"الفصل الثامن و الثلاثون"

640 21 0
                                    

"الفصل الثامن و الثلاثُون"
أشتاقُكَ.. قبل حتى أن يحين الفراق.
_______________________________________
تجلس أمامه بوجه متجهم و هي تهز ساقِها بانفعال واضح، حتى ردد و قد فرغ صبرهُ من تجبر ذهنها:
- يا رهيف افهميني بقى!، جدتك مش قابلة تغير رأيها، دي خلاص شوية و هتحدد ميعاد الفرح
فصرخت بهِ و هي تحل عقدة ساعديها:
- أنا هطربق الفرح ده فوق دماغك، قال فرح قال!
و احتدت و هي تقول:
- قول يا راشد، عرفت مكاني إزاي؟ هـا؟.. انطق
زفر أنفاسه المحتقنة وهو يحدجها باحتدام، ثم ردد:
- ده تخمين من عمتي، ليـه؟ انتي كنتي عايزة تفضلي هربانة طول العمر محدش يعرف لك طريق جرة!
كورت قبضتها و هي تضرب على مسند أريكتها بينما تقول بلهجة متشنجة:
- راشـد، آخر كلام، أنا مـش هتجوزك، خلاص، و لو حطيتو السكينة على رقبتي مش هيحصل!
أشاح بكفه و هو يقول مؤنبًا بجفاء:
- و جدتك؟.. مش هاماكي؟، تموت تفطس، عادي بالنسبة لك!
فهدرت مستهجنة:
- المفروض أعمل إيه؟ أروح أبوس إيدها و أقولها أنا هقتل نفسي عشانك يا جدتي!
و تجعدت تلك المنطقة المجاورة لعينيها اثر تضييقهِما و هي تقول باحتداد:
- جدتي مين يا راشد؟ جدتي اللي رمت أمي عشان اتجوزت واحد برا العيلة، صح؟، جدتي مين اللي أزعل عشانها!
فـ احتـد و:
- لمي لسانك يا رهيف أحسن لك
فهدرت بهِ باحتقان واضح:
- أنا عارفة حدودي كويس، الدور و الباقي عليها، طبعًا ضحكت على أمي المخدوعة فيك بكلمتين، كلمتين من عندها على كلمتين من عندك، خلاص وافقت تجوزني ليك!
فجأر بها و قد فاض بهِ الكيل:
- كلمتين من عندي إيه رهيف؟ إنتي محسساني إني هموت عليكي، ما أنا زيي زيك بالظبط و مجبور على كده!
كزت على أسنانها و قد شعرت بهِ توًا يخدش كبريائها الأنثويّ، فوقفت على قدميها و هي تقول بصراخ:
- اطلع برا يا راشد، اطلع بـــرا!
تفاجأت بهِ يسترخي في مقعدهِ أكثر و هو يضع ساقًا فوق الأخرى:
- سوري، متقدريش تطرديني و البيت مش بيتك أصلًا
زمجرت غاضبة من تصرفهِ الذي أثار أعصابها و هي تضرب الأرض بقدمها ثم هدرت:
- و الله لو دبحوني ما متجوزاك، و اللي يحصل يحصل
و كادت تخرج عن غرفة استقبال الضيوف فاستوقفها و هو يقول باستهجان:
- هتعملي إيه؟.. هتاخدي أختك و تشوفي حتى تانية تهربي فيها!
التفتت نحوه و هي تشعر بدمائها تغلي في أوردتها، بينما أخفض ساقهُ ليقف مستقيمًا و هو يدنو منها قائلًا:
- ما تردي!، سكتتي ليـه؟ هتفضلي تهربي! هتفضلي عايشة هربانة
رمشت عدة مرات و هي تعقد ساعديها أمام صدرها مجيبة إيّاه بتعند واضح:
- أيوة
فأجابها و قد سئم:
- رهيف.. أمك مش راضية عن الجوازة دي، انتي لو كنتي صبرتي عليها كانت قالتلك ده، لكن انتي بتسرعك قفلتي في وشها!
و بدت نبرتهُ مرتخية قليلًا و هو يقول:
- عمتي واقفة معاكي يا رهيف!، عمتي في ضهرك، و أنا مش هجبرك على حاجة، فاهدى كده، و خلينا نتكلم على رواقة، زي أي اتنين عاقلين، تمـام؟
....................................................
- أنا راجع يا مايكل، خلاص، مبقاش في حاجة هنا أقعد عشانها!
قالها "فارس" بقنوط شديد و هو يُلقي بإحدى الأحجار في نهر النيل أمامه و هو يجلس بذلك المكان المتوارى عن الأعين فوق إحدى الصخُور المطلة مباشرة على النيل، فصنع بفعلتهِ اضطرابًا في صفحة الماء الساكنة، و بدأت تصنع عِدة موجات دائريّة تابعها "فارس" في حين يستمع لصوت صديقهُ الذي بدا قلِقًا و بالعاميّة المختلطة مع الفُصحى و قد بدت لهجتهِ متكسرة:
- ليه؟ آئلتك "عائلتك" بخير؟
- are you okay?..what happened with you?
فسخر "فارس" و قد انبعج ثغرهُ ببسمة متهكمة:
- عائلة!، عائلة مين يا مايكل
و تلاشت ابتسامته بينما يقول بفتور واضح:
- اسكت.. اسكت يا مايكل و النبي و سيبني ساكت أنا كمان!
- انتظر قليلًا لأرسل إليك صورة الصليب الذي تفشل دومًا في رؤيتهِ ربما!
رغمًا عنه انبعجت شفتيه بابتسامة باهتة بينما يقول:
- وحشتني يا مايكل و الله، مفيش حاجة كانت مهونة عليا الغربة غير وجودك
 و بدا كئيبًا واجمًا و هو يقول ملقيًا حجر آخر:
جايلك جايلك  don’t worryبس -
..........................................................
- كيف يعني يا سُعاد، مش جولتيلي جبل سابج بتك وافجت؟ إيه اللي حصُل عاد!
ارتبكت "سعاد" للغاية و هي تفرك كفيها معًا معربة عن كذبتها التي اختلقتها:
- بصي يا ماما، أنا هقولك الحقيقة، رهيف لا وافقت و لا حاجة، و رافضة الموضوع ده نهائي
عقدت العجوز حاجبيها و هي تقول مستهجنة:
- وه!،.. تاني هتجوليلي رافضة؟
زمّت "سعاد" شفتيها ثُم رددت تتوسلها:
- يا أمي، أرجوكي بقى حاولي تقتنعي، راشد مش لرهيف، و لا رهيف عمرها ما تكون لراشد، الاتنين مش عايزين بعض، ليه نجبرهم على حاجة هم نفسهم مش مقتنعين بيها، و مش طرف واحد، الطرفين مش موافقين
تقوّست شفاي العجوز بازدراء و هي تقول:
- اتحدتي على بتك يا سعاد، أنا ولدي راشد مهيكسرليش كلمة، بتك هي اللي ناجصة ربايِة!
احتجت "سعاد" بشدة على قولها و هي تعقد حاجبيها:
- يا ماما ناقصة رباية ايه، هي عشان بترفض حاجة متعلقة بيها و بمستقبلها و حياتها يبقى ناقصة رباية!
نقرت العجُوز بعكازها الأرضيّة و هي تنهض عن جلستها لتقول بصرامة:
- شوفي يا بتي،.. الكلام في الموضوع دِه لا هيجدم و لا هيأخر كيف ما بيجولوا، بتك وافجت.. رفضت، مهرجعش في كلامي
....................................................
- هنقعد نتفاهم زي أي اتنين عاقلين، و في الآخر عايز ياخدني و أحاول أقنع جدتي!، هو ده الحل بالنسبة لهُ
غمغمت بتلك الكلمات الحانقة و قد بدت نبرتها في البداية ساخرة من نبرته و هي تُقلده، و زفرت متبعة قولها بـ:
- أوف، أنا كنت عايشة حياتي عادي، لكن مرضاهُمش ده طبعًا،.. مش كده؟
حاولت "يارا" امتصاص ثورتها، قائلة، بينما تتناول حبّات الفول السوداني المقشر:
- اهدي بس شوية
فـ استهجنت قولها ذاك و هي تذرع غرفتها ذهابًا و إيابًا:
- أهدى إزاي يعني يا يارا، إنتي بتهديني و لا بتحرقي دمي
و تغضّن جبينها و قد تعجّبت صوتها و كأنها تتناول شيئًا:
- يارا.. انتي بتاكلي!
كتمت "يارا" ضحكتها بصعوبة، و هي تتمتم:
- باكل إيه بس يا رهيف، يعني انتيب تكلميني في موضوع مصيري بالنسبة لك، و أنا هسيبك و اكل؟!
- شاكة فيكي
طردت "يارا" أنفاسها الحارة و هي تسألها بتوتر:
- طب و انتي هتعملي إيه الوقتي؟
دلّكت "رهيف" جبينها و هي تقول بتيهٍ تام:
- معرفش، مش لاقية حاجة أعملها، أنا تعبت!، هما عايزين مني إيه؟
تنهدت "يارا" بضيق و هي تحنى أبصارها، ثم قالت بلهجة جادة:
- رهيف، ارجعي بيتك، مالوش لزوم تفضلي عند عمك، افضلي في بيتك و متخافيش، زي ما قولتلك قبل كده، اتنين من رجالة يامن في ضهرك، محدش هيقدر يجبرك على حاجة
فـ أعربت لها عن خوفها قائلة:
- أنا خايفة يا يارا! حاسة إني لو رجعت هيخطفوني عشان يجوزوني غصب عني!
فانزعجت من تفكيرها، و حاولت جاهدة أن تصرف تلك الأفكار الغريبة عن عقلها بقولها:
- يا بنتي مش للدرجة دي يعني، أنا حاسة إنك مزوداها شوية، عيلتك مش وحشة للدرجة دي
عبثت "رهيف" بخصلاتها و هي تتنهد بقنوط شديد، ثم هتفت بتيهٍ تام و كأن دوّامة تعبث بأفكارها:
- يمكن انتي معاكي حق، مش عارفة!
فهدّئتها "يارا" مؤكدة قولها:
- اهدي بس و حاولي تفكري في حل، أحسن حاجة تعمليها دلوقتي إنك ترجعي، و بعدها ربنا يحلها، عايزاكي متخافيش، لكن لو حصل أي حاجة كلميني بالله عليكي
رمشت "رهيف" باستياء و هي تزم على شفتيها ثُم رددت بيأسٍ و قد تهدّل كتفيها:
- و انتي في إيدك إيه تعمليه؟ أنا بكلمك أفضفض معاكي و بس
فكانت نبرتها واثقة و هي تقول مؤكّدة عليها:
- يا بنتي يامن لو اتدخل الجوازة دي مش هتتم، فاهدي كده و اعرفي إني في ضهرك
أجبرت "رهيف" شفتيها على الابتسام و هي تنغاشها قائلة:
- مالك واثقة فيه أوي كده!
أبعدت "يارا" الهاتف عن أذنيها و قد شعرت باهتزازهِ و كأنهُ حدث ذلك في الوقت المناسب، فانبعجت شفتيها و هي تعيد الهاتف إلى أذنها:
- روڤي، ماما بترن..هقفل معاكي و أكلمك تاني ، أوكيه؟
و قبل أن تستمع إلى قولها كانت تغلق المكالمة و تجيب على مكالمة والدتها التي أتاها صوتها بقلق:
- أخبارك إيه يا يارا النهاردة؟.. كويسة يا حبيبتي
طمأنتها بقولها الهادئ و هي تهز رأسها بحركة خفيفة:
- كويسة يا ماما، متقلقيش عليا
طردت "حبيبة" زفيرًا من صدرها و هي تقول بلوعةٍ و قد شاب القنوط لهجتها:
- وحشتيني أوي
غمغمت "يارا" و هي تعقد حاجبيها، مع ابتسامةٍ صغيرة تلوح على أطراف شفتيها:
- أومال لو مكنتيش بتكلميني كل يوم، و بعدين مش كفاية ان أنا شوفتك
و انخفض صوتها قليلًا و هي تتابع:
- أنا مكنتش متوقعة أبدًا اني ممكن أشوفك يا ماما!
فبررت لها "حبيبة":
- قلقانة.. قلقانة عليكي أوي يا يارا
تنفست بعمق و قد بدت لهجتها جادة قليلًا:
- متقلقيش، صدقيني أنا بخير، قوليلي...
و صمتت هنيهة قبل أن تردف بتنهيدة مُطولة:
- ولاء عاملة إيه؟
فـ أعربت لها "حبيبة" عمّا يجول في خاطرها و قد تركت تنهيدة حارة:
- مش عاجبني حالها، خصوصًا إن كل ما بيمر وقت و لسه بتعرج حالتها بتزيد أكتر و أكتر، مصاحبالي واحدة صايعة و ليل و نهار معاها، حاولت بكل الطرق أفصلهم عن بعض مش عارفة!
بدا الضيق على ملامحها و هي تجفل أبصارها، و هتفت بانزعاجٍ:
- حاولي معاها يا ماما، أنا خايفة عليها
- مش أكتر مني يا يارا، مش أكتر مني، لكن مش عارفة أعمل إيه معاها
 و أبدت لها إنهاكها في محاولاتها معها:
- غلُبت.. غلبت معاها يا بنتي و مفيش نتيجة! لا الشدة نافعة معاها و لا اللين، مش عارفة أعمل إيه تاني معاها
انفتح الباب على حين غِرة فارتفعت أنظارها نحوه، ضمّت "يارا" شفتيها معًا ثم أحنت بصرها عنهُ و هي تحمحم متبعة ذلك بقولها الهامس:
- هكلمك تاني، سلام
و أنهت المكالمة و قد بدا بعض الارتباك على ملامحها، فدنا منها ، و هو يحك بطرف سبابتهِ أنفه قائلًا بشئ من التهكم:
- حبيبة عاملة إيه؟
فـ غمغمت "يارا" مناغشة:
- بتسلم عليك
تبدلت نبرتهِ للجدية، غير مكترثًا بما قالتهِ، حين نظر لقدمها التي غُلفت بالرباط الضاغِط:
- رجلك عاملة إيه؟
أومأت و هي تحل عقدة ساعديها قائلة باقتضاب:
- كويسة
و ضيقت عينيها و هي تسأله بتلعثم:
- و ضهرك؟
حاد ببصره ليقول بإيجاز غير عابئ:
- متشغليش بالك
فـ أبدت حنقها لفعلتهِ:
- مش عارفة مرضيتش حد يشوفك ليه؟ معتقدش إنك كويس!
عقد العزم على تركها، لينهى ذلك الجدال الذي لن يؤتي بثمارهِ معه، و لن يُسمن و لا يغني من جوع، دسّ "يامن" كفيه بجيبيهِ و هو يقول بلهجة جامدة:
-مش مهم تنزلي، العشا هيطلعلك هنا
فنهضت عن جلستها من فورها و هي تقول محتجة:
- انت بتهزر؟ لأ طبعًا، أنا حاسة إني محبوسة في الاوضة، أنا ما صدقت
وقفت أمامهِ مباشرة، ترفع إحدى قدميها عن الأرضية بمسافة قليلة، متخوّفة من الضغط عليها فتؤذيها، و رغمًا عنها كادت تسقط و قد فقدت توازنها لحظيّا لحركتها المباغتة، فأخرج "يامن" كفه من جيبهِ من فوره و سارع بالقبض على مرفقها و هو يُحذرها:
- حاسبي!
احدى ساعديها استندت بهِ على صدره رأسيّا، و الآخر احتواهُ في قبضته، ابتعدت قليلًا عنهُ ليتراءى لها وجههُ عن قربٍ فسمحت لها تلك اللحظة بدراسة تعبيراتهِ التي تشعر بها تتغير كل ثانية تمضي عليها برفقته، لاح على ثغرها بسمةٍ طفيفة و هي تغمغم:
- أنا كويسة
و بعُسر ابتعدت عنهُ.. منتشلة نفسها من أحضانهِ، اضطربت أنفاسها قليلًا، و تشربت وجنتيها بحمرة مرتبكة، من تلك الحركة المباغتة و الغير محسوبة، حينما كان هو يردد بحزمٍ معترضًا على رحيلها، و هو يهمّ بإعادتها للفراش:
- خليكي هنا
- تؤ..تؤ.. تؤ، أنا عايزة أنزل
و شددت على قولها فبل أن يجيب و قد شعرت ببوادر تعنّت منه و هي تُغمغم:
- قولتلك مش بحب القيود، و الحبسة دي أنا بكرهها
 تعمّق في مقلتيها اللامعتين ببريقٍ إثر انعكاس الضوء عليهِ، أشاح بوجههِ بعيدًا عنها و هو يزفر في ضيقٍ محاولًا السيطرة على سيل أفكارهِ، ثم أشار لها بعينيهِ و هو يسحب مرفقها ليعينها على السير قائلًا بلهجة آمرة:
- امشي
- يامن!
توقف و هو يحيد بأنظارهِ إليها، فـ أومأت بحركة سلسلة و هي تقول بلهجة ذات مغزى:
- انت لحقتني!
بدا و كأنهُ يؤنب نفسه على ما تسبب فيه لقدمها بينما يشير إليها متشدقًا:
- لأ واضح!
فلوت ثغرها ببسمة شبه مشرقة جعلت عينيها و كأنهما تبتسمان أيضًا، و هي تقول:
- مش بهزر بجد! لولاك كان فاتني متدشدشة، انت لحقتني، و أكتر من مرة كمان
طردت زفيرًا خرج من أعماق صدرها أعقبتهُ بقولها الهادئ و هي تمنحهُ نظرة رقيقة گتعبيرًا عن امتنانٍ كان عليها أن تُقدمه إليهِ قبلًا:
- شُكرًا.. يا يامن!
......................................................
كان ينفث من دخان سيجارته و هو ينهض عن جلستهِ، هاتفه على أذنهِ و سيجارتهُ بين سبابتهِ و الوسطى، بينما يتقدم عدة خطوات للأمام مردفًا بلهجة آمرة:
- فارس.. الحجز ده يتلغى!
أتاهُ صوته الساخط:
- عرفت منيـن؟ انت بتراقبني
فشدد "يامن" من كلمته و هو يطبق جفنيه:
- فـارس.. كلامي مفهوم، الحجز ده يتلغي
فاحتجّ على تسلطهِ ذاك:
- ليه ان شاء الله، اعتبرني زي أخوك اللي رميته، أنا مش فاهم انت عايز مني إيه!
حذرهُ "يامن" من التمادي:
- أنا بعديلك كتير، خد بالك
كزّ "فارس" على أسنانهِ و قد بدا أكثر استهجانًا و هو يتساءل:
- عايزني أقعد أعمل إيه يا يامن؟.. عايزني أعمل إيه؟ أبويا سجنته، أمي..أهي هربانة من سنين و خلاص مش فارقة معايا، عمر.. سفرته، حتى انت خسرتك! أقعد أعمل إيه في أرض عمري ما حسيت إنها أرضي، ما تقولي، المفروض أعمل إيه!
سحب "يامن" من سيجارته نفسًا عميقًا من سيجارتهِ و نفّثه أثناء قولهِ الجاد:
- انت مخسرتنيش.. انت بتوهم نفسك بكده!
فضيّق "فارس" عينيه و هو يقول:
- يامن...آآ.
قاطعهُ "يامن" بلهجة حاسمة:
- فارس، مستنيـك
 و قبل أن يتحدث كان "يامن" يستطرد بلهجة ذات مغزى:
- يا ريت متكررهاش تاني يا فارس، ياريت!
و أنهى المكالمة بشكلٍ مفاجئ و قد ترك الأخير يتخبط في قراراتِه.
گان شعاع شمس الشتاء شبه المتهوجة اليوم مسلطًا على وجههِ و هو يتحدث في هاتفهِ بينما هي تتابعه من شرفة غرفتها المُطلّة على الحديقة، بيومٍ شتويّ آخر و جديد تقضيهِ برفقته، كانت بعيدة فلم يصلها صوته، و لكن انفعالاته لم تجعلها ترتاب من تلك المكالمة، عقدت ساعديها و هي تتطلع إليه بشرود، تتأمل كُل إيماءة أو حركة تصدر عنه، رمشة عينه، التوائة فكه، تشنج عضلات وجهه حينًا ثم ارتخائها حينًا آخر، عضلات عنقهِ، تفاحة آدم التي ترتفع و تنخفض حين يبتلع ريقهُ من حينٍ لآخر،  تنهدت بحرارة غير قادرة على صرف أبصارها عنه، و كأنهُ شعر بتواجدها، حيث ارتفعت أنظارهِ للأعلى فانعكس ضوء الشمس على خضراوتيه فتغير لونها و بدا غريبًا.. و لكنهُ خاطفًا أكثر، و حين التقت أعينهُما لم تقوَ حتى على الحيُود ببصرها، و ظلت أنظارها معلقة به، بدا و كأن هناك الكثير الذي يقف على أطراف لسانها، و لكنها صمتت.. ما يشغل بالها حقًا هو كيف لم يُلاحظ طوال تلك المُدة.. اختفاء تلك البيانات الهامة من جهازهِ، أم أنهُ لاحظ، و لكن لم يخطر على مخيّلتهِ أن تكون هي الفاعِلة؟، حينها تذكرت كلمات العجوز، أيعقل أنه يثق بها؟ فلم يتوقع تلك الطعنة الغادرة منها؟.. تنهدت بقنوطٍ شديد و هي تضمّ شفتيها، حينئذ أحنت بصرها عنه و قد تهدل كتفيها في انطفاءٍ و هي تستدير لتلج بخُطى متعرجة للداخل، بينما أنظارهِ تتابع حتى طيفها الذي تلاشى، و لم يبقَ لهُ أثر... أيُ أثر.
.........................................................
تركت الحامل المعدنيّ و فوقهُ ارتصت أكواب الشاي الذي يتصاعد منهُ البخار و بعض الحلوى، ثم جلست إلى جوارهِ و هي تسحب كوبهُ لتناوله إياه، أثناء قولها الناقِم:
- ما الراجل جه أهو، بنت أخوك ممشيتش معاه ليه؟
تنهد " عبد الصبور" بقنوط و هو ينظر نحوها من زاوية عينه، سحب الكوب من بين أناملها، و شرع يرتشف منه بتروٍ شديد نظرًا لسخونتهِ المفرطة، و هو ينظر أمامه بنظرات شاردة متجاهلًا الرد، و لكنها لم تكفّ حيث أخذت تتابع تبرمها:
- ما تقول حاجة يا عبده؟ بنت أخوك دي هتفضل لازقالنا كده؟
نفخ " عبد الصبور" و هو يترك الكوب بعنف على المنضدة، ثم اعتدل ليواجهها و هو يناظرها باحتداد:
- في إيه يا حميدة؟ إنتي عايزة إيه؟
فصارحتهُ بما يجول في خاطرها:
- عايزة أعرفك إن بنت أخوك إرتاحت على القعدة هنا، واكلة شاربة نايمة ببلاش، إحنا مش هنخلص بقى منها هي و أختها
توهجت نظراته و هو يستنكر ما تقول:
- انتي ناسية إن أخويا موصيني عليها؟ أسيبها أنا بقى و أمها مش سائلة فيها!
تقوست شفتيها بازدراء و هي تتمتم متشدّقة:
- أديك قولتها يا عبد الصبور، أمها مش سائلة فيها، يبقى انت اللي تسأل!
و اعتدلت في جلستها و هي تقول بنظرات محذرة:
- بقولك إيه يا عبده، كفاية علينا مصاريف بنتك اللي على وش جواز، أنا مش حِملها هي و أختها كمان!
فضرب الأخير كفًا بكف و هو يقول شاجبًا:
- لا حول و لا قوة إلا بالله، البت جتلي و وثقت فيا أروح أقولها اطلعي برا بيتي؟، ده اللي يريحك يا حميدة؟
فنهضت عن جلستها و هي تقول بلا اكتراث:
- و الله أنا مقولتش حاجة غلط، قاعدة هي و أختها أديها شهر مقولتهاش تلت التلاتة كام!
و ضاقت عيناها أثناء قولها الجاف:
- لكن أكتر من كده ليـه؟ اتبنيناها هي و أختها و مش عارفين؟ و لا خلفناهُم و نسيناهم
و أشاحت بكفها ثم تخصرت و هي تقول مستنكرة:
- و بعدين مالها بنت أخوك مش راضية ليه بابن خالها، ده الواد طول بعرض ، و حاجة متحلمش بيها
و تقوّست شفتيها و هي تردد هازئة، متعمّدة التحقير من شأنها:
- و لا هي بنت الوزير و مش عارفين! شايفة نفسها على إيه!
- استغفر الله العظيم يا رب
فـ أردفت بفظاظة و هي تسير نحو غرفتها:
- شوف يا عبده، البت دي تتصرف و تمشيها من هنا هي و أختها، الواحد مش ناقص هم!
و دلفت صافقة الباب من خلفها تتابعها نظرات زوجها الحانقة، و لم ينتبه أحدهم إلى "رهيف" التي كانت تقف في الردهة، فاستمعت إلى الحوار.. كاملًا.
.......................................................
أتلك "هُـدى" حقًا؟..
 أم أنهُ مجرد شبحها؟
أتلك من كانت لا تهتم سِوى بالعناية بمظهرها و جمالها و بشرتها و قوامها؟
الآن شرعت التجاعيد تغزو صفحة وجهها، الهالات السوداء تكونت أسفل عينيها، حتى أنها لم تعد ترتاد النادي مع أصدقائها، لم تعد تهتم بجمعيّاتها الخيرية التي تقيمها لتحسين صورتها أمام المُجتمع، بل أنها حتى لم تعد تتعدَ حدود قصرها، و صارت و كأنها أسيرة به، لم يكن ذلك إثر كشف "يامن" عن خيانتها سابقًا، لم يكن ليترك بها هذا ذلك التأثير الجليّ، و التغيير الجذري، و لكنهُ خوفها منه، خوفًا من "كمال".. من أن تُكشف الأسرار أمام "يامن" واحدًا تلو الآخر، حينها ماذا سيفعل بها! إنها كارثة بالنسبة لها، كارثـة.. بكل المقاييس، ما يقارب الشهر مرّ منذ دلوف "كمال" للسجن، و لكنها تعلم أن حبسهُ لن يردعه مطلقًا عمّا ينتوي فِعله، كما أن السكون الذي حل عقب تهديداتهِ لها.. جعلها ترتاب أكثر مما يخطط لهُ، كانت تجلس على الأريكة ذات الملمس الناعِم و اللون النبيذيّ بحديقة القصر، تتأمل الكلأ حولها بشرد جلّ على ملامحها الذابلة، و لم تُنتشل منهُ سِوى مع انحنائتها أمامها لتترك قدح القهوة الخاصة بها، ثم همّت بالانصراف دون تعقيب، و لكنها استوقفتها بقولهِا و هي تعتدل في جلستها:
- سهيـر؟
تنهدت بعمق ثم التفتت و هي تجيبها بعملية:
- نعم يا هانم
زمت على شفتيها، ثم سألتها عقب أن ازدردت ريقها بارتباك واضح:
- هو.. هو كمال.. ممكن.. يكشف كل حاجة ببساطة
كانت نظراتها عاديّة للغاية و هي تقول مشيرة إليها:
- ده جوزك يا هانم، إجابة السؤال ده عندك مش عندي!
شعرت بصعوبة في التنفس و هي تسأل بأعين ضائقة ارتيابًا:
- تفتكري إيه اللي ممكن يحصل لو ده حصل يا سهير؟
و گأن بسمة ساخرة لاحت على شفتيها ثم تلاشت تمامًا، ظلت نظراتها القويّة مسلطة على عينيها بدا و كأنها ستنطق..، و لكنّ:
- عن إذنك..يا هانم
و انصرفت من أمامها، تتابعها أنظارها اليائسة، و خفقات قلبها تتزايد گُلما حاول ذهنها التفكير بتلك النقطة تحديدًا.
....................................................
بدافع الشغف أمسكت بمرشّة المياه عنه ، و شرعت تروي الشجيرة المزروعة بحديقة القصر حديثًا و التي لم تينع وريقاتِها بعد في الحديقة، التفتت و هي تسألهُ بدافع الفضول:
- هو البستاني مجاش النهاردة يا عم منصور؟
هز رأسه فنيًا و هو يجيبها بسلاسة:
- لأ يا بنتي، خد إجازة النهاردة، بنته تعبانة
تقوست شفتيها بشئٍ من الشفقة و هي تحني بصرها متمنية الشفاء العاجل لها:
- ربنا يشفيها
ثم راحت تتساءل بفضول أشد و هي تتلفت فتتأمل تلك الزينة التي يشرع العاملون بتعليقها، و كأن هناك حفلة ما سـ تُقام:
- عم منصور، هو في حفلة هتتعمل هنا؟
رمش عدة مرات و هو يواري ارتباك نبرتهُ مربتًا على كتفها ليقول بعجلة:
- أما أشوف صابر بيعمل إيه، لأحسن صابر ده لو موقفتش على دماغه مش هيعمل حاجة
أومأت و هي تبتسم بوداعةٍ:
- اتفضل يا عم منصُور
 تركها و انصرف عقب أن منحها ابتسامة حانية، بينما هي تركت مرشة المياه أرضًا، ثم شردت و هي تتلمس باهتمام وريقات الزهُور الخضراء، ابتسمت و هي تتخيل شكلها بعدما تينع أوراقها الناعمة، اخترق أنفها عبقهِ الرجوليّ فتنبهت خلاياها لاقتراب وصوله، التفتت من فورها گالملسوعة فوجدته بالفعل يقبل عليها، رمشت عدة مرات و قد شعرت بجفاف حلقها حين رأتهُ بكامل أناقته في ثيابهِ الرسمية، شعرت بدقات قلبها تكاد تدوي گالطبُول حين وقف أمامها مباشرة، خلع "يامن" نظراتهِ الشمسية فسألتهُ بارتياب:
- انت.. رايح مكان؟
أومأ و هو يصرف بصره عنها مغمغمًا بلهجة صلبة:
- نازل القاهرة
حملقت و هي تدمدم بتوجس:
- ليـه؟
ارتكزت أبصاره ثانية عليها و هو يعقد حاجبيه أكثر فعادت تسألهُ و قد اندفع الادرينالين في عروقها:
- في.. حاجة حصلت؟
لم تتوقع مُطلقًا أن يجيبها، و بالفعل حدث.. حيثُ أخفى عينيه خلف زجاج نظارتهِ القاتمة و هو يوجه بصره نحو قدمها و هو يقول محاولًا مواراة الاهتمام من نبرته:
- خدي دواكي في ميعاده، أنا ماشي
و همّ بالانصراف لولا أن سألتهُ و هي تعقد حاجبيها:
- هتتأخر؟
توقف بمحلهِ و هو ينظر نحوها مستفسرًا، ضيّق عينيه و هو يخطو نحوها متسائلًا بلهجة قاتمة:
- خير؟.. بتسألي ليـه؟
تهربت بنظراتها منهُ و هي تتلفت حولها ثم ارتكزت بأبصارها عليه محاولة أن تغيّر دفة الحديث:
- إيه اللي بيحصل هنا بالظبط؟ كأن في احتفال قريب؟
عينيه تتجولان على تقاسيمها دارسًا لها بدقة، ثم حاد بأنظارهِ عنها و هو يقول بلهجة غامضة:
- هتعرفي
تأملت تعبيراته عن ذلك القرب، حتى منحها نظرة أخيرة، ثم استدار منصرفًا، لاحقتهُ نظراتها و الكلمات تتوافد على أطراف لسانها، حتى تقدمت نحوه عدة خطوات و هي تناديهِ:
- يامن!
توقف إثر ندائها ثم التفت لينظر نحوها مستفسرًا، ذلك التوتر الذي لاح على صفحة وجهها الصافية كان كافيًا ليدرك أنها تخفي شيئًا، و ما كان كافيًا ليقطع الشك باليقين أنها راحت تسحب رابطة خصلاتها لتعبث بها بأناملها، دنت أكثر و هي تدمدم بارتباك:
- عايزة.. أقول حاجة
فـ اقتضب في قولهِ و:
- سامعك
سحبت نفسًا عميقًا زفرته على مهل، و راحت تقول ما لم يخطر على بالها متهربة من كلماتها التي أعدتها سابقًا:
- سـلام!
و أوفضت نحو الداخل لتفر من أنظارهِ المستنكرة التي تابعت طيفها، فخطى نحو البوابة، و كلمة واحدة حانقة اندفعت على أطراف لسانه:
-غبيّة!
...................................................................
فاضت دموعها أنهارًا و هي تدس ثيابها غير مبالية بطيّهم في حقيبتها، كانت تستشعر المعاملة الجافة من زوجة عمها طوال فترة مكوثها، و لكنها لم تُدرك أنها عبئًا لتلك الدرجة، شعرت و كأنها ريشة في مهبّ الريح، تتجول بها هنا و هناك، تعلم ما سـ يحدث.. ستحارب، سـ تحتج، سـ تعترض، و بالنهاية.. لن تجد لها سندًا في تلك الحياة، سـ تُجبر عقب مواجهاتها، فلمَ إذًا؟.. حسمت أمرًا ما في ذهنها، و لكنهُ لم يكن كافيًا ليرضيها، بل أنهُ لم يكن يرضيها أبدًا.
آخر ما التقطتهُ من خزانتها لم يكن ثوبًا، كان إطارًا صغيرًا يحمل صورة والدها الحبيب بملامحهِ البشوش، أوصدت ضلفة الخزانة، و راحت تتلمس بإبهامها الزجاج الذي يحول بينهما و بين وجه والدها، فلم تتمكن من السيطرة على نوبة بكائها، تركت جسدها المرتخي بجوار الخزانة على الأرضيّة و هي تنتحب بخفوت محاولة كتم شهقاتها بكفها و بالكف الآخر تضم صورة والدها إلى صدرها، أطبقت جفنيها لتشق الدموع طريقها الذي تحفظهُ من ظهر قلب على وجنتيها، أثناء غمغمتها القانطة لنفسها:
- أنا مخسرتش أب بس، أنا خسرت السند و الضهر، خسرت كل حاجة من بعدك يا بابا!
حاولت التحكم في بكائها حين استمعت إلى رنين هاتفها، فبسطت كفها تلتقطه من أعلى الفراش القريب، وَجمت فور أن رأت الشاشة منبثقة باتصالٍ هاتفيّ من ابن خالها الذي قرر المكوث بأحد الفنادق بالقاهرة، ريثما يستمع لردها، أجابتهُ بلهجة مبحوحة و هي تنزح دموعها بأطراف أناملها:
- أنا موافقة!
تغضن جبينهُ من إجابتها المقتضبة التي بدأت بها المحادثة، فـ سألها مستوضحًا:
- هتيجي معايا؟
هزت رأسها و قد انفلتت شهقاتها منها و هي تجيب من بينها:
- لأ.. موافقة أتجوزك!
.............................................................
 تنهدت بحرارة و هي تترك آخر الصحون بآلة التنظيف، و بذهنها مئات الأفكار، التفتت فبدت گالمصعوقة، أجفل جسدها و قد ارتد للخلف و هي تشهق من فرط تفاجأها، فأتها صوتهُ الناقِم:
- خير يا سهيـر؟، شوفتي عفريت؟
رمشت بعينيها عدة مرات و هي تضع كفها على صدرها الذي يعلو و يهبط بانفعال، ابتلعت لعابها و هي تقول بتلعثم:
- يـ..ـامن بيـ..ـه
كان يقف مستندًا بكتفهِ لإطار الباب، عاقدًا ساعديه أمام صدره، استقام في وقفته و هو يخطو نحوها بينما كانت تحاول استجماع شتاتها قبل أن تقول و هي تحيد بأنظارها عنه:
- آسفة.. معرفش إن حضرتك موجود، اتفاجأت
دس كفيه بجيبيهِ و هو يقف أمامها مشرفًا بقامتهِ عليها ليقول بلهجة قاتمة:
- مخبيىة إيه يا سهير؟، مخبية إيه عني يخليكي تتخضي كده لما تشوفيني
و امتد كفه لمرفقها و هو يقول بلهجة محذرة من بين أسنانهِ المُطبقة:
- انطقي يا سهير، اتكلمي، قولي مخبية إيه!
انحرفت نظراتها بين عينيهِ و قد شرعت الدموع تترقرق في مقلتيها، سحبت شهيقًا عميقًا لتزفره على مهل، ثم قالت بلهجة غامضة و هي تسحب مرفقها من قبضتهِ:
- أنا.. عمري ما بصيت للفلوس يا ابني، و لا عمري.. كانت الفلوس تهمني، عمري ما طمعت، و لا عمري بصيت للي في إيد حد
و أحنت نظراتها عنه و هي تقول بلهجة جادة شابها الضيق:
- و أظن أنا.. شغالة من زمان هنا، عمرك شوفتني بسرق و لا بـ....
فقاطعها بلهجة خالية من المشاعر:
- كفاية خيانتك لثقتي فيكي!.. دي عندي كفاية
ارتفعت أنظارها نحوهُ و هي تقول معترضة:
- أنا مخونتش.. مخونتش ثقة أي حد يا ابني
فـ استهجن تمامًا كلمتها الأخيرة و قد التهبت عيناهُ بنذير غير مبشر:
- متقوليش ابني.. لو كنتي اعتربتيني ابنك في يوم مكنتيش عملتي كدا فيا!
و احتد أكثر و هو يشير بسبابتهِ:
- كمال.. و حسين يربطهم إيه ببعض؟، انطقي يا سهير، مين فيهم اللي قتله؟ اتكلمي
و جأر بكلمتهِ الاخيرة و قد برزت عروق جانبيّ رأسه، فنقلت نظراتها الدامعة بين عينيه على الرغم من قوتها، أثناء قولها المتعند:
- معرفش
تكوّرت أصابعهِ حتى ابيضت مفاصلهم و هو يسألها بغضبٍ مكبوت بشق الأنفُس:
- أنا إنسان ميعرفش معنى الصبر يا سهير، اتكلمي بدل ما و رحمة أبويا أنسى إني اعتبرتك زي أمي في يوم
لفظت أنفاسها الحارة و هي تقول بلهجة غامضة:
- و لو قولتلك إن أبوك اللي بتحلف برحمته هو طرف من سكوتي؟، هتعمل إيه؟
تغضن جبينهُ أكثر و قد انعدمت المسافة ما بين حاجبيه و هو يسألها مستهجنًا:
- نعم؟
أومأت بحركة خفيفة من رأسها و هي تقول:
- أيوة، هو طرف، و بنت أختي اللي متسابة أمانة في رقبتي طرف تاني! مقدرش أقول حاجة يا يامن بيه، مقدرش.. أحط السكينة على رقبة أُمنية
و بدت السخرية اللائمة قليلًا في نبرتها:
- مش.. الفلوس زي ما كنت فاكر يا بيه
و همّت بالمغادرة و هي تمر من جوارهِ، فاستوقفها و هو يسحب ساعدها و نظراتهِ منغرسة في عينيها القويتين أثناء سؤالهِ المحتدم:
- مين اللي هددك بيها؟ مين يا سهير؟.. انطقي
و التزمت الصمت المرير و هي تنقل نظراتها بين جذوتيه المتقدتين، فأردف بلهجة حالكة من بين أسنانهِ المطبقة:
- حسين.. كمال؟
و اشتدت قبضته دون وعي منه على ساعدها و قد اضطرمت عينيهِ أكثر أثناء قولهِ:
- و لا هُـدى
- يـ..ـامن!
........................................................................
تكاد تجن بالمعنى الحرفيّ لذلك و هي تبحث في الدفتر الصغير عن أرقام هواتف جميع أصدقائها علّها تجد تلك المتمردة، و لكنها كانت تفشل في كل مرة و الإجابة واحدة لمعظمهم، لم يرها أحدهم، لم تحادثهم، و لا يعلمون عن أخبارها شيئًا و قد قاطعت جميهنّ، بدأت تدرك حقًا ما تؤول حالة ابنتها إليه، و هذا ما تسبب بالقنوط و الوجوم الذي حلّ على ملامحها.
صفعت سماعة الهاتف الأرضي و هي تنكس رأسها بألمٍ بليغ، لم تعلم ماذا عليها أن تفعل حقًا، كيف تتصرف و ابنتها قد غادرت المنزل منذ البارحة صباحًا و لم تعد؟، أيُعقل أن شيئًا أصابها؟ أم تكُون قد اختُطفت مثلًا؟، أم أن..
و لم تترك للأفكار السوداويّة تتملك منها، راحت تسحب هاتفها الجوّال و هي تمرر أناملها على شاشتهِ، و ما إن أتاها صوتهُ حتى هدرت و الدموع تترقرق في مقلتيها هلعًا:
- فارس، الحقني يا ابني، ولاء مش لاقياها!
........................................................
...........................
......................................................................
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Dove le storie prendono vita. Scoprilo ora