوقاحة دي؟.. ينفع تكلم عمك بالشكل ده!
و أشارت بعينيها لـ "فارس" و هي تقول:
- اعتذر لعمك
ترك "رائد" شوكتهِ جانبًا فأصدرت رنّة مزعجة، ثم قال بجفاء:
- مبعتذرش!.. و معملتش حاجة أعتذر عليها!
رمقتهُ "يارا" بنظرة مُحتدة، ثم قالت موجهة حديثها لـ "فارس" عقب أن حررت زفيرًا حارًا من صدرها، و قد غلّفت الصرامة نبرتها:
- آسفين يا عمو، بعد كده انسى إن في رائد.. متجيبلوش حاجة تاني
ارتكزت أنظار "فارس" على "رائد"، ثم قال مستدركًا بجديّة:
- محصلش حاجة يا يارا، سيبي الولد يقول اللي عايزه
زفرت "يارا" حنقًا و هي تحيد بنظراتها عنه، حينما كان "فارس" يستأنف حديثهُ لـ "رائد":
- على العموم أنا عارفك كويس يا رائد، أكيد مش هجيبلك لعبة يعني! هديتك أحسن من كده بكتير!
فـ استنبط "رائد" بلا اكتراث و هو يعاود سحب شوكتهِ:
- حُصان؟.. مش عايز، أنا مش بحب غير أشهب
فرددت "إيلارا" مُتدخّلة في الحديث:
- عمو .. عمو، انت جبتلي هديّة أنا كمان
انحرفت نظرات "فارس" نحو "أيار"، التي تعتبر نسخة مصغرة عن والديها في ملامح جمعت بين كليهما، و لكنها تميل لأن تكون أكثر شبهًا لـ "يارا"، و ابتسم ببشاشة في وجهها و هو يردد مناغشًا:
- طبعًا.. أنا ممكن أنسى البرينسيس بتاعتنا!
تضاحكت "أيار" بخفوتٍ خَجِل، ثم غمغمت بصوت مسموع:
- يا رب تكون عروسة باربي اللي عندها بيبي!
فهزّ "فارس" رأسهُ استنكارًا، و هو يردد في مرحٍ خافت:
- هي البنات مبتفكرش غير في العرايس ليه، في حجات كتير يا برينسيس تفكري فيها!
  أتى "يارا" بعد قليل أحد أفراد حراسة البوابة عقب أن استأذن للدلوف، ثم مال بجذعه عليها ليهم لها بكلماتٍ مبهمة، جعلت الجميع يحدق في شدوهٍ و البعض في ارتياب، حتى تركت "يارا" شوكتها تسقط أعلى الطاولة و هي ترفع إليه نظراتها الغير مستوعبة حين انتصب الحارس في وقفته و هو يعقد كفيه معًا، فغرت شفتيها في عدم تصديق، فسأل "فارس" في توجس و قد عقد حاجبيهِ:
- في حاجة و لا إيه؟
تهدجت أنفاسها و هي تنظر نحوه و كأنها رأت شبحًا توًا، ثم نهضت عن جلستها دافعة المقعد للخلف و هي تردد بعُسر بالغ، محاولة اختراع أي حجة:
- لا أبدًا.. موضوع بسيط هخلصه و أرجع على طول
و أشارت للطاولة متابعة:
- كملموا انتم أكلكم
و مضت من خلف الحارس الذي خطا أمامها، عبرت "يارا" بين الأشجار و المزروعات التي تكتظّ بها الحديقة، تنغرس قدميها بحذائها بين الحشائش المتناثرة، حتى بلغت الاسطبل الصغير الذي أقامتهُ من أجعل الجوادين، و ما إن دلفت من خلفهِ، و وجدت باب "أشهب" الحديديّ القصير مفتوح و قفلهُ الحديديّ قد تم تحطيمه، حملقت عيناها في سخط، ثم رددت باستهجان موجهة حديثها للحارس:
- يعني إيه!.. إزاي يتسرق و انتو موجودين؟
و نقلت نظرها للسائس و هي تردد بامتعاض و هي تمضي نحوه:
- و انت يا عم مرزوق كنت بتعمل إيه!.. كنت فين و ده بيحصل
فردد الأخير مطرقًا لرأسهِ:
- ده حصل حالًا يا هانم، كنت بشوف أكل أشهب، و لما رجعت ملاقيتوش
فنظرت "يارا" نحو الحارس و هي تسأل بحاجبين معقودين:
- و انتو كنتو فين و الحرامي ده بيدخل؟.. كنتو فيـن؟
أحنى الحارس رأسه في تخاذل، غير قادرًا على التعقيب لذلك التقصير الذي صدر منهم، فزمجرت "يارا" غضبًا، ثم أخفضت نبرتها مغمغمة:
- ده لو رائد عرف مش هيحصل طيب!
و أمرت السائس من فورها و هي تدنو من الجواد الآخر:
- افتحلي الباب يا عم مرزوق
من فورهِ.. فتح السائس الباب الحديديّ، و اقتاد الجواد للخارج، مسحت "يارا" برفقٍ على غرّتهِ، ثم بملامح صارمة بسطت كفها للخلف دون أن تحيد عن الجواد في حركة تفهّمها الحارس جيّدًا، و دون مقاومة، انتزع سلاحه الناريّ من ملابسه، و تركه في كفها، فتقبّض كفها عليه، وثبت "يارا" قفزة رشيقة رياضيّة لتكن أعلى الجواد، و سحبت اللجام و هي تدفع الجواد بساقيها، في انطلاقة أبدت احترافها و تمكّنها، فقال الحارس بجمود:
- وراكي يا هانم، و هنجيـ...
 قاطعتهُ "يارا" و هي تردد بحزمٍ غير قابل للنقاش:
- مش عايزة حد ورايا، أنا هجيب حصاني بنفسي!، افتحوا البوابة الخلفيّة
كانت تلك كلماتها التي وصلتها، قبل أن تختفي عبر باب الإسطبل الصغير المفتوح على مصراعيه، عمدت "يارا" إلى اتخاذ طريقًا من الخلف، حتى لا تمرّ من أمام العائلة فتنبههم لتلك الكارثة، و خاصة "رائد" المتعلق تعلقًا مريبًا بـ "أشهب"..
 تشبعت وجنتيها بالحمرة الغاضبة و هي تزيد من سرعة الجواد فور أن عبرت البوابة الخلفية، أصدرت حوافر الجواد نقرًا ذو وقعٍ منتظم، و هو يلتهم الأرضية أسفل منه، عابرة من خلال الأشجار المتشابكة و الحشائش و الكلأ الشاسع، السماء بلونها الذهبيّ الباهت الممزوج مع الرماديّ، و الشمس بأسلاكها الناعمة، تتخبأ خلف غيُوم الشتاء الرماديّة، النسيم يداعب بشرتها في محاولة للتخفيف عنها، يعبث في خصلاتها القصيرة فتتطاير حول وجهها، و قد بزغت الشعيرات الدموية في عينيها المتوسعتين في غضب..
 أصغت "يارا" لنفس الصوت المتكرر، حيثُ ينقر الجواد الأرضيّة المشبعة بالكلأ فيصدر ما يشبه الفحيح، و هو يمر من بينهم، تغضن جبينها و قد انعقد حاجبيها في تجهمٍ قاسي، ضاعفت من سرعة الجواد ذو اللون الأبيض الناصع، حتى تراءى لها "أشهب" بصهيلهِ المميز و قد بزغ عن تلك المسافة بينهما، كان "أشهب" بسرعتهِ الفائقة يلتهم بنهم الحشائش من أسفلهُ بحوافره، و لسوء حظها، كان "أشهب" أكثر سرعة من "الأغر" و لكن تلك المسافة بينهما كانت بالكاد تكفي لأن تتمكن من اقتناصهِ.
 و باحترافيّة.. تشبثت "يارا" باللجام بكفٍ واحد، و بالآخر أحكمتهُ حول السلاح، ثُم وجهتهُ نحو الممتطى صهوة جوادها، و قد تراءى لها ظهرهُ العريض و أكتافهِ المتباعدة، من أسفل ثيابهِ القاتمة، و خصلات شعرهِ الناعمة الحالكة تتطاير بفعل الرياح و حركة الجواد، و بأعلى صوتٍ لديها هدرت باحتدام مهددة:
- وقف حصاني و انزل!
 و لم تتلقَ أي رد فعل، حتى أنهُ لم يلتفت إليها، فزأرت من جديد و هي تلوح بالسلاح محاولة قطع المسافة الفاصلة:
- وقف الحصان و إلا هتندم، انت متعرفش معنى إنك تسرق حاجة تخُص يامن الصياد!
و أيضًا لا استجابة، فلم تتردد في أن تسلط فوهة السلاح لتكن مُصوبة لظهرهِ، و بثانية واحدة.. كان صوت الرصاصة يصدح عن سلاحها، و لكنها لم تكن بذلك الاحتراف في التصويب على الرغم من كونها مواظبة على التدريب حديثًا، ففشلت هي أولًا في التصويب، اجتزّت أسنانها بعنفٍ بالغ، و هي تعيد التصويب الدقيق، و تلك المرة كانت طلقتها مصوّبة لرأسهِ، و لكنهُ بدا أكثر احترافًا، فـ أحنى رأسهُ ليتفادى الطلقة ببراعة متمرّسة، زمجرت "يارا" غضبًا، ثم أطلقت رصاصة ثالثة صوبتها لظهرهِ، و لكنهُ أيضًا تلافاها إذ أدار اجتذب "السارق" اللجام باحترافيّة ليمرق بالجواد للجانب فجعلها تفقد طريقها تمامًا..
 توقفت "يارا" و هي ترنو بنظرة مشدوهة للأمام و قد استشعرت تيهها، حين وجدت نفسها أمام مفترق الطرق، حتمًا عبر هو من طريقٍ منهما، حتى صوت الجواد تلاشى فلم تعد تتمكن من تتبع طريقه، زمجرت سخطًا و هي تخفض سلاحها مُقبضة كفها عليه بقوة، و لم يكن لها سوى أن تجرّب حظها، فراحت تسلك الأيسر منهما، و ما إن إنتهى آل بها لمزيد من التيه و الحيرة، حيثُ لم يبد لها أي تغير، لا يوجد سوى الخُضرة التامة من حولها، و السماء الرماديّة من أعلاها، و لا تدري حتى إن كانت عبرت من ذلك الدرب قبلًا أم أنهُ دربٌ جديد، أم أنها تدور في حلقاتٍ مفرّغة، زفرت "يارا" و همت بالترجل عن الجواد، و لكنها تيبست إذ استمعت لصهيل "أشهب" المميز من خلفها، أدارت الجواد للجانب قليلًا، ليتبيّن لها الملثّم الذي أشهر سلاحه بدورهِ في وجهها، فمن فورها أشهرت سلاحها مصوبة لرأسهِ، كلاهما في مواجهة بعضهما البعض، أعلى الجوادين الذين أخذا يصهلا في انفعال، ازدردت "يارا" ريقها، و قد أبدت ثباتًا عجيبًا اكتسبتهُ، و من ثُم أمرتهُ بصرامة:
- انزل عن حصاني!
و لمّا لم تجد منهُ رد فعل، زفرت حانقة، ثم غمغمت في تمقّط مُهدد:
- شوف، أنا حرفيًا معرفش إنت دخلت ازاي قصري، و اجتزت الحراسة دي ازاي، و اتجرأت تسرق حصاني اللي كان ممكن بحركة منهُ يخلص عليك، لكن كل اللي هقولهولك، يا تنزل عن حصاني حالًا، يا صدقني.. هتشوف مين مرات يامن الصيّاد!
- عظيم!
كان هو.. أول من أرخى ذراعهِ عن السلاح و هو يتأملها بخضرتيهِ القاتمتين، و يعتليهما حاجبيهِ الكثيفين محتلّين جبينه المجعّد إثر تقطيبهُ، دون أن يتبيّن غيرهما عن وجههِ المتواري خلف اللثام، حملقت عيناها في طيفهِ المتجسد أمامها، فلفظت أنفاسًا حارة عن صدرها، و هي تحنى ذراعها الحامل للسلاح، ثم رددت عاقدة حاجبيها بعدم فهم:
- طب ازاي!
ما لم تفهمهُ فورًا كيف أنهُ تمكن من سرقة جوادها، لربما أنها تتخيله، أو أن الجالس أمامها ليس هو و تراهُ بعين مختلفة، فتجسّد طيفه في الجسد الممتطي صهوة الجواد أمامها، و صوتهُ في الصوت المنبعث من حنجرتهِ، هزّت "يارا" رأسها في استنكار و هي تقبض جفونها ململمة شتاتها، ثم عادت تفرّقهم و هي تصوب سلاحها مباشرة لرأسهِ، و قد اشتدت ملامحها في حزمٍ و هي تأمرهُ بصلابة:
- آخر مرة هحذرك.. إنزل.. عن.. حصاني
فكان صوت "يامن" ينبعثُ عم فاههِ الغير متبين لها و هو يقول يلهجة متحديّة:
- و لو منزلتش؟
أطبقت جفونها و قد شعرت أنها على حافّة الجنون، هزت رأسها بعنفٍ و كأنها تحاول نزح شبحه عن مخيلتها، ثم نطقت بثبات دون أن يرفّ لها جفن:
- هقتلك؟
- بجـد؟
تكاد تجزم أنها ستجن حتمًا، نبرتهِ المتشدقة بسخرية، انعقاد حاجبيهِ ، جبينهُ المغضن دومًا، خُضرة عينيه لمشبعة بجذوة النيران المتوقّدة، و قد انعكس عليها شعاعًا لطيفًا من الشمس الباهتة فأضفت إليهما لونًا مميزًا جذابًا جعلها تحدّق فيهما مستشعرة ألم بالغ يخترق صفحة فؤادها، أنى لطيفهِ بأن يتجسد في هوية سارق اقتحم قصرها؟.. خلال الأيام الماضية مرّت بالكثير مما لم يجرِ مسبقًا معها، و اليوم كان أعسر شعور، إذ تراهُ أمامها حيّا ملموسّا لا طيفًا سيتلاشى، زفرت "يارا" أنفاسها الملتهبة، ثم قالت و هي ترفع ذقنها في كبرياء:
- أكيـد!
- عظيم
فهدرت بهِ بنفاذ صبر و قد تحول وجهها لكتلة من النيران المُضطرمة و هي تلوح بسلاحها في وجههِ:
- كفايـة!
ارتعشت شفاها و قد توسعت عيناها بجنون مغتاظ حين ردد بجمود:
- تؤ
نهج صدرها علوًا و هبوطًا و هي تشدد من قبضها على فكيها في استهجان، ثم قالت باغتياظ:
- ازاي تجيلك الجرأة تدخل قصري و تخطف حصاني!
 فردد الأخير بصلابة:
- محدش بيخطف حاجة تخصّه!
كحجرٍ جثُم على صدرها، فسلبها حقّ التنعم بأنفاسٍ هادئة، تلاحقت نبضاتها حتى كادت تصُم أذنيها، فسأل الأخير بنبرة جادة:
- و لا إيه؟
ارتعش كفها القابض على سلاح فارتخى ذراعها تمامًا جوارها و هي تحملق فيه بعدم استيعاب، هزّت "يارا" رأسها ببطء مميت، مستشعرة جفاف حلقها، و نفت حقيقة وجودهِ الفعليّة:
- لأ!
حينها فقط.. أزاح اللثام عن وجهه لتتبين تقاسيمه الصارمة المحتفظة باحتدادها المُتصلّب، ففغرت "يارا" شفتيها و قد حملقت فيه بعينين ضاقتا باستهجان، رمشت عدة مرات، آملة أن يتلاشى و يتبدد كسرابٍ لم يكن، و لكنها كانت مخطئة، فلم تشعر بنفسها سوى و زاوية ثغرها تنحرف بابتسامة ساخرة و هي ترمقه باستهجان تزامن مع تلك العبرات الحارقة التي تجمعت في مقلتيها،  أدارت "يارا" الجواد لتنطلق بهِ مارة من جوارهِ لتخطو مبتعدة عن تلك البقعة في شكلٍ عكسي لهُ، فـ أطبق "يامن" جفونه و هو ينطق بتصلب مناديًا لها:
- يارا!
فكانت لهجتها جافّة للغاية و هي تفاقم سرعة فرسها لتنطلق مبتعدة عنه:
- يارا ماتت مع جوزها، تعرفه؟
و بثانية كان المحيط قد خلا منها، فلم يعد سـواه، حينها ارتفعت زاوية ثغرهِ ببسمة هازئة، و قد نفرت عبرة ملتهبة عن عينهِ، تزامنًا مع قولهِ الساخر الذي خالطهُ المرارة:
- عـز المعرفة!
..................................................................
و احتلت مقعدها من جديد، إذ لم تكن قد استغرقت سوى ما يقارب الخمسة عشر دقيقة، سألتها "حبيبة"  و هي تتأمل وجهها المتقلّص في استهجان:
- انتي كويسة يا يارا؟
فقالت بإيجاز مقتضب:
- كويسة
و دون شعورٍ منها، أخفضت كفها و هي تتناول براحتها الأخرى شوكتها لتضُمّ يد "رائد"، متشبثة بها، فانحرفت نظراتهِ نحوها و قد ازدادت تقطيبة جبينه، انحبست أنفاسها في صدرها حين اخترق عبقهِ أنفها، فقبضت جفونها و هي تطبق بأناملها أكثر على كفهِ، فسألها "رائد" متشككًا على الرغم من تصلب لهجتهِ:
- انتي.. كويسة يا ماما؟
هزّت "يارا" رأسها نفيًا بحركة خفيفة، و هي تغمض عيونها أكثر حين استشعرتهُ يمر من جوارها و قد اخترق عبقهِ بعنفوان حواسّها أجمع، فتنبأت أنه قريب للغاية، حتى اعتلى "يامن" المقعد مترأسًا الطاولة.
 دقيقة واحدة.. كان الجميع و كأن على رؤوسهم الطير، عدا "فارس" الذي تابع تناولهِ للطعام بشهيّة مفتوحة و كأن شيئًا لم يكن، و حين أدرك الجميع ما يرون، شحبت وجوههم جميعًا، انفلتت الشهقات المرتعدة، و من بعضهم الصرخات الهلعة، إلا من "رائد" الذي حملق بوجههِ، لم يرتكز "يامن" ببصرهِ على أيّهم، انزوت شفتيه بابتسامة ساخرة، و هو يردد هازئًا:
- خير؟.. شكلي يخوف للدرجة دي!
  انحرفت عيناه نحو زوجتهِ التي استندت بمرفقها للطاولة، متشبثة أكثر بكف ابنها، و هي تهزّ ساقها بانفعالٍ متوتّر، حينما شهقت "سهير" غير مصدقة، و قالت بتهدج:
- يـ..يامن!
كانت أول من يرنو "يامن" إليها بنظرهِ، حيث كانت تجلس على يسارهِ، و زوجتهِ على يمنيه، امتدت أنامل "سهير" عفويًا لتتلمس صدغه، محاولة التيقّن من وجودهِ، ثم هزت رأسها بالسلب و هي تسحب أناملها موجهة حديثها لـ "يارا":
- انتي.. انتي جننتيني معاكي! أنا شايفاه قدامي
حينها ترك "فارس" شوكتهِ، سحب منديلًا ورقيًا من العلبة القريبة منه ليمسح شفتيه ببرود، ثم قال بجديّة تامة:
- محدش يخاف أو يتفاجئ.. يامن مماتش، يامن عايش!
شهقاتٍ مصدومة متتالية خرجت عن أفواه النساء، حينما كان "عمر" يردد و هو يقطب جبينه:
- عـ..عايش؟
و قبل أن تسحب "سهير" أناملها، كان "يامن" يتشبث بكفها محتويًا لهُ في قبضتهِ، لم تحد عنه عيناهُ البرّاقتين في وميضٍ ممتن، و بحركة خاطفة قرّب كفها من فاههِ ليلثُم بشفتيه ظاهره، في حين كانت هي تحملق في وجههِ بصدمة لم تتمكن من استيعابها، حالما شعرت يلمس أناملهِ الخشنة، و ملمس شِفاهه الغليظة على بشرتها أحسّت بنبضاتها تتلاحق، و وتيرة أنفاسها تتزايد، ارتسمت الصدمة بخطوطها العريضة على وجهها، بينما احتفظ "يامن" بكفها في راحتهِ أعلى الطاولة، و قد احتدت نظراته و تجلت الصلابة على وجههِ و هو ينظر لزوجتهِ التي غمغمت باستهجانٍ ساخر لـ"عمر" و هي ترمقه بشئ من الازدراء:
- عايش و سايبنا إحنا نموت!
التقطت عيناهُ شخصًا جعل ملامحه تحتد أكثر، و قد اضمحلّت المسافة بين حاجبيه تمامًا، و تجهم وجهه باكفهرارٍ مريب و هو يحدق في ذلك الوجه الذي يتأملهُ بأعينهِ المحتدة، على يسار زوجتهِ، ضاقت عينا "يامن" و هو يرتكز ببؤبؤيهِ على ذلك الصغير، ذو التقاسيم التي بدت و كأنها نسخة منهُ، و باشتداد سأل:
- مين دا؟
- ابنك!
خرجت كلمتها بسخرية هازئة، كمنت فيها مرارة داخليّة نبعت من نظرتها المحتدة نحوه، ابتلع "يامن" ريقه و قد ارتخت ملامحه قليلًا، انحرفت نظراتهِ الحالكة نحو "فارس" الذي ردد ضاحكًا:
- إيـه!.. أنا انسان بيحب المفاجأت
تكورت أنامل "يامن" و هو يضرب بكفهِ الآخر سطح الطاولة أمامه، ناطقًا من بين أسنانهِ:
- فتقولي إن ابني مات!
 - انت بابا؟
ارتدت تلك الكلمات من فاه "إيلارا" التي تحدق فيه بصدمة، فانحرفت نظرات "يامن" لتلك الجالسة جوار "رائد"..
خفقة تليها أخرى تنبضُ في أذنيه، مستشعرًا عذوبة وقع الكلمة على أذنيه، و قد بدت كنسخة من زوجتهِ بعينيها الزرقاوين البراقتين، رنا إليها بنظرة مطولة غير مستوعبة، ثم عاد ينظر باستيضاح لوجه زوجته، التي نظرت لهُ بفتور، ثم نهضت عن جلستها دافعة المقعد للخلف، مرددة باستنكار تام و هي تقوس شفتيها احتقارًا:
- أنا شايفة إن الموقف أسخف من إني أفضل قاعدة هنا!
و انسحبت من الوسط تلاحقها نظراتهِ المغتاظة، سيجد عُسر حتمًا في محاولة إرضائها، عقب غياب لم يدُم يومًا أو يومين، انعطفت نظراته نحو ابنهِ، حينما كان "رائد" مرتكزًا بنظراته المحتدة عليه، ثم همّ بالنهوض هو الآخر و هو يقول باستنكار:
- انت أكيد مش حقيقة!
 فهللت "أيار" من بين تهدج أنفاسها و هي تثب عن جلستها لتوفض نحوه:
- بابا جـه، بابا جــه، بابـــا!
ترك "يامن" مرغمًا كف والدتهِ التي انخرطت في نوبة بكاء منتحبة نحيبًا مكتومًا على الرغم من تصلبها و كأنها لا تزال لا تستوعب، و انحنى بجذعهِ قليلًا ليتلقف ابنتهِ بين ذراعيه، فـلفّت ذراعيها حول عنقهُ و هي تدفن وجهها فيه، هادرة بـ:
- بابا.. بابا جه أخيرًا، بابا جه و مسابنيش!
انحرفت نظرات "يامن" نحو "فارس" و كأنهُ يسأله، فـ أومأ" فارس":
- إيلارا.. توأم رائد، ولادك يا يامن!
تسلل عبقها المميز و الذي لم يشتمّ مثله من قبل لأنفه فـ أنعش حاسة الشم لديه، غرس أنامله برفقٍ بين خصلاتها و هو يضُم جسدها بين ذراعيه، قابضًا جفونه بقوة محاولة مواراة تلك المشاعر التي اختلجت في عينيهِ، و لاحتا فيهما، في حين ابتعدت "إيلارا" قليلًا و هي تلتفت نحو "رائد" لتردد بابتهاج:
- شوفت يا رائد! قولتلك بابا هييجي، قبولتلك إنه هييجي و انت مش صدقتني!
عادت "إيلارا" تنظر لوجه والدها الشبيه للغاية لملامح "رائد"، و قد بدت ملامحه أكثر وسامة عن الصور الملتقطة لهُ و التي كانت "يارا" تعمد دومًا إلى جعل صورهِ ملازمة لهما..
حينما كان يتلمس برفقٍ حذر وجنتها الناعمة، و كأنه يخشى أن يؤذيها، فقابلت "إيلارا" ذلك بابتسامة عريضة زيّنت محياها و أظهرت نواجذها الغائرة فبدت أكثر إشراقًا، و راحت تتلمس هي الأخرى ذقن والدها في استكشاف لملامحهِ عن كثب، رغمًا عن أنف "يامن".. كانت عبرة حارقة تنحدر على وجنتهِ و هو يملى عينيه بابنته، لقد كان القدر قاسيًا معه حتى الرمق الأخير، فمنعهُ فرصة التنعّم بوجوده جوار طفليه، بأن يكون أول من يحملها، و أول من يتلمّسهما، و أول من تراهُ عيناهما..
لم يقوَ "عُمر" على الصمود فنهض من فوره ليوفض نحوه، حتى بلغ مقعده، فأبعد ابنتهِ عن أحضانه رغمًا عن الأخيرة، فأخذت تتلوى في محاولة منها للتملص منه:
- حاسب يا عمر، أنا عايزة بابا، أوف
تركها "عمر" أرضًا غير عابئًا لها، فتذمرت "إيلارا" و ضربت بقدميها الأرضيّة و هي تنطق:
- أوف.. انت رخم عمو، أنا عايزة بابا!
انحنى "عُمر" عليه ليرتمي في أحضانه، مانعًا على "يامن" فرصة الاستقامة في وقفته حتى و قد باغتهُ بفعلتهِ، ربت "يامن" بقوة على ظهره الصلد، و قد شعر بما فعله كطعنة نافذة في منتصف قلبه، أطبق جفونه و هو يُشدد من ذراعيه حول جسده الضخم، فكرة أنهُ و "عمر" لا يربطهما دم الأخوة لا تزال تصيبهُ في مقتل، حينما كان "عمر" يذرف العبرات رغمًا عنه، و هو يردد بتهدج:
- يـ..يامن!
و ابتعد قليلًا عقب دقائق عدة قضاها في أحضانه، محاولًا إشباع شوقه المتعطش لوجوده في حياته، فشمل "يامن" وجههُ، ثم قال بلهجة متماسكة بشق الأنفس و هو يضرب على كتفهِ العريض:
- مسيبتش مني حاجة!
أحنى "عمر" أهدابهِ، فلمع بريق خاتم الخِطبة في عينيّ "يامن" حينما مسح "عمر" على صدغهِ محاولًا مواراة ارتباكهِ، و هو ينزح دموعه المتساقطة، في تناقض مع شخصيتهِ الحالية، فردد "يامن" متشدقًا:
- خطبت؟
أومأ "عمر" و هو يلتفت عفويّا نحو "مايا" المتجمدة و هي تحدق بأعين متوسعة عن آخرهما، دون أن تنبس ببنت شفة، ثم عاد ينظر نحوه و هو يقوس شفتيه في استهجان:
- بيقولوا!
فـ هزّ "يامن" رأسه بحركة لا تكاد تلحظ و هو يقول بسخرية:
- عظيم!
استشعر "عمر" تلك الجذبات العنيفة لبنطالهِ، و تزامن ذلك مع صوتها المستنكر:
- عُمر.. حاسب بقى، أنا عايزة بابا!
فغمغم "عمر" ساخطًا:
- بت رخمة!
تحرك قليلًا حين حاولت "أيار" زحزحتهِ، ليفسح لها المجال لتصعد على ساقيّ والدها مجددًا، و جلست بالجانب و هي تستند بوجنتها على صدره، متسللة بذراعيها الضئيلين لتتطوق جذعهِ، فعبث "يامن" بخصلاتها السوداء، و هو ينحني غير قادرًا على مقاومة ترك قبلة حانية أبويّة على جبينها اللجين، مستشعرًا فيها ملمس بشرتها المرمريّة، ارتفعت أنظارهِ لدى "رائد" المتصلّب، حين أقبل على شقيقته محاولًا اجتذابها من أحضانه:
- تعالي يا إيلارا
- تعالى انت يا وَحْش!
و اجتذبهُ من مرفقهِ ليغرس نظراته الحالكة بين عينيّ "رائد" المتحدية، ثُم قال:
- عايز إيه؟
- عايز أختي!
- دي بنتي قبل ما تكون أختك!
فقال "رائد" مستندًا للمرة الأولى بتلك الحقيقة التي تستفزّه:
- بس أنا فضلت معاها تسع شهور، و بعد ما اتولدنا كنت معاها تمن سنين، لكن انت سيبتها!
و كأنهُ رآى فيهِ انعكاسًا لنفسهِ الناقمة، رمقهُ "يامن" بنظرة مطولة، و كأنهُ لا يستوعب بعد أن ابنهُ الذي هو من صلبهِ، و الذي تتدفق دمائهِ في عروقه، يقف أمامهُ يناظره بذلك التحدي و كأنه أخطأ نحوه، لا يزال يقاوم رغبة تحثّه على اختطافه في أحضانه، فرنا إليه بنظرة مطولة و هو يتشبث بابنته بكفه الآخر مطبقًا على جسدها الضئيل، فقالت "إيلارا" في ضيق معنفة "رائد":
- رائد، مش تكلم بابا كده، عشان مش يسيبنا تاني و يمشي!
فنطق "رائد" و هو يحاول التملّص من قبضة "يامن" التي اشتدت على مرفقه:
- خليه يمشي، مين قال إني عايزه!
أطبق "يامن" على أسنانه و هو يرخى أنامله عنه رويدًا رويدًا، بينما عيناهُ تكادان تلتهمانهِ حيّا، فسحب "رائد" ذراعه و هو يحدجه بنظرة أكثر قتامة، فردد "عمر" استهجانًا:
- رائـد، انت بتكلم أبوك!
تطلع "رائد" لـ "عمر" بعينيهِ المطلقتين شواظًا مشتعلًا، ثم قال:
- أنا مش عايز أب سابنا و اتخلى عننا!.. مش عايزه
و انصرف بخطاه المتشنجة، في أعقاب والدته التي تلاشى أثرها، فتابعه "يامن" بعينين غير راضيتين، بل بعينين شبه ناقمتين على تصرفهِ، و قد شعر أنهُ نسخة ستخلد منه، نسخة ستعاني، و ستتألم، و تتعذب، و تبدي اعتراضًا و امتعاضًا، و في النهاية ستدفن في داخلها ما يجيش في صدرها، و لكنهُ غير.. لا يزال صامدًا أمام الأمواج المتلاطمة، فهل سيكون ابنه كـ هو؟.. أم أنه سيسقط مع أول حجر صلد يُعيق حركته و يعثره:
- بابا!
التفت لابنتهِ التي غمغمت بصوت حزين و قد عبس وجهها، ثم سارت بأناملها على شعيرات لحيتهِ و هي تردد في خفوتٍ:
- مش تزعل يا بابا، أنا بحبك و مش هسيبك أبدًا!
تقوست شفتيه بشبح ابتسامة و هو يقرب جبينها من شفتيه ليطبع عليه قبلة أخرى مُلصقًا شفاهه فيه، ثم ابتعد عنها قليلًا إثر صوتها الهامس:
- يـ..يامن!
انحرفت عيناه فلانتا نحو "سهير" التي تنظر لهُ بأعينها المشوشة، و كأنها تستأذنهُ إن كان بإمكانها التنعّم بدفء أحضانهِ، فرمقها "يامن" بنظرة حانية، ثم قال مشيرً بكفه لها:
- تعالي!
نهضت "سهير" من فورها و هي تنهارُ في نوبة بكاء حارقة، و قد تصاعدت شهقاتها و هي تنجني بجسدها النحيل عليه لتطوق عنقه بذراعيها و هي تترك العنان لنفسها، فتحركت "إيلارا" للأعلى قليلًا و قد حوصرت بينهما فلفّت إحدى ذراعيها حول عنق "يامن"، و الآخر حول عُنق "سهير" و هي تبتسم في ابتهاجٍ.
................................................................
مُجددًا يختضّ جسدها بأكمله و هي تنتفض من نومتها و تلهثُ كما لو أنها كانت تعدوا لأشواطٍ لا مداد لها، أطبقت "يارا" جفونها و هي تدفن وجهها في كفيها، ثم التفتت لتجد نفسها محاطة بثيابهِ التي شعرت بأنها تفقد عبقهِ يومًا بعد يوم، و لكن يكفيها أنهُ كان يرتديها، و صورًا التقطتها لهُ مرارًا على حين غفلة منه، و تعمّدت إلى طباعتها لتصير أوراقًا لا تغفلُ إلا و هم جوارها..
 نزحت "يارا" حبات العرق المتفصّد جبينها بها مستعينة بمنديل ورقيّ اختطفته من العلبة على الكومود المجاور و قد شعرت برغبة عارمة في البكاء، إلا أنها تماسكت بعُسر بالغ، اعتدلت "يارا" في جلستها مخفضة ساقيها ليلامسا الأرضية، ثم استقامت في وقفتها و هي تعبثُ في خصلاتها لتزيحها عن عينيها، و راحت تخطو للخارج، عبرت الردهة المؤدية لدرجات، و شرعت تترجل عنهم و فكرة ما تلوح في ذهنها، تلك التي زارتها في ذهنها، أنى لها بأن تكون بتلك القسوة في لقاهُ عقب غيابٍ و تعطّش مرير ودت لو ترويه و لو في أحلامها.
خطت "يارا" آخر الدرجات، و همت بأن تخطو نحو الردهة المؤدية للمطبخ، و لكن تيبس جسدها في محله حين اخترق عبقهِ، و رائحة عِطره التي لم يغيّرها حاسة الشم ليها، فتسللت لمراكز الإدراك في ذهنها، التفتت كالملسوعة و هي تحثّ الخطى متتبعة الرائحة، حتى بلغت طقم الأرائك في بهو القصر، لتجدهُ مستلقيًا على أكبرهم و قد غفت تلك الطفلة _التي بيد أنها ستصير ملازمة لهُ في كل خطوة يخطوها_ في أحضانهِ، تستوطن ذراعيه، رأسها على صدره، تتنعم بدفء و أمان حُرمت "يارا" منه..
ظلت متجمدة محلها و كأنها قالب جليد، لم ترمش عيناها العالقتين على تقاسيم وجهه المتبيّنة بصعوبة في تلك الظلمة الحالكة، إذًا.. تلك المرة لم يكن حلمًا، لم يكن سرابًا نسجهُ عقلها ببراعة، كان حقيقة واقعيّة ملموسة، إنهُ هنا بالفعل..
 خطت "يارا" خطوة للخلف، و قد توسعت عيناها في كمدٍ و اشتعلت رأسها اغتياظًا، لم تتمكن من دحر تلك الفكرة عن ذهنها، لقد تخلى عنها.. زيّف موته كما فعل مع "تالين" تمامًا، و تركها تعاني ويلاتُ فراقهِ غير عابئًا بما سيؤول حالها إليه، أطبقت على أسنانها و قد شعرت بذرات الرماد المنثورة في قلبها تتجمع مجددًا، و يُنفخ فيها بأفواهٍ من النيران فتتأجج فيها الجذوات المُضطرمة من جديد، گجمرة لم تجد مياهًا باردًا تستسلم لها.
 كذبةً.. عايشتها بكل جوارحها، و كأنهُ تعمّد أن يرد لها كذبتها التي دامت بضع أيام من قبل، بحرمانها منهُ ثماني سنون عجاف، استدارت، و همت بالانصراف عقب أن جثُم حجر صلب على أضلعها، و لكن استوقفها صوته و جمدها مكانها:
- يارا!
بالطبع لم يتغيّر.. لا يزال يتيقّظ من أدنى حركة جواره، و كانت خطواتها من حوله تكفي لجعلهِ يستقيظ من عُمق نومه، نهض "يامن" متعدلًا في جلسته و قد تغضن جبينه حين شعر بملمس رقيق بين ذراعيه، انخفضت نظراته ليجد تلك النسخة المصغرة عن والدتها تحظى بسبات عميق في أحضانه، فتقوست شفتيه بشبح ابتسامة تلقائيًا و هو يمرر إبهامهِ على بشرتها الناعمة، ارتفعت نظراته نحو زوجتهِ التي رددت و هي تلتفت برأسها نصف التفاتة:
- خير؟.. في حاجة!
زفر أنفاسهِ الملتهبة و هو يُركن رأس ابنتهِ للوسادة من أسفلها، ثم اعتدل في جلستهِ مخفضًا ساقيه، تأوه بصوت خفيض حين داهمهُ صداع يكاد يفتك بخلايا رأسهِ على حين غرّة، و لكنه تحكم في ثبات تقاسيمهِ و هو ينتصب في وقفته، ثم قال بجمود:
- لازم نتكلم
فـ أجابتهُ "يارا" بمنتهى الجفاف:
- عايزة أنام، مش قادرة
فنطق من بين أسنانه المُطبقة في اغتياظٍ لتعنّدها:
- يــارا!
التفتت على حين غرّة لتلقى نظرة لابنتها، ثم رمقته باستشاط و هي تردد محذرة:
- وطي صوتك، البنت نايمة
التفت "يامن" عفويّا ليلقي نظرة على ابنتهِ، ثم خطى نحوها ليجتذبها من مرفقها مجبرًا لها على السير برفقته، فشعرت "يارا" بجذوات الغضب تشتعل في صدرها، رمقته بنظرة جانبية و لكنه لم يحاول حتى أن يمنحها نظرة واحدة و هو يسحبها ماضيّا للأمام عنوة:
- تعالي معايا!
احتجّت و هي تردد من بين أسنانها المطبقة بصوت خفيض مراعية ابنتها:
- سيب إيدي يا يامن.. انت واخدني على فين؟
و أخذت تحاول التملّص منه و هي لا تكفّ على الاعتراض:
- بقولك سيب إيدي!.. لسه همجي زي ما انت!
اصطحبها "يامن" للخارج، ثم توقف في منتصف الحديقة، أسفل صفحة السماء ذات اللون البنفسجيّ بغيومها التي غطّت على النجوم البرّاقة في وميضٍ لامع، وسط الأشجار المتشابكة الأغصان، متعددة الأوراق، ممتدة الفروع، و شجيراتٍ صغيرة تنبعُ منها رائحة الفُل و الريحان و الياسمين و غيرها من الورود، أوقفها أمامه مباشرة، و ما إن أفلتها حتى سحبت مرفقها و هي تدلّكه بحركة عنيفة مغمغمة باستهجان و هي تهمّ بالحراك:
- حاسب عديني، مش عايزة أسمع حاجة
فردد بلهجة صارمة:
- يــارا!
توقف "يارا" محلها على مقربة منهُ غارسة عينيها الزرقاوين اللمعتين تحت ضوء القمر الباهت المعانق رُكام السحب، و قد صارتا أشبه بلهبٍ أزرق اللون، و هي تنفجر في وجههِ فجأة:
- إيـــــه!
و هزت رأسها في حركة متشنجة متفسرة و هي تتابع:
- عايز إيه؟.. عايز إيه مني؟
أشاح بوجههِ بعيدًا عنها حينما أردفت "يارا" باتّهام و هي تضيق عينيها فصارتا أشد احتدادًا:
- عايز إيه من واحدة.. رميتها تمن سنين بحالهم، و سيبتها تعاني من فراقك و هي فاكراك ميّت، سيبتها تموت في اليوم ألف مرة من بعدك، و انت عايش حياتك و لا على بالك
بزغت عروق جانبيّ رأسها و هي تناظرهُ باضطرامٍ محتدم، و أشارت بسبابتها و هي تردد باستهجان مشددة على كلماتها:
- حتى ولادك.. ولادك مفكرتش فيهم للحظة، هم دول ولادكم اللي كنت خايف عليهم مني!
نهج صدرها علوًا و هبوطًا في انفعال، و ما أثار أعصابها كونهُ لم يقوَ على النظر داخل عينيها، فظلّ مشيحًا بوجهه و تلك العبرة الحارقة تنسدل على شطر وجههِ المتبيّن لها، فصاحت في احتجاج:
- أنا مش فاهمة إنت.. إنت إزاي عملت كده فيا ببساطة؟ بعد الحب اللي حبيتهولك، بعد العشق اللي عشقتهولك، أنا كنت مستعدة أضحي بحياتي عشانك، عشان بس انت تعيش!.. تقوم تعمل فيا كده
أحنى "يامن" رأسهُ و هو ينزح بظهر إبهامهِ تلك العبرة التي فرّت من عينه، ثم عاد ينظر نحوها بجمودٍ متماسك مُكمنًا مشاعره الملتهبة خلف ذلك القناع، فنقلت نظراتها بين عينيه، و هي ترمش مرة واحدة، ثم تابعت باستهجان:
- ليـه؟.. ها؟ ليــه؟
فردد بمنتهى الجفاء:
- لأني ببساطة إنسان أناني، مبفكرش غير في نفسي وبس، كنت عايز أخلص من العلاقة اللي ربطتني بيكي، مكنتش طايق أشوف ولادي اللي خلفتهم منك!
كخناجرٌ تلمة تطعن في قلبها واحدًا تلو الآخر، حملقت فيه بعدم استيعاب، تجمعت العبرات الملتاعة و قد شعرت و كأنهُ دعسها ببرودٍ و مضى، و لم تشعر بنفسها سوى و هي تهمّ بالاستدارة فرارًا من محيطهِ قبل أن تنحصر في نوبة من البكاء فتبدو أكثر هشاشة أمامه، لولا أنهُ استدرك ذلك و هو يغرس أناملهُ في ذقنها، و قد تبيّنت لها تلك الشعيرات الدموية المندلعة كحريقٍ هائل في مقلتيه الخضراوين، مستنكرًا تصديقها للترّهات التي تفوّه بها:
- تمن سنين و لسه غبيّة زي ما انتي، تمن سنين منجحوش يعقلوكي!
و أشار بسبابتهِ جواره لينطق من بين أسنانهِ المطبقة:
- انتي عارفة يعني إيه أشوف ولادي للمرة الأولى بعد تمن سنين! عارفة يعني إيه يتولدوا و هما بعيد عني، عارفة يعني إيه مكنتش أعرف حتى إن ولاد عايشين، عارفة يعني إيه ابني ينكر وجودي!
دفعت "يارا" بـ عنفٍ كفهُ عن فكها و هي تزأر بصوتٍ محايد:
- و ده ذنبي و لا ذنبك!.. غلطي و لا غلطك، أنا اللي قولتلك تزيف موتك عشان مصلحتك!
فجأر باحتدام و قد تشنجت عضلات عنقهِ:
- مصلحتي إني أعيش بعيد عن ولادي تمن سنين، مصلحتي إن ابني مش طايق حتى يبص في وشي!
فهدرت في المقابل و هي تنفي ذلك الاتهام عنها:
- مش ذنبي، مش ذنبي إنك سيبتنا، مش ذنبي إنك عيشتني زي المجنونة بتخيلك في كل مكان حواليا، مش ذنبي إنك سيبتني لوحدي أشيل مسؤولية اتنين، مش ذنبي انك اتخليت عني في أكتر وقت احتاجتك فيه! انت كمان بتعتب عليا!
فحاد بناظريه عنها و هو يردد بسخط كمن ينفّث دخانًا من صدره:
- مش هتفهمي حاجة! مهما قولت مش هتفهمي
- أفهــم إيه! انك سيبتني لوحدي، إنك بيعتني بسهولة، إنك اتخليت عني!
فعاد يُطبق بأناملهِ على فكها و بكفهِ الآخر كان يُثبت مؤخرة رأسها و هو يقول غارسًا نظراته في زرقاويها:
- أنا مسبتكيش.. مسبتكيش بإرادتي! افهمي!
ارتبكت لدى قربهِ و أنفاسه المهتاجة كنفحاتٍ من الحميم تلفحُ صفحات وجهها، نحّت "يارا" نظراتها التي شابها التوتر من عينيه القريبتين لتلك الدرجة منها، أحنت أهدابها و هي تهمس محاولة التغلّب على اختناق نبرتها:
- عمري ما اتوقعت إنك تجرحني الجرح ده، عمري ما اتوقعت إني أعيش العذاب ده بسببك!
تسلّطت عيناهُ على شفتيها المرتعشتين في تأثرٍ لدى اختناق نبرتها، فشعر بنيران رغباتهِ المحمومة تستعرّ في شوق متلهف و روحه تهفو إليها، ابتلع ريقهُ في محاولة منه لصرف تلك الفكرة التي حثّته على احتواء إرتعاشة شفتيها عن ذهنه، حتى رفعت عينيها لعينيهِ مباشرة و هي تتابع بنبرة متألمة:
- كنت غلطانة يا يامن، كنت غلطانة لما حبيتك!
أحنى رأسهُ عليها ليختطف شِفاها في قبلة محمومة بثّتها لهيب الشوق، و سلبتها كامل احتجاجاتها، تخاذلت أمام اشتياقها اللامحدود إليه، و استسلمت لذلك التيار الجارف من المشاعر التي افتقدتها مُطولًا، للحظة تناست السنون المجحفة، تناست الدقائق التي مرّت عليها سنونًا أُضيفت لسنون عمرها الضائعة، التي قضتها أسيرة أحزانٍ و عذاب و شجن و التياع، و لكن لم يدُم ذلك مطولًا، حيثُ راحت الذكريات المريرة تقتحم ذهنها بضراوة، فدفعتهُ في عنفٍ عنها و هي تردد من بين أنفاسها اللهثة:
- ابعد عني!
فلم يمنحها سوى نظرة خالية من أي مشاعر و هو يمسح على شفتيهِ بظهر إبهامه، ثم ردد و هو ينغض رأسه بحركة ذات مغزى:
- مطلبتش منك تحبيني!
- بابا، ماما، انتو اعملوا إيه هنا؟
بزغ صوت "إيلارا" من خلفهما، فالتفت "يامن" أولًا لابنتهِ التي فركت جفونها المثقلة، بحركة رقيقة اختطفت قلبهُ، ثم خطت نحوه دونًا عن والدتها، و ضمّت ساقيهِ متشبثة ببنطالهِ و هي تقول:
- صحيت و مش لاقيتك جمبي، فكرتك سيبتني تاني يا بابا!
انحرفت نظرات "يامن" نحوها، متطلعًا إليها باحتدام، ثم انحنى ليحمل الطفلة بين ذراعيه فارتكنت تلقائيّا لصدره مطوقة عنقهِ بكفيها، فردد حينها:
- مش هسيبك.. متخافيش!
و انخفضت نظراته نحوها حين شعر بارتجاف جسدها بين ذراعيه، ثم قال عقب أن طبع قبلة مطولة على وجنتها:
- أنا هنا!
تكاد تنخرط في نوبة بكاء و قد ضربت الذكريات رأسها بضراوة، و لكنها تماسكت بشقّ الأنفس و هي تناظره باحتداد، حتى غمغمت" أيار" متسائلة بعدم ثبات نظرًا للعناس الذي يكاد يُغشّيها:
- أنا بحبك أوي يا بابا
فسمح "يامن" برفقٍ يناقض نظراته التي تترمى الشرر منها على خصلاتها، ثم سأل:
- بردانة؟
للغايـة.. بل و كأن الصقيع يحطّ على جسدها، و كأن النسيم من حولها ما هو إلا ثلوجٍ تتساقط على رزحها، في تناقضٍ مع تلك النيران التي تلتهم صفحة قلبها في نهم، حملقت فيه و قد اختلط الأمر عليها، لُجم لسانها حين أدركت أنها يحادث ابنته لا هي، حين أجابتهُ بخفوتٍ:
- أيوة يا بابا، خلينا ندخل
استجاب راضخًا لرغبتها، و هو يستدير موليّا لها ظهرهُ غير عابئًا بها، و راح يخطو للداخل، منصرفًا.. راحلًا.. من جديد، و كأنه ما عاد قطّ.
...............................................................
تركت "ولاء" معطفها جانبًا، ثم قالت معربة عن اغتياظها التام:
- يعني انت اللي كنت عامل التمثيليّة دي كلها! انت كنت عارف إنه عايش يا فارس
زفر "فارس" حنقًا ثم أجاب بامتعاض:
- ولاء.. دي المرة الـ101 اللي تسأليني فيها السؤال ده!
تخصّرت "ولاء" و هي تغرس عيونها في عينيهِ عبر انعكاس المرآة حيث كان يحل أزرار قميصه، ثم رددت استنكارًا:
- انت كمان مستغرب! أنا مش عارفة إزاي واخد الموضوع ببساطة كده، انت مش عارف يارا كان بيحصل لها إيه من بعده، و يطلع في الآخر عايش
فردد "فارس" باستهجان و هو يخلع القميص ليظلّ عاري الصدر و ألقاهُ أرضًا عقب أن استدار:
- مش قولتلك على الموضوع كله يا ولاء، كنتي عايزاني أسيبه يموت فعلًا يعني!
فشرعت "ولاء" تحلّ سحاب ثوبها النبيذيّ الذي لاق ببشرتها بحركة متشنجة و هي تردد شاجبة:
- بردو.. على الأقل كنت تعرفها إنه عايش
فقال "فارس" بسئم عقب أن زفر بحرارة:
- مكنش ينفع حد يعرف غيري، لأن الموضوع كان هيتكشف
و نفخ مجددًا بانزعاج شديد، ثم قال بنفاذ صبر:
- و مكنتش عارف إيه اللي هيحصل، كان ممكن تكون دي النهاية فعلًا، و كان لازم هتعيشها!
- انت إحساس معدوم الإنسان و الضمير و ..أوف، ما تتفتحي بقى!
انفرجت شفتاهُ في ابتسامة خبيثة عقب أن لاحظ اختلاط كلماتها، كما يحدث دومًا معها، ثم خطى نحوها حتى توقف خلفها مباشرة، بسط "فارس" أناملهُ ليمسك السحاب و هو يعرض عليها بنيّة ليست بالبريئة:
- عنك يا حبيبتي، هساعدك
عقدت "ولاء" ساعديها أمام صدرها و هي تزفر في ضيق، ثم قالت غير مدركة ما يعنيه:
- طيب
و حالما شعرت بأناملهِ التي تتلمس بشرتها بتعمّد مثير، سرت رجفة في جسدها، فانتفض و هي تلتفت مرددة بانزعاج:
- الله!.. إحنا متفقناش على كده، اقفتح السوستة و بس!
فنفخ "فارس" متأففًا و قد امتعض وجهه، فثبتها أمامه و هو يقول باحتداد:
- طب اثبتي
أنهى "فارس" فتح السحاب فبيّنت بشرتها المرمرية من خلفه، فلم يقوَ عل مقاومة اشتياقهِ لوصالها عقب أن تغرّب عنها مدة تزيد عن الأسبوعين، فراح يتلمس ظهرها بلمساتٍ خبيرة جعلتها تستجيب لهُ رغمًا عنها، و لكنها همست في احتاج:
- حاسب يا فارس، أنا مش..
- شـشـش
و أحنى رأسهُ ليطبع قبلة رقيقة على جانب عنقها تلمس فيها بشرتها الناعمة، لفّ ذراعهِ حول ظهرها ليُلصق ظهرها بصدره، فأطبقت "ولاء" جفونها، مستشعرة لمساته المذيبة لها، و لكنهُ توقف فجأة عما يفعل، ابتعد "فرس" قليلًا و هو يردد بصوتٍ خفيض:
- الواد "أصيل" فيـن؟
حمحمت "ولاء"، ثم قالت من بين تهدج أنفاسها:
- نام من زمان
فتحمّس أكثر لقضاء الوقت برفقتها، و اقتادها نحو الفراش و هو يردد بابتسامة عابثة:
- طب بقولك إيه!.. مش عايزة تجيبي له أخ بقى!
ضحكت "ولاء" ضحكة رقيعة، أججت مشاعره أكثر، و جعلت آخر ذرات صبرهِ تُستنفذ، فاعتلاها و هو يقول بلؤمٍ التمع في مقلتيه:
- هو النور ده يلزمك في حاجة؟
و قبل أن تجيبهُ.. كان "فارس" يبسط كفهِ ليغلق المصباح الكهربائيّ، فعم الظلام الحالك الغرفة.
...................................................................
- أنا لسه مش مصدقة اللي حصل يا يوسف!.. انت مستوعب إن فجأة نلاقي واحد ميت داخل علينا
فقال "يوسف" و هو يفرك ذقنه:
- كان لازم أعرف، كنت حاسس إن في حاجة فارس مخبيها طول السنين دي!
و ارتفع حاجبيه في تعجبٍ و هو يردد استنكارًا:
- لكن مكونتش أتخيل إن يامن عايش!
رصّت "رهيف" آخر الملابس التي قامت بطيّهم توًا، نظرًا لتغيب الخادمة اليوم عن العمل لظروف ابنتها الصحية المتدهورة، ثم أوصدت الخزانة و هي تخطو نحو زوجها، أثناء قولها المستهجن:
- طالما عايش كان بعيد عن يارا طول السنين دي ليه؟
فبرر "يوسف" قائلًا:
- أكيد في سبب، ممكن يكون في حد لسه وراه!
ارتفع حاجبيّ "رهيف" و هي تجلس أمامه على طرف الفراش، ثم رددت و هي تعبثُ في خصلاتها الكستنائيّة:
- ده بجد! معقولة
تأمل "يوسف" حركة أناملها التي فقدت طريقها بين خصلاتها، فنهضت "رهيف" عن جلستها لتخطو نحوه ثم توقفت أمامه مباشرة و هي تردد عاقدة حاجبيها:
- إيه اللي لابسه ده يا يوسف! انت مش بردان
 و همّت بالاستدارة مجددًا و هي تقول:
- استنى، هشوفلك هدوم تقيلة شوية
باغتها بأن اجتذب معصمها إليه فـ اختل توازنها و أسقطها عمدًا على ساقيه، و بعبثٍ ردد:
- لأ سيبك من الهدوم خالص، مش محتاجينها أصلًا
تلوت "رهيف" بين ذراعيه القويين محاولة التخلّص من إحكامهما حوله، ثم قالت و هي ترمش عدة مرات محاولة ردعه:
- و ده وقته يا يوسف!.. أنا عايزة أكلم يارا و..
فقاطعها "يوسف" و هو يشمل تقاسيم وجهها:
- ما جوزها معاها، إيه البواخة دي، ما تسيبيها في حالها!
و دنا براسهِ منها حتى لفحت أنفاسهِ الحارة وجهها فسرت قشعريرة محببة في جسدها، فهمس "يوسف" أمام شفتيها:
- و خلينا احنا كمان في حالنا
فلفظ اسمهُ بلهجة رقيقة بحرارة:
- يوسف!
أجابها "يوسف" بلهجة متيمة و عيناه تنغرسان في عينيها:
- عيون يوسف
- عايزة أقولك حاجة!
فسأل و ابتسامة طفيفة تداعب ثغرهُ بينما يعبث في خصلاتها بلطفٍ محبب لديها:
- إيه هي؟
انفرجت شفتيها بابتسامة واسعة و هي تلفّ ذراعيها حول عنقه، ثم قالت بابتهاجٍ:
- بحبـ...
و التهمت كلماتها حين استمعت لطرقات على باب الغرفة، فانسلت من أحضانه بعُسر بالغ و هي تقول و قد انعقد حاجبيها:
- دي أكيد "داليدا"!
فقال "يوسف" و قد عبس وجهه في امتعاض:
- هي مش كانت نامت بردو
- ما انت عارفها بتقلق من أي حاجة
و راحت تخطو للخارج، حينما كان "يوسف" يعتدل في جلسته متذمرًا بعبوس:
- أوف.. إيه الفقر ده!
و انحرفت نظراتهِ نحو الباب حين أوفضت ابنته لتركض نحوه و هي تردد في امتعاض:
- ماليش دعوة، أنا عايزة أنام مع دادي
فردد "يوسف" و هو ينحني ليحمل جسدها بين ذراعيه مقوسًا شفتيه في استهجان:
- تعالي يا هادمة اللذات، تعالي!
.....................................................................
- حلي عن نافوخي يا مايا الله يخليكي، أنا مش ناقص!
غمغم "عمر" بتلك الكلمات المستنكرة فور أن صفّ السيارة على جانب الطريق أسفل منزلها، فرددت "مايا" احتجاجًا و هي تقوس شفتيها في فتور:
- يعني انت شايف الموضوع عادي! أطلع أقول إيه لأهلي، الميت رجع!
زفر "عمر" بنفاذ صبر، ثم التفت نحوها ليمنحها نظرة محذرة، فقالت "مايا" عقب أن تنهدت بضيق:
- خلاص يا عمر، هحط جزمة في بؤي و أسكت
و همت بالترجل عن السيارة، إلا أنهُ اختطف كفها محتويًا له في كفه، و أطبق عليه بأنامله، فالتفتت على حين غرة و هي تنظر نحوهُ بتعجبٍ لفعلتهِ، و تفاقم شدوهها حين قال "عمر" عقب أن حرر زفيرًا ملتهبًا عن صدره:
- مايا.. أنا عارف إني ساعات ببقى عصبي زيادة، أنا مش عايز غير تفهميني
اعتدلت "مايا" في جلستها و هي تقول باحتجاج:
- حاولت يا عمر.. حاولت، لكن كل ما أحاول انت بتمنعني
فامتدت أناملهُ ليعيد تلك الخصلة الساقطة على شطر وجهها، و التي ورات عينيها عنه، و تصنّع الابتسام بابتسامة لم تصل لعينيهن و هو يردد مجبرًا:
- حاولي تاني.. و لا أنا مستحقش المحاولة دي؟
فأجفل جسد "مايا"، ابتعدت متراجعة للخلف و هي تنزح كفه عنها محذرة إياه بسبابتها:
- عمر
زفر "عمر" و قد تلاشت بسمته، و احتدت ملامحه و هو يأمرها بضجر:
- انزلي يا مايا، انزلي
بزغ صوت "مايا" المستنكر و هي تضيق عينيها في تمقّط:
- انت بتطردني؟
فجأر على حين غِرة:
- قولت انــزلي!
أجفل جسدها لثوانٍ من انفعاله المفاجئ دون أي سابق إنذار، ثُم اجتزّت أسنانها في حنق و هي تمنحه نظرة معاتبة، و أدارت المقبض و هي تردد في سخط:
- ماشي يا عُمر.. ماشي
و فور أن ترجلت صافعة الباب في وجهه، انطلق "عمر" دون أن يمنحها نظرة واحدة، غير عابئًا بها..
 أناملهِ الغليظة قد تقلّصت على المقبض حين حانت منهُ نظرة نحوهم ليجد خاتم الخِطبة يلتمع أمام عينيه، كقيد لروحهِ المتحررة، و تساءل في نفسه، أنى لتلك القِطعة التي تحيط إصبعهِ بأن تخنقهُ كمان لو كانت أغلالًا من حميم التفّت بعبثٍ حول عنقه، لم يزل التجهم عن وجهه و قد اضطر أن يوقف السيارة لدى إشارة مروريّة حمراء، فعاد برأسه للخلف و هو يفكر في حل، أنى لهُ بالتحرر منها، و قد انساب حبها في أوردتهِ فلم يعد حتى قادرًا على انتشال نفسهِ التي سفحتها بعشقها، و ألهبتها الأشواق، و باتت كشبحٍ يلاحقه أينما يذهب، و تقف كسدٍ منيع لتعوق مضيه في حياته عابرًا من دونها، أطبق على أسنانها و هو يعيد النظر لخاتم الخطبة الذي يحتل إصبعه في كبرياء، ثم زفر أنفاسه المحتدة و هو ينطلق بالسيارة من جديد، مغمغمًا من بين أسنانهِ المطبقة:
- اطلعي بقى من جوايا، سيبني بقى، كفايـة!
........................................................
كلاهُما غائبًا عن الإفطار، و هي تجلس فقط مع ابنتها التي شرعت تتناول طعامها بنهم، و ترتشف من كوب الشاي، و "سهير" أيضًا، فالتفتت "يارا" لتسأل في انزعاج:
- رائد فين يا ماما؟
- في أوضته، مش راضي ينزل ياكل
نفخت "يارا" بتذمر و هي تهم بالنهوض عن مقعدها، فاستوقفتها "سهير":
- سيبيه يا يارا، سيبيه لوحده شوية، أنا طلعتله الفطار لحد عنده، متشغليش بالك
فعاودت "يارا" الجلوس و هي تتنهد في حرارة، أحنت أهدابها و هي تلتقط شطيرتها المعدة من أجلها، ثم رددت و كأنها لا تكترث:
- و البيه فين؟.. مش هيفطر؟
التمعت عينا "سهير" و قد شعرت أن عينيها سيوشكان على ذرف الدموع، ثم قالت في ابتهاجٍ متهدج:
- يامن!.. خرج من بدري
ارتعشت شِفاها في خوفٍ، ثم سألت و هي تطلع إليها في ارتياب:
- خرج!.. راح فين؟
ارتفع كتفيّ "سهير" لتعلن عن عدم معرفتها، ثم قالت:
- مش عارفة يا بنتي و الله
كم شعرت برغبة عارمة في النهوض لتبحث عنه، و لكنها قاومتها بعُسر بالغ، و لم تتمكن من منع نفسها من سؤال ابنتها المشغولة في طعامها:
- إيلارا.. بابا راح فين؟
فرفعت كتفيها في براءة و هي تقول:
- مش عارفة!
تكوّرت أنامل "يارا" و هي تحنى أهدابها، و هي تحاول دحر ذلك الشعور عنها.
.......................................................................
اعتلى فرسهِ بحركة رياضيّة محترفة، ثم مسح برفقٍ على بشرة عنقه، و دفعهُ للحراك بساقيه، ليخرج عن محيط الاسطبل، و همّ بالخروج عن محيط القصر بأكملهِ، لولا ذلك الصغير الذي توقف أمامه، اجتذب "يامن" اللجام ليوقف حركة الجواد، ثم سأل بأعين ضائقة:
- بتعمل إيه هنا يا وَحش؟
فقال "رائد" بامتعاضٍ و هو يمرر أناملهِ على غرة "أشهب":
- أنا عايز حصاني
انعقد حاجبيهِ و قد ازداد نظراتهِ احتدادًا نحوه، ثم قال باستهجان:
- ليـه؟.. أمك مقالتلكش إنه بتاعي!
هزّ "رائد" رأسه بالسلب و هو يناظره بتحد، ثم قال:
- لأ.. قالتلي بتاع بابا، و بابا مات!
- اسمع يالا!
احتلّت الشراسة معالم وجه "يامن" و قد اندلعت النيران في مقلتيهِ، و هو يترجل عن جواده حتى وقف أمام نسختهِ المصغّرة، فتبيّنت ضخامتهِ بجوار ابنه بوضوحٍ جلي، و ذلك الفارق الجسمانيّ الذي لا يقارن، انحنى "يامن" قليلًا بجذعه عليه و هو يغرس نظراته الناريّة في عينيّ الأخير الذي بدأ يرتبك قليلًا، همّ "رائد" بالعودة للخلف حين رآى كفّ "يامن" يمتد نحوه، و لكنهُ تسمّر حين ضغط "يامن" بكفه على كتفهِ بقوة و هو يردد مشيرًا بعينيه:
- لأ متخافش.. مش أسلوبي الضرب، و لو.. ابن يامن الصياد الخوف بالنسبة له جريمة
و ضغط بقوة أكبر على كتف الصغير الذي حاول على الرغم من اهتزاز ثباتهِ التظاهر بالتماسك أمام تجبّر "يامن" الطاغي الذي يفرضه وجوده فقط، فقال:
- أنا مش غبي زي إيلارا عشان أسامحك، انت سيبتنا كلنا!
و حاول أن يزيح ثقل كفّ "يامن" عن كتفه، و هو يغمغم في استنكار:
- و أنا مبخافش
و ضرب بكفهِ على عنق الجواد بشئ من العنف عقب أن فشل في إزاحة كف "يامن:
- و الحصان ده بتاعي و انت مش...
انحنى "يامن" ليجثو على إحدى ركبتيهِ أمامه، فبدت عينيهِ أقرب إلى مستوى نظر "رائد"، تبيّنت تلك النظرة الحالكة التي انبثقت من عينيّ "يامن" لـ "رائد" الذي همّ يتراجع مجددًا إثر المفاجأة لدى حركة "يامن" المباغتة، في حين كان "يامن" يحكّ بظهر إبهامهِ ذقنه، قائلًا في استفسار بارد:
- مش إيه؟
ازدرد "رائد" ريقه و هو ينظر نحوهُ بانزعاج، ثم قال في سخطٍ:
- مش هسامحك!
انحرفت نظرات "يامن" بين عينيّ "رائد"، فتابع الأخير قائلًا:
- كفاية إن ماما كانت بتتعذب بسببك!
رنا "يامن" بنظرة مطولة له، ثم قال مباغتًا و هو ينهض عن الأرضيّة متهرّبًا من ذلك الحديث:
- بتعرف تركب؟
بدت الغطرسة في نبرته و هو يقول:
- طبعًا!.. ده حصاني
- هعديها المرة دي
و تراجع خطوة للخلف و هو ينادي على عامل الاسطبل الذي حضر بين يديه، ثم غاب بالداخل، و عاد مرة أخرى ساحبًا الجواد الآخر، امتطى "يامن" صهوة "أشهب"، غير مباليًا باحتجاج "رائد":
- أنا عايز أشهب.. عايز حصاني
نظرة بعثها إليه كالشرر المترامي لم يقوَ "رائد" على أن ينبس ببنت شفة دبرها، ثم أشار "يامن" بعينيه للجواد الآخر و هو يأمرهُ بصوته الغليظ:
- اركـب
زفر "رائد" بخفوت و هو يخضع لأمره رغمًا عنه، راقبهُ "يامن"، و هو يمتطي جواده باحترافيّة لا تناسب سنّه، فـ وكأنهُ يرى انعكاسًا لنفسه في ذكرى ماضية، حين كان والدهُ مسؤولًا عن تدريبه على ركوب الخيل، سنون مضت، و ها هو يرى مشهدًا مماثلًا حيّا أمام عينيه، حتى تشبث "رائد" باللجام، و قد استقام ظهره عقب أن انتصب بكتفيه، و ارتفع ذقنه في كبرياء لاق به، رمقهُ "يامن" بنظرة راضية، ثم شرع يقتاد جواده و أعينه مسلطة على ابنهِ، حتى خرجا من باب القصر، فقال "يامن" بتصلّب:
- مين اللي دربك؟
أجاب "رائد" بإيجازٍ مقتضب:
- ماما!
فتمتم "يمن" عفويّا، بنبرة لا تخلو من السخرية:
- عظيم
رنا "رائد" بنظرة مطوّلة نحوه، و لم يمنع نفسه من التعليق الساخر:
- أنا عرفت ماما جابت عظيم دي منين!
لم يكن يُنكر أنهُ ودّ لو يدربه بنفسه، و يشرف على تعليمه خطوة بخطوة، و لكنهُ حرم من ذلك الحق أيضًا، زفر "يامن" أنفاسه مستثقلًا ما يجيش بصدره، و هو يختلس نظرة نحو "رائد"، ثم ردد بتحدٍ و هو يُنبهه للاستعداد عقب أن لوى عنقه للجانبين فصدر عن فقراتهِ طقطقات عظامه:
- خلينا نشوف أمك عرفت تعلمك و لا لأ!
اتخذ "رائد" وضع الاستعداد، و هو يردد من بين أسنانه و قد تحفّزت خلاياه:
- هتشوف بنفسك!
 تبادلا النظرات التي شابها مشاعرٌ عِدة، و ما هي إلا دقيقة، و كان كلا الجوادين يلتهمان الأرضيّة من أسفلهما، في ما يشبه سباق غير متوازن، كان لـ "يامن" الأحقيّة في الظفر به، و لكنهُ عمد إلى ترك ابنه يتجاوزهُ ليحظى بذلك الانتصار، قبل أن يريه "يامن" أنهُ مهما تقمّص من شخصيته، فلن يتمكن من الربح.
..............................................................
"يامن".. ليس كغيرهِ من الرجال، "يامن" ذو شخصيّة متناقضة و نادرة، يُواري ما يُضنيه خلف قناع القسوة و الجمود، حتى و هو يلعب دورهِ گأب، ليس كغيرهِ من الآباء، لا يُدلل ابنته، و لكنه في ذات الآن يُغشّيها بحنانه الكامن خلف جفائه، يجاهد ليتعرّف عليها، ما تحب، و ما تكره، ما يُسعدها، و ما يحزنها، ما يقلقها، و ما يبهجها، فكان أمرها يسيرًا للغاية بالنسبة إليه، و لم يكن يدري صِدقًا أنه قد يتعلق بتلك الفتاة لتلك الدرجة، رغم أنهُ كان يخشى أن ينفلت زمامهِ أمامها فترى وجهًا آخر له لا يحبذ لها رؤيته، و إن كان يعلم أنهُ لن يتمكن من أن يروّض الوحش الكامن بداخله أبد الدهر.
أما "رائـد".. فأمره كان أشدّ عُسرًا، و لكن ليس من العسير عليه أن يتعامل معه، و أنى لهُ بغير ذلك و هو يتعامل مع نفسهِ؟.. مع صورة متجسدة له؟ يدرك بواطنها و دواخلها، بل أنهُ حتى كان أيسر أن يتفهّمه جيدًا عن أختهِ، إذ أنه يجدها فجأة تبكي دون أي سبب، و إن حاول بعد شقاء يجدها تبكي لأنها أفسدت لعبة من ألعابها، أو لأنها لا تجد هاتفها و تخشى ضياعهِ، إنها تافهة للغاية بالفعل.. أو ليكون أكثر دِقّة رقيقة للغاية، و كان ذلك ما يثير الزوابع في نفسه، يومًا بعد يوم، ستكبر "إيلارا"، فتدرك أنه ليس الأب الذي تمنّته و انتظرت مجيئهِ، و لكنه يحاول فقط أن يكون الأب الذي تحتاج، و إن كان ذلك يناقضُ شخصيته المتصلّبة، و عن "رائد".. فهو يحمل هموم الدنيا على عاتقيه كما لو أنهُ أعتى الرجال، و كان ذلك صِدقًا ما جعل "يامن" فخورًا به، إذ كان يخشى أن يجد ولدهُ ضعيفًا تافهًا، و سمة الضعف هو لها كاره، و لكنه وجد ما لم يتوقعه، فقد تورّثت صِفاته بلا استثناء لابنهِ الذي رأى فيه تخليدًا لشخصيّته، فتُورّث صِفاته جيلًا بعد جيل.
أسلوبهِ غير، على الرغم من كونهُ جامدًا صلدًا، إلا أن "رائد" بدأ يميل إليه، و يمتثل في خنوعٍ لأوامره بشكلٍ جعل الجميع يتعجّب له، ، كوْن "رائد" ذو الرأس العنيد المتصلّب و لكن بيد أن "يامن" قد روّض ليثهِ ببراعة، فكان يكفي أن يُطلعه على سبب غيابه عنهم، حتى يلين "رائد" لهُ، بل و يشعر بالندم كونهُ اتهمهُ بهجره لهم، و تهرّبه منهم.
وكان "يامن" يجعلهُ يشعر بأنه رجلًا يعتمد عليه دومًا، حينًا ما يترك لهُ الخيار في أمورًا تخصّه، و حينًا يستشيرهُ في بعض الأمور،  لم يكن يمارس تعنّته عليه، و إن كان ذلك يحدث أحيانًا، و لكن على الأقل ليس دومًا، و لم يكن يفرض سيطرته فيما يخصّ "رائد" إلا لو لزم الأمر لذلك، و شعر بضرورة تدخله ليُحكم الزمام.
و "إيلارا" بسجيتها تتعلق به يومًا بعد يوم، مدلّلة، عنيدة أحيانًا، و لكنها هشّة للغاية، و يرتاب "يامن" من هشاشتها تلك، خاصة حين يُرغم على جفائه نحوها إن أخطأت، متعمدًا أن يقسو، و لكنها تواجه أي موقف بالبكاء و الانتحاب، فيلين لها من فورهِ.
كلاهما لا يُعتبران مشكلة، فمشكلتهِ الأكبر بتلك العنيدة البائسة، لا يعلم كم مرّ و هي لا تزال على موقفها المحايد ذلك، و لكنهُ عمد إلى أن يتريّث حتى يستقر وضعه من جديد، و يحظى بوجود أبنائه، و من ثُم سيُقدم على خطوة أخرى، انتواها.. فقد عقد العزم على وضع النقاط فوق الحروف، وبلغتهِ الخاصّة.
...............................................................
كان مترأسّا المائدة، و قد تغيّبت "سهير" عن حضور الغذاء نظرًا لوعكة صحيّة أصابتها، فغفت مُطولًا عقب أن تناولت الأقراص التي كتبها الطبيب في وصفته الطبيّة..
 اختلس "يامن" النظرات نحوها من حينٍ لآخر، و هي ترتشف من كوب العصير الطازج الخاص بها، حتى تجرّعته بالكامل، و نهضت عن جلستها دون أن تمنحه نظرة واحدة، حينما كان "رائد" مستغرقًا في محاولة يائسة منه لإرغام "إيلارا" على تناول السجق الذي لا تحبّذه، لم يعبأ "يامن" بهما، بل ترك كأس العصير جانبًا عقب أن ألقى نظرة مُعبرة على كأسها الفارغ، و راح ينظر في ساعة يدهِ، و ما هي إلا دقائق و كان "رائد" يصيح في ارتياب:
- ماما!
نظر "يامن" يسارًا حيث لم تقوَ "يارا" على قطع خطوة أخرى، فنهض عن جلسته من فوره و قد بدا عليها عدم الاتزان، و حينما كان يخطو نحوها حثّ خطاه حين ترنح جسدها، و كادت الأرضية تتلقفها بصدرٍ رحب، لولا ذراعيه اللذان أحاطها، فتجمع "رائد"، و "إيلارا" من حولها، سحبت "أيار" كفها و هي تمسح برفقٍ عليه، ثم رددت بقلق:
- ماما.. انتي نايمة؟
فـ أشار "يامن" لـ "رائد" بعينيهِ الصارمتين و هو يأمرهُ بـ:
- خُد اختك و اطلعوا على أوضكم
فـ أبدى "رائد" بوادر احتاج منهُ:
- بس..
نظرة من عينيّ "يامن" جعلتهُ يبتلع اعتراضاتهِ، و من ثم أومأ في امتثال بحركة متصلبة، و سحب "أيار" ليبعدها عن الوسط، و هو يردد آمرًا إياها:
- تعالي معايا
انحنى "يامن" بجذعهِ ليمرر ذراعه خلف ركبتيها، ثم حملها بين ذراعيه، فارتكنت لا إراديّا برأسها على صدره في استكانة افتقدها للغاية، و لم يمنع نفسهُ من أن يختطف قبلة من جبينها، ثُم قال:
- انتي اللي أجبرتيني أعمل دا!
كان "يامن" يعلم حقّ العلم أنها لم تكن سترافقه إن عرض عليها كأي إنسان طبيعيّ، و حينما بدأت "يارا" تستفيق، تغضن جبينها و هي تتلفت حولها في عدم استيعاب، حتى اعتدلت في جلستها و هي ترتكز ببصرها عليه، فكان مُسلطًا لعيونه على وجهها، بينما أناملهُ تنقر على عجلة القيادة، أحنى نظرهُ لساعة يده، ثم عاد ينظر نحوها و قد أصابه شئ من الضجر:
- كُـل دا! انتي ما صدقتي
رمشت "يارا" عدة مرات لتزيح التشوش المعانق لرؤيتها، ثم سألت بتحشرج:
- انا.. فين؟
فبزغ صوتهُ البارد:
- انتي شايفة إيه؟
زفرت "يارا" في حنقٍ، ثم قالت مستعيدة شراستها:
- انت عملت فيا إيه!.. انت خدّرتني؟
تعمّد أن تكون نبرتهِ غامضة باردة و هو يردد:
- يمكن!
 زفرت "يارا" بحنقٍ، ثم قالت بانفعال و هي تعتدل في جلستها:
- رجعني البيت يا يامن، أنا حقيقي مش فايقة للمناهدة معاك
 - تؤ
- أوف
نفخت في انزعاج متفاقِم، و عادت تتطلع إليه لتجده يحدجها بنظرة غريبة، فقالت و هي تومئ برأسها في تعنّد:
- تمام يا يامن..هنزل و هرجع بمعرفتي
و للعجيب أنهُ تركها تترجل، بينما يصدر عنه حركتهِ المعتادة، حيثُ حكّ بظهر إبهامه ذقنه، لم تبالي "يارا" كثيرًا، و صفعت الباب في وجهه، و التفتت لتشمل الوسط من حولها لتشعر بجفاف حلقها، و قد نخرت المفاجأة عِظامها.
رائحة الزنبق و الريحان و الياسمين و الفل، و كافّة الزهور التي تفضّلها :يارا" قد فاحت في الأجواء فتعبّق الجو بها، انغمست قدميها بين الحشائش، بينما تستشعر تلك الظلال التي ألقتها الأشجار المزدانة على جانبيّ الممر الذي صفّ "يامن" السيارة به، إثر تشابك أغصان الأشجار الضخمة على الجانبين معًا عن ارتفاعٍ شاهق، و قد كانت الأشجار كمظلّة تقيها حرارة الشمس التي ارتفعت اليوم على غير المعتاد في أيام الشتاء، و قد تبين لون السماء الصافي من بعض ثغور الأغصان، و تركت الأوراق الخضراء على سطح السيارة اللامع انعكاسًا محببًا للأعين، لم يكن ذلك ما جعلها تتصنّم، بل ما تراءى أمامها، من قصرٍ ضخم و كأنه من العصور الوسطى، صُمم بطرازٍ عتيق تحبّذهُ دومًا، و قد بزغت من أمامهِ نافورة دائريّة، ذات حوافّ جرانيتيّة، عبارة عن تماثيل لأطفال يحملون أواني على أكتافهم، بشكلٍ مائل تنساب المياه منها و كأنه يتسرب بسبب الوضع المائل لهم، واجهة القصر وحدها لم تتمكن من أن تلتقطها بالكامل بعينيها، و قد شمل مسافة شاسعة، و انعكس ضوء الشمس البرّاق على واجهتهِ، فأضفى إليه مظهرًا فاقم من فخامتهِ.
كمن حلّت عليه صاعقة توًا، فغرت "يارا" شفتيها، و هي تحملق في القصر بأعين مذهولة، حتى بزغ صوتهُ من خلفها و هو يسأل بإيجاز:
- عجبك؟
التفتت إليه نصف التفاتة لتردد من بين أسنانها محذرة إيّاه بغموض:
- إياك!
رمقها بنظرة جانبية و هو يعق ساعديهِ أمام صدره، ثم استند لباب مقعدها بجسده و هو يرتكز بعيونهِ على القصر:
- الرماد..مش النهاية
و التفت ليسلط عينيهِ على عينيها متابعًا بلهجة عميقة:
- مش كل حاجة بتبقى رماد بتكون راحت! الرماد.. ممكن يرجع!
حملقت عيناها و قد ارتخت تعبيراتها في استشعار لعمق كلماته الموجهة نحوها، ازدردت ريقها و تلك اللحظة تلوح أمام عينيها، حين كانا أعلى الجواد، فأقلت بتلك الكلمات في وجههِ، أبت أن تسمح لعبراتها بأن تنفر عن عينيها، و راحت تتطلع للأفق بنظرة و كأنها غير عابئة، ثم سألت في احتداد:
- كنت عايش هنا؟
- تؤ
التفتت نحوهُ، فأجاب "يامن" و هو يحكّ بطرف سبابتهِ أنفه، قائلًا دون أن ينظر نحوها:
- دي أول مرة أشوفه فيها بعد ما رجعت من سويسرا!
ضاقت عيناها في اغتياظٍ و هي تعقد ساعديها أمام صدرها، ثم أشاحت بوجهها عنه و هي تسأل في استهجان:
- انت عايز إيه؟
- سامحيني!
كلمة مباغتة.. ألقاها "يامن" على مسامعها في ظاهرة بدت مريبة، كخسوف القمر، و كسوف الشمس، ظاهرة ودّت لو سجّلتها، متيقنة أنهُ لن يكررها مجددًا ما حيي، توسعت عيناها و هي تلتفت نحوه على حين غرة، و قد بدت الصدمة على ملامحها، وجههُ المتصلب لم ينبأها أنهُ اعتذر للتو، و لو بطريقة شبه ملتوية أيضًا، و لكن لم يشفع ذلك لديها، فانعقد حاجبيها حتى صارا كمسطرة مستقيمة و هي تقول باستهجان:
- أسامحك؟.. بالسهولة دي عايزني أساحك؟
و حلّت ساعديها و هي تعتدل في وقفتها لتكون أمامهِ، ثم قالت بسخطٍ:
- أسامحك على إيه و لا إيه! عشان سيبتني؟ و لا عشان زيّفت موتك و سيبتني للعذاب؟ و لا عشان قتلتني مليون مرة و أنا عايشة من غيرك و فاكراك ميّت، و أنا بزور قبرك كل يوم و في الآخر يطلع فاضي، عشان جاي تقولي إنك كنت مسافر برا، و سايبني أنا أولع، لأني مش فارقة معاك، و مش لازماك أصلًا، مش كده؟..أسامحك على إيه يا يامن؟
أحنى "يامن" أهدابهِ، ثم قال باقتضاب:
- كنت بتعالج!
ضاقت عيناها و هي تهمس مكررة بشدوه:
- بتتعالج؟
أومأ "يامن" بحركة لا تكاد تلحظ، فقال باستنكار و هي تضرب بقبضتها التكورة على سقف السيارة:
- و مكانش ينفع تعرفني إنك عايش!.. مكنش ينفع تتعالج و أنا جمبك؟
سحب "يامن" شهيقًا زفرهُ دفعة واحدة و هو يقول مستهجنًا ما أودي بهِ لتلك الحالة، دون أن يرفع نظراتهِ إليها:
- مكنتش أعرف حاجة.. كنت في غيبوبة!
«واتتهُ الفرصة حين غلبها سلطان النوم قِسرًا بينما تجلس على المقعد المعدنيّ و قد آلمتها ساقيها من فترة وقوفها المطوّلة، و خاصةً حين انصرف الثلاثة.. "فارس"، "يوسف"، و "عمر" برفقتهما، و كأنها أتتهُ على صحنٍ من ذهب..
بالطبع لن يتعرّف عليهِ أحد بذلك اليسر، خاصة و أنه حاول إخفاء وجههُ تمامًا و نجح في ذلك، فـ إن التقطتهُ كاميرات المراقبة لن يتعرّف إليهِ أحد، لو مهما فعل.. لن يتعرف عليهِ إطـلاقًا!
و كانت مهمتهِ يسيرة.. أن يضخّ تلك المادة السّامة في المحلول الخاص بهِ، و لم يكن ذلك عسيرًا إطلاقًا، و عقب أن أنهى مهمتهِ تركه و غادر بمنتهى الهدوء كما دلف گطبيبٍ يتابع حالتهِ، و برح المشفى بأكملها، إلا أنه قبل أن يعبر البوابة توقّف أمام كاميرا المراقبة التي التقطتهُ كسابقاتها، و أشاح بكفّهِ و كأنه يودعهم بظفرٍ تام، معلنًا انتصارهِ عليهم، بينما تلك الابتسامة المتوارية خلف قناعهِ الطبي تحتلّ شدقيه، و من ثم التفت.. و انصرف بيسرٍ بالغ.
و گأن "يارا" بعالمٍ آخر،..لم تستشعر الضجّة أو الحركة المرتبكة من حولها، حينما عاد "فارس" وحدهُ و قد ترك رفيقيهِ، و أتى بغرض الاطمئنان على حالها و حال رفيقهِ الملقى على فِراش الموت، فـ حينها تلقّى تلك الصدمة، حين علم من الأطباء أن هنالك مادة سامّة زُرعت في محلوله للمرة الثانيـة، و كأنهُ حدثًا يتكرر و قد حدث ذلك سلفًا، و قد اكتشف ذلك طبيبًا مرّ مصادفة بغرض الاطمئنان على حالتهِ..
توقّف "فارس" في غرفـة عرض كاميرات المراقبة، و قد أوقف الجالس أمام الأجهزة و الشاشات المقطع لدى تلك اللقطة التي اقتنصتهُ و هو يشير بكفهِ مودعًا أو محييًّا إياهم..
كزّ بعنفٍ على أسنانهِ، و قد شاب بياض بشرتهِ تلك الحمرة التي غزت وجههِ، بزغت عروق وجههِ و عنقهِ و هو ينحني ليضرب على سطح المكتب أمامهِ ضربة عنيفة أتبعها بقولهِ المستهجن:
- يعني إيـه؟.. مين الـ***** دا!؟
فردد الطبيب و عيناهُ لا تزالان على عينيّ ذلك الرجل:
- مش قادر تتكهن أبدًا بهويتهُ يا بشمهندس؟
فـ هزّ "فارس" رأسه نفيًا، و هو يقول مستهجنًا عجزهِ:
- مش عارف، معـرفش
أنى لهُ بالعلم حقًا؟.. ما يدركه أنه بالتأكيد ليس "نائف"، لم يجدوا جثّتهِ للمرة الثانية و لكنه حتمًا ليس هُـو، عيناه مميزتان و هو ليس بذلك الغباء حتى لا يتعرّف عليهِ، من ذلك الملعـون إذًا؟
أحنى "فارس" رأسه، و قد شعر و كأنهُ يحمل فوق كتفيهِ أطنانًا من الهمّ، لم يدرِ حقًا ما يفعل، و قد شرعت الأفكار تتناطحُ في رأسهِ و قد تكالبت عليهِ أجمع، لحظاتٍ من التفكير المطوّل، و هو يحاول مقاومة تلك الفكرة التي تسلّطت على عقلهِ و رفضت إلا أن تتشبّث و تلتصق بهِ، و كأنها ملاذهِ، ازدرد "فارس" ريقه، مستجمعًا شتاتهِ و التفت نصف التفاتة نحو الطبيب، و هو يردد و قد لاح الإصرار في عينيهِ، متعهّدًا أنه سينهي تلك المهزلة، و يحفظُ حياة رفيقهِ حتى يستفيق، دون أن يتعرّض للموت من جديد في لحظة غفلة منهم:
- أنا عايز منّك خدمة يا دكتور!»
............................................................................
و كأن عقربًا لدغها توًا، عادت خطوة للخلف متراجعة عن محيطه و قد ارتخت تعبيراتها المتشنجة، رمشت عدة مرات و فد توسعت عيناها، غير مصدّقة ما يقول، لقد زارت مقبرتهِ مرارًا، دون أن تدري أن "فارس" أفرغها من جسدهِ، كوْن حياتهِ كانت بخطرٍ محدّق، و أعلن موتهِ دون أن تدري أيضًا سبب ذلك..
 أشاح "يامن" بوجهه، متمنيًا ألا تلحظ تلك العبرة التي شقّت طريقها على وجنتهِ و هو يحدق في القصر:
- القصر دا بينته من الرماد عشان أثبتلك، إن مش كل رماد معناه النهاية
و خفتت نبرته، ثم صمت هنهيه و هو ينزح تلك العبرة بظهر إبهامهِ، و عاد يردد بنبرة غلّفها الاختناق:
- العمال بدأوا فيه من زمان.. يمكن من اليوم اللي قولتيلي فيه إن علاقتنا زي رماده، و مكنش حد يعرف بيه غير فارس
و رمش مرة واحدة، ثم تابع متهرّبًا بنظراته منها:
- و لما.. كنت في سويسرا، فارس كمله، لغاية ما بقى اللي قدامك ده، مع إنه مكانش متأكد إني هعيش
تهدجت أنفاسها حين تلاقت عينيهِ مع عينيها أخيرًا، عقب أن كان ينظر لأي مما حوله دون عينيها، انعطفت نظراتها بين عينيهِ و هي تسأل بتهدجٍ مشدوه:
- ليـ..ليه مقولتليش؟ ليه مقولتش ده!
زمّ شفتيه بضيق، ثم أردف و هو يحيد عنها مجددًا:
- مكنش في سبب لدا، لكن...
و نظر نحوها مجددًا، فرددت حينها باهتياج:
- انت.. انسان بارد، معدوم القلب و الضمير، معندكش احساس، أنا بكرهك!
و مضت عابرة من جوارهِ، دون أن يتفهم سبب انفجارها فيه بذلك الشكل، أو يتفهم خطأً ارتكبه، زفر "يامن" بحدة و هو يقبض جفونه و قد أصابه السئم حقًا، لقد نفذ صبره فلم يعد يدرك أي طريق عليه أن يسلك معها،  أراح ساعدهِ على سقف السيارة، و ارتكن في إنهاك برأسه عليه، و قد شعر مجدًا ببوادر صداعٍ سيعاني منه مطولًا، و لن تُذهبه حتى ما يتناوله من عقاقير..
 أطبق أسنانهِ بعنفٍ بالغ، و قد احتدمت الدماء تمامًا في عروقهِ على حين غرة، ارتجفت عضلات صدغيه إثر تشديده على أسنانه، ثم رفع رأسه عن ساعده و هو يجأر بصوتٍ دوّي في أرجاء المكان فجعل الطيور تهجر أعشاشها:
- يــــارا!
تركض و تركض و تركض، و لا تدري أين وجهتها، و لا تدري ممَ تركض، أو ممَ تفرّ، من قدر، أم من حقيقة، أم من ذنب، ندم.. أم منهُ هُـو
حتى آلمتها ساقيها، و أصابها الخور المفاجئ، فتوقفت محلها و هي تنحنى بجذعها قليلًا تلهثُ من عدوها و قد تهدل كتفيها، وجهها قد فاض الدموع، و قد غلب عليه الحمرة، و بزغت حُمرة تشبعت بها بياض عينيها لإثر بكائها،  و لم تشعر بنفسها سوى و هي تصرخ صرخة مدوّية:
- وحشتني أوي!
اجتذبتها قبضتهِ التي أُحكمت حول مرفقها و هو يدير جسدها إليه، دون أن تدري كيف ظهر من العدم ليُثب رأسها بكفه غارسًا أناملهِ في خصلاتها القصيرة، و أطبق بشفاههِ في لهفة مُستعرّة على شفاههِا، مبتلعًا ما كادت تصدره من صرخات و أنّات متوجعة،  في قبلةٍ دامت محاولًا روي ظمأهِ، و إشباع تعطّشه نحوها، حتى استشعر حاجتها للهواء، فابتعد عنها مرغمًا، تلفحُ أنفاسها للاهثة صفحة وجهه، و قد ظلّت أنفها تلمس أنفهِ، ارتفع كفها لتتشبث بياقتهِ و هي تنكمش على نفسها مائلة عليه أكثر، حتى دفنت وجهها الباكي في تجويف عنقهِ، ممرغة وجها في بشرته الخشنة، و قد شعرت أنها وجدتهُ أخيرًا.. عقب غيابٍ دام طويـــلًا.
.......................................................................
كان الوضع بينهما على أشدّه عقب تلك المشادة الكلامية التي اندلعت بين كليهما، اقتطع صوت "رائد" تمامًا حين استمع كلاهما إلى صوت الباب ينفتح، استدار "رائد" أولًا فارتفع حاجبيه في شدوه، و سارع نحوهما و هو يسأل والده بصوت بدا فيه و كأنه يتهمه:
ـ هي لسه زي ما هي ليه؟.. لسه مفاقتش ليه يا بابا
 و لكن "يامن" تجاهل إجابته، و شرع يحث خطاه للداخل حاملًا لها بين ذراعيه، و قد تشبّعت نفسه بالفعل بالقلق و فاضت، حتى "إيلارا" هبطت عن الأريكة و نظرت
 :لوالدتها النائمة قائلة في شئ من القلق
ـ هي ماما لسه نايمة يا بابا!.. اول مرة تنام كتير كدا
فهدر بها "رائد" معنفًا إياها و قد فاض كيلهُ:

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن