"الفصل الثامن و السبعون"

829 11 0
                                    

"الفصل الثامن و السبعون"
سحب قدح قهوتهِ الرابعة التي يرتشفها على التوالي عن حاجز المطبخ الرخاميّ، و هو يعيد محاولة الاتصال بها علّها تجيبهُ فيستمع لصوتها مرة واحدة فقط تشفي سقمهِ، و تريح نفسه الملتاعة في قلقٍ تخطى الحدّ عليها عقب أن رأى ذلك الحلم المريب، و لكنها لم تجب أيضًا، زفر "مايكل" و هو يردد متوسلًا أثناء مضيهِ نحو غرفته ليستأنف ما يفعل:
please.. please rahief, just this time
ارتكنت "رهيف" برأسها للوسادة عقب أن أخذت حمامًا دافئًا يزيل عنها إنهاك السفر و الأحداث المتوالية عليها، و قد أصرّت أن تبرح المشفى خلال الليل، و أديت فريضتها، أخيرًا تمكنت من ارتداء ملابس بيتيّة مريحة عكس ما كانت ترتديهِ طوال الفترة الماضية من أثواب طويلة تحسبًا لأي طارئ، و تركت خصلاتها الكستنائيّة متناثرة بجوارها، أطبقت جفونها شاعرة ببعض الارتخاء يتسلل إليها، سحبت هاتفها منتوية قراءة أذكار النوم عبر التطبيق المُثبت خلالهُ، و لكن تغضن جبينها في ضيق و هي تستقيم في جلستها على الفراش و قد أصابها السئم من اتصالاتهِ المتكررة.. حتى فعّلت الوضع الصامت للهاتف لئلا يصلها الرنين المتواصل، زفرت "رهيف" أنفاسها المختنقة، و لكي تقطع عليه طريقًا آخر لمحاولة الوصول إليها، شرعت تبعثُ إليه برسالة نصيّة أخيرة كتعبيرًا عن امتنانها لما فعل:
- " مايكل.. أنا بجد بشكرك جدًا على كل اللي عملته، يعني.. قريبي كان عايز يقتلني و انت اللي أصلًا متعرفنيش لحقتني منه، أنا كويسة.. شكرًا على سؤالك لو عايز تسأل، و متعتذرش لو عايز تعتذر، لأن محدش كان هيعمل أكتر من اللي عملته، أجبرتك تسيب بيتك، و وافقت إنك متدخلوش و انا جواه، وعدتني إنك هترجع لي ماما و رجعتها، و إنك هتساعدني و ساعدتني، و أنا أخيرًا في بيتي بعد ما كنت يئست إني أرجعله تاني ، أنا بشكرك مرة تانية حقيقي، و كمان لو ممكن تشكر بشمهندس "فارس"، أنا آسفة.. مش هقدر أرد لأن مفيش حاجة لسه تجبرني أعمل ده، لكن مش عايزاك تعتبر ده لأني متضايقة من حاجة عملتها، إنت معملتش غير كل خير معايا، لكن مش شايفة إني في سبب لأي مكالمة تجمع بيننا تاني"
و أعقبت رسالتها برسالة أخرى:
- " ياريت متردش على الرسالة.. لأني مش هرد تاني"
ترك "مايكل" قدح قهوتهِ أعلى سطح مكتبه و هو يمر بعينيه على الكلمات، أُصيب بالقنوط.. بالآسى، ودّ لو لم يكن الوداع هكذا، بذلك الجفاء، ودّ فقط لو كان بإمكانهِ الاستماع لصوتها للمرة التي لربما تكون الأخيرة، اعتلى مقعده و هو يقبض جفونهُ تاركًا الهاتف جانبًا، تلمس موضع قلبهُ الذي شعر بوخزة حادة تقتحمه، عاد يفتح جفونهُ لينظر خلال قدحهِ، تقوست شفتيه بابتسامة باهتة حملت ما يفيض من الحسرة و هو يتذكر مواقف عِدة بينهم، خاصة حينما كان مرتدي عباءة الشرير في حكايتها، و اليوم.. اتضح إليه أنهُ سقط في الشرك الذي لم يُنصب، و لا يعلم كيف أو متى، و لكنه تيقن، لقد شغفهُ حبها، و صار قلبه يتشبع بها، و كأن غرفهِ الأربع لا تتوطّنها إلا هي، حنينهُ إليها تعدى حنينهِ لأي شخص، و وجد نفسه يتذكر.. كل تفصيلة منها، كل حركة تصدر عنها، كل ردّ فعل، كل كلمة تفوهت بها، كل ابتسامة احتضنت ثغرها، كل عبرة توقفت على أعتاب جفونها، و كل دمعة اتخذت من وجنتيها مستودعًا لها، كل لحظة جمعتهما، أول لقاء.. أول حديث، أول نظرة، أول صِدام.
 إنها قويّة، تتحلى بالإيمان الذي يكفي ليُكسبها قوة و بأسًا تختزنهُ في داخلها، خلف شخصيتها الوديعة، صامدة.. و كأن ثقتها في ربّها تكفى لتشعرها بأن ما حدث سيمضى، و مضى.. كُلٌ مضى، و مضى هو أيضًا برفقتهِ من حياتها، و انقضت لحظاتٍ لن تعاد مجددًا.
خطأها الوحيد كان أنها وثقت.. أفرطت بالثقة بالبشر، فلقت ما لم تتوقعهُ، و لم تتمنى حدوثه، و لكنها ستجمع فُتاتها، يثق في ذلك.. فـ هي "رهيف" بالنهاية، سقطتها ما هي إلا تمهيد لنهوضٍ جديد، أشدّ بأسًا و قوة.
و عاد يسحب هاتفهِ، و قد احتلّ الإصرار تقاسيمهِ، و انبثقت نظرة مصممة في عينيهِ، ومضت عيناه و هو يتأهب في جلسته، و شرع ينقر على الأزرار متحديّا رغبتها، مرسلًا رسالة أخيرة تحمل:
-  “I love you!”
تنفست "رهيف" بارتياح حين مرّت الدقائق و لم تجد منهُ ردّا، همّت بإغلاق تطبيق الرسائل.. و لكنها توقفت باللحظة الأخيرة حين وجدت منهُ رسالة تحمل كلمة واحدة:
- "وداعًا"!
واحدة فقط.. تمنى "مايكل" أن ترى كمّ المشاعر الكامنة بها، تمنى "مايكل" أن تترجمها كما ودّ لو يبعثها، كما قالها ذهنهُ و باح بها قلبهُ و عجزت أنامله عن إرسالها،  لفظ أنفاسهِ المنهكة و هو يترك هاتفهِ جانبًا، أبعد بطول ذراعه قدح قهوته، و راح يستند بساعده على المكتب و ترك جبينهُ عليهِ و هو يُطلق سراح زفيرًا ملتهبًا محاولًا التخفيف عن ذلك السعير المتقد الذي ضجّ بهِ صدرهُ.
..............................................................
الأعين شاخصة، و الأنفاس المترقبة قد انحبست في الصدور، كلٌ لا يستمع سوى لنبضاتهِ المتلاحقة، و صوت الطلقة الذي صدر عن سلاح "هُوليا"، و ما هي إلا ثوانٍ و كان الوسط يعجّ بالضوضاء و الأصوات المحتجة لدى فعلتها تلك، أوفض "جاسم" يهرع لدى ربّ عملهِ محاولًا افتدائه و لكن بيد أنه تأخر، و راح "فارس" يعنفها و هو يهددها بسلاحهِ مستهجنًا:
- مش هسيبك.. فاهمة؟ مش هسيبــك!
 عبست "هوليا" و زمجرت بعنفٍ و هي تضرب الأرض بكعب حذائها بعصبية، حين رأتهُ يستأنف سيرهُ غير عابئًا بما تفعل، و غير عابئًا بتلك الرصاصة التي اخترقت كُم سترتهِ و من أسفلها قميصهِ حتى خدشتهُ جرحًا سطحيًا أثناء مرورها بمحاذاة عضده المعضل دون أن تستقر في جسدهِ في تصويبٍ خاطئ من "هوليا"، استقل "يامن" السيارة بوجهٍ متصلب و كأن شيئًا لم يكن، و راح يضغط على دواسة البنزين عقب أن أدار المحرك، و رحل مقتادًا سيارتهِ مخلفًا خلفه كومة من التراب، فـ صرخت "هوليا" في من حولها لتأمرهم:
-Onu takip et, kızımı geri al, hadi
- " اتبعوه.. استعيدوا ابنتي، هيّا"
لم تنتبه "هوليا" إلى "جاسم" الذي دار من خلفها حتى تمكن منها، بساعدهِ أحاط عنقها و سلط فوهة سلاحهِ على رأسها و هو يردد بصوتٍ آمر حين أبصر رجالها يُوشكون على استقلال سياراتهم، فصاح بصوتٍ جهوريّ:
- اللي هيتحرك هخلص عليها
توقف جميع رجال "هوليا" و هُم يشهرون الأسلحة في وجههِ تلك المرة من جديد، فردد "جاسم" يأمرها بـ:
- نزلي سلاحـك، سامعة، نزلي سلاحـك
أومأت "هوليا" و قد بلغ فؤادها حنجرتها من فرط خوفها من تلك الحركة المباغتة، أرخت قبضتها عن سلاحها فسقط منها أرضًا، رمشت عدة مرات بعدم استيعاب لما يحدث، و ما إن حاولت أن تحرر ساعده عن عنقها كان يهدر بها باحتدام:
- حركة زيادة و تتشاهدي على روحك
و أشار لرجالها و:
- قوليلهم ينزلوا السلاح
اصطكت أسنانها ببعضها البعض، فزمت شفتيها و قد شحب لون وجهها، و لكنهُ هدر بها مجددًا:
- سمعتي؟.. خليهم ينزلوا السلاح
أومأت "هُوليا" مجددًا و هي تشير إليهم بكفها في حركةٍ أدركوها، و من فورهم اضطروا إرخاء أكفهم عن أسلحتهم، فسقطت الأسلحة تباعًا، أومأ "فارس" مستحسنًا فعلتهِ، فـ أشار إليهِ "جاسم" و هو يردد بلهجة صلبة:
- اتفضل يا باشا.. متقلقش أنا هسيطر على الوضع
فـ أبدى "فارس" إعجابهِ لما يفعل و سلاحه لا يزال في وجه "هوليا":
- كان عنده حق يامن ميثقش غير فيك يا جاسم
أومأ "جاسم" معربًا عن امتنانهِ الجاف، فـ انسحب "فارس" موجهًا نظراته الحاقدة نحو "هوليا"، استقل "فارس" مقعد السائق حينما كانت "حبيبة تردد بهلع بزغ على وجهها:
- بـ..بنتي يا فارس
أومأ "فارس" و هو ينظر نحوها من خلال المرآة أثناء إدارتهِ المحرك:
- متخافيش يا حبيبة.. بنتك هترجع لك
و أتبع قولهُ بسؤالهِ الجاد:
- انتو كويسين؟
تفاجأ بتلك الضغطة الحانية التي احتوت كتفهِ بعفوية تزامنًا مع صوتها العذب الذي شابهُ القلق المتجلي على صفحة وجهها و هي تقابل سؤالهِ بسؤال:
- انت كويس؟
انحرفت نظراتهِ نحوها عبر المرآة فرنا إليها بنظرة مُطولة عميقة، جادة متجمدة في ظاهرها، و في باطنها حملت إليها مشاعرًا مُختلطة، في النهاية حمحم و هو يفرّ بنظراته منها مرددًا بلهجة صلدة:
- كويس
..................................................................
تهدجت أنفاسها و هي تختلس النظرات نحوهُ من طرفها، ثم حمحمت قبل أن تسأله بفضولٍ جاد:
- انت.. مش خايف
تقوست شفتا "يامن" إزدراء و هو يناظرها من طرفهِ مدمدمًا باستهجان:
- خايـف!
أومأت قبل أن تردد مبررة قولها بارتباك طفيف:
- أيوة.. انت.. كان ممكن تموت
فـ أجابها بعجرفة قاتمة دون أن يوليها نظرة منه:
- معلش.. أصلك متعرفينيش كويس!
ارتفع حاجبيها متعجبة، ثم رددت و هي تسألهُ في ذهول:
- يعني إيه يعني؟.. مفيش حد مش بيخاف
و زمت شفتيها و هي تضيق عينيها، ثم سألت بتحدي شمل نبرتها:
- انت مثلًا..عمرك ما خفت من حاجة
و أول ما انبثق أمام عينيهِ كانت زوجتهِ المتأرجح جسدها فى الهواء، و هو لا يقوى على جذبها بسبب إصابة كتفهِ، و بعُسر بالغ تمكن من سحبها إليه عقب أن كادت تفلت كفها منه.. مشاهدًا عدة توالت على عينيهِ كانت هي بطلتها، أشاح بوجههِ قليلًا، ثم عاد يرتكز ببصره على الزجاج الأماميّ، حينما كانت "يورا" تردد بنبرة جادة عقب أن اقتنصت مشاعره:
- أكيد عندك نقطة ضعف.. حاجة بتخاف منها، مفيش حد مش بيخاف
انحرفت نظرات "يامن" المستعرة نحوها و هو يردد بضجر:
- تعرفي تسكتي؟ و لا أسكتك بطريقتي؟
ارتفع ذقنها في شموخٍ و هي تعقد ساعديها أمام صدرها مرددة بلهجة متحدية:
- طالما منكرتش.. يبقى أكيد ليك نقطة ضعف
حاد ببصرهِ عنها لينظر أمامهُ، و في حركةٍ مباغتة منهُ ضغط على المكابح فارتد جسد "يورا" للأمام و اصطدمت بالصندوق الصغير الداخلي ، تأوهت "يورا" متألمة و هي تعتدل في جلستها، فاصطدمت بنظراتهِ الملتهبة و هو يميل عليها قليلًا لتكن نبرتهِ أشدّ وقعًا عليها:
- اسمعي يا بت انتي.. انتي صوتك بينرفزني، و أنا لو اتغابيت عليكي صدقيني هتزعلي، فـ الأحسن مسمعش صوتك الحلو دا تاني، عظيـــم؟
نهج صدرها علوًا و هبوطًا و هي تتراجع للخلف لتبتعد عنه مسافة كافية ملتصقة بظهرها للباب، حتى شملها "يامن" بازدراء انبثق من نظراته، ثم اعتدل في جلستهِ مجددًا و هو يضغط على دواسة البنزين، حينما كانت "يورا" تجاهد للملمة شتاتها المبعثر، ازدردت ريقها و هي تنظر نحوهُ باغتياظٍ محاولة التقاط أنفاسها، ثم غمغمت بكلماتٍ تنم عن سخطها و هي تعتدل في جلستها، حاولت حِفظ ملاء وجهها الذي أراقهُ توًا، فنفضت خصلاتها للخلف و هي تنظر نحوهُ شزرًا من طرفها:
- طب على فكرة انت انسان مش طبيعي و مُعقّد.. هه!
تقوست شفتيه سخطًا و هو ينفخ متأففًا و:
- استغفر الله العظيم
فنفضت "يورا" خصلاتها للخلف و هي تردد متباهية:
- دكتورة يورا عمرها ما تغلط
تقلصت تلك المسافة بين حاجبيهِ و هو ينظر نحوها من طرفه، رغمًا عنهُ تذكر حلمها الأول الذي أفضت بهِ إليه، أن تصبح طبيبة.. زفر مبديًا انزعاجهِ و هو ينظر نحوها شزرًا، فتابعت بغطرسة:
- إيه؟.. متفاجئ
و بسطت كفها و كأنهُ سيصافحها و هي تقدم نفسها إليهِ بعجرفة:
- يورا الحديدي.. دكتورة نفسية، صحيح لسه مخلصتش دراسة، لكـن لسه سنة وحدة و أشتغل
أصرف "يامن" بصره عنها في جفاءٍ دون أن يعبأ بها، فلوت "يورا" شفتيها في ضيقٍ و هي تسحب كفها إليها متأففة، حتى استمعت لرنين هاتفهِ أعلى التابلوه، فراحت تسحبه بلا تردد و هي تنظر في شاشته، ثم تقوست شفتيها سخطًا و هي تتمتم تهكمًا:
- الغبية مراتك.. مش هترد؟
تفاجأت بهِ يجتذب هاتفهُ في عنفٍ مفرط من بين يديها و هو يردد بشراسة من بين أسنانهِ المطبقة و قد تحول وجهه لجذوة مُستعرة من النيران:
- شـشـش، إياكي.. إياكي بس تفكري تغلطي فيها مرة تانية، انتي مشوفتيش وشي التاني.. و أحسن لكن متشوفيهوش
رمشت عدة مرات غير مستوعبة التحول الجذريّ الذي لاح على وجهه و نظراته نحوها، للحظة خشت حين تذكرت أنهُ قاتلًا، خشت أن يودي بحياتها في لحظة عابرة، فابتلعت ريقها في ارتباكٍ متوتر، شملها "يامن" بنظراتهِ الموقدة، ثم عاد ينظر في الطريق أمامه و هو يحدق في شاشة هاتفهِ، فعّل الوضع الصمات لهُ، ثم دسه في جيبهِ، و عاد يتابع الطريق أمامهِ، فلم تصمت أيضًا، بل أنها اغتاظت من نفسها لدى شعورها بالخوف الذي لا تحبذهُ، فنطقت بضيق و هي تحاول استجماع قواها الخائرة:
- انت موديني على فين كدا؟.. أنا عايزة ماما
و كأنها ذرة غبار عبرت و مضت من أمامهِ، فاغتاظت أكثر.. تأهبت في جلستها و قد تحفزت خلاياها للثأر منهُ، فرددت بصوتٍ ارتفع فجأة باستهجان:
- انت يا بني آدم.. موديني على فيـن
فنطق بصرامة من بين أسنانهِ:
- شـشـش.. صوتك ميعلاش
رمشت "يورا" عدة مرات بعدم استيعاب لتجبّره المفرط، ثم رددت باستنكار اختلط بذهولها و هي تشيح بكفها:
- انت خاطفني و مش عايزني أتكلم.. إنت مش طبيعي بجد
و أيضًا لا استجابة منهُ، فشعرت و كأنها كلبًا ينبح و هو يتجاهلهُ.. و لدى ذلك الشعور شعرت نيرانها تتقد بداخلها، فتكورت أناملها و هي تضرب التابلوه بعنفٍ مزمجرة بغضب أثناء ترديدها المُصمم:
Tamam? - أنا عايزة أرجع لماما..
زفرت "يورا" بحنق بالغ، ثم صاحت بهِ بلغتها الأصلية دون انتباه مُستهجنة فعلتهِ:
- O kadına geri dönmek istemiyorum, gerçek annemi istiyorum
" أنا لا أريد العودة لتلك المرأة، أريد والدتي الحقيقيّة"
يئست من أن تلقَ ردًا منهُ، فتشنجت في جلستها أكثر أثناء اعتدالها و هي تردد استهجانًا مقوسة شفتيها بفتور:
- توبة استغفرُ الله
...................................................................
أدار "فارس" المفتاح في الثقب، و فتح الباب على مصراعيهِ، تنحى جانبًا ليسمح لـ " حبيبة" بالمرور، و من خلفها توقف "ولاء" جواره قليلًا أثناء عبورها و هي تنظر نحوهُ مضيقة عينيها، فانبعجت شفتيه بابتسامة صغيرة و هو يُردد:
- Ladies First
افتر ثغرها عن ابتسامة عذبة و هي تخطو من جوارهِ منتشية من ذلك الشعور، توقفت في منتصف المنزل و هي تشملهُ بانبهارٍ تجلى في عينيها، في حين سألت "حبيبة" التي خطت نحو أقرب أريكة لتجلس عليها:
- ده المفروض بدل بيتنا؟
أومأ "فارس" و هو يخطو نحوها ليُسلمها المفتاح، ثم ردد و هو يتوسط خصره بكفيه متجولًا بنظراتهِ في المنزل مجيبًا:
- أيوة.. لو في حاجة محتاجين تتغير فـ أنا معاكم
فراحت "ولاء" تسأله و هي تقبل عليهِ بلمعان ضوى في عينيها شغفًا:
- هو انت اللي عامله؟
انبعجت شفتيهِ بابتسامة و هو يردد مشيرًا بعينيهِ:
- يعني.. بيقول عليا مهندس؟
توسعت ابتسامتها و هي تتلفت حولها لتسأله بفضول لطيف:
- يعني انت اللي مختار الديكور، و الدهان، و كل دا؟
أومأ "فارس" و قد تلاشت ابتسامتهِ لتحل الجدية محلها:
- أيوة.. لو في حاجة حابة تغيريها قوليلي
هز رأسها بالسلب من فورها و هي تتمتم بحبور:
- لأ طبعًا.. كل حاجة جميلة أوي
و شاكستهُ قليلًا بنظراتها:
- مكنتش عارفة إنك مزوق أوي كدا
فسألها "فارس" ساخرًا:
- و دي أعتبرها إهانة و لا إطراء؟
ففعت كتفيها و هي تردد مقوسة شفتيها المزينتين بابتسامتها:
- زي ما تحب
فصدح صوت "حبيبة" من خلفهما و هي تتابع بأعين ضائقة ما يحدث أمام ناظريها:
- و ليه يا ابني تعبت نفسك؟.. كان ممكن نفضل في بيت والدتي
حمحم "فارس" و هو يلتفت نحوها، فبادرت "ولاء" بإجابتها المُحتجة خوفًا من أن تضيع تلك الفرصة و قد تلاشت بسمتها تمامًا:
- بيت نينة! أكيد بتهزري يا ماما، ده فاضله شوية و يتهدّ فوقنا
زجرتها "حبيبة" بنظرة حامية، لم يعجبها إطلاقًا ذلك التآلف العجيب بينهما، و كأن جميع خلافاتهما معًا قد انفضّت و انقضت، فراحت تردد بصرامة:
- بس يا ولاء.. متدخليش انتي
تجلى الانزعاج على وجهها و قد شعرت بأنها تتعمد التقليل من شأنها، أحيا ذلك شعورًا مقيتًا لديها، نظر "فارس" نحوها و قد التقط شعورًا يحاول دفنهُ بداخلها، و ما إن همّت "ولاء" بالصراخ الشرس في وجهها كان "فارس" يردد بهدوء:
- سيبيها يا حبيبة تقول رأيها.. هي مقالتش حاجة غلط
و راح يُذكرها بصلة القرابة التي تجمعهما:
- مش معقول بنت عم يامن و فارس الصياد يقعدوا في بيت زي ده يا حبيبة.. و لا إيه؟
انحرفت نظرات "حبيبة" المعترضة نحوهُ، و احتجّت على قولهِ بضراوة:
- أيوة يا ابني.. لكن محدش يعرف الحقيقة دي و ...
فقال "فارس" غير عابئًا:
- و هنا محدش يعرفكم.. سيبك من الناس و كلامها
و نظر نحو "ولاء" نظرة ذات مغزى و هو يردد متابعًا بشغفٍ شمل نبرتهُ:
- الحقيقة الوحيدة إن ولاء جزء مني
حينها فقط حادت "ولاء" بنظراتها نحوهُ و قد ارتخت تعبيراتها المشدودة، فاستدرك "فارس" الأمر سريعًا و هو يحمحم:
- احم.. أقصد جزء مننا أنا و يامن، نفس الدم.. حتى لو محدش اعترف بدا!
بهِما أمرًا لم تستسيغهُ كونهما لا يربطهما رابطًا رسميًا، أمرًا أفصحت عنهُ النظرات التي لم تحِد.. التي تعلقت ببعضها، و تلك الومضة المُلتمعة في أعينهما، و تلك الابتسامة التي التوى ثغر "ولاء" بها و قد نجح ببراعة في امتصاص غضبها الأهوج، فَطِنت إلى بذورًا تشرع في النمو بقلبيهما، بـذور الحب، و هي أدرى الخلق بتلك البذور القاسية، أُصيبت بالنقم على ذلك، تنبّهت "حبيبة" إلى "فارس" الذي أردف متداركًا و هو يحيد ببصره عنها:
- اقعدي يا ولاء.. أكيد تعبانة
عبست قليلًا لدى إدّكارها ما فقدت، فراحت تُثربه لفقدانها عكازها:
- مش لاقية حاجة تسندني.. عاجبك كدا
فمنحها ابتسامة ذات مغزى و هو يردد بعبث خافت:
- طب ما أنا موجود.. أسند؟
فكانت متهورة قليلًا و هي تردد آمرة إياه:
- اسنـد، ما أنا مش عارفة امشي
فتفاجأت بذراع والدتها التي نهضت من فورها لتحيط ظهرها و هي تردد بابتسامة سمجة:
- كتر خيرك يا ابني، تعالي يا ولاء اقعدي
و ازدجتها للأريكة.. تغضن جبين "فارس" متعجبًا تبدل والدتها للصرامة المفاجأة ، و لكنه لم يلقِ بالًا للأمر، حتى أجلستها "حبيبة"، و جلست جوارها،  أنغض "فارس" رأسه، ثم استدار موليّا ظهرهُ لهما، أخرج هاتفه و حاول الاتصال بهِ مجددًا، و لكنهُ لم يجبه، فمسح على خصلاتهِ و قد شغل أمرهِ تفكيره و استحوذ عليه، تقوست شفتيه و هو يبعث إليهِ برسالة نصيّة يعلم جيدًا أنه لن يجيبه عليها:
- انت فين يا يامن؟
...................................................................
صرخت.. و احتجّت.. و اعترضت.. و هاجت.. و ماجت..
و لكنهُ گرجلٍ آلي أزمع على تنفيذ أمرًا ما، لم يبالي بها، و لم يعبأ بصراخها المرتفع و هي ترى نفسها تُزدجى و كأنها تُساق إلى الموت، خرج "يامن" من المصعد ساحبًا لها خلفه و هي تُعصف يمينًا و يسارًا و قدميها تتعثران و هي تحاول مجاراتهِ، حتى بلغ "يامن" باب الشقة، و ما إن همّ بالطرق كان "فارس" يفتح الباب و قد وصلهُ صوت صراخها المرتفع، ارتفع حاجبيهِ في تعجب لما تفتعلهُ الفتاة و ما راحت تلقيه من كلماتٍ ساخطة لم يفقه معناها، و فور أن رأتهُ راحت تستغيث بهِ و وجهها قد تشبع بالحمرة الفاقعة:
Lotfan- خلي الهمجي دا يسيبني 
 فردد "فارس" محاولًا التهدئة من روعها:
- يا عم يامن بالراحة شوية
ازدجرهُ "يامن" بنظرة من عينيهِ جعلتهُ ينفخ متأففًا، ثم أفسح له الطريق ليعبر و هو يجتذبها من خلفهِ، و ما إن ولج "يامن" دفع بجسدها بعنفٍ للداخل لتضحى أمامهُ، فاعتدلت في وقفتها محاولة موازنة جسدها بصعوبة و هي تلعنهُ:
-Lanet olsun seni vahşi!
- "لعنك الله أيها الهمجيّ!"
- بنتي!
أتاها صوتها التلهف من خلفها فنظرت "يورا" نحوهُ باستهجان واضح و قد امتزج بالتوعد، لم تستدر، راحت تحاول العبور من جواره و هي تقول باحتدام آمرة إياه بـ:
- حاسب.. عديني، أنا عايزة ماما هوليا
اجتذب "يامن" عضدها إليه و هو ينظر نحوها بنذير غير مبشر، فرّق أسنانه المطبقة بصعوبة ليردد محذرًا إياها:
- اسمعي يا بت انتي.. أنا جبت آخري معاكي
و أشار لـ "حبيبة" من خلفها مرددًا بلهجة حاسمة حالكة:
- أمك.. هي حبيبة، اقتنعتي أو لأ، دي مش مشكلتي
فصرخت بهِ معترضة:
- لــأ.. ماما هي هوليا و بس
غرز أناملهُ أكثر في عضدها فشعرت بهِ يخترق لحمها، و تزامن مع سؤالهِ الناقم:
- و عملت إيه هي عشان متعترفيش بيها؟.. انطقي
فنطقت من بين أسنانها بتشنج:
- انت عمرك ما هتفهمني، لأنك مجربتش آآ.....
فقاطعها بلهجة مُشتدة و هو يشملها بازدراء:
- الأسطوانة بتاعتك دي حفظتها، سيبك منها.. لأنك مش هتخرجي من هنا، عظيـم؟
كُلما حاولت "حبيبة" التدخل كانت "ولاء" لها بالمرصاد، عمدت إلى أن تتركها علّها تستوعب الحقيقة، فتشبثت بـ "حبيبة" التي همست لها متوسلة:
- حاسبي يا ولاء.. حاسبي هو كدا بيكرهها فيا أكتر
فشددت "ولاء" من ضمها لكفها و هي تجبرها على الجلوس جوارها مجددًا مرددًا بلهجة جادة:
- سيبيها يا ماما، يمكن تفهم إنك أمها
حملقت "يورا" بعينيهِ مباشرة، استشعرت ذلك اللهب المنبعث منهما، فحادت قليلًا عنهُ، لم تحنِ بصرها، و لكنها لم ترفع نظراتها لعينيهِ، ترقرقت العبرات في مقلتيها و قد شعرت بقواها تخور حين ردد "يامن" بنبرة حالكة و هو يُشدد على كلامتهِ و هو مشيرًا بسبابتهِ للخلف:
- أمـك.. كان ذنبها الوحيد.. إنها وثقت في الشخص الغلط، وثقت في أبوكي اللي ادعي إنك ميتة و سرقك منها، دا الذنب الوحيد اللي ارتكبتهُ في حياتها
رنت إليهِ "حبيبة" بنظرة مطولة مكلومة، و شعور الندم ينهش يتروٍ من روحها، أطرقت "حبيبة" محررة زفيرًا حارًا صاحبتهُ آهة متألمة، فربتت "ولاء" على كفها محاولة التخفيف عنها و قد تقوست شفتيها في ألمٍ بالغ مُتحسر.
انبجست العبرات من مقلتيها على الرغم من محاولاتها الجمّة و التي باءت بالفشل لكبحهم، ارتفعت حينها أنظارها لعينيه مباشرة و هي تردد باستهجان نبع من نبرتها:
- و أنا كان ذنبي إيه؟.. كان ذنبي لما أكتشف إن كل حياتي عبارة عن كذبة؟ كان ذنبي إيه لما اكتشف إن الست اللي باقيالي مش أمي؟.. كان ذنبي إيـه؟
تقوست شفتيهِ و هو يدمدم بجفاء:
- ذنبك إنك مش قادرة تقتنعي بالحقيقة و لا قادرة تستوعبيها
فـ أيدتهُ بالرأي و هي ترفع كتفيها مُعلنة عما يجيش في صدرها:
- أيوة.. أيوة مش قادرة أقتنع و لا أستوعب، دي حاجة مقدرش أستوعبها بين يوم و ليلة
أرخى "يامن" قبضته عنها ليدس كفيه بجيبيهِ فراحت تتابع بلهجة ارتعشت متأثرة بتلك الغصة التي اقتحمت حلقها:
- أنا مش عايزة غيرها.. هي الوحيدة اللي بتفهمني، محدش هيفهمني غيرها، محدش هيحبني زيها، مش هقدر أتقبل واحدة تانية
فكانت نبرتهِ حازمة و كأنهُ لزامًا عليها:
- هتتقبلي.. هتتقبلي برضاكي أو غصب عنك، دي حاجة مش هخيرك فيها
نظرت لعينيهِ مباشرة بتشوشٍ أصاب رؤيتها و هي تطبق أسنانها في غيظٍ، ثم دمدمت مستعيدة شتاتها:
- و انت مين أصلًا عشان تجبرني على حاجة زي دي
خطى "يامن" خطوة نحوها مُقلصًا المسافة بينهما، ثم أشار بعينيهِ مدمدمًا بتعجرفٍ قاتم:
- عايزة تعرفي أنا مين؟.. يامن الصياد، عايزة تعرفي مين يامن الصياد؟
و صمت هنيهة ليُضيف مُعقبًا باستهجان و هو يقوس شفتيهِ:
- فأنا بنصحك.. أحسن لك متعرفينيش
و استدار لينصرف تاركًا لها متيبسة محلها، تحملق به بأعين توسعت في اغتياظٍ مذهول من تلك الشخصية العجيبة، و ما إن خرج "يامن" من المنزل صفق الباب بعنفٍ خلفه، فهمّت "يورا" بالحراك متداركة أمرها و هي تردد بتشنج:
- لأ.. خرجني من هنا أنا مش هفضل هنا ثانية واحدة، أنا عايزة هوليا
توقف "فارس" أمامها ليسد عليها الطريق و هو يهدر بها رادعًا إياها:
- ما تهمدي بقى في إيه؟
توقفت و هي تعقد حاجبيها لترمقهُ بتمقط تام، ثم نطقت باستنكار:
- و انت مين انت كمان
فابتسم ابتسامة سمجة مُتعمدة و هو يردد:
- ابن عمـك
زفرت "يورا" متأففة و قد أطبق الضيق على أضلعها، فهمت بدفعهِ لتمر من جوارهِ و هي تقول ناقمة:
- اسمع يا اسمك ايه انت.. أنا بجد مش فايقة للهزار السخيف دا
تصلّب وجه "فارس" و هو يردد بلهجة مُحتدة:
- دا مش هزار.. دا حقيقة يا.. يورا حسين الصياد!
هزت "يورا" رأسها بالسلب عقب أن رنت إليه بنظرة مشدوهة أتبعتها بقولها المستنكر:
- مجنون.. انت أكيد مجنون!
فصرّحت "ولاء" من خلفها و قد امتعضت من مجرد تبادلهما الحديث:
- لأ مش مجنون.. و بابا بنفسه قايل دا قبل ما يموت
التفتت "يورا" نحوها فاغرة شفتيها بعدم استيعاب،  و سريعًا ما انعقد حاجبيها و تقلصت تعبيراتها و هي تدمدم استهجانًا:
- ne? "ماذا؟"
................................................................
أول ما فعلهُ فور أن دلف خلع سترتهِ و قميصه و ظلّ فقط بالقميص الأسود ذو الحمالات التي أظهرت عضلات ذراعيهِ البارزين، المنزل غارقٌ في الظلمة التي ابتلعتهُ، تركهما جانبًا و راح يبحث عنها بعينيهِ،  تجهم وجههُ حين وجدها تستلقى على الأريكة في غرفة المعيشة، فخطا نحوها.. انحنى قليلً عليها و هو يتأملها عن كثبٍ، و لكنهُ تفاجأ بها تنتفض فجأة معتدلة في جلستها و هي تتنفس بمعدلٍ سريع، تغضن جبينه و هو يحاول تهدئتها فمسح برفقٍ على وجهها و:
- شـشـش.. إهدي
تلمست كفهُ و أعينها مسلطة على نقطة في الفراغ، و كأنها تتيقن من أنه حقيقة ملموسة أمامها، و فور أن شعرت بلمسه على كفها انعطفت نظراتها نحوه، رددت و قد انجست العبرات من عينيها المتوسعتين بنبرة اختلطت بتهدج أنفاسها المريب:
- يـ..يامن.. انت.. هنا؟
أومأ بحركة لا تكاد تُلحظ و هو يدمدم بلهجة صلبة:
- انا هنا.. إهدي
بسطت ذراعيها لتتشبث بعنقهِ دافنة وجهها في تجويفهِ و صدرها ينهج علوًا و هبوطًا في هلعٍ، قبضت جفونها بقوة و هي تتمتم محاولة إقناع نفسها:
- انت هنا.. انت هنا، مفيش حاجة حصلت
وجد نفسه رغمًا عنه يربت على كتفها في محاولة منه لتهدئة روعها، أطبق جفونه في سئم، كلما حاول أن يبعدها عنه يجدها تخترق حصونه مجددًا، كلما حاول.. يفشل، لا يمكن بدونها، جزءً هي لا يتجزأ منه إن ابتعد عنها لدقيقة يستشعر ألمًا يعصف بفؤادهِ و كأن هنالك ما ينقصهُ، و كأن هنالك ما هو ثمين على نفسهِ فقده، أيامهِ المنصرمة التي قضاها من دونها كانت أشدّ وطأة على روحهِ المعذبة.
انحنى قليلًا حتى جثى على ركبتيهِ أمامها ليكن إليها أقرب، فلم تتخلّ عنه بعد أو تحاول إفلاتهِ، ظلت مُحكمة ذراعيها حول عنقه، و كأنها تخشى إن ابتعد يبتعد للأبد، و لم تشعر بنفسها سوى و هي تنفجر بالبكاء الحارق، ذرت عيناها الدموع وفرقتها على وجنتيها كأنهار متدفقة و هي تتشبث أكثر بهِ، فرقت جفنيها قليلًا لتهتف متسائلة بجزع:
- ليه بيحصل كل دا معانا؟
أطلق سراح زفيرًا ملتهبًا ضجّ صدره بهِ، ثم شرع يمسد برفقٍ على خصلاتها، فسألتهُ مجددًا بلهجة امتزجت مع شهقاتها المتألمة:
- ليه بيحصل كدا معانا يا يامن.. ليه مش قادرين نعيش؟
و ابتعد قليلًا لتستند بجبينها على جبينهِ و قد تلمست أناملها تشوّه ظهرهِ فاستشعرت لهيب فؤادها يتفاقم، غمغمت متسائلة و هي تمسح على وجنتهِ المشوهة أيضًا مرددة باستهجان:
- ليه بيحصل معاك كل دا؟.. ليه اتكتب عليك العذاب بالشكل البشع دا؟
و تعلت شهقاتها متابعة من بينهنّ بتحسر:
- ليـه؟
تلمس "يامن" بإحدى فيه كفها الذي تركتهُ أعلى تلك الندبة البارزة في وجههِ، قرب راحتها من ثغرهِ ليطبع بشفتيه عليه قبلة مطولة أعقبها بهمسهِ الخافت:
- خلاص.. خلاص اهدي
ابتعدت "يارا" قليلًا لترمقه من بين عينيها التي برزت شعيراتهما الدموية، أفلتت كفها من قبضته لتضم وجهه بكلا كفيها مدمدمة بقهر:
-أنا عايزاك تعيش.. أنا مش عايزاك تتألم تاني، مش عايزاك تتعذب تاني، مش عايزاك تسيبني يا يامن
فضمّ إحدى كفيها ليمرر إبهامهِ على ظهرها دون أن تزيلهُ عن وجنتهِ مرددًا بصوتٍ خافت:
- مش هسيبك.. أنا معاكي
هزت رأسها بالسلب و هي تردد معترضة بمرارة نبعت من نبرتها و شهقاتها التي صدرت عنها:
- انت هتحرمني منه.. هتاخده مني، أنا مش عايزاك تاخده مني، مش عايزاك تبعدني عنك، مش عايـزة
و ألقت برأسها على كتفهِ عقب أن أزاحت كفيها عن وجنتيهِ لتطوق ظهرهِ الصلب بذراعيها:
- أنا عايزاك و عايزاه، مش عايزة حد فيكم يسيبني، متحرمنيش منكم يا يامن.. أرجـوك!
أومأ "يامن" و هو يمسد بكفه على خصلاتها مدمدمًا بـ:
- مش هسيبك.. متخافيش مش هسيبك
مرّغت وجهها في كتفهِ و هي تردد باعتراض:
- كـذاب، هتسيبني و هتحرمني منه
أبعدها قليلًا عنه ليتبين له وجهها، فردد معربًا لها عن عدم قدرته على تركها:
- مش هسيبك يا يارا، مقدرش أسيبك!
تقوست شفتيها للأسفل و هي تحني بصرها عنه، حاولت التحكم في بكائها، فانفلتت منها شهقة عابرة ما بين الحين و الآخر، نزح "يامن" عبراتها التي فاض وجهها بها، أثارتهُ ارتعاشة شفتيها المتقوستين، فلم يتمكن من كبح جماحهِ عنها عقب ما لاقاهُ من وصبٍ في غيابها، أطبق بشفتيهِ على شفتيها في شوقٍ مُستعرّ و بحركة مباغتة منه فاجأتها، في البداية اعترضت، و حاولت الفكاك منهُ، و لكنه ابتلع اعتراضاتها و هو يُعمّق من قبلتهِ، حتى استجابت لذلك التيار الجارف من المشاعر الجيّاشة الذي داهمها في تلك اللحظة تحديدًا، و قد شعرت للحظة أنها وجدتهُ.. استعادته أخيرًا و قد فقدته منذ فترة طويلة، و استبدّ بها الحنين الجارف.
.............................................................
نظرت من خلال زجاج نافذتها للخارج و هي مستندة بكتفها إليهِ في قنوطٍ تام امتزج بالغيظ المستبد بها، خاصةً حينما تذكرت أن ذلك " الهمجيّ" كما تسميه قد اختطف منها هاتفها، فباتت وسيلتها للوصول لـ "هوليا" معدومة، منذ أن خرج كلا "يامن" و في أعقابهِ" فارس" و هي على تلك الحالة، لم تكد تستوعب حقيقة أن والدتها لم تكن والدتها التي أنجبتها، فـ إذ بها تصطدم بواقع أشدّ قسوة.. اعتراف والدها قبل موتهِ بأنه ينتمي لعائلة "الصياد" و ليس عائلة "الحديدي" كما كانت تعتقد دومًا.
حياةً.. غُلفت بالأكاذيب، و هي لا تزال تحاول استيعاب كلًا منهم، و لكنها أُنهكت بالفعل، و ودّت لو تفر بنفسها بعيدًا عن الجميع، أن تنأى بنفسها عن من يحيطها، و كأنها لا تدري ما هي.. أو من هي، تائهةٌ هي للغاية، و لكنها تتظاهر بالصلابة رغم ذلك.
أطبقت "يورا" جفونها حين استمعت لصوت "حبيبة" المتوسل يأتيها من الخارج:
- يا بنتي أرجوكي.. أرجوك يخليني أتكلم معاكي، اديني فرصة
فصرخت "يورا" على حين غرة:
- لأ.. قولتلك سيبيني في حالي
تنهدت "ولاء" بضيقٍ أطبق على صدرها، ثم سحبت والدتها من ذراعها و هي تردد بانزعاج:
- سيبيها يا ماما دلوقتي بقى.. سيبيها شوية لوحدها
نظرت "حبيبة" نحوها بأعينها الدامعة، فمسحت "ولاء" برفقٍ على وجنتها و قد رقّت لها:
- خلاص بقى عشان خاطري، هي عايزة وقت تفكر مع نفسها، متضغطيش عليها
في النهاية رضخت لها، أحنت نظراتها و هي تسحب ذراعها منها، و راحت تخطو بخطى بطيئة منهكة مبتعدة لتنفرد بنفسها في إحدى غرف المنزل.. تسير و كأنها تجرجر أذيال حسرتها، تابعتها "ولاء" بنظراتها، ثم نظرت نحو الباب بانزعاج، و اضطرت هي الأخرى أن تدحر مستندة بكفها للحائط في محاولة منها لبلوغ الأريكة، عقب أن فقدت عُكازها، فتقوست شفتيها فتورًا و هي تدمدم مستنكرة:
- كان فيها إيه لو كنت سيبتيني آخد العكاز يعني؟.. دا انت بايخ
..........................................................
حينما كان هو يناولها قدح قهوتها، ضمّت القدح بكفيها، ثم ناولته له مجددًا و هي تتمتم في شئٍ من الجديّة:
- لسه سخن.. سيبه شوية
سحبهُ منها مجددًا و هو ينظر نحوها من طرفهِ، ثم أسنده على المنضدة أمامهما و هو يغمغم:
- الترابيزة أهي.. مشلولة و لا إيه؟
عبست ملامحها و هي تنظر نحوهُ باغتياظٍ تام، فسحب هو قدح قهوتهِ و هو يجلس جوارها، فـ رنت إليه بنظرة مطولة معاتبة، و أشارت بكفها و هي تردد في استهجان:
- انت متعرفش تقول كلمة واحدة حلوة!
- تـؤ
و بسط ذراعهُ ليستند بها على حافة ظهر الأريكة من خلفهما، ثم رفع ساقًا فوق الأخرى و هو ينظر أمامهُ و قد شرد قليلًا، أطلقت "يارا" زفيرًا حارًا من صدرها، ثم ارتكنت برأسها إلى جانب صدرهِ الأيسر و قد ارتخت تعبيراتها التي اشتدّت قليلًا مدمدمة:
- خلاص.. مش عايزة أضيع اللحظة دي على خناقة تافهة
و شرعت تمسح بأناملها برفقٍ على صدر قميصهِ الأسود الرياضيّ، تذكرت أنها تستند لكتفهِ المصاب، فرفعت نظراتها إليه و هي تهمّ بالاعتدال مغمغمة:
- مضايقاك؟.. كتفك واجعك؟
- تـؤ
تنفست بارتياح و هي تعاود الاستناد برأسها على صدرهِ مطبقة جفونها، مسدت برفقٍ على صدره فنظر نحوها من طرفهِ، سألتهُ "يارا" عقب أن أطلقت سراح زفيرًا مطولًا من صدرها:
- لسه متضايق مني؟
فردد بصلابة دون الالتفات نحوها:
- ليه؟
ارتفعت أنظارها نحوهُ لتشمل جانب وجهه الأيسر مدمدمة:
- انت عارف ليه كويس
حينها انحرفت أنظارهِ نحوها و قد تقوست شفتيه بفتور، ثم دمدم بشئ من السخط:
- عشان أقنعتيني إن ابني مات؟ و لا عشان هربتي من المستشفى؟
و نظر أمامه مجددًا و هو يردد بلا اكتراثٍ ظاهريّ:
- لا و لا يهمك.. عادي!
فتنهدت في ضيق و قد قطبت جبينها، ثم غمغمت و هي تقوس شفتيها:
- يامن بجد بقى متزعلش مني، أنا عارفة إني غلطانة
فدمدم ساخرًا من تكرار جزئية من الماضي بصوتٍ خفيض غير مسموع و هو ينظر نحو قدحهِ:
- ما أبوكي عملها قبل كده!
تقلصت المسافة ما بين حاجبيه و هي ترمق حركة شفتيه الغليظتين، فتمتمت في فضولٍ جاد:
- بتقول إيـه؟
رفع "يامن" القدح إلى شفتيه و قبل أن يشرع في ارتشاف قهوتهِ كان يردد بسخط:
- بكُح
زفرت في انزعاج ثم رددت و هي تهمّ بالنهوض:
- خلاص أنا آسفة.. قايمة
تفاجأت بهِ يحرك ذراعهِ عن ظهر الأريكة ليلفهُ حول عنقها مجتذبًا لها إليهِ مثبتًا لرأسها على صدرهِ بشئ من العنف و هو يردد استنكارًا عقب أن أبعد القهوة عن شفتيهِ:
- رايحة فيـن؟
فلكزتهُ برفقٍ في صدره و هي تعنفهُ بعبوس:
- بالراحة شوية
فقال بلهجتهِ الصارمة:
- طب اهدي
فنظرت نحوهُ بتمقط مردفة بحنق:
- أمرك
- خـلاص
راقبتهُ من طرفها عقب أن استكانت على صدره و هو يستأنف ارتشاف قهوتهِ لثوانٍ، و ما إن تجرع قدحهُ مال قليلًا ليتركه أعلى المنضدة، و عاد يعتدل في جلستهِ، نظر نحو هاتفها بضيقٍ و قد تضجر مما تستمع إليهِ، امتد إبهام ذراعهِ المحيط لعنقها ليحكّ ذقنهِ بظهرهِ و هو يردد باحتجاج:
- مش هتقفلي البتاع دا بقى!
 ارتخت ملامحها، و انجلى العبوس عنها، و هي تطبق جفونها مستمتعة بالصوت القويّ الصادح عن هاتفها، ثم فرقت جفونها لتنظر لجانب وجههِ، و بلا تردد.. إحتضنت بكفها وجنتهِ اليمنى ممرة إبهامها عليها و هي تدمدم لإغاظتهِ:
- ياما الحُب نده على قلبي، مردش على قلبي جواب، ياما الشوق.. حاول يحايلني، و أقوله ابعد يا عذاب!
تقوست شفتيهِ متأففًا، ثم دمدم من بين شفتيهِ بصوتٍ مسموع:
- على آخر الزمن.. جت اللي تسمّع يامن الصياد أم كلثوم
- طول عمري بقـول.. لا أنا قد الشوق، و ليالي الشوق، و لا قلبي قد عذابهُ.. عذابهُ.. عذابه
فـ أبدى "يامن" اعتراضهِ و هو يشير بكفه لهاتفها:
- ما تقفلي اللي مشغلاه من السنة اللي فاتت دا، أنا صدعت
فـ أمرتهُ بلهجة حازمة:
- شـشـش.. اسمع
فنظر أمامه حائدًا عنها و هو يتمتم في سخط:
- ما أنا سامع و ساكت من سنة.. أوف
و ظلّا هكذا.. حتى انتهت الأغنية و أعقبتها أخرى صدحت عن الهاتف لم ترددها "يارا" من خلف المغنيّة:
- إذا رجعت بجنّ.. و إن تركتك بشقى، لا قدرانة فل، و لا قدرانة ابقى
حينها انعطفت نظراتهِ نحوها ليجدها تنظر نحوهُ بعمقٍ شديد، بوميضٍ التمع في مقلتيها الشغوفتين بهِ، لحظاتٍ من الصمت السائد بينهما، و لكن النظرات قصّت حكائة لم تحكها الألسُن، لم تقوَ "يارا" عن الحيود عن عينيهِ الخضراوين، و للمرة الأولى أبدت إعجابها بهما و ابتسامة ناعمة ترتسم على محياها:
- تعرف إني بحب عينيك أوي!
فـ أشاح من فوره بوجههِ عنها و هو يحكّ مجددًا بظهر إبهامهِ ذقنه، فرددت و هي تضحك في دلال:
- و بحب حركتك دي كمان
فنظر نحو هاتفها مواريًا ارتباكهِ ببراعة قاصدًا توالي الأغانيّ:
- انتي قصداها و لا إيه؟
جلجلت صوت ضحكاتها الأنثوية ثم أتبعتها بقولها من بينهنّ:
- تـؤ.. هي جاية كده و الله
ارتفع حاجبهُ الأيسر استنكارًا و هو ينظر نحوها و ابتسامة عابثة ترتسم على محياهُ، ثم ردد:
- و الله!
- و الله!.. قدر
ابتسامتهِ تكاد تخطف قلبها الذي شعرت به سيثب من فرط دقّاته، فـ أتبعت كلماتها و هي تمسح على وجنتهِ مجددًا بـ:
- زي حكايتنا!
فحاد مجددًا و تلك الابتسامة لا تفتؤ تحتلّ وجههُ:
- حرف النون تاني.. ماشي
فرددت بنبرة ذات مغزى مشيرة بعينيها:
- يمكن تفهم حاجة كده!
مال "يامن" قليلًا ليسحب قدحها و قد غابت ابتسامتهِ ليتصلب وجههُ من جديد، و ناولهُ لها و هو يردد بحزم متهربًا من مقصدها:
- امسكي.. برد
فسحبتهُ من بين أناملهِ و هي تعتدل قليلًا دون أن يحرر عنقها، و ضمت الفنجان و هي تدمدم بلهجة ذات مغزى:
- مبردش.. معتقدش إن معاك ممكن يبرد!
انحرفت نظراته نحوها و هو يمنحها نظرة مطولة، حينما كانت هي ترتشف منهُ بضع رشفات، و فور أن شعرت بمذاقه على أطراف شفتيها كانت تدمدم معربة عن إعجابها و قد استساغت مذاقه الفريد:
- امممم.. روعة بجد، أنا بعمله مقرف
انعقد حاجبيّ "يامن" و هو يسألها مشيرًا بعينيهِ:
- من امتى بتحبي القهوة
- من ساعة ما سيبتني في روما و أنا مبشربش غيرها.. و سادة كمان
ضاقت عيناهُ الثاقبتين فتابعت و هي تمنحه نظرة مطولة هادئة رافقها قولها الشغوف:
- كانت بتفكرني بيك..أو الأصح كانت بتحسسني إنك موجود معايا، لأني مكنتش بنساك لثانية
تنهد بحرارة لافظًا أنفاسهِ الحارة و هو يشيح بوجهه عنها، فسألتهُ بفضولٍ جاد عقب أن تجرّعت قليلًا منه:
- كنت فين يا يامن؟.. بجد؟ و إيه اللي كان مخليك ترجع بالشكل ده
تقوس ثغره للجانب قليلًا متذكرًا تلك اللحظات، ثم دمدم ملطًا عيونه على نقطة في الفراغ:
- حادثة
تركت قدحها من فورها و قد توسعت عيناها في قلقٍ بزغ على وجهها و هي تدمدم بذهولٍ مرتاع:
- إيـه!.. حادثة
أومأ "يامن" بحركة لم تكد تلحظ، فسألتهُ "يارا" من فورها و قد أصابتها اللهفة المرتاعة:
- إزاي؟.. حادثة إزاي يعني؟
فـ أشار بعينيهِ الجافتين مرددًا بفتور:
- متشغليش بالك.. خلاص عدت
و لكن لم يرتح لها بالًا، فرددت مستنكرة و هي تعقد حاجبيها في ارتعاد:
- يعني كان ممكن أخسرك؟.. بالسهولة دي؟ كان ممكن مترجعليش
شعر و كأنها ستعود لحالتها الغريبة تلك، و التي فَطِن إلى أنها نتيجة تغير الهرمونات أو ما شابه في فترة الحمل، فلفّ ذراعه حول عنقها ليسند رأسها على صدره و هو يدمدم:
- خلاص.. أنا هنا
استكانت على صدره، و لكن لم تسكن روحها، تهدجت أنفاسها و هي تهتف بعدم استيعاب مُضيقة عينيها:
- كان ممكن مشوفكش تاني!.. من غير حتى ما أودعك أو...
فـ أردف "يامن" و هو يرفع ذقنها إليه ليجبرها على النظر لعينيهِ الصارمتين:
- يارا.. أنا هنا، خـلاص
رمشت عدة مرات و هي تحرر أسر زفيرًا ملتهبًا من صدرها، ثم تشبثت بقميصهِ و هي تردد مُطالبة بتعهد:
- اوعدني انك مش هتسيبني تاني
فحاد ببصره عنها و هو يردد ملاحظًا ذلك التغير المريب بها:
- مش ملاحظة انك متغيرة شوية
فأحكم قبضتها على قميصه و هي تردد بلهجة أشدّ:
- يامن.. اوعدني
ران بنظرة مطولة لعينيها، فرددت و هي تعقد حاجبيها باستهجان:
- يامن انت لو سيبتني أنا ممكن أموت، مقدرش أتنفس من غيرك
- أوعـدك
و كأن بتعهدهِ لها قد تسلل بعض الارتياح لداخلها، فعادت تستكين على صدره و هي تدمدم قابضة جفونها:
- عظيم
فشرع يعبث بكف ذراعهِ الملتف حول عنقها بخصلاتها القصيرة و هو ينظر أمامهُ في شرود و:
- حبيتك بالصيف.. حبيتك بالشتي، نطرتك بالصيف.. نطرتك بالشتي
امتعض وجههُ و هو يشير نحو الهاتف متحفزًا و قد أُثيرت حفيظته تمامًا:
- اقفلي البتاع ده بدل ما أكسره فوق دماغك
فلم تمنع نفسها من الضحك الناعم و هي ترفع نظراتها إليهِ، و راحت تدمدم متابعة و الابتسامة المغرية تحتلّ محياها:
- ملقانا يا حبيبي.. خلف الصيف و خلف الشتى، خلف الصيف.. و خلف الشتي
فبزغ صوتهُ الضجر:
- استغفر الله العظيم
فضمت وجنتهِ اليمنى مجددًا و هي تردد من بين ضحكاتها:
- اسكت بقى.. اسكت شوية
و أخفضت كفها لتمسح على صدرهِ المعضل و قد رقّت نبرتها:
- أنا ما صدقت وصلنا لهنا، خليك هادي شوية
و عمّ الصمت إلا من صوت الأغاني القديمة التي لا تحبّ "يارا" سواها، على الرغم من ضجرهِ و نفاذ صبره تمامًا، إلا أنه صمت في النهاية راضخًا لرغبتها، و ما هي إلا دقائق و كانت تدمدم معربة عن الخوف الذي يستبدّ بتفكيرها المنهك:
- أنا خايفة أوي.. خايفة الفرحة متكملش و تعدي بسرعة
انحرفت نظراتهِ نحوها فرفعت نظراتها إليه و هي تتابع و قد احتلّ الوجل وجهها:
- خايفة تسيبني تاني و ...
فـ اقتطع كلماتها المتشائمة بقبلة اختطفها من شفتيها أذابت قلبها المنصهر، قبلة طالت فاستعرت عمقها، أطبقت جفونها مستسمتعة بتلك اللحظات النادرة التي تقضيها برفقتهِ، و قد استعادت قبلاتهِ العاطفية التي أغدق بها عليها منذ قليل، حتى ابتعد "يامن" قليلًا لينتقل بشفاههِ بجبينها مُلصقًا لهما فيهِ متلمسًا بشرتها الرقيقة، و حالما ابتعد دمدم و هو يضم جسدها قليلًا إليه مستندًا بذقنه إلى رأسها:
- أنا هنا.. متفكريش في حاجة
أومأت صاغرة لهُ و هي تمرغ وجهها في صدره مرهفة السمع لنبضاتهِ، و لم تمانع في الاعتراف لهُ:
- تعرف إنك كنت واحشني أوي.. كنت حاسة إني ضيعتك، إنك رجعت أسوأ من الأول
فلم تلقَ منهُ ردًا أو استجابة، تغضن جبينها و هي ترفع نظراتها المغتاظة إليهِ لتجده يحدق في نقطة في الفراغ غير عابئًا، فـ اجتزّت "يارا" أسنانها و هي تدمدم مكررة:
- بقولك وحشتني.. مفيش رد؟
فانحرفت نظراتهِ الحانقة نحوها و هو يسألها بنفاذ صبر:
- أسقف يعني؟.. أعمل إيه!
بسطت كفها بجوار وجنتهِ و هي تردد باغتياظٍ ظاهري:
- اسكـت.. اسكت خالص، مش عايزاك تتكلم
و عادت تدفن وجهها في صدره مستشعرة الدفء المنبعث منهُ و هي تغمغم بصوتٍ خفيض غير مسموع:
- مدمر اللحظات الرومانسية
راقب "يامن" حركة شفاهها، فتقلصت المسافة بين حاجبيه و هو يسألها في حزمٍ:
- بتقولي حاجة
فارتفع حاجبيها لإغاظتهِ مكررة كلمتهِ قبل قليل:
- بكُـح.. يا بيبي!
و تأملت جبينهِ المُجعد إثر تقطيبه الدائم، فاحتلت ابتسامة مغرية ثغرها و هي تتذكر لقبهِ، ثم ضاقت عيناها و هي تمسح على بطنها مدمدمة بفضولٍ شغوف:
- يامن
فهمهم دون إجابتها، اتسعت ابتسامتها الحالمة و هي تسألهُ:
- تفتكر هيكون ولد و لا بنت؟
و كأنهُ لم يكن يتوقع أن يكون الطفل غير الصبيّ، فنظر نحوها مرددًا بعفوية:
"الفصل الثامن و السبعون"
سحب قدح قهوتهِ الرابعة التي يرتشفها على التوالي عن حاجز المطبخ الرخاميّ، و هو يعيد محاولة الاتصال بها علّها تجيبهُ فيستمع لصوتها مرة واحدة فقط تشفي سقمهِ، و تريح نفسه الملتاعة في قلقٍ تخطى الحدّ عليها عقب أن رأى ذلك الحلم المريب، و لكنها لم تجب أيضًا، زفر "مايكل" و هو يردد متوسلًا أثناء مضيهِ نحو غرفته ليستأنف ما يفعل:
please.. please rahief, just this time
ارتكنت "رهيف" برأسها للوسادة عقب أن أخذت حمامًا دافئًا يزيل عنها إنهاك السفر و الأحداث المتوالية عليها، و قد أصرّت أن تبرح المشفى خلال الليل، و أديت فريضتها، أخيرًا تمكنت من ارتداء ملابس بيتيّة مريحة عكس ما كانت ترتديهِ طوال الفترة الماضية من أثواب طويلة تحسبًا لأي طارئ، و تركت خصلاتها الكستنائيّة متناثرة بجوارها، أطبقت جفونها شاعرة ببعض الارتخاء يتسلل إليها، سحبت هاتفها منتوية قراءة أذكار النوم عبر التطبيق المُثبت خلالهُ، و لكن تغضن جبينها في ضيق و هي تستقيم في جلستها على الفراش و قد أصابها السئم من اتصالاتهِ المتكررة.. حتى فعّلت الوضع الصامت للهاتف لئلا يصلها الرنين المتواصل، زفرت "رهيف" أنفاسها المختنقة، و لكي تقطع عليه طريقًا آخر لمحاولة الوصول إليها، شرعت تبعثُ إليه برسالة نصيّة أخيرة كتعبيرًا عن امتنانها لما فعل:
- " مايكل.. أنا بجد بشكرك جدًا على كل اللي عملته، يعني.. قريبي كان عايز يقتلني و انت اللي أصلًا متعرفنيش لحقتني منه، أنا كويسة.. شكرًا على سؤالك لو عايز تسأل، و متعتذرش لو عايز تعتذر، لأن محدش كان هيعمل أكتر من اللي عملته، أجبرتك تسيب بيتك، و وافقت إنك متدخلوش و انا جواه، وعدتني إنك هترجع لي ماما و رجعتها، و إنك هتساعدني و ساعدتني، و أنا أخيرًا في بيتي بعد ما كنت يئست إني أرجعله تاني ، أنا بشكرك مرة تانية حقيقي، و كمان لو ممكن تشكر بشمهندس "فارس"، أنا آسفة.. مش هقدر أرد لأن مفيش حاجة لسه تجبرني أعمل ده، لكن مش عايزاك تعتبر ده لأني متضايقة من حاجة عملتها، إنت معملتش غير كل خير معايا، لكن مش شايفة إني في سبب لأي مكالمة تجمع بيننا تاني"
و أعقبت رسالتها برسالة أخرى:
- " ياريت متردش على الرسالة.. لأني مش هرد تاني"
ترك "مايكل" قدح قهوتهِ أعلى سطح مكتبه و هو يمر بعينيه على الكلمات، أُصيب بالقنوط.. بالآسى، ودّ لو لم يكن الوداع هكذا، بذلك الجفاء، ودّ فقط لو كان بإمكانهِ الاستماع لصوتها للمرة التي لربما تكون الأخيرة، اعتلى مقعده و هو يقبض جفونهُ تاركًا الهاتف جانبًا، تلمس موضع قلبهُ الذي شعر بوخزة حادة تقتحمه، عاد يفتح جفونهُ لينظر خلال قدحهِ، تقوست شفتيه بابتسامة باهتة حملت ما يفيض من الحسرة و هو يتذكر مواقف عِدة بينهم، خاصة حينما كان مرتدي عباءة الشرير في حكايتها، و اليوم.. اتضح إليه أنهُ سقط في الشرك الذي لم يُنصب، و لا يعلم كيف أو متى، و لكنه تيقن، لقد شغفهُ حبها، و صار قلبه يتشبع بها، و كأن غرفهِ الأربع لا تتوطّنها إلا هي، حنينهُ إليها تعدى حنينهِ لأي شخص، و وجد نفسه يتذكر.. كل تفصيلة منها، كل حركة تصدر عنها، كل ردّ فعل، كل كلمة تفوهت بها، كل ابتسامة احتضنت ثغرها، كل عبرة توقفت على أعتاب جفونها، و كل دمعة اتخذت من وجنتيها مستودعًا لها، كل لحظة جمعتهما، أول لقاء.. أول حديث، أول نظرة، أول صِدام.
 إنها قويّة، تتحلى بالإيمان الذي يكفي ليُكسبها قوة و بأسًا تختزنهُ في داخلها، خلف شخصيتها الوديعة، صامدة.. و كأن ثقتها في ربّها تكفى لتشعرها بأن ما حدث سيمضى، و مضى.. كُلٌ مضى، و مضى هو أيضًا برفقتهِ من حياتها، و انقضت لحظاتٍ لن تعاد مجددًا.
خطأها الوحيد كان أنها وثقت.. أفرطت بالثقة بالبشر، فلقت ما لم تتوقعهُ، و لم تتمنى حدوثه، و لكنها ستجمع فُتاتها، يثق في ذلك.. فـ هي "رهيف" بالنهاية، سقطتها ما هي إلا تمهيد لنهوضٍ جديد، أشدّ بأسًا و قوة.
و عاد يسحب هاتفهِ، و قد احتلّ الإصرار تقاسيمهِ، و انبثقت نظرة مصممة في عينيهِ، ومضت عيناه و هو يتأهب في جلسته، و شرع ينقر على الأزرار متحديّا رغبتها، مرسلًا رسالة أخيرة تحمل:
-  “I love you!”
تنفست "رهيف" بارتياح حين مرّت الدقائق و لم تجد منهُ ردّا، همّت بإغلاق تطبيق الرسائل.. و لكنها توقفت باللحظة الأخيرة حين وجدت منهُ رسالة تحمل كلمة واحدة:
- "وداعًا"!
واحدة فقط.. تمنى "مايكل" أن ترى كمّ المشاعر الكامنة بها، تمنى "مايكل" أن تترجمها كما ودّ لو يبعثها، كما قالها ذهنهُ و باح بها قلبهُ و عجزت أنامله عن إرسالها،  لفظ أنفاسهِ المنهكة و هو يترك هاتفهِ جانبًا، أبعد بطول ذراعه قدح قهوته، و راح يستند بساعده على المكتب و ترك جبينهُ عليهِ و هو يُطلق سراح زفيرًا ملتهبًا محاولًا التخفيف عن ذلك السعير المتقد الذي ضجّ بهِ صدرهُ.
..............................................................
الأعين شاخصة، و الأنفاس المترقبة قد انحبست في الصدور، كلٌ لا يستمع سوى لنبضاتهِ المتلاحقة، و صوت الطلقة الذي صدر عن سلاح "هُوليا"، و ما هي إلا ثوانٍ و كان الوسط يعجّ بالضوضاء و الأصوات المحتجة لدى فعلتها تلك، أوفض "جاسم" يهرع لدى ربّ عملهِ محاولًا افتدائه و لكن بيد أنه تأخر، و راح "فارس" يعنفها و هو يهددها بسلاحهِ مستهجنًا:
- مش هسيبك.. فاهمة؟ مش هسيبــك!
 عبست "هوليا" و زمجرت بعنفٍ و هي تضرب الأرض بكعب حذائها بعصبية، حين رأتهُ يستأنف سيرهُ غير عابئًا بما تفعل، و غير عابئًا بتلك الرصاصة التي اخترقت كُم سترتهِ و من أسفلها قميصهِ حتى خدشتهُ جرحًا سطحيًا أثناء مرورها بمحاذاة عضده المعضل دون أن تستقر في جسدهِ في تصويبٍ خاطئ من "هوليا"، استقل "يامن" السيارة بوجهٍ متصلب و كأن شيئًا لم يكن، و راح يضغط على دواسة البنزين عقب أن أدار المحرك، و رحل مقتادًا سيارتهِ مخلفًا خلفه كومة من التراب، فـ صرخت "هوليا" في من حولها لتأمرهم:
-Onu takip et, kızımı geri al, hadi
- " اتبعوه.. استعيدوا ابنتي، هيّا"
لم تنتبه "هوليا" إلى "جاسم" الذي دار من خلفها حتى تمكن منها، بساعدهِ أحاط عنقها و سلط فوهة سلاحهِ على رأسها و هو يردد بصوتٍ آمر حين أبصر رجالها يُوشكون على استقلال سياراتهم، فصاح بصوتٍ جهوريّ:
- اللي هيتحرك هخلص عليها
توقف جميع رجال "هوليا" و هُم يشهرون الأسلحة في وجههِ تلك المرة من جديد، فردد "جاسم" يأمرها بـ:
- نزلي سلاحـك، سامعة، نزلي سلاحـك
أومأت "هوليا" و قد بلغ فؤادها حنجرتها من فرط خوفها من تلك الحركة المباغتة، أرخت قبضتها عن سلاحها فسقط منها أرضًا، رمشت عدة مرات بعدم استيعاب لما يحدث، و ما إن حاولت أن تحرر ساعده عن عنقها كان يهدر بها باحتدام:
- حركة زيادة و تتشاهدي على روحك
و أشار لرجالها و:
- قوليلهم ينزلوا السلاح
اصطكت أسنانها ببعضها البعض، فزمت شفتيها و قد شحب لون وجهها، و لكنهُ هدر بها مجددًا:
- سمعتي؟.. خليهم ينزلوا السلاح
أومأت "هُوليا" مجددًا و هي تشير إليهم بكفها في حركةٍ أدركوها، و من فورهم اضطروا إرخاء أكفهم عن أسلحتهم، فسقطت الأسلحة تباعًا، أومأ "فارس" مستحسنًا فعلتهِ، فـ أشار إليهِ "جاسم" و هو يردد بلهجة صلبة:
- اتفضل يا باشا.. متقلقش أنا هسيطر على الوضع
فـ أبدى "فارس" إعجابهِ لما يفعل و سلاحه لا يزال في وجه "هوليا":
- كان عنده حق يامن ميثقش غير فيك يا جاسم
أومأ "جاسم" معربًا عن امتنانهِ الجاف، فـ انسحب "فارس" موجهًا نظراته الحاقدة نحو "هوليا"، استقل "فارس" مقعد السائق حينما كانت "حبيبة تردد بهلع بزغ على وجهها:
- بـ..بنتي يا فارس
أومأ "فارس" و هو ينظر نحوها من خلال المرآة أثناء إدارتهِ المحرك:
- متخافيش يا حبيبة.. بنتك هترجع لك
و أتبع قولهُ بسؤالهِ الجاد:
- انتو كويسين؟
تفاجأ بتلك الضغطة الحانية التي احتوت كتفهِ بعفوية تزامنًا مع صوتها العذب الذي شابهُ القلق المتجلي على صفحة وجهها و هي تقابل سؤالهِ بسؤال:
- انت كويس؟
انحرفت نظراتهِ نحوها عبر المرآة فرنا إليها بنظرة مُطولة عميقة، جادة متجمدة في ظاهرها، و في باطنها حملت إليها مشاعرًا مُختلطة، في النهاية حمحم و هو يفرّ بنظراته منها مرددًا بلهجة صلدة:
- كويس
..................................................................
تهدجت أنفاسها و هي تختلس النظرات نحوهُ من طرفها، ثم حمحمت قبل أن تسأله بفضولٍ جاد:
- انت.. مش خايف
تقوست شفتا "يامن" إزدراء و هو يناظرها من طرفهِ مدمدمًا باستهجان:
- خايـف!
أومأت قبل أن تردد مبررة قولها بارتباك طفيف:
- أيوة.. انت.. كان ممكن تموت
فـ أجابها بعجرفة قاتمة دون أن يوليها نظرة منه:
- معلش.. أصلك متعرفينيش كويس!
ارتفع حاجبيها متعجبة، ثم رددت و هي تسألهُ في ذهول:
- يعني إيه يعني؟.. مفيش حد مش بيخاف
و زمت شفتيها و هي تضيق عينيها، ثم سألت بتحدي شمل نبرتها:
- انت مثلًا..عمرك ما خفت من حاجة
و أول ما انبثق أمام عينيهِ كانت زوجتهِ المتأرجح جسدها فى الهواء، و هو لا يقوى على جذبها بسبب إصابة كتفهِ، و بعُسر بالغ تمكن من سحبها إليه عقب أن كادت تفلت كفها منه.. مشاهدًا عدة توالت على عينيهِ كانت هي بطلتها، أشاح بوجههِ قليلًا، ثم عاد يرتكز ببصره على الزجاج الأماميّ، حينما كانت "يورا" تردد بنبرة جادة عقب أن اقتنصت مشاعره:
- أكيد عندك نقطة ضعف.. حاجة بتخاف منها، مفيش حد مش بيخاف
انحرفت نظرات "يامن" المستعرة نحوها و هو يردد بضجر:
- تعرفي تسكتي؟ و لا أسكتك بطريقتي؟
ارتفع ذقنها في شموخٍ و هي تعقد ساعديها أمام صدرها مرددة بلهجة متحدية:
- طالما منكرتش.. يبقى أكيد ليك نقطة ضعف
حاد ببصرهِ عنها لينظر أمامهُ، و في حركةٍ مباغتة منهُ ضغط على المكابح فارتد جسد "يورا" للأمام و اصطدمت بالصندوق الصغير الداخلي ، تأوهت "يورا" متألمة و هي تعتدل في جلستها، فاصطدمت بنظراتهِ الملتهبة و هو يميل عليها قليلًا لتكن نبرتهِ أشدّ وقعًا عليها:
- اسمعي يا بت انتي.. انتي صوتك بينرفزني، و أنا لو اتغابيت عليكي صدقيني هتزعلي، فـ الأحسن مسمعش صوتك الحلو دا تاني، عظيـــم؟
نهج صدرها علوًا و هبوطًا و هي تتراجع للخلف لتبتعد عنه مسافة كافية ملتصقة بظهرها للباب، حتى شملها "يامن" بازدراء انبثق من نظراته، ثم اعتدل في جلستهِ مجددًا و هو يضغط على دواسة البنزين، حينما كانت "يورا" تجاهد للملمة شتاتها المبعثر، ازدردت ريقها و هي تنظر نحوهُ باغتياظٍ محاولة التقاط أنفاسها، ثم غمغمت بكلماتٍ تنم عن سخطها و هي تعتدل في جلستها، حاولت حِفظ ملاء وجهها الذي أراقهُ توًا، فنفضت خصلاتها للخلف و هي تنظر نحوهُ شزرًا من طرفها:
- طب على فكرة انت انسان مش طبيعي و مُعقّد.. هه!
تقوست شفتيه سخطًا و هو ينفخ متأففًا و:
- استغفر الله العظيم
فنفضت "يورا" خصلاتها للخلف و هي تردد متباهية:
- دكتورة يورا عمرها ما تغلط
تقلصت تلك المسافة بين حاجبيهِ و هو ينظر نحوها من طرفه، رغمًا عنهُ تذكر حلمها الأول الذي أفضت بهِ إليه، أن تصبح طبيبة.. زفر مبديًا انزعاجهِ و هو ينظر نحوها شزرًا، فتابعت بغطرسة:
- إيه؟.. متفاجئ
و بسطت كفها و كأنهُ سيصافحها و هي تقدم نفسها إليهِ بعجرفة:
- يورا الحديدي.. دكتورة نفسية، صحيح لسه مخلصتش دراسة، لكـن لسه سنة وحدة و أشتغل
أصرف "يامن" بصره عنها في جفاءٍ دون أن يعبأ بها، فلوت "يورا" شفتيها في ضيقٍ و هي تسحب كفها إليها متأففة، حتى استمعت لرنين هاتفهِ أعلى التابلوه، فراحت تسحبه بلا تردد و هي تنظر في شاشته، ثم تقوست شفتيها سخطًا و هي تتمتم تهكمًا:
- الغبية مراتك.. مش هترد؟
تفاجأت بهِ يجتذب هاتفهُ في عنفٍ مفرط من بين يديها و هو يردد بشراسة من بين أسنانهِ المطبقة و قد تحول وجهه لجذوة مُستعرة من النيران:
- شـشـش، إياكي.. إياكي بس تفكري تغلطي فيها مرة تانية، انتي مشوفتيش وشي التاني.. و أحسن لكن متشوفيهوش
رمشت عدة مرات غير مستوعبة التحول الجذريّ الذي لاح على وجهه و نظراته نحوها، للحظة خشت حين تذكرت أنهُ قاتلًا، خشت أن يودي بحياتها في لحظة عابرة، فابتلعت ريقها في ارتباكٍ متوتر، شملها "يامن" بنظراتهِ الموقدة، ثم عاد ينظر في الطريق أمامه و هو يحدق في شاشة هاتفهِ، فعّل الوضع الصمات لهُ، ثم دسه في جيبهِ، و عاد يتابع الطريق أمامهِ، فلم تصمت أيضًا، بل أنها اغتاظت من نفسها لدى شعورها بالخوف الذي لا تحبذهُ، فنطقت بضيق و هي تحاول استجماع قواها الخائرة:
- انت موديني على فين كدا؟.. أنا عايزة ماما
و كأنها ذرة غبار عبرت و مضت من أمامهِ، فاغتاظت أكثر.. تأهبت في جلستها و قد تحفزت خلاياها للثأر منهُ، فرددت بصوتٍ ارتفع فجأة باستهجان:
- انت يا بني آدم.. موديني على فيـن
فنطق بصرامة من بين أسنانهِ:
- شـشـش.. صوتك ميعلاش
رمشت "يورا" عدة مرات بعدم استيعاب لتجبّره المفرط، ثم رددت باستنكار اختلط بذهولها و هي تشيح بكفها:
- انت خاطفني و مش عايزني أتكلم.. إنت مش طبيعي بجد
و أيضًا لا استجابة منهُ، فشعرت و كأنها كلبًا ينبح و هو يتجاهلهُ.. و لدى ذلك الشعور شعرت نيرانها تتقد بداخلها، فتكورت أناملها و هي تضرب التابلوه بعنفٍ مزمجرة بغضب أثناء ترديدها المُصمم:
Tamam? - أنا عايزة أرجع لماما..
زفرت "يورا" بحنق بالغ، ثم صاحت بهِ بلغتها الأصلية دون انتباه مُستهجنة فعلتهِ:
- O kadına geri dönmek istemiyorum, gerçek annemi istiyorum
" أنا لا أريد العودة لتلك المرأة، أريد والدتي الحقيقيّة"
يئست من أن تلقَ ردًا منهُ، فتشنجت في جلستها أكثر أثناء اعتدالها و هي تردد استهجانًا مقوسة شفتيها بفتور:
- توبة استغفرُ الله
...................................................................
أدار "فارس" المفتاح في الثقب، و فتح الباب على مصراعيهِ، تنحى جانبًا ليسمح لـ " حبيبة" بالمرور، و من خلفها توقف "ولاء" جواره قليلًا أثناء عبورها و هي تنظر نحوهُ مضيقة عينيها، فانبعجت شفتيه بابتسامة صغيرة و هو يُردد:
- Ladies First
افتر ثغرها عن ابتسامة عذبة و هي تخطو من جوارهِ منتشية من ذلك الشعور، توقفت في منتصف المنزل و هي تشملهُ بانبهارٍ تجلى في عينيها، في حين سألت "حبيبة" التي خطت نحو أقرب أريكة لتجلس عليها:
- ده المفروض بدل بيتنا؟
أومأ "فارس" و هو يخطو نحوها ليُسلمها المفتاح، ثم ردد و هو يتوسط خصره بكفيه متجولًا بنظراتهِ في المنزل مجيبًا:
- أيوة.. لو في حاجة محتاجين تتغير فـ أنا معاكم
فراحت "ولاء" تسأله و هي تقبل عليهِ بلمعان ضوى في عينيها شغفًا:
- هو انت اللي عامله؟
انبعجت شفتيهِ بابتسامة و هو يردد مشيرًا بعينيهِ:
- يعني.. بيقول عليا مهندس؟
توسعت ابتسامتها و هي تتلفت حولها لتسأله بفضول لطيف:
- يعني انت اللي مختار الديكور، و الدهان، و كل دا؟
أومأ "فارس" و قد تلاشت ابتسامتهِ لتحل الجدية محلها:
- أيوة.. لو في حاجة حابة تغيريها قوليلي
هز رأسها بالسلب من فورها و هي تتمتم بحبور:
- لأ طبعًا.. كل حاجة جميلة أوي
و شاكستهُ قليلًا بنظراتها:
- مكنتش عارفة إنك مزوق أوي كدا
فسألها "فارس" ساخرًا:
- و دي أعتبرها إهانة و لا إطراء؟
ففعت كتفيها و هي تردد مقوسة شفتيها المزينتين بابتسامتها:
- زي ما تحب
فصدح صوت "حبيبة" من خلفهما و هي تتابع بأعين ضائقة ما يحدث أمام ناظريها:
- و ليه يا ابني تعبت نفسك؟.. كان ممكن نفضل في بيت والدتي
حمحم "فارس" و هو يلتفت نحوها، فبادرت "ولاء" بإجابتها المُحتجة خوفًا من أن تضيع تلك الفرصة و قد تلاشت بسمتها تمامًا:
- بيت نينة! أكيد بتهزري يا ماما، ده فاضله شوية و يتهدّ فوقنا
زجرتها "حبيبة" بنظرة حامية، لم يعجبها إطلاقًا ذلك التآلف العجيب بينهما، و كأن جميع خلافاتهما معًا قد انفضّت و انقضت، فراحت تردد بصرامة:
- بس يا ولاء.. متدخليش انتي
تجلى الانزعاج على وجهها و قد شعرت بأنها تتعمد التقليل من شأنها، أحيا ذلك شعورًا مقيتًا لديها، نظر "فارس" نحوها و قد التقط شعورًا يحاول دفنهُ بداخلها، و ما إن همّت "ولاء" بالصراخ الشرس في وجهها كان "فارس" يردد بهدوء:
- سيبيها يا حبيبة تقول رأيها.. هي مقالتش حاجة غلط
و راح يُذكرها بصلة القرابة التي تجمعهما:
- مش معقول بنت عم يامن و فارس الصياد يقعدوا في بيت زي ده يا حبيبة.. و لا إيه؟
انحرفت نظرات "حبيبة" المعترضة نحوهُ، و احتجّت على قولهِ بضراوة:
- أيوة يا ابني.. لكن محدش يعرف الحقيقة دي و ...
فقال "فارس" غير عابئًا:
- و هنا محدش يعرفكم.. سيبك من الناس و كلامها
و نظر نحو "ولاء" نظرة ذات مغزى و هو يردد متابعًا بشغفٍ شمل نبرتهُ:
- الحقيقة الوحيدة إن ولاء جزء مني
حينها فقط حادت "ولاء" بنظراتها نحوهُ و قد ارتخت تعبيراتها المشدودة، فاستدرك "فارس" الأمر سريعًا و هو يحمحم:
- احم.. أقصد جزء مننا أنا و يامن، نفس الدم.. حتى لو محدش اعترف بدا!
بهِما أمرًا لم تستسيغهُ كونهما لا يربطهما رابطًا رسميًا، أمرًا أفصحت عنهُ النظرات التي لم تحِد.. التي تعلقت ببعضها، و تلك الومضة المُلتمعة في أعينهما، و تلك الابتسامة التي التوى ثغر "ولاء" بها و قد نجح ببراعة في امتصاص غضبها الأهوج، فَطِنت إلى بذورًا تشرع في النمو بقلبيهما، بـذور الحب، و هي أدرى الخلق بتلك البذور القاسية، أُصيبت بالنقم على ذلك، تنبّهت "حبيبة" إلى "فارس" الذي أردف متداركًا و هو يحيد ببصره عنها:
- اقعدي يا ولاء.. أكيد تعبانة
عبست قليلًا لدى إدّكارها ما فقدت، فراحت تُثربه لفقدانها عكازها:
- مش لاقية حاجة تسندني.. عاجبك كدا
فمنحها ابتسامة ذات مغزى و هو يردد بعبث خافت:
- طب ما أنا موجود.. أسند؟
فكانت متهورة قليلًا و هي تردد آمرة إياه:
- اسنـد، ما أنا مش عارفة امشي
فتفاجأت بذراع والدتها التي نهضت من فورها لتحيط ظهرها و هي تردد بابتسامة سمجة:
- كتر خيرك يا ابني، تعالي يا ولاء اقعدي
و ازدجتها للأريكة.. تغضن جبين "فارس" متعجبًا تبدل والدتها للصرامة المفاجأة ، و لكنه لم يلقِ بالًا للأمر، حتى أجلستها "حبيبة"، و جلست جوارها،  أنغض "فارس" رأسه، ثم استدار موليّا ظهرهُ لهما، أخرج هاتفه و حاول الاتصال بهِ مجددًا، و لكنهُ لم يجبه، فمسح على خصلاتهِ و قد شغل أمرهِ تفكيره و استحوذ عليه، تقوست شفتيه و هو يبعث إليهِ برسالة نصيّة يعلم جيدًا أنه لن يجيبه عليها:
- انت فين يا يامن؟
...................................................................
صرخت.. و احتجّت.. و اعترضت.. و هاجت.. و ماجت..
و لكنهُ گرجلٍ آلي أزمع على تنفيذ أمرًا ما، لم يبالي بها، و لم يعبأ بصراخها المرتفع و هي ترى نفسها تُزدجى و كأنها تُساق إلى الموت، خرج "يامن" من المصعد ساحبًا لها خلفه و هي تُعصف يمينًا و يسارًا و قدميها تتعثران و هي تحاول مجاراتهِ، حتى بلغ "يامن" باب الشقة، و ما إن همّ بالطرق كان "فارس" يفتح الباب و قد وصلهُ صوت صراخها المرتفع، ارتفع حاجبيهِ في تعجب لما تفتعلهُ الفتاة و ما راحت تلقيه من كلماتٍ ساخطة لم يفقه معناها، و فور أن رأتهُ راحت تستغيث بهِ و وجهها قد تشبع بالحمرة الفاقعة:
Lotfan- خلي الهمجي دا يسيبني 
 فردد "فارس" محاولًا التهدئة من روعها:
- يا عم يامن بالراحة شوية
ازدجرهُ "يامن" بنظرة من عينيهِ جعلتهُ ينفخ متأففًا، ثم أفسح له الطريق ليعبر و هو يجتذبها من خلفهِ، و ما إن ولج "يامن" دفع بجسدها بعنفٍ للداخل لتضحى أمامهُ، فاعتدلت في وقفتها محاولة موازنة جسدها بصعوبة و هي تلعنهُ:
-Lanet olsun seni vahşi!
- "لعنك الله أيها الهمجيّ!"
- بنتي!
أتاها صوتها التلهف من خلفها فنظرت "يورا" نحوهُ باستهجان واضح و قد امتزج بالتوعد، لم تستدر، راحت تحاول العبور من جواره و هي تقول باحتدام آمرة إياه بـ:
- حاسب.. عديني، أنا عايزة ماما هوليا
اجتذب "يامن" عضدها إليه و هو ينظر نحوها بنذير غير مبشر، فرّق أسنانه المطبقة بصعوبة ليردد محذرًا إياها:
- اسمعي يا بت انتي.. أنا جبت آخري معاكي
و أشار لـ "حبيبة" من خلفها مرددًا بلهجة حاسمة حالكة:
- أمك.. هي حبيبة، اقتنعتي أو لأ، دي مش مشكلتي
فصرخت بهِ معترضة:
- لــأ.. ماما هي هوليا و بس
غرز أناملهُ أكثر في عضدها فشعرت بهِ يخترق لحمها، و تزامن مع سؤالهِ الناقم:
- و عملت إيه هي عشان متعترفيش بيها؟.. انطقي
فنطقت من بين أسنانها بتشنج:
- انت عمرك ما هتفهمني، لأنك مجربتش آآ.....
فقاطعها بلهجة مُشتدة و هو يشملها بازدراء:
- الأسطوانة بتاعتك دي حفظتها، سيبك منها.. لأنك مش هتخرجي من هنا، عظيـم؟
كُلما حاولت "حبيبة" التدخل كانت "ولاء" لها بالمرصاد، عمدت إلى أن تتركها علّها تستوعب الحقيقة، فتشبثت بـ "حبيبة" التي همست لها متوسلة:
- حاسبي يا ولاء.. حاسبي هو كدا بيكرهها فيا أكتر
فشددت "ولاء" من ضمها لكفها و هي تجبرها على الجلوس جوارها مجددًا مرددًا بلهجة جادة:
- سيبيها يا ماما، يمكن تفهم إنك أمها
حملقت "يورا" بعينيهِ مباشرة، استشعرت ذلك اللهب المنبعث منهما، فحادت قليلًا عنهُ، لم تحنِ بصرها، و لكنها لم ترفع نظراتها لعينيهِ، ترقرقت العبرات في مقلتيها و قد شعرت بقواها تخور حين ردد "يامن" بنبرة حالكة و هو يُشدد على كلامتهِ و هو مشيرًا بسبابتهِ للخلف:
- أمـك.. كان ذنبها الوحيد.. إنها وثقت في الشخص الغلط، وثقت في أبوكي اللي ادعي إنك ميتة و سرقك منها، دا الذنب الوحيد اللي ارتكبتهُ في حياتها
رنت إليهِ "حبيبة" بنظرة مطولة مكلومة، و شعور الندم ينهش يتروٍ من روحها، أطرقت "حبيبة" محررة زفيرًا حارًا صاحبتهُ آهة متألمة، فربتت "ولاء" على كفها محاولة التخفيف عنها و قد تقوست شفتيها في ألمٍ بالغ مُتحسر.
انبجست العبرات من مقلتيها على الرغم من محاولاتها الجمّة و التي باءت بالفشل لكبحهم، ارتفعت حينها أنظارها لعينيه مباشرة و هي تردد باستهجان نبع من نبرتها:
- و أنا كان ذنبي إيه؟.. كان ذنبي لما أكتشف إن كل حياتي عبارة عن كذبة؟ كان ذنبي إيه لما اكتشف إن الست اللي باقيالي مش أمي؟.. كان ذنبي إيـه؟
تقوست شفتيهِ و هو يدمدم بجفاء:
- ذنبك إنك مش قادرة تقتنعي بالحقيقة و لا قادرة تستوعبيها
فـ أيدتهُ بالرأي و هي ترفع كتفيها مُعلنة عما يجيش في صدرها:
- أيوة.. أيوة مش قادرة أقتنع و لا أستوعب، دي حاجة مقدرش أستوعبها بين يوم و ليلة
أرخى "يامن" قبضته عنها ليدس كفيه بجيبيهِ فراحت تتابع بلهجة ارتعشت متأثرة بتلك الغصة التي اقتحمت حلقها:
- أنا مش عايزة غيرها.. هي الوحيدة اللي بتفهمني، محدش هيفهمني غيرها، محدش هيحبني زيها، مش هقدر أتقبل واحدة تانية
فكانت نبرتهِ حازمة و كأنهُ لزامًا عليها:
- هتتقبلي.. هتتقبلي برضاكي أو غصب عنك، دي حاجة مش هخيرك فيها
نظرت لعينيهِ مباشرة بتشوشٍ أصاب رؤيتها و هي تطبق أسنانها في غيظٍ، ثم دمدمت مستعيدة شتاتها:
- و انت مين أصلًا عشان تجبرني على حاجة زي دي
خطى "يامن" خطوة نحوها مُقلصًا المسافة بينهما، ثم أشار بعينيهِ مدمدمًا بتعجرفٍ قاتم:
- عايزة تعرفي أنا مين؟.. يامن الصياد، عايزة تعرفي مين يامن الصياد؟
و صمت هنيهة ليُضيف مُعقبًا باستهجان و هو يقوس شفتيهِ:
- فأنا بنصحك.. أحسن لك متعرفينيش
و استدار لينصرف تاركًا لها متيبسة محلها، تحملق به بأعين توسعت في اغتياظٍ مذهول من تلك الشخصية العجيبة، و ما إن خرج "يامن" من المنزل صفق الباب بعنفٍ خلفه، فهمّت "يورا" بالحراك متداركة أمرها و هي تردد بتشنج:
- لأ.. خرجني من هنا أنا مش هفضل هنا ثانية واحدة، أنا عايزة هوليا
توقف "فارس" أمامها ليسد عليها الطريق و هو يهدر بها رادعًا إياها:
- ما تهمدي بقى في إيه؟
توقفت و هي تعقد حاجبيها لترمقهُ بتمقط تام، ثم نطقت باستنكار:
- و انت مين انت كمان
فابتسم ابتسامة سمجة مُتعمدة و هو يردد:
- ابن عمـك
زفرت "يورا" متأففة و قد أطبق الضيق على أضلعها، فهمت بدفعهِ لتمر من جوارهِ و هي تقول ناقمة:
- اسمع يا اسمك ايه انت.. أنا بجد مش فايقة للهزار السخيف دا
تصلّب وجه "فارس" و هو يردد بلهجة مُحتدة:
- دا مش هزار.. دا حقيقة يا.. يورا حسين الصياد!
هزت "يورا" رأسها بالسلب عقب أن رنت إليه بنظرة مشدوهة أتبعتها بقولها المستنكر:
- مجنون.. انت أكيد مجنون!
فصرّحت "ولاء" من خلفها و قد امتعضت من مجرد تبادلهما الحديث:
- لأ مش مجنون.. و بابا بنفسه قايل دا قبل ما يموت
التفتت "يورا" نحوها فاغرة شفتيها بعدم استيعاب،  و سريعًا ما انعقد حاجبيها و تقلصت تعبيراتها و هي تدمدم استهجانًا:
- ne? "ماذا؟"
................................................................
أول ما فعلهُ فور أن دلف خلع سترتهِ و قميصه و ظلّ فقط بالقميص الأسود ذو الحمالات التي أظهرت عضلات ذراعيهِ البارزين، المنزل غارقٌ في الظلمة التي ابتلعتهُ، تركهما جانبًا و راح يبحث عنها بعينيهِ،  تجهم وجههُ حين وجدها تستلقى على الأريكة في غرفة المعيشة، فخطا نحوها.. انحنى قليلً عليها و هو يتأملها عن كثبٍ، و لكنهُ تفاجأ بها تنتفض فجأة معتدلة في جلستها و هي تتنفس بمعدلٍ سريع، تغضن جبينه و هو يحاول تهدئتها فمسح برفقٍ على وجهها و:
- شـشـش.. إهدي
تلمست كفهُ و أعينها مسلطة على نقطة في الفراغ، و كأنها تتيقن من أنه حقيقة ملموسة أمامها، و فور أن شعرت بلمسه على كفها انعطفت نظراتها نحوه، رددت و قد انجست العبرات من عينيها المتوسعتين بنبرة اختلطت بتهدج أنفاسها المريب:
- يـ..يامن.. انت.. هنا؟
أومأ بحركة لا تكاد تُلحظ و هو يدمدم بلهجة صلبة:
- انا هنا.. إهدي
بسطت ذراعيها لتتشبث بعنقهِ دافنة وجهها في تجويفهِ و صدرها ينهج علوًا و هبوطًا في هلعٍ، قبضت جفونها بقوة و هي تتمتم محاولة إقناع نفسها:
- انت هنا.. انت هنا، مفيش حاجة حصلت
وجد نفسه رغمًا عنه يربت على كتفها في محاولة منه لتهدئة روعها، أطبق جفونه في سئم، كلما حاول أن يبعدها عنه يجدها تخترق حصونه مجددًا، كلما حاول.. يفشل، لا يمكن بدونها، جزءً هي لا يتجزأ منه إن ابتعد عنها لدقيقة يستشعر ألمًا يعصف بفؤادهِ و كأن هنالك ما ينقصهُ، و كأن هنالك ما هو ثمين على نفسهِ فقده، أيامهِ المنصرمة التي قضاها من دونها كانت أشدّ وطأة على روحهِ المعذبة.
انحنى قليلًا حتى جثى على ركبتيهِ أمامها ليكن إليها أقرب، فلم تتخلّ عنه بعد أو تحاول إفلاتهِ، ظلت مُحكمة ذراعيها حول عنقه، و كأنها تخشى إن ابتعد يبتعد للأبد، و لم تشعر بنفسها سوى و هي تنفجر بالبكاء الحارق، ذرت عيناها الدموع وفرقتها على وجنتيها كأنهار متدفقة و هي تتشبث أكثر بهِ، فرقت جفنيها قليلًا لتهتف متسائلة بجزع:
- ليه بيحصل كل دا معانا؟
أطلق سراح زفيرًا ملتهبًا ضجّ صدره بهِ، ثم شرع يمسد برفقٍ على خصلاتها، فسألتهُ مجددًا بلهجة امتزجت مع شهقاتها المتألمة:
- ليه بيحصل كدا معانا يا يامن.. ليه مش قادرين نعيش؟
و ابتعد قليلًا لتستند بجبينها على جبينهِ و قد تلمست أناملها تشوّه ظهرهِ فاستشعرت لهيب فؤادها يتفاقم، غمغمت متسائلة و هي تمسح على وجنتهِ المشوهة أيضًا مرددة باستهجان:
- ليه بيحصل معاك كل دا؟.. ليه اتكتب عليك العذاب بالشكل البشع دا؟
و تعلت شهقاتها متابعة من بينهنّ بتحسر:
- ليـه؟
تلمس "يامن" بإحدى فيه كفها الذي تركتهُ أعلى تلك الندبة البارزة في وجههِ، قرب راحتها من ثغرهِ ليطبع بشفتيه عليه قبلة مطولة أعقبها بهمسهِ الخافت:
- خلاص.. خلاص اهدي
ابتعدت "يارا" قليلًا لترمقه من بين عينيها التي برزت شعيراتهما الدموية، أفلتت كفها من قبضته لتضم وجهه بكلا كفيها مدمدمة بقهر:
-أنا عايزاك تعيش.. أنا مش عايزاك تتألم تاني، مش عايزاك تتعذب تاني، مش عايزاك تسيبني يا يامن
فضمّ إحدى كفيها ليمرر إبهامهِ على ظهرها دون أن تزيلهُ عن وجنتهِ مرددًا بصوتٍ خافت:
- مش هسيبك.. أنا معاكي
هزت رأسها بالسلب و هي تردد معترضة بمرارة نبعت من نبرتها و شهقاتها التي صدرت عنها:
- انت هتحرمني منه.. هتاخده مني، أنا مش عايزاك تاخده مني، مش عايزاك تبعدني عنك، مش عايـزة
و ألقت برأسها على كتفهِ عقب أن أزاحت كفيها عن وجنتيهِ لتطوق ظهرهِ الصلب بذراعيها:
- أنا عايزاك و عايزاه، مش عايزة حد فيكم يسيبني، متحرمنيش منكم يا يامن.. أرجـوك!
أومأ "يامن" و هو يمسد بكفه على خصلاتها مدمدمًا بـ:
- مش هسيبك.. متخافيش مش هسيبك
مرّغت وجهها في كتفهِ و هي تردد باعتراض:
- كـذاب، هتسيبني و هتحرمني منه
أبعدها قليلًا عنه ليتبين له وجهها، فردد معربًا لها عن عدم قدرته على تركها:
- مش هسيبك يا يارا، مقدرش أسيبك!
تقوست شفتيها للأسفل و هي تحني بصرها عنه، حاولت التحكم في بكائها، فانفلتت منها شهقة عابرة ما بين الحين و الآخر، نزح "يامن" عبراتها التي فاض وجهها بها، أثارتهُ ارتعاشة شفتيها المتقوستين، فلم يتمكن من كبح جماحهِ عنها عقب ما لاقاهُ من وصبٍ في غيابها، أطبق بشفتيهِ على شفتيها في شوقٍ مُستعرّ و بحركة مباغتة منه فاجأتها، في البداية اعترضت، و حاولت الفكاك منهُ، و لكنه ابتلع اعتراضاتها و هو يُعمّق من قبلتهِ، حتى استجابت لذلك التيار الجارف من المشاعر الجيّاشة الذي داهمها في تلك اللحظة تحديدًا، و قد شعرت للحظة أنها وجدتهُ.. استعادته أخيرًا و قد فقدته منذ فترة طويلة، و استبدّ بها الحنين الجارف.
.............................................................
نظرت من خلال زجاج نافذتها للخارج و هي مستندة بكتفها إليهِ في قنوطٍ تام امتزج بالغيظ المستبد بها، خاصةً حينما تذكرت أن ذلك " الهمجيّ" كما تسميه قد اختطف منها هاتفها، فباتت وسيلتها للوصول لـ "هوليا" معدومة، منذ أن خرج كلا "يامن" و في أعقابهِ" فارس" و هي على تلك الحالة، لم تكد تستوعب حقيقة أن والدتها لم تكن والدتها التي أنجبتها، فـ إذ بها تصطدم بواقع أشدّ قسوة.. اعتراف والدها قبل موتهِ بأنه ينتمي لعائلة "الصياد" و ليس عائلة "الحديدي" كما كانت تعتقد دومًا.
حياةً.. غُلفت بالأكاذيب، و هي لا تزال تحاول استيعاب كلًا منهم، و لكنها أُنهكت بالفعل، و ودّت لو تفر بنفسها بعيدًا عن الجميع، أن تنأى بنفسها عن من يحيطها، و كأنها لا تدري ما هي.. أو من هي، تائهةٌ هي للغاية، و لكنها تتظاهر بالصلابة رغم ذلك.
أطبقت "يورا" جفونها حين استمعت لصوت "حبيبة" المتوسل يأتيها من الخارج:
- يا بنتي أرجوكي.. أرجوك يخليني أتكلم معاكي، اديني فرصة
فصرخت "يورا" على حين غرة:
- لأ.. قولتلك سيبيني في حالي
تنهدت "ولاء" بضيقٍ أطبق على صدرها، ثم سحبت والدتها من ذراعها و هي تردد بانزعاج:
- سيبيها يا ماما دلوقتي بقى.. سيبيها شوية لوحدها
نظرت "حبيبة" نحوها بأعينها الدامعة، فمسحت "ولاء" برفقٍ على وجنتها و قد رقّت لها:
- خلاص بقى عشان خاطري، هي عايزة وقت تفكر مع نفسها، متضغطيش عليها
في النهاية رضخت لها، أحنت نظراتها و هي تسحب ذراعها منها، و راحت تخطو بخطى بطيئة منهكة مبتعدة لتنفرد بنفسها في إحدى غرف المنزل.. تسير و كأنها تجرجر أذيال حسرتها، تابعتها "ولاء" بنظراتها، ثم نظرت نحو الباب بانزعاج، و اضطرت هي الأخرى أن تدحر مستندة بكفها للحائط في محاولة منها لبلوغ الأريكة، عقب أن فقدت عُكازها، فتقوست شفتيها فتورًا و هي تدمدم مستنكرة:
- كان فيها إيه لو كنت سيبتيني آخد العكاز يعني؟.. دا انت بايخ
..........................................................
حينما كان هو يناولها قدح قهوتها، ضمّت القدح بكفيها، ثم ناولته له مجددًا و هي تتمتم في شئٍ من الجديّة:
- لسه سخن.. سيبه شوية
سحبهُ منها مجددًا و هو ينظر نحوها من طرفهِ، ثم أسنده على المنضدة أمامهما و هو يغمغم:
- الترابيزة أهي.. مشلولة و لا إيه؟
عبست ملامحها و هي تنظر نحوهُ باغتياظٍ تام، فسحب هو قدح قهوتهِ و هو يجلس جوارها، فـ رنت إليه بنظرة مطولة معاتبة، و أشارت بكفها و هي تردد في استهجان:
- انت متعرفش تقول كلمة واحدة حلوة!
- تـؤ
و بسط ذراعهُ ليستند بها على حافة ظهر الأريكة من خلفهما، ثم رفع ساقًا فوق الأخرى و هو ينظر أمامهُ و قد شرد قليلًا، أطلقت "يارا" زفيرًا حارًا من صدرها، ثم ارتكنت برأسها إلى جانب صدرهِ الأيسر و قد ارتخت تعبيراتها التي اشتدّت قليلًا مدمدمة:
- خلاص.. مش عايزة أضيع اللحظة دي على خناقة تافهة
و شرعت تمسح بأناملها برفقٍ على صدر قميصهِ الأسود الرياضيّ، تذكرت أنها تستند لكتفهِ المصاب، فرفعت نظراتها إليه و هي تهمّ بالاعتدال مغمغمة:
- مضايقاك؟.. كتفك واجعك؟
- تـؤ
تنفست بارتياح و هي تعاود الاستناد برأسها على صدرهِ مطبقة جفونها، مسدت برفقٍ على صدره فنظر نحوها من طرفهِ، سألتهُ "يارا" عقب أن أطلقت سراح زفيرًا مطولًا من صدرها:
- لسه متضايق مني؟
فردد بصلابة دون الالتفات نحوها:
- ليه؟
ارتفعت أنظارها نحوهُ لتشمل جانب وجهه الأيسر مدمدمة:
- انت عارف ليه كويس
حينها انحرفت أنظارهِ نحوها و قد تقوست شفتيه بفتور، ثم دمدم بشئ من السخط:
- عشان أقنعتيني إن ابني مات؟ و لا عشان هربتي من المستشفى؟
و نظر أمامه مجددًا و هو يردد بلا اكتراثٍ ظاهريّ:
- لا و لا يهمك.. عادي!
فتنهدت في ضيق و قد قطبت جبينها، ثم غمغمت و هي تقوس شفتيها:
- يامن بجد بقى متزعلش مني، أنا عارفة إني غلطانة
فدمدم ساخرًا من تكرار جزئية من الماضي بصوتٍ خفيض غير مسموع و هو ينظر نحو قدحهِ:
- ما أبوكي عملها قبل كده!
تقلصت المسافة ما بين حاجبيه و هي ترمق حركة شفتيه الغليظتين، فتمتمت في فضولٍ جاد:
- بتقول إيـه؟
رفع "يامن" القدح إلى شفتيه و قبل أن يشرع في ارتشاف قهوتهِ كان يردد بسخط:
- بكُح
زفرت في انزعاج ثم رددت و هي تهمّ بالنهوض:
- خلاص أنا آسفة.. قايمة
تفاجأت بهِ يحرك ذراعهِ عن ظهر الأريكة ليلفهُ حول عنقها مجتذبًا لها إليهِ مثبتًا لرأسها على صدرهِ بشئ من العنف و هو يردد استنكارًا عقب أن أبعد القهوة عن شفتيهِ:
- رايحة فيـن؟
فلكزتهُ برفقٍ في صدره و هي تعنفهُ بعبوس:
- بالراحة شوية
فقال بلهجتهِ الصارمة:
- طب اهدي
فنظرت نحوهُ بتمقط مردفة بحنق:
- أمرك
- خـلاص
راقبتهُ من طرفها عقب أن استكانت على صدره و هو يستأنف ارتشاف قهوتهِ لثوانٍ، و ما إن تجرع قدحهُ مال قليلًا ليتركه أعلى المنضدة، و عاد يعتدل في جلستهِ، نظر نحو هاتفها بضيقٍ و قد تضجر مما تستمع إليهِ، امتد إبهام ذراعهِ المحيط لعنقها ليحكّ ذقنهِ بظهرهِ و هو يردد باحتجاج:
- مش هتقفلي البتاع دا بقى!
 ارتخت ملامحها، و انجلى العبوس عنها، و هي تطبق جفونها مستمتعة بالصوت القويّ الصادح عن هاتفها، ثم فرقت جفونها لتنظر لجانب وجههِ، و بلا تردد.. إحتضنت بكفها وجنتهِ اليمنى ممرة إبهامها عليها و هي تدمدم لإغاظتهِ:
- ياما الحُب نده على قلبي، مردش على قلبي جواب، ياما الشوق.. حاول يحايلني، و أقوله ابعد يا عذاب!
تقوست شفتيهِ متأففًا، ثم دمدم من بين شفتيهِ بصوتٍ مسموع:
- على آخر الزمن.. جت اللي تسمّع يامن الصياد أم كلثوم
- طول عمري بقـول.. لا أنا قد الشوق، و ليالي الشوق، و لا قلبي قد عذابهُ.. عذابهُ.. عذابه
فـ أبدى "يامن" اعتراضهِ و هو يشير بكفه لهاتفها:
- ما تقفلي اللي مشغلاه من السنة اللي فاتت دا، أنا صدعت
فـ أمرتهُ بلهجة حازمة:
- شـشـش.. اسمع
فنظر أمامه حائدًا عنها و هو يتمتم في سخط:
- ما أنا سامع و ساكت من سنة.. أوف
و ظلّا هكذا.. حتى انتهت الأغنية و أعقبتها أخرى صدحت عن الهاتف لم ترددها "يارا" من خلف المغنيّة:
- إذا رجعت بجنّ.. و إن تركتك بشقى، لا قدرانة فل، و لا قدرانة ابقى
حينها انعطفت نظراتهِ نحوها ليجدها تنظر نحوهُ بعمقٍ شديد، بوميضٍ التمع في مقلتيها الشغوفتين بهِ، لحظاتٍ من الصمت السائد بينهما، و لكن النظرات قصّت حكائة لم تحكها الألسُن، لم تقوَ "يارا" عن الحيود عن عينيهِ الخضراوين، و للمرة الأولى أبدت إعجابها بهما و ابتسامة ناعمة ترتسم على محياها:
- تعرف إني بحب عينيك أوي!
فـ أشاح من فوره بوجههِ عنها و هو يحكّ مجددًا بظهر إبهامهِ ذقنه، فرددت و هي تضحك في دلال:
- و بحب حركتك دي كمان
فنظر نحو هاتفها مواريًا ارتباكهِ ببراعة قاصدًا توالي الأغانيّ:
- انتي قصداها و لا إيه؟
جلجلت صوت ضحكاتها الأنثوية ثم أتبعتها بقولها من بينهنّ:
- تـؤ.. هي جاية كده و الله
ارتفع حاجبهُ الأيسر استنكارًا و هو ينظر نحوها و ابتسامة عابثة ترتسم على محياهُ، ثم ردد:
- و الله!
- و الله!.. قدر
ابتسامتهِ تكاد تخطف قلبها الذي شعرت به سيثب من فرط دقّاته، فـ أتبعت كلماتها و هي تمسح على وجنتهِ مجددًا بـ:
- زي حكايتنا!
فحاد مجددًا و تلك الابتسامة لا تفتؤ تحتلّ وجههُ:
- حرف النون تاني.. ماشي
فرددت بنبرة ذات مغزى مشيرة بعينيها:
- يمكن تفهم حاجة كده!
مال "يامن" قليلًا ليسحب قدحها و قد غابت ابتسامتهِ ليتصلب وجههُ من جديد، و ناولهُ لها و هو يردد بحزم متهربًا من مقصدها:
- امسكي.. برد
فسحبتهُ من بين أناملهِ و هي تعتدل قليلًا دون أن يحرر عنقها، و ضمت الفنجان و هي تدمدم بلهجة ذات مغزى:
- مبردش.. معتقدش إن معاك ممكن يبرد!
انحرفت نظراته نحوها و هو يمنحها نظرة مطولة، حينما كانت هي ترتشف منهُ بضع رشفات، و فور أن شعرت بمذاقه على أطراف شفتيها كانت تدمدم معربة عن إعجابها و قد استساغت مذاقه الفريد:
- امممم.. روعة بجد، أنا بعمله مقرف
انعقد حاجبيّ "يامن" و هو يسألها مشيرًا بعينيهِ:
- من امتى بتحبي القهوة
- من ساعة ما سيبتني في روما و أنا مبشربش غيرها.. و سادة كمان
ضاقت عيناهُ الثاقبتين فتابعت و هي تمنحه نظرة مطولة هادئة رافقها قولها الشغوف:
- كانت بتفكرني بيك..أو الأصح كانت بتحسسني إنك موجود معايا، لأني مكنتش بنساك لثانية
تنهد بحرارة لافظًا أنفاسهِ الحارة و هو يشيح بوجهه عنها، فسألتهُ بفضولٍ جاد عقب أن تجرّعت قليلًا منه:
- كنت فين يا يامن؟.. بجد؟ و إيه اللي كان مخليك ترجع بالشكل ده
تقوس ثغره للجانب قليلًا متذكرًا تلك اللحظات، ثم دمدم ملطًا عيونه على نقطة في الفراغ:
- حادثة
تركت قدحها من فورها و قد توسعت عيناها في قلقٍ بزغ على وجهها و هي تدمدم بذهولٍ مرتاع:
- إيـه!.. حادثة
أومأ "يامن" بحركة لم تكد تلحظ، فسألتهُ "يارا" من فورها و قد أصابتها اللهفة المرتاعة:
- إزاي؟.. حادثة إزاي يعني؟
فـ أشار بعينيهِ الجافتين مرددًا بفتور:
- متشغليش بالك.. خلاص عدت
و لكن لم يرتح لها بالًا، فرددت مستنكرة و هي تعقد حاجبيها في ارتعاد:
- يعني كان ممكن أخسرك؟.. بالسهولة دي؟ كان ممكن مترجعليش
شعر و كأنها ستعود لحالتها الغريبة تلك، و التي فَطِن إلى أنها نتيجة تغير الهرمونات أو ما شابه في فترة الحمل، فلفّ ذراعه حول عنقها ليسند رأسها على صدره و هو يدمدم:
- خلاص.. أنا هنا
استكانت على صدره، و لكن لم تسكن روحها، تهدجت أنفاسها و هي تهتف بعدم استيعاب مُضيقة عينيها:
- كان ممكن مشوفكش تاني!.. من غير حتى ما أودعك أو...
فـ أردف "يامن" و هو يرفع ذقنها إليه ليجبرها على النظر لعينيهِ الصارمتين:
- يارا.. أنا هنا، خـلاص
رمشت عدة مرات و هي تحرر أسر زفيرًا ملتهبًا من صدرها، ثم تشبثت بقميصهِ و هي تردد مُطالبة بتعهد:
- اوعدني انك مش هتسيبني تاني
فحاد ببصره عنها و هو يردد ملاحظًا ذلك التغير المريب بها:
- مش ملاحظة انك متغيرة شوية
فأحكم قبضتها على قميصه و هي تردد بلهجة أشدّ:
- يامن.. اوعدني
ران بنظرة مطولة لعينيها، فرددت و هي تعقد حاجبيها باستهجان:
- يامن انت لو سيبتني أنا ممكن أموت، مقدرش أتنفس من غيرك
- أوعـدك
و كأن بتعهدهِ لها قد تسلل بعض الارتياح لداخلها، فعادت تستكين على صدره و هي تدمدم قابضة جفونها:
- عظيم
فشرع يعبث بكف ذراعهِ الملتف حول عنقها بخصلاتها القصيرة و هو ينظر أمامهُ في شرود و:
- حبيتك بالصيف.. حبيتك بالشتي، نطرتك بالصيف.. نطرتك بالشتي
امتعض وجههُ و هو يشير نحو الهاتف متحفزًا و قد أُثيرت حفيظته تمامًا:
- اقفلي البتاع ده بدل ما أكسره فوق دماغك
فلم تمنع نفسها من الضحك الناعم و هي ترفع نظراتها إليهِ، و راحت تدمدم متابعة و الابتسامة المغرية تحتلّ محياها:
- ملقانا يا حبيبي.. خلف الصيف و خلف الشتى، خلف الصيف.. و خلف الشتي
فبزغ صوتهُ الضجر:
- استغفر الله العظيم
فضمت وجنتهِ اليمنى مجددًا و هي تردد من بين ضحكاتها:
- اسكت بقى.. اسكت شوية
و أخفضت كفها لتمسح على صدرهِ المعضل و قد رقّت نبرتها:
- أنا ما صدقت وصلنا لهنا، خليك هادي شوية
و عمّ الصمت إلا من صوت الأغاني القديمة التي لا تحبّ "يارا" سواها، على الرغم من ضجرهِ و نفاذ صبره تمامًا، إلا أنه صمت في النهاية راضخًا لرغبتها، و ما هي إلا دقائق و كانت تدمدم معربة عن الخوف الذي يستبدّ بتفكيرها المنهك:
- أنا خايفة أوي.. خايفة الفرحة متكملش و تعدي بسرعة
انحرفت نظراتهِ نحوها فرفعت نظراتها إليه و هي تتابع و قد احتلّ الوجل وجهها:
- خايفة تسيبني تاني و ...
فـ اقتطع كلماتها المتشائمة بقبلة اختطفها من شفتيها أذابت قلبها المنصهر، قبلة طالت فاستعرت عمقها، أطبقت جفونها مستسمتعة بتلك اللحظات النادرة التي تقضيها برفقتهِ، و قد استعادت قبلاتهِ العاطفية التي أغدق بها عليها منذ قليل، حتى ابتعد "يامن" قليلًا لينتقل بشفاههِ بجبينها مُلصقًا لهما فيهِ متلمسًا بشرتها الرقيقة، و حالما ابتعد دمدم و هو يضم جسدها قليلًا إليه مستندًا بذقنه إلى رأسها:
- أنا هنا.. متفكريش في حاجة
أومأت صاغرة لهُ و هي تمرغ وجهها في صدره مرهفة السمع لنبضاتهِ، و لم تمانع في الاعتراف لهُ:
- تعرف إنك كنت واحشني أوي.. كنت حاسة إني ضيعتك، إنك رجعت أسوأ من الأول
فلم تلقَ منهُ ردًا أو استجابة، تغضن جبينها و هي ترفع نظراتها المغتاظة إليهِ لتجده يحدق في نقطة في الفراغ غير عابئًا، فـ اجتزّت "يارا" أسنانها و هي تدمدم مكررة:
- بقولك وحشتني.. مفيش رد؟
فانحرفت نظراتهِ الحانقة نحوها و هو يسألها بنفاذ صبر:
- أسقف يعني؟.. أعمل إيه!
بسطت كفها بجوار وجنتهِ و هي تردد باغتياظٍ ظاهري:
- اسكـت.. اسكت خالص، مش عايزاك تتكلم
و عادت تدفن وجهها في صدره مستشعرة الدفء المنبعث منهُ و هي تغمغم بصوتٍ خفيض غير مسموع:
- مدمر اللحظات الرومانسية
راقب "يامن" حركة شفاهها، فتقلصت المسافة بين حاجبيه و هو يسألها في حزمٍ:
- بتقولي حاجة
فارتفع حاجبيها لإغاظتهِ مكررة كلمتهِ قبل قليل:
- بكُـح.. يا بيبي!
و تأملت جبينهِ المُجعد إثر تقطيبه الدائم، فاحتلت ابتسامة مغرية ثغرها و هي تتذكر لقبهِ، ثم ضاقت عيناها و هي تمسح على بطنها مدمدمة بفضولٍ شغوف:
- يامن
فهمهم دون إجابتها، اتسعت ابتسامتها الحالمة و هي تسألهُ:
- تفتكر هيكون ولد و لا بنت؟
و كأنهُ لم يكن يتوقع أن يكون الطفل غير الصبيّ، فنظر نحوها مرددًا بعفوية:
- هو ممكن يكون بنت!
فرددت بتهكم من بين ابتسامتها المتهكمة:
- هُـو!.. انت خلاص حكمت عليه إنه ولد
فـ أنغض رأسهُ و هو يشيح عنها و:
- يعني!
تنهدت بقنوطٍ و هي تردد في حنقٍ:
- عمركم ما هتتغيروا، لازم الرجالة بتحب الولاد أكتر
و راحت تتخيل طفلة تشبهها و تسترق لون عينيها، و غمغمت حالمة و هي تعبث ببصيلات ذقنهِ:
- فيها إيه لو كانت قمورة كيوت كده شبههي، تقولك يا بابا بصوت رقيق و لطيف
بدى أنهُ غير مرحبًا بتلك الفكرة و غير مقتنعًا بها حتى من نظرته المستنكرة التي منحها إياها، فسألتهُ و قد استشعرت خطبًا ما:
- طب اشمعنى عايز ولد
فـ أفضى إليها بما يجول في تفكيرهِ و هو يشير بكفه حائدًا برأسه عنها:
- يعني.. الولد تربيته غير البنت، البنت محتاجة معاملة خاصة
و حكّ بظهر إبهامهِ ذقنه مجددًا و هو يردد بتلعثمٍ طغى على نبرتهِ:
- يعني.. الولد حاجة و البنت حاجة
تقوست شفتيها و قد تفهمت ما يرمي إليهِ، و ما عجز لسانهُ عن قولهِ صراحة و دون تردد، فراحت تسألهُ بتأثر:
- يعني عشان كدا عايز ولد
تقوست شفتيه و هو يدمدم بفتور:
- يعني.. لو بنت هتكرهني!
و غمغم و هو يجفل بصره متمتمًا بخشونة:
- معاملتي ناشفة.. معتقدش هتحبني
فلم تمنع نفسها من الترديد المتأثر بلطف كلماتهِ من وجهة نظرها:
- يا ربـي!.. كيـوت أوي
فزجرها بنظرة حامية من طرفهِ و هو يعنفها:
- ما تلمي نفسك.. إيه كيوت دي، شايفاني واحدة صاحبتك
حمحمت ثم أتبعت ذلك بـ:
- احم.. مش قصدي يعني، أقصد إنك.. يعني.. بتفكر لبعيد أوي
و عبثت بأرنبة أنفهِ و هي تتمتم بابتسامة مناغشة:
- في واحدة تبقى عندها أب وسيم زيك كده متحبوش!
فتناول إصبعها و هو يردد مشيرًا لهُ:
- إيدك طالت
- بحجم بعـادك!
و صمتت هنيهة و هي تتأمل ابتسامتهِ البسيطة للغاية، و كأنها شبح ابتسامة فقط، فدمدمت مفصحة عن مطلبها:
- بيبي!
همهم و هو يفلت إصبعها، فرددت بلهجة اشتدت فجأة:
- ممكن أطلب منك طلب
بتاعك تقريبًا! free- اطلبي.. النهاردة الـ
فرقت نبرتها و هي تطلب منهُ بابتسامة حالمة:
- ممكن نبقى زي أي زوجين.. طبيعيين ننزل نشرب قهوة مع بعض و نتمشى شوية؟
صمت هنيهة و هو يحكّ بإبهامهِ ظهر ذقنه ثم ردد باقتضابٍ موجز:
- ممكن
فسألتهُ متشككة:
- ممكن؟
- ممكن
كادت ابتسامتها تصل لأذنيها و هي تضرب بمقدمة رأسها ذقنهِ في رفقٍ مدمدمة بعذوبة:
- عظيم
و تحمست و هي تهمّ بالنهوض من جوارهِ و هي تردد باستمتاع متلهف:
- هدخل أغير هدومي
ولكنهُ لم يفلتها بتلك البساطة، اجتبها مجددًا عبر ذراعهِ الذي لم يدحر عن عنقها و هو ينظر أمامهُ مرددًا:
- بالسهولة دي كده؟
تفهمت مقصدهُ على الفور، فاتسعت ابتسامتها الناعمة و هي تضم وجنتهُ مجبرة إياه على الالتفات إليهِ قليلًا، و لم تمانع في منحهِ قبلة خاطفة من شفتيها أتبعتها بقولها:
- لئيـم.. ثواني و جايالك
أفلتها أخيرًا، فنهضت من بين أحضانهِ لتخطو نحو الغرفة، اتسعت ابتسامة "يامن" حينئذ، و لكنها تلاشت من فورهِ و هو يردد بصوتٍ خشن:
- يارا
توقفت في منتصف الطريق قبل أن تبلغ الغرفة، فالتفت نصف التفاتة و هو يردد آمرًا إياها:
- متلبسيش اسود.. كفاية
عادت تخطو نحوهُ وقد انبثقت نظرة متأثرة في عينيها، حتى صارت خلفهُ مباشرة، مالت عليهِ قليلًا لتحيط عنقه بذراعيها مُلصقة خدها بخدهِ، ثم دمدمت بفتور:
- مين قالك إني بلبس اسود عشانه؟
و صمتت هنيهة ثم تابعت بصوتٍ خالجهُ النقم:
- أب زي ده ميستحقش إني أزعل عشانه أو ألبس له الأسود
و ابتعدت بوجنتها قليلًا عن صدغهِ لتردد و هي تبتسم في محاولة منها لدحر ألمها بعيدًا خاصة في تلك اللحظات المميزة، التي لربما لا تعاد مرتين:
- في واحد كده مغلبني.. لاقيت نفسي مش قادرة غير إني أشاركهُ في الأسود، اللي بقى أحلى لون عندي
اهتزت عضلة من جانب صدغهِ إثر إطباقه أسنانهِ لدى تلك المسألة، فنظر نحوها من طرفه و هو يردد من بين أسنانهِ المطبقة بحزم:
- البسي أبيض يا يارا.. اللون اللي يليق بيكي!
فسألته قاطبة جبينها بسؤال تدرك إجابتهِ جيدًا:
- هتلبسه؟
حُلّت عقدة حاجبيه و هو يرفع أحدهما استنكارًا و قد التفت نحوها، تلقّت هي إجابتهِ رغم عدم نطقهِ فرددت بابتسامة سمجة:
- تـؤ.. يبقى أنا كمان مش هلبسه
و قبل أن يهمّ بالحديث كانت تضع سبابتها على شفتيهِ مرددة من بين شفتيها في كلمة دائمٌ قولها لديهِ:
- شـشـش.. مش عايزة اعتراض
و ضاقت عيناها و هي تنقل نظراتها بين عينيهِ الخضراوين متأملة ذلك اللهيب الذي كاد يخترقها من بينهما، فناغشتهُ بقولها الخاطف:
- الله، إيه العيون دي.. تؤ، تؤ، تؤ، لازم تلبس عدسة سودا مينفعش كده! هحبك أكتر من كده إيـه!
و استقامت من فورها لتختطف الخطوات للخارج و هي تدندن بصوتٍ مرتفع ناعم:
- زي العسل على قلبي هـواك، زي العسل عل قلبي هواك، زي العسـل.. على قلبي هواه زي العسل
راقبها "يامن" بنظراته حتى تلاشت فعاد ينظر أمامهُ متعجبًا ذلك التغير المريب الذي طرأ عليها، و رغمًا عن أنفهِ كانت الابتسامة تحتلّ محياه و هو يدمدم بـ:
- مجنونة دي و لا إيه؟
و نظر نحو هاتفها و قد تجهم فجأة و انعقد حاجبيهِ مجددًا، فسحب الهاتف ليفصل الطاقة عنهُ نهائيًا و:
- كفايـة.. كفايـــة أوي كده
.......................................................................
 طريقة نومها كانت تتطلب وضعًا معينًا نظرًا لجبيرتها، و لكنها سئمتها و أرادت التقلب في الفراش، ففشلت.. نفخت "ولاء" في ضيقٍ، و كأن ذلك ما يثير حفيظتها، و لكن الحقيقة أن النوم خاصم جفنيها على الرغم من كون الساعة تعدّت السابعة صباحًا و لم تنعم ببضع دقائق من النوم، نهضت "ولاء" عن نومتها معتدلة في جلستها على الفراش و هي تسحب هاتفها، تفقّدت مجددًا تطبيق الرسائل النصيّة، و لكنها لم تجد رسالة مبعوثة منهُ، لم يكن يداهمها سلطان النوم خلال فترة مكوثها وحدها في روما سوى عقب أن تستمع لصوتهِ في اتصال هاتفيّ، أو تتلقى رسالة منهُ يطمأن بها لأحوالها، و لكن بيد أنهُ لم يعد ليفعل عقب أن أضحت في أحضان القاهرة و والدتها أيضًا، حتى استمعت لرنين الباب لأكثر من مرة، فعبست و تجهم وجهها و هي تتمتم في اغتياظ:
- ده مين اللي معندوش ريحة الدم ده اللي جاي دلوقتي!
 و نهضت بارحة الفراش بأكمله و هي لا تكفّ عن التذمر تاركة هاتفها جانبًا و قد أصابها القنوط الواجم، خرجت من الغرفة، فرنت بنظرة مطولة للباب، زفرت محتسبة المسافة التي ستضطر لخطوها، أنغضت "ولاء" رأسها في استنكار، ثم شرعت تخطو أولى خطواتها.. خطوة تليها أخرى حتى و أخيرًا.. بلغت الباب، و أدارت المقبض فتفاجأت بهِ يقف أمامها:
- انت!
منحها "فارس" نظرة حامية و هو يدمدم باغتياظ:
- هو أي حد يرن الجرس تفتحيله؟
أمسكت بالمقبض و هي تردد في استنكار:
- أقفله في وشك تاني يعني و لا أعمل إيه!
و نظر نحو كتفيها العاريين عقب أن بدلت ملابسها بأخرى تناسب الأجواء، فردد مستهجنًا و قد تلونت بشرته بالحمرة:
- يخربيتك.. إيه اللي لابساه دا!
نظرت ولاء" لملابسها ملقية نظرة غير عابئة عليهم، ثم رفعت نظراتها الباردة نحوهُ و هي تدمدم:
- مالها هدومي؟.. مالك يا فارس مش على بعضك كده ليه؟
- أنا بردو اللي مش على بعضي
و دفعها برفق من كتفها ليلج للداخل، حملقت عيناها غير مصدقة جرأتهِ المفرطة، و رددت استهجانًا من بين أسنانها المطبقة و هي تتلمس كتفها:
- فارس.. بطل تصرفاتك اللي مش محسوبة دي!
تقوست شفتيه استنكارًا و هو يبحث هنا و هناك، حتى حصل على مبتغاه، فغمغم بفتور:
- انتي خليتي فيا عقل!
و مضى نحو حجاب رأس والدتها التي تركتهُ أعلى الأريكة، رفعهُ نحوها و هو يسألها مضيقًا عينيهِ:
- إيه ده؟
ارتفع كتفيها و هي تردد بسلاسة:
- طرحة ماما يا فارس.. ليـه؟
خطى نحوها، و راح يطوق بها كتفيها و تشبث بحافتيها من الأمام و هو يشدد من إحكامهِ لها و:
- امسكي الزفتة دي، بعد كده متفتحيش الباب لأي حد
و شملها بنظراتهِ و:
- خاصة بمنظرك ده.. ماشي يا شاطرة؟
و أرخى كفيه عن الحجاب، فتشبثت "ولاء" بهِ بكلا كفيها و هي تنظر نحوهُ بغيظٍ شعّ من عينيها، زمجرت "ولاء" و هي تتمتم متوعدة:
- ماشي يا فارس.. ماشي
- ولاء
صدح صوت والدتها من الداخل، فانتفضت في وقفتها، توسعت عيناها و هي تدفعهُ من كتفهِ لتحثّه على الحراك و هي تأمرهُ بوجل:
- امشي.. امشي من هنا بسرعة قبل ما ماما تيجي
- انتي محسساني إني بسرق
خطى مُرغمًا للخارج، فنظر للعكاز الطبي الذي تركهُ أرضًا، انحنى "فارس" ليسحبهُ و ما إن استدار إليها وجدها تصفع الباب في وجههِ و قد بزغ صوتها من خلفهِ:
- أيوة يا ماما؟
فدنت منها "حبيبة" بأعينها الناعسة و هي تسأل قاطبة جبينها:
- في حد كان بيرن الجرس؟
أومأت "ولاء" و هي تردد محاولة إخفاء تلبكها:
- أيوة.. بتاع الزبالة، بس قولتله إن إحنا لسه جايين من شوية
ارتفع جانب ثغر" فارس" بابتسام متهكمة و هو يدمدم سخطًا:
- بتاع الزبالة!.. فارس الصياد على آخر الزمن أبقى بتاع زبالة، الله يحرقك!
ضاقت عينا "حبيبة" و هي تنظر نحوها بتشكك، دنت منها و هي تردد ملاحظة ارتباكها البادي على وجهها، و سألتها بنزق:
- أومال مالك.. وشك جايب ألوان كده ليه؟
و انحنت نظراتها نحو حجاب رأسها التي صنعتهُ كوشاح تُغطي به كتفيها:
- و لابسة طرحتي كده ليه؟
حمحمت "ولاء" و هي تلوى ثغرها بابتسامة مرتعشة محاولة التبرير:
- احم.. أصل يعني، بتاع الزبالة و كده، ملقتش حاجة أحطها عليا غير دي!
أومأ "حبيبة" بعدم اقتناع، و ما إن همت بطرح سؤال آخر، كانت "ولاء" تسألها:
- هو انتي مش كنتي نايمة و لا إيه؟
حررت أسر زفيرًا حارًا من صدرها، ثم أدبرتهُ بـ:
- أيوة.. بس صحيت فجأة
ضغطت "ولاء" على شفتها السفلى في ضيقٍ، ثم ربتت على كتفها و هي تحاول دحرها عن هنا:
- طب ما تدخلي تحاولي تنامي تاني؟.. احنا لسه بدري
رمقتها "حبيبة" بإمعان، ثم سألتها بجديّة:
- انتي منمتيش؟
فأجابتها "ولاء" كذبًا محالة التخلص من إلحاحها:
- لأ.. نمت شوية و صحيت بردو
فرددت "حبيبة" لتحثها على الحراك:
- طب و هتفضلي واقفة عندك.. تعالي أوصلك أوضتك
اعترضت "ولاء" على ذلك تمامًا:
- لأ لأ لأ.. استني
و قبل أن يبلغ كف "حبيبة" ذراع "ولاء" أرختهُ و هي تنظر نحوها نظرة ضائقة، فابتسمت "ولاء" بسماجة و هي تتلمس عنقها:
- قصدي يعني.. أصلي عطشانة و كده و مش جايلي نوم، سيبيني أنا يا ماما متشغليش بالك بيا
فتنهدت "حبيبة" بحرارة ثم عقّبت:
- براحتك
و برحت محلها لتنتقل لغرفتها موصدة الباب خلفها، تنفست "ولاء" الصعداء و هي تستدير مجددًا لتفتح الباب لهُ، فتفاجأت بتجهّم وجههِ البادي و هو يتمتم متوعدًا:
- زبالة!.. ماشي يا ولاء، افتكريها
فلم تتمالك نفسها، فـ إذ بها تنفجر ضاحكة ضحكات رقيقة مُكركرة، ثم أشارت إليهِ و هي تتخيلهُ عامل تنظيف مدمدمة من بين ضحكاتها:
- لايق عليك أوي يا فارس.. أوي
تبدد تجهمهِ و ارتخت تقاسيم وجهه و قد تراقص قلبهُ طربًا لابتهاجها بذلك الشكل الخاطف، تقوست شفتيه بابتسامة رجولية عذبة و هو يرمقها بلمعانٍ ضوى في مقلتيه، حاد ببصره عنها قابضًا جفونه للحظات مستعيدًا شُتاتهِ، ثم غمغم بازدراء و هو يناولها عكازها:
- بتضحكي!.. طب خليكي فاكراها عشان أردها
خبى صوت ضحكاتها و هي تتلقى عكازها، عقدت حاجبيها و قد تلاشت بسمتها و هي ترفع نظراتها إليهِ و سألته مشدوهة:
- إيه ده؟
فتنمّر عليها و هو يشير بعينيهِ الساخرتين:
- انتي شايفاه إيه؟
شملتهُ بضيق و هي تقوس شفتيها، ثم أخفضت نظراتها لتتأمل عكازها الجديد، تنهدت ببعض الراحة التي ضجّ صدرها بها، و أبدت لهُ إنهاكها من دونهِ:
- كويس.. مكنتش عارفة امشي من غيره خالص
- ولــــاء
انتفضت في وقفتها و هي تلتفت للخلف، و من فورها رددت باضطراب تجلى على وجهها، و أشارت إليهِ لتحثّه على الرحيل و هي تردد بتلهفٍ مرتبك:
- امشي يا فارس، بسرعة
ضاقت عينا "فارس" و هو ينظر للخلف و قد تشكك في أمرًا ما و دار بخلدهِ، شرد قليلًا حتى انتبه إلى "ولاء" التي دفعتهُ من كتفهِ بشئ من اللين و هي تردد من بين أسنانها بخفوت:
- امشي يا فارس بقولك.. ماما لو شافتنا مش هيحصل طيب
- ماشي
رددها "فارس" بقنوطٍ حانق و هو يرمقها بضيق، ثم ارتخت تعبيراته و هي يشير بعينيهِ لعكازها مرددًا بنبرة عابثة:
- طب مفيش حاجة عايزة تقوليها؟ ده انا سايب سريري و معرفتش أنام ثانية واحدة غير لما أطمن عليكي.. قصدي على عكازك
فانخفضت نظراتها نحو العكاز و هي تسأله بعدم فهم:
- ليه؟.. هو اتكسر منك في الطريق؟
تقوست شفتيهِ متأففًا ثم ردد بتهكمٍ حانق:
- اتكسر.. ما شاء الله عليكي، نبيهة
و امتد كفيهِ بعفوية لحجاب والدتها و هو يجتذبهُ بعنفٍ قبل أن يسقط عن كتفيها محذرًا إياها بشراسة:
- متفتحيش الباب لأي حد بعد كده.. و اظبطي البتاعة دي، أنا ماشي
و اختطف نظرة من عينيها، ثم انصرف و هو يدمدم بكلماتٍ ساخطة، تتبعتهُ "ولاء" حتى تلاشى من أمامها، و لكن ظلت نظراتها عالقة بطيفهِ، أطبقت جفونها مستمتعة بعبق عطرهِ الرجوليّ الفريد و ابتسامة ناعمة ترتسم على ثغرها، تلمست أطراف الحجاب و من ثم أخفضت نظراتها لتجدها مُعبّقة برائحتهِ، فاتسعت ابتسامتها المتيمة و هي تتنهد بحرارة، حتى أجفل جسدها مع صوت "حبيبة" من خلفها:
- هو في حد خبّط تاني؟
استدارت "ولاء" كالملسوعة نحوها و هي تحاول مواراة عكازها عن عينيها في تلك اللحظة تحديدًا خلفها، ثم لوت ثغرها بابتسامة مرتعشة و هي تردد بتلبّك:
- إيه؟.. آه، أصل.. الجيران.. الجيران اللي فوقينا غلطوا في الدور تقريبًا، مش عارفة
و تصنعت التثاؤب لتُظهر عدم اتّزان رأسها في تلك اللحظة، ثم دمدمت و هي تسحب عكازها بعفوية لتستند عليهِ:
- أنا فصلت خالص يا ماما حقيقي مش عارفة أنا بقول إيه.. داخلة أنام
اقتنصت "حبيبة" بنظراتها عكازها، فاستوقفتها قبل أن تستأنف سيرها بهِ:
- جيبتي العكاز ده منين؟
تيبست محلها و هي تعطف نظراتها نحوها، ارتكز بؤبؤيها على وجه والدتها الصارم فزمت شفتيها، ازدردت ريقها ثم رددت مُختلقة كذبة:
- ده.. أصل بعد ما فارس مشى رجع تاني يرجع لي العكاز، كان ناسيه في العربية
انعقد حاجبيّ "حبيبة" و هي ترمقها بعدم اقتناع، ثم قالت و هي تضم كفيها معًا:
- العكاز مكانش في العربية يا ولاء
و تحرك بؤبؤيها بعصبية نحو عكازها و هي تُعلّق بسخط:
- و متهيألي عكازك مكنش الشكل ده، و لا أنا غلطانة؟
فدمدمت بعصبيّة طفيفة:
- هو انتي هتعرفي عكازي أكتر مني يا ماما؟.. انتي أساسًا مش مركزة، أكيد مش هتعرفيه
و شرعت تستأنف خطاها للغرفة لائذة بالفرار منها، تابعت "حبيبة" ظعنها ببؤبؤيها المحتدمين، أنغضت رأسها في شجبٍ لما يحدث معها، أطلقت سراح تنهيدة قانطة أعقبتها بقولها البائس:
- مينفعش.. مينفعش يا ولاء، ده ابن كمال! مهمًا كان ده ابن كمال
حينما كانت هي في قمة ابتهاجها، أوصدت "ولاء" الباب من خلفها و هي تتمنى لو كان بإمكانها الرقصُ طربًا و هي تستعيد كلماتهِ، نظرت لعكازها الطبيّ، و بحبورٍ متفاقم راحت تضمهُ إليها، احتفظت بحجاب والدتها الذي طغى عبقهِ هو على عبق والدتها فيه، تركت عكازها، ثم جلست على طرف فراشها و الابتسامة لا تغرُب عن وجهها، خلعتهُ برفق عن كتفيها، و أنفاسها تتهدج من فرط فرحتها العارمة، شعرت بحالها كالخرقاء و هي تتسطح على فراشها تاركة لهُ بجوارها، سحبت "ولاء" الغطاء عليها و قد عرفت الراحة طريقها إليها، و راحت تُطبق جفونها مستشعرة خفقات قلبها الثائرة في جذل، و كأن النوم وجد منفذهِ إليها ليداهمها، و استسلمت لهُ عقب أن تحقق ما أرادت، بدلًا من أن تتلقى رسالة نصيّة منهُ، أو حتى أن تستمع لصوتهِ، تنعّمت برؤيتهِ و الاستراق من النظر إليهِ ما لم يُشبع عينيها، و لكنها نوعًا ما.. اسكانت لدى ذلك الشعور الذي يضجّ القلب المتواثب.
...................................................................
................................
..................................................................
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن