"الفصل السادس عشر"

796 21 0
                                    

" الفصل السادِس عشر"
- عودة بالوقت السابق
كـانت الصدمة الفعلية لهم أجمع و بِلا استثناء هي عودتهِ ،  كلٍ كان واثقًا من حتمية رجوعهِ و لكن بتلك السرعة!.. لم يكن أحدهم يتوقع ذلك مُطلقًا ، راحت الأحاديث الجانبية تتنامى ، و التهامزات و التلامزات تتكاثر كلما خطا خطوة بقدميهِ ، منهم كان جامدًا لا يقوى على الحديث أو الحراك من فرط الصدمة و منهم من سارع بإلقاء التحية عليه و تمنيه له بالشفاء التام و العاجل ، و لكنه تجاهل كل ذلك و لم يكترث لأيّهم ، حيث استهدف شخصًا بعينه و هو فقط ، و فور خروجه من المصعد شقّ طريقه نحو غرفة مكتبه ، و اقتحمها على عجل و لكنها كانت فارغة منه ، فـ صرّ على اسنانه و هو يتحرك بدون اكتراث حتى لإيصاد الباب من خلفه ، و مضى في الرواق عائدًا للمصعد متوعدًا لهُ في داخله ، دفع في طريقهِ أحد العاملين الذي أخذ يهلل فرحًا برؤيته بفظاظةٍ غير مكترثًا له ، ثم تابع طريقه و استقل المصعد ناقرًا على احدى الأزرار ، و فور توقفهِ انطلق خارجًا منه ، و مضى في ذلك الرواق ، تغضن جبينه و هو يعرج أولًا على غرفة مديرة مكتبه ،فـ كانت تجلس خلف حاسوبها و قد تجلى القلق و القنوط على ملامحها ، و شعورها بتلك المسؤولية المُمحلة على عاتقها يتنامي .
كانت "مروة" تبعث كتابيًا برسالة نصية تعتذر بها لمندوب احدى الشركات و تحاول جاهدة أن تشرح لهُ الوضع المتأزم ، حينما استمعت إلى صوت خطوات تدنو منها ، فـ رفعت نظراتها إليه و قد كانت عاقدة حاجبيها متمتمة:
- مستر يامن مش موجـود و محدش عارف هيرجع امتى ، يا ريت كفايـ....
و تهللت أساريرها و هي تراه أمامها ، فـ انحلت عقدة حاجبيها و قد انبعج ثغرها بابتسامةٍ واسعة و هي تنهض عن جلستها مغمغمة بعدم تصديق:
- هاه!.. مستر يامن ، حضرتك هنا بجد!.. حقيقي مش مصدقة ، حمدلله على سلامتك يا مستر يامن
لم يكترث بما تلقيه على مسامعه ، و لكنه هتف بصوت قاتم:
- ازاي تدخلي حد مكتبي و أنا مش موجود يا مروة هانم؟
تلاشى حبورها تمامًا و قد دوى صوت نبضاتها في أذنيها كـ الطبول ، ازدردت لُعابها بصعوبة و هي تقول محاولة الشرح:
- يا.. يا مستر يامن أنا ، أقصد مستر كمال كان...
تأكد من كون حِدسه صائبًا ، فـ مال قليلًا بجذعهِ ليستند بكفيه على سطح مكتبها و نظراته الملتهبة مسلطة عليها ، فـ انكمشت على نفسها و قد ابتلعت كلماتها ، أحنت بصرها لتتجنب نظراته و هي تفرك كفيها بتوتر جم ، إلا أن غمغم بصوتٍ صارم:
- مــروة،.. انتي شغالة معايا من امتى
ظلت محنية بصرها و هي ترمش بأهدابها محاولة التفكير ، و بصعوبة أجابت و قد تلعثمت نبرتها:
- أربـ.. اربع سنين و تلات شهور بالظبط يا مستر يامن
أومأ بحركةٍ خفيفة قبل أن يدمدم بلهجة مشتدة:
- و الأربع سنين و تلات شهور بتوعك مقدرتيش فيهم تفهميني و تعرفي ان حسابي مع اللي بيغلط بيكون عسير!
كادت تبكي من فرط هلعها من أن تخسر وظيفتها المرموقة ، فـ رفعت نظراتها المتوسلة إليه و هي تهتف بصوت مرتجف اهتزت أحبالها الصوتية بهِ للغاية:
- أرجـوك يا مستر يامن صدقني مستر كمال كان.. كان مفتقد حضـ..
فـ اقتطع صوتها بـ سخط بادٍ و هو يضيق عينيهِ فأضحت نظراتهِ أشدّ احتدامًا:
- كـان إيـه؟
ابتلعت ريقها بصعوبة و هي تومئ برأسها متمتمة بتلعثم:
- كان مفتقد حضرتك جدًا
ضرب "يامن" براحتهِ على سطح المكتب أمامها و هو يهدر بها:
- مــروة
أجفلت جفنيها و هي تقول بنبرة شبه مهزوزة:
- افندم يا مستر يامن
 انتصب في وقفته و هو يشهر سبابته نحوها محذرًا بتوعد شرس:
- اللي حصل ده لو اتكرر اعتبري نفسك مرفودة!.. مات الكلام
و انصرف من أمامها فـ شعرت و كأنها استردت روحها ، تنفست الصعداء و قد تهالك جسدها بوهن على المقعد ، دافنة وجهها بين كفيها و هي تحمد ربها أن لهيبه تلك المرة لم يطُلها.
.......................................................................
تمامًا گمن سُكب فوق رأسهِ دلوًا من الثلج ، ثمّة صقيعٌ حطّ على قلبهِ فـ شعر بـ أوردته تتجمد الدماء بها ، و أطرافهِ تتثلج تمامًا ، لم يرمش جفناه و أعينه معلقة به ، لا يكاد يصدق أن كابوسه الذي اعتقد أنه تخلص تمامًا من وجوده يقف أمامه گالجبل الراسِخ لم يطله أذى!.. ارتد جسده للخلف حين تلقى تلك الدفعة القوية من كتفه ، ثم دلف "يامن" و هو يتظاهر بـ تأملهِ لغرفة المكتب الذي يحفظ تفاصيلها عن ظهر قلب ، ثم التفت إليه و هو يقول و قد حلّ عقدة كفيه ليدسهما في جيبيه:
- هـا؟ عجبك مكتبي؟
لم ينبس ببنت شفة و لم يتحرك قيد أنملة بعد ارتداد جسده ، و ظل متيبسًا بمحله، نظراته المذهولة مسلطة عليه و فقط ، احتد " يامن" بشكلٍ مفاجئ و هو ينطق بشراسةٍ معهودة:
- خليك تفضل تحلم بيه!.. لأنك مش هتطوله غير في الأحلام يا كمال! حتى في حلمك مش هتتجرأ تشوفه ، لأنك عقلك الباطن لو اتجرأ و فكر فيه مش هتطوله غير في جهنم!
و أنهى كلماتهِ و هو يخرج كفيه من جيبيهِ ليقبض على عنقه بإحدى كفيه، شهق "كمال" من فرط صدمتهِ، مستشعرًا أنامله الغليظة التي تترك آثارها على بشرته، حتى شعر بجسده يرتدّ للخلف لدى دفع "يامن" العنيف لهُ، إذ حشرهُ في الزاوية بينه و بين الحائط من خلفهِ و من ثم جأر بـ:
- أنا استحملتك كتير!.. كتير و كله عشان أخويا اللي نجحت إنك تخليه ××× شبهك!
و تفاقمت شراسته و هو يغط أكثر على عنقه هادرًا بصوتٍ كادت جدران الغرفة ترتج اثره:
- استحملت كل حاجة منك عشان مخليش أخويا يحس باليتم!.. استحملتك عشان أخلي أخويا يعيش مع توأم أبويا فيحس ان ليه أب!.. استحملتك عشان مبعدش أخويا عن أمه ، و عشان ميتيتمش بـ الأم و أمه عايشة ، استحملتك عشان ابنك اللي مالوش ذنب في عمايلك ، عشان مراتك طلعت أ×××× منك و سابتك عشان عشيقها و رمت ابنها وراها ، استحملت اني أعيش في القصر الـ×××× ده عشان أخويا و بس ، عشان ميحسش انه أقل من غيره و ان عيلته كل واحد منهم عايش لوحده ، استحملت أشوف خلقتك دي كل يوم و أنا نفسي أشوه وشك اللي نسخة من وش أبويا!.. أبويا اللي مستحقش انك تبقى توأمه! استحملت انك فرد من عيلة الصياد عشانهم.. عشانهم و بـــــس!
كانت عيناه گجذوتيـن من الجحيم و هو يطبق أكثر و أكثر بلا وعي على عنقه ، بدت نظراته أكثر تصميمًا على قتلهِ أكثر من أي وقتٍ مضى ، اصطبغ وجه "كمال" بـ الزرقة و قد توسعت عيناه أكثر اثر الاختناق الذي أطبق على رئتيه أثناء استئناف "يامن" بـ زئير مُرعب:
- لكـن لما تطول مراتي يبقى من حق أحجزلك تذكرة لجهنم!
و ارتفعت نبرته أكثر و هو يصيح بصوتٍ جهوريّ:
- و رحلة لجهنم متكفيــــــش!
باءت جميع محاولاتهِ بتخليص نفسه من قبضته بالفشل التام ، فـ حاول أن يغمغم فـ خرج صوته متحشرجًا:
- أنا.. أنا باخد بـ.. بتار أخـ.. أخـ....
فـ اقتطع صوته و هو يجأر بهِ، بقولٍ لم يتمكن فيه أن يمسك لسانهِ، و لا يتفوّه به، على الرغم من تعهدهِ لنفسه بأن يبقى ذلك الأمر في داخلهِ حتى توافيه المنيّة:
- متقولش تار أخويا!.. متقولش بتاخد بتاره و انت كنت بتزني بمراته يا ×××××!
- سيبه هيموت في ايـدك!.. هيمــوت!
كانت الأفكار تناطحت في رأسها، و قد شعرت أنهُ على وشك ارتكاب جرمٍ ما، فكان تفكيرها صائبًا، إذ بها ترى ذلك المشهد أمامها، فـ أقبلت عليهما و أعينها قد توسعت عن آخرهما، و هي تستأنف بارتياع:
- هتقتله!.. ابعد عنه، ابعـد!
اخترق صوتها الأنثوي الناعم أذنيهِ و هي تضغط برفقٍ على كتفهِ محاولة أن تحل بين كلاهما ، تأملت ملامح وجه الأخير و قد ارتسم الهلع على ملامحها حين أدركت أن ثانية واحدة تكاد تكفي لقتلهِ ، فـ حطّ الرعب على قلبها و هي تتلمس كفه بـ كفيها محاولة أن تبعده عن عنق الأخير:
- انت بتعمل ايـه يا مجنون!.. هيمـوت
لم ترتخِ عضلةً واحدة من عضلاتهِ المتشنجة و هو يُرخى أنامله شيئًا فشئيًا عن عنقهِ متعمدًا التلذذ بعذابهِ ، ثم مال عليه ليفحّ في أذنه متعمدًا أن تلفح أنفاسه الحارة بشرته:
- اللي بيقتل مرة يا كمال ، التانية مبتبقاش صعبة عليه!.. المرة دي لحقتك مني ، المرة الجاية محدش هيخلصك!.. أنا صبرت عليك كتير ، و صبري نفد من زمان! و اديتك فرص كتيـر ، و انت ضيعتهم ، خد بالك عشان مترجعش تقول يا ريـت!.. بس للأسف مش هتلحق حتى تقولها ! في الآخرة بقى ان شاء الله
و ابتعد قليلًا ليفتر ثغره عن ابتسامة شيطانية و هو يتأمل تعبيرات وجهه ، ثم أرخى كفه بالكامل عن عنقهِ و قد تصلبت تعبيراته و هو يلتفت إليها ، فـ دب الذعر في قلبها من نظراته الملتهبة ، تراجعت للخلف حين رأته يدنو منها و انفلتت صرخة مرتعدة منها حين قبض على عضدها بكفهِ  و هو يسير بخطواتهِ الواسعة ساحبًا لها من خلفه ، فـ شعرت بقبضتهِ تكاد تخترق لحمها لتلتصق بعظام ذراعها ، انتفض قلبها هلعًا و هي ترى نفسها تُقتاد معه گـ الشاه التي تُقتاد لمذبحها ، لم تذكر أنها شعرت بالهلع منه لتلك الدرجة خاصة بعد رؤيتها لشراستهِ المخيفة منذ قليل ، و خاصةً أنهُ سحب البلاغ ، اذًا هنالك ما يدور برأسه ، و ينتظر فقط تنفيذه ، لم تتمكن من السيطرة على ارتجافة بدنها تلك ، فـ شعرت بصعوبة التنفس ،و لكنها حاولت جاهدة التعلق بآخر ذرات شجاعتها ، انتابها الحرج من طريقته تلك أمام العاملين بالشركة ، فـ حفّز ذلك خلاياها للاستثارة ، فـ غمغمت بعصبيةٍ مستنكرة و هي تصر على أسنانها:
- انت ماسكني كده ليه؟ سيب ايدي أنا مش بهيمة ساحبها وراك
دلف للمصعد و نقر بعنفٍ على زر الطابق السُفلي.. و حالما أوصِد الباب  كاد يقبض على فكها و هو يهدر بصوتٍ جهوري:
- اخرســي ! متسمعينيش صوتك ده عشان متفتحيش على نفسك طاقة جهنم!.. أنا عفاريت الدنيا بتتنطط في وشي!
انتفضت هلعة و هي تدفن وجهها في كفيها و قد انفلتت منها صرخةً مذعورة متخيلة أنهُ يكاد يتطاول باليد عليها ، فكوّر "يامن" قبضته التي كادت تمسها ، ثم لكم بعنفٍ جدار المصعد بجوار رأسها تحديدًا ، فلم ترفع وجهها و هي تصرخ مجددًا من فرط ارتعادِها ، نهج صدر "يامن" علوًا و هبوطًا فلفحت انفاسهِ اللاهثة بشرتها فبدت كـ حُممِ بركانية تطالها و هو يرخى أنامله شيئًا فـ شيئًا عن عضدها حتى تركها ، فمرت ثوانٍ لم تتجرأ بها أن ترفع نظراتها إليه ، تلاحقت أنفاسها المذعورة ، حتى انتفضت مجددًا حين سحب كفيها عن وجهها بحركةٍ عنيفة و بطرف اصبعيه رفع ذقنها إليه ليردد بصوتٍ شرس:
- بُصيلي!
أومأت برأسها عدة مرات و هي ترفع نظراتها الدامعة إليه، محاولة التحكم في اضطراب أنفاسها و تلاحقها، فـ أشار بكفه بحركة منفعلة و هو يهتف باحتدام:
- لما تكوني غبية و مش فاهمة حاجة متعمليش فيها سوبر مان و تحاولي تتحديني!.. لأن البهيمة اللي بتقولي عليها بتفهم عنك!
رمشت بعينيها عدة مرات و هي محملقة بوجهه الذي بدا گـ كُتلة نارية ، و بالرغم من استشاطِها غيظًا منه إلا أنها لم تتجرأ أن تحتجّ على قولهِ ، أحنت نظراتها عنه فكاد يعنفها على فعلتها تلك و التي استثارت غيظه ، و لكنه افتتُح باب المصعد تلقائيًا حين وصل للطابق المنشود ، فـ ترك ذقنها ليقبض على ساعدها ساحبًا لها من خلفه و هو يردد بلهجة آمرة:
- امشـي!
سارت من خلفهِ و هي تعصف يُمنةً و يسرة مسلوبة الإرادة ، أحنت نظراتها و قد كانت وجنتيها مشبعة بحمرة الحرج من تلك الطريقة الهمجيّة ، حتى وصل بها إلى باب السيارة ، فـ فتحهُ و هو يدفع جسدها بعنفٍ للداخل ثم صفق الباب من خلفها، دار حول مقدمة السيارة ليستقل مقعده خلف المقود ، و فور أن أدار المحرك كانت تعتدل في جلستها لتكون في مواجهتهِ و هي تصيح محتجة على انفعالهِ:
- انت.. انت أكيد مجنون! مجنــون ، هتاكلني عشان منعتك تقتله ، ده بدل ما تشكرني!
تلك المرة ارتدى قناع الجمود متعمدًا لئلا يحدث ما لا يحمد عُقباه ، فـ هو لا يكاد يرى أمامه من فرط انفعالهِ المبرر ، و لكنه احتفظ بتعبيرات التجهم محتلة ملامحه ، و التزم الصمت المُطبق متعمدًا تجاهلها ، و ذلك ما جعلها تستشاط ، و تحولت حمرة الحرج بوجنتيها لحمرة غاضبة منفعلة اثر احتدام الدماء بعروقها ، كورت قبضتها و هي تهتف بهِ بنبرة مستهجنة:
- أنا مش كلبة بتتكلم ، و مش بهيمة زي ما قولتلي!.. أنا انسانة بتكلمك رد عليا!.. متفكرنيش هخاف منك ، تمام؟.. أنا مش خايفة
و لكنها لم تتلقَ ردًا منه ، فـ هدرت و هي تعتدل بجلستها و كأنها تحادث نفسها و هي تضغط بكفيها على جبينها صائحة بـ استنكار تام:
- أنا مش عارفة أنا بعمل إيـه!.. بكلم واحد كان بيموت قدامي من ساعات ، لأ .. بكلم واحد شوفته ميت من ساعات! و مستنياه يرد عليا ، أنا أكيد اتجننت
فـ لم يصمت حينئذ ، فـ رد ساخطًا و هي ينظر نحوها موزعًا النظرات بينها و بين الطريق:
- هو انتي عامية! ما أنا قدامك أهو!
التفتت لتسلط نظراتها المستنكرة عليه و هي تهتف:
- قدامي ازاي؟.. ها! ازاي؟ انا شوفتك بعيني دول و انت بتموت ، نبضك وقف ، وقـف!
افتر ثغره عن ابتسامة جليدية و هو يغمغم بتهكم ساخر:
- النبض عمره ما كان حياة يا.. يا بنت حسين!
منحها نظرةً عابرة فـ حملقت بعينيه الملتهبتين، تراءى لها تلك المرارة التي يحاول مواراتها في نبرتهِ، حتى أصرف بصره عنها ليتابع الطريق ، فظلت مسلطة لنظراتها عليه و هي تردد يشجبٍ تام:
- لا مستحيـــل ، مستحيـل ، مستحيل يكون كل ده حصل
غامت نظراتها و قد داهمتها بضع لقطات مريرة مما تعرضت له ، فـ احتدمت نبرتها و هي تتهمه:
- انت كـذاب!.. كذاب ، مستحيل يكون حصل لي كده ، مستحيل يكون عمل كده فيا ، انت.. انت متعرفش حاجة ، ده.. ده أخويا! أخويا الكبير ، أيوة أنا مش بحبه ، و رفضت طلبه ، لكن.. لكن كنت بعتبره أخويا!. أنا عارفاه كويس ، دي.. دي لعبة كلكم عاملينها عليا ، دي مسرحية عشان تجننوني
أطلق سبة نابية من بين شفتيه قبل أن يجأر بها ساخطًا و هو يقذفها بـ نظرةً نارية:
- أيوة مسرحية عاملها عليكي ، و لا أقولك أنا اللي دافعله و عامل اللعبة دي عشان واحد نـ×× يعمل كده في اللي رسميًا و قدام الناس مراتي ؟ ارتحتـي؟
عقدت حاجبيها و قد تجمعت الدموع في مقلتيها قهرًا ، هي تعلم حق العلم ألا علاقة لما تقوله بالصحة أو الحقائق  و تعلم حق العلم منذ سويعاتٍ فقط أنهُ لم يكن الجاني تلك المرة ، هي فقط تحاول التزييف ، محاولة التعلق بـآمال و خيال كاذب علّ تلك النيران المتأججة في صدرها تهدأ ، و علّها تتمكن من محو تلك اللحظات القاسية عن عقلها ، و لكن بالنهاية لن تتمكن ، فما عايشته حقيقة واقعية ، تصف الواقع و غدرهِ و الطعنات النافذة الصادرة من الأقرب إليها، شعرت بـ أشواكٍ تنغرز في فؤادها ، فـ كادت الدموع تنفر من عينيها، و لكنها تماسكت بصعوبة و هي تغمغم بعد صمتٍ دام دقائق:
- انت عملت فيـه إيه؟
التفت ليحدجها بنظراتٍ قاتمة ، ثم عاود النظر أمامه محاولًا عدم الاكتراث لقولها ، فـ اندفعت الدماء في أوردتها و هي تردد بلوعة اختلطت بنبرتها المتشنجة:
- قـول ، عملت إيه فيه؟
ارتفع جانب ثغره بابتسامة ساخرة و هو يردد بتهكمٍ حمل في طياته غيظًا مستعرّ:
- خايفة عليه أوي؟
فلم تتحمل تلاعبه بمشاعرها و مراوغته لتلك الدرجة ، فـ هدرت حينئذ باحتدام:
- رد عليا بقولك!.. انت عملت فيـه إيه؟
تلاشت ابتسامته الساخرة تمامًا و كأن شفتيه لم تعرفا الابتسام يومًا ، و حل محلها القسوة التامّة و قد باتت تعبيراته أشبه بصخرٍ جامد ، عدا حدقتيه اللتان بعثتا شررًا ،لحظات من الصمت المُريب القاتل كُسر حاجزه الفولاذي بنبرةٍ مُتصلّبة و بدون أن ترمش عيناه:
ـ قتلته..!
بلغ قلبها حنجرتها و قد توسعت مقلتاها ، سرت برودة بـ أوصالها متعجبة جموده و كأنهُ معتاد فعل ذلك ، ابتلعت ريقها الذي صار كـ العلقم و هي تهمس بخفوتٍ مرتاع:
ـ قتلته!..بـ..بالسهولة دي!
أومأ و هو يردف بنبرة متهكمة موزعًا النظرات بينه و بين الطريق:
ـ أومال انتي فاكرة ايه؟ قتلته عشاني متفق معاه يخطف مراتي و يـ...
و اقتطع كلماته جبرًا مبتلعًا له و قد شعر بتأنيب الضمير لتذكيرها لتلك اللحظات المُخزية التي عايشتها ، زفر حانقًا و هو يصرف بصرهُ عنها مثبتًا لها على الطريق و قد عاد لثباتهِ،..شعرت هي و كأنه أطبق على صدرها ، فـ شعرت بصعوبة في التنفس و هي محدقة بجانب وجهه بينما كان يتحدث بصوتٍ صلد:
ـ القتـل سهل يا بنت حسيـن!..متستصعبيش ده!
و منحها نظرة من طرفهِ و هو يستأنف:
- و أظنك جربتي!
التقطت أنفاسها بصعوبةٍ من كلماتهِ المستفزة و كأنه قاصدًا تذكيرها بجريمتها و سكب ملحًا على جرها الغائر ، صرّت على أسنانها بعنف، ثم تمتمت بصوتٍ مستهجن:
ـ انت آخر واحد تحاول تحسسني بتأنيب الضمير و انت بأيدك قدمتلي السكينة!..مش فاهمة انت عايز توصل لإيــه!
ـ ان في تكة ممكن تبقي قاتلة..مجرمة.. في تكة ايدك تتلوث بـ الدم ، و ان في لحظة الغضب ممكن تعملي أي حاجة!
و أضحت نبرتهِ أكثر شراسة و قد اصطبغت بشرتهِ بحمرة قانية:
- بس هو مقتلوش في لحظة غضب ، هو كان مخطط كويس أوي للي هيعمله!
التوى شدقها بابتسامة ساخرة و هي تُدمدم بتهكم مرير:
ـ يعني مهمكش حياتك و كنت هتروح فيها عشان بس تثبتلي ان بابا قتل يوسف!
التزم الصمت و هو مُحدقًا في الطريق إمامه ، فالتهب وجهها بـ الحمرة و هي تتمتم بصوتٍ مسشتاط:
ـ ما ترد..ساكت ليه؟
كـ الصنم..لم يرمش حتى بعيناه ، فـ هدرت و هي تشيح بكفيها:
ـ اتكلم!
فـ خرج عن صمتهِ المُطول زائرًا:
ـ أيـوة!..أيوة عشان أفهمك، عشان تفهمي انتي عايشة في ايه و متفضليش تحلمي كتير! عشان تفهمي ان دمه بيجري في دمك!.. عشان لما شوفتيه بعينك حاول يقتلني زي ما قتل أبويا مصدقتيش!
و اضمحلّت المسافة بين حاجبيه و قد اشتدّت لهجتهِ:
- عارفة ليه ؟لأنك واحدة غبية مبتهتمش غير بـ المشاعر! مبتفكرش غير بقلبها و بس
و بـ طرف سبابتهِ نقر بعنفٍ على جانب جبينها مستطردًا:
ـ ده مش بتستخدميه!..العقل مهمته التفكير يا بنت حسين ، و اللي بيفكر بقلبه نهايته بتكون وحشة! زي ما قلبك مصدقش ان ابن خالك و** و قعدتي تدوريله على مبررات، و كان أقرب حاجة ان يامن هو اللي دفع له و ملى عينه بالفلوس!..مش كده
فـ دفعت كفه بعيدًا و قد توهجت حدقتاها ثم احتجّت بامتعاض جلي:
ـ انت..انت مجنون..مجنـون!مستحيل تكون طبيعي أبدًا
فتهكم منها و هو يدير عجلة القيادة منحرفَا لإحدى الطرق الجانبية:
ـ ده اللي فالحة فيه! لما الكلام ميبقلش على هواكي يبقى كل اللي حواليكي مجانين و انتي العاقلة!
فـ هدرت بهِ متشنجة بنفاذ صبر و قد تجمعت الدموع في مقلتيها:
ـ وقف العربية و نزلني!
رمقها شزرًا و هو ينفخ حانقًا من تصلب تفكيرها ، ثم حاد ببصره عنها و هو يرتكز بأبصاره على الزجاج الأمامي ، فـ استشاطت أكثر و هي تصيح به:
ـ وقف العربية بقولك!
و تجاهلها مجددًا و كأنها ذرة غبار عبرت من أمامه ، فـ استدارت بجسدها، متشبثة بمقبض الباب و هي تقول مهددة:
ـ لو موقفتش العربية هنط منها!
قبض على مرفقها بعنفِ ليديرها إليه هو يُعنفها قائلًا:
ـ بطلي جنان بقى!..مش أي حاجة تحصل لك تفكري تأذي نفسك، هتستفيدي ايه يا غبية!
حاولت انتزاع مرفقها منه و قد سالت الدموع على وجنتيها ، فـ تمتمت باختناق امتزج مع نشيجها:
ـ سيبني بقى! سيبني في حالي!..حاسب
ـ يــوه!
هدر بها و هو يُدير المقود لـ صف السيارة جانبًا ، ثم ترك مرفقها و هو يترجل عنها ، تابعتهُ بـ اعين دامعة حتى دار حول مقدمة السيارة و توقف ليفتح بابها ، سحب ساعدها لتترجل عنوةً و هو يدمدم بصوتٍ آمر:
ـ انزلي!.. مش ده اللي عايزاه
تمتمت باحتجاج و هي تحاول سحب ذراعها:
ـ سيب ايدي ، سيبني بقى!
صفق الباب صفقةً عنيفة انتفض جسدها اثرها ، و بحركةٍ واحدة كان يحشرها بينهُ و بين السيارة مُحاصرًا لها بكفيه ، نهج صدرها علوًا و هبوطًا بينما كان يردد بنبرة ثابتة:
ـ مسمعش كلمة سيبني دي بتتقال مرة تانية يا بنت حسين!..لأن ساعتها رد فعلي مش هيعجبك
ازدردت ريقها بصعوبة و هي ترمش بزرقاوتيها عدة مرات لتدحر تلك الدموع التي حجبت عنها الرؤية ، لتتبين لها نظراته القاتمة، ابتعد قليلًا ليسحبها مجددًا مبتعدًا عن السيارة بمسافة بسيطة و هي تُعصف من خلفه يمينًا و يسارًا ، ثم توقف ليسحبها لتكون أمامه مشيحًا بكفه ليشير إلى الفراغ من حولهما و هو يهدر :
ـ اتفضلي!.. شوفي هتعملي ايه، مش كنتي عايزة تنزلي!.
فـ تيبست قدماها و هي تنظر نحوه بنظراتٍ حاقدة ثم أردفت و هي تحاول التملص من قبضته المحكمة:
ـ مش عايزة غير إني أخلص منك و بس!
فـ أجابها بنبرة باردة و هو يكاد يعود بها:
ـ يبقى امشي قدامي طالما مش عايزة حاجة!
عقدت حاجبيها باستهجان:
ـ ايه البرود اللي انت فيه ده!
فـ سحبها أكثر ليقربها اليه و هو يردد بنبرة أشبه للفحيح:
ـ شوفي برودي أحسن ما تشوفي رد فعل مش هيعجبك يا بنت حسين
فـ استشاطت و هي تحدجهُ بنظراتٍ حانقة مصححة بامتعاض:
ـ بنت حسين!..بنت حسين، أنا اسمي يارا..يارا! مش بنت حسين، مش عارفة اسمي صعب أوي للدرجة دي!
نظر لها مليّا بنظرات عميقة حتى تعجبت صمته ، و لكنه استعاد صلابته و هو يهمّ بـ العودة ساحبًا لها خلفه:
ـ امشي يا بنت حسين!
فـ هرولت خطوتين لتكون أمامه مستوقفة إياه و استخدمت ذراعها المُحرر لتستند بساعدها على صدرهِ أفقيّا، غير منتبهة كونها تضغط على جرحهِ، تستوقفه بوضعٍ هجومي قبل أن تقول محتدة:
ـ يارا!..اسمي يارا، متستفزنيش
صوّب نظراته لزرقاوتيها مُباشرةً ، بينما استخدمت "يارا" أصابها الأربع عقب أن بسطت كفها و هي تشير بهم أمام عينيه:
ـ يـ..ا..ر..ا، أربع حروف مش شايفة فيهم صعوبة للدرجة دي!
ضيّق عينيهِ قليلًا و قد عقد حاجبيه باستهجان ، ثم تمتم و قد نفذ صبره:
ـ عايزة ايه يا بنت حسين؟
صرّت بعنفٍ على أسنانها و قد توهجت زرقاوتيها ، أحنت بصرها عنه متنهدة بضيق جلي ثم أعادت النظر تلقاء وجهه ، حرفت نظراتها بين مقلتيه فـ ارتفع جانب ثغرها بابتسامة ساخرة و هي ترد بتهكم هازئ:
ـ مش مصدقة ان اللي قدامي كان بيموت من ساعات!..و بردو مش مصدقة ان وقتها كنت عايزاك تعيش!
ترك ساعدها الآخر ليُزيح برفقٍ ساعدها عن صدره و هو يتحدث بنبرة صلدة مُشيّعًا لها بنظراتٍ جامدة :
ـ متضحكيش على روحك يا بنت حسين!..انتي مكنتيش عايزاني أعيش، انتي كنتي عايزة ضميرك يرتاح و بس!
ثم عقد حاجبيه مستطردًا بنبرة ذات مغزى:
ـ قوليلي ايه اللي اتغير خلاكي تصدقي ان مش أنا!..مش على أساس أنا اللي...
فـ قاطعته بتحسرٍ حاولت مواراته خلف الحدة في نبرتها و قد فاض بها الكيل:
ـ انت هتفضل تذلني عشان ساعدتني!
فـ هدر بها بانفعالٍ تام:
ـ متخرجينيش عن شعوري! انتي مراتي!
فـ على صوتها و هي تقول متشنجة:
ـ انت اللي بتخرجني عن شعوري!..جاي بكل برود تقول قتلته! و كأنه مش روح انسان ، انت عارف خالد يبقى ايه لعيلته،.. خالي ابنه مات و ده اللي باقيلـ..
و كأنها أشعلت فتيل القنبلة ..التهبت بشرتهُ القمحية بـ حمرة فاقعة و قد شعر بالدماء تتدفق بعروقه حتى كادت تنفجر ، اصطبغت الشعيرات الدموية بعينيه بـ الحمرة و هو يـجأر بصوتهِ:
ـ متنطقيش اسم الـ***** ده قدامي!
انتفض جسدها اثر انفعالهِ المفاجئ ، توسعت عينها و هي تنقل نظراتها بين عينيه و قد سرت برودة بـ أوصالها من نظراتهِ التي أوحت لها بأنه يوشك على التهامها حية، فـ قبض على ساعدها و هو يجتذبها إليه مشددًا على عضلات فكيه إثناء قوله من بين أسنانهِ المُطبقة:
ـ قتلته!..قتلته و لو كنت أقدر أحييه عشان أقتله تاني كنت هعملها!
هزت رأسها بعنفٍ مستنكرة ما يقول:
ـ انت مستحيل تكون انسان!
التوى شدقه بابتسامةٍ ساخرة قبل أن يشير لنقطة ما في الفراغ و كأنه يشير اليه و بنبرة جليدية أردف:
ـ لو الأناسي بالنسبة لك زي الوسخ ده، فـ أنا بفضل أكون شيطان
رمشت بعينيها عدة مرات بينما نفذ مخزونه من الصبر تمامًا ، و لسبب آخر لم يُرد الإفصاح عنه أمامها بأي شكلٍ كان ، أنهى الجِدال القائم بسحبهِ لها من خلفه مقتادًا لها السيارة و هو يردد:
ـ امشي....يا بنت حسين!
فـ زفرت بحنقٍ و هي تشيح بأنظارها بعيدًا عنه و قد أصابها السئم التام لما يحدث ، سارت خلفه بطواعية على عكس العادة و قد شعرت بأن طاقتها شرعت بالنفاذ ، بلغ باب مقعدها ، فـ فتحهُ و دفعها للداخل.. و بـ حركةٍ تلقائية وضع كفه أعلى رأسها بسنتيمترات قليلة بدون أن يتلمّس خصلاتها ليحول دون اصطدام رأسها بـ سقفية السيارة ، و أوصد الباب ، ثم مضى مبتعدًا عن السيارة ، لاحظت فعلته ، فـ ارتفع حاجبيها استنكارًا و هي تتابع ابتعاده ، رمشت بعينيها عدة مرات و هي تتلمس خصلاتها بعدم تصديق ، ثم همست متحدثة بصوتٍ خفيض:
ـ مجنون ده و لا إيـه!
عقدت حاحبيها سويًا و هي تتابعهُ حتى توقف موليًا ظهره لها ، وجدته يخرج هاتفه من جيبه و رفعه حتى أذنه ، شعرت و كأن هناك أمرًا ليس على ما يرام، ازدردت ريقها بتخوفٍ و قد توقعت منه شرًا ينتويه ، بينما على الجانب الآخر..كان يمشط المكان بعينيه الثاقبتين ، و من ثم أطبق جفنيه محاولًا تجاوز تلك الآلام ، و بطرف كفهِ أزاح حافة سترته ليتفقده..ليجد الدماء قد سالت بغزارة من جرحه الذي افتُتق و لوث الشاش الطبي المغلف به ، زفر حانقًا و هو يكز على أسنانه ، استشعر تلك الاهتزازة التي أحاطت بعينيه و التشوش الذي أصاب رؤيته ، فـ تفاقم امتعاضهِ لما يحدث ، حتى أتاه الرد فـ احتــد في قولهِ:
ـ ساعتين عشان ترد!
فلم يتمكن الأخير من تجاوز شعورهِ بـ الصدمة :
ـ يـ..يامن بيه!
و ما ان استوعب حتى هلل بحبور:
ـ يامن بيه!..حضرتك فوقت، و الله أنا مش قادر أوصف لك فرحتي، حمدلله على الـ...
أزعجهُ افتعاله للسعادة و التهليل الكاذب ذلك فـ اقتطع كلماتهِ بلهجةٍ صارمة بالرغم من خفوتها:
ـ اخرس و اسمعني
حمحم الأخير حرجًا و أحنى بصره و هو يتمتم:
ـ اتفضل يا بيه
ـ تسجيلات الكاميرات امبارح تتحضر ، "هِشام بيه" هييجي يستلمهم منك ، فاهمني؟
ازدرد ريقه و هو يعتدل في جلسته متحفزًا:
- اوامرك يا يامن بيه
فـ سألهُ مهددًا:
- هتسلمهم لمين؟
- " هشام بيه".. متقلقش يا يامن بيه
- عظيم
أنهى المكالمة و هو يرمش بعينيه مزيحًا ذلك التشوش الذي أصاب رؤيته ، ثم أطبق جفنيه محاولًا استعادة تماسكه ، و ما إن فعل حتى استدار ليعود مستقلًا السيارة ، فـ عقدت" يارا" ذراعيها سويًا و هي تتجاهله تمامًا ، فـ لم يلتفت نحوها ، بل أدار المحرك و ضغط على دواسة البنزين ، ثم أدار المقود ليلتف بالسيارة خارجًا عن ذلك الطريق الفرعيّ الذي دلفهُ عمدًا منذ قليل .
......................................................................
............................
.......................................................................................

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now