"الفصل الثامن عشـر"

1.3K 37 2
                                    

روايـة " فِي مِرْفَأِ عَيْنَيْكِ الأزرَق" الجـزء الثاني ..

"الفصـل الثـامـن عشـر"

عـاد "حسيـن" ينزع السكيـن الذي تلوث نصله بالدمـاء و قد تجلت الصدمـة على ملامحـه ، شهقـت "حبيبـة" بـ هلع واضح ، بينما تهالك جسـد "ولاء" هي الأخـرى بـجوارهـا شاخصـة أبصـارهـا ، بينمـا تصلبت ملامح وجـه "يامن" بالكـامل و تجمدت أنظاره على نقطـة في الفراغ ، أخفـض نظراته تدريجيًا لـ يقع بصـره على بقعـة الدمـاء التى شرعـت تتسع تدريجيًا ...
تلك الدمـاء التى جعلـت احـدى أسـوأ ذكريـاته تمـر أمام عينيه في ثوانٍ قليلـة
.........................................................................................
<< ألقى "كمـال" بـ حزامـه الجلـدي على الأرضيـة و الذى كـان يستخـدمـه كـ سوط ، ثم انحنى عليـه لـ يجـد الدمـوع تنهمـر من عينيـه رُغمًا عنه ، فـ قبض بـ عنف على ذراعـه هـادرًا بـ شراسـة :
_ مفيش راجـل بيعيـط ، ســــامــع !
أومـأ برأسـه عدة مرات ليتخلص من عـذابـه الذى لا ينتهـى ، و أطبق جفنيـه بـ قـوة حتى لا تلتقي نظراته مع عينيه التى بدت لـه كـ عيـون قط شرس ملونـة مُضيئـة في الظلام ، فـ عـاد "كمـال " يردد بنبرة أشبـه للفحيـح :
_ أبقى أسمعـك تقـول بابا تانى ! خلاص أبوك مـــات ، مــــــات ! يعنى مستحيـل يرجع تـانى !
و كـأنـه يتعمـد سكب الملح على جرحـه الغـائـر بـ روحـه ، و بصعـوبـة تمكـن من كبح دمـوعـه بالرغــم من الآلام التى تداهـم جسده بالكـامـل ، إلا أنـه قبض على شفتيـه بـ قوة محاولًا ألا يصدر عنـه أي صـوت ، فـ هـدر به "كمــال" بـ جفـاء :
_ فـــــاهــــــم !
أومـأ برأسـه عدة مرات و هـو يعيـد فتح عينيه لينظـر له بنظرات حـاقدة من زاويـة عينه ، فـ شملـه "كمـال" بازدراء و هـو يدفعه بـعيدًا عنـه ، فـانحنت "هـدى" عليـه لتشملـه بنظرات مستحقـرة ، نظر لها "يـامـن" بـ نظرات معـاتبـة ، لـم تكـن له يومًا أمًا حقيقيـة ، انه مجـرد لقب لم تكـن تستحقـه يومًا ، قبضت على ذراعـه تغرز أظافرهـا فيـه ثم صـاحت بنبرة شـرسـة :
_ انســى أبـوك ده خـالص ، ســامع !
كـز على أسنانه بـ عنف و هـو يجبـر نفسـه على التزام الصمـت ، فـ هـدرت بـه بجنـون :
_ أنـا مش ناقصـة تطلع زيـه !كـل حاجة فيك بتفكـرنى بيه ، مش عايزة أشـوفـك زي يــوسف !
فـ انحنـى "كمـال" عليهـا مرددًا ببرة شبه هـادئـة :
_ متخافيـش يا هـدى !
ثـم سلط بصره عليه متابعًا بنبرة ذات مغـزى :
_ مش هنسمحلـه يكـون زيـه !
فـ نظر له من زاويـة عيـن بـ نظرات كـارهة و تعكس جزءًا فقط من الحقـد الذي يحملـه بداخله له ، فـ جـذبها "كمال" بـ رفق مرددًا بنبرة هـادئـة :
_ يالا يا هـدى ، متعصبيـش نفسـك
فـ حدجته بنظرات قويـة قبل أن تدفع ذراعـه بـعيدًا ليرتد جسده للخلف ، عاونها زوجهـا لتستقيـم بـوقفتها ، و استدار كلاهمـا ليلجـا لـ خارج الغرفـة ، فـ التفت "كمـال" بـ رأسـه له و هـو يبتسـم بـ شماتة لـ حالته ، لم يكـن وقتها عمـره كافيًا لـ يدافع عـن نفسـه أمامه ، كـان فقط في الثانية عشـر من عمـره ، عامان مـرا على موت والده ذاق فيهمـا أنواع من العذاب لم يكـن يتخيـل أنه سيراه يومًا ، عامان لم يقتنع فيهم أن والده تركـه و لـن يعود ، خرجت "هـدى" من الغرفـة و هي تزفر بانزعاج و على وجهها التأفف واضـح بينما بقى "كمـال" بـ حجـة اغلاق الباب عليـه ، غلت الدمـاء في عروق "يامن" و تشنجت عضلات وجهه و هـو يرى ابتسامته التى استفزته بدرجة كبيرة ، كور قبضتيـه بـ عنف ، و زحف بـ جسده فى اتجـاهه محاولًا أن يقتص لنفسـه منـه ، و لكن ركلـه "كمـال" بقوة في جانبه لـ يتكور أكثـر على نفسـه و هــو مثبتًا لنظراته الناريـة عليه ، فـ ازدادت ابتسامته اتساعًا و هـو يردد بنبرة أشبـه للفحيـح :
_ باى باى يا يامن !
كـز "يامن" بـ قوة على أسنانـه حتى ارتعش صدغيـه ، بينما لوح له "كمـال" بـ كفـه بـ شكـل جعـل الدمـاء تندفع بقوة في عروقـه ، كـم تمنى لو كـان في مثـل سنـه فـ يتمكن من الدفـاع عن نفسـه ، و لكنـه الآن فى أسـوأ حالاته ، على عكس "كمال" الذي كان في أوج قوته ، استدار "كمـال" بـ جسده للخلف لـ يخرج من الغرفـة صافعًا الباب خلفه ، ثم دس المفتاح بها لـ يوصده من الخارج ، استمع "يامن" الى صوت اغلاق الباب فـ كور قبضتيـه بـ عنف ، و هــو يردد بنبرة متشنجـة :
_ أنـا بأكرهكـم كلكـم ، بأكرهـكــم !
لاح أمام عينيه لحظات مخزيـة رآى فيها كلاهما معًا بدون علمهما قبـل موت والده حتى ، لـم يكـن لـ يُدرك منذ عامين ما يحـدث و لكنه استشف أنه أمرًا بشـع ، أطبق جفنيه بقوةٍ لـ يمحـو تلك الصـور المخـزية ، اندفعـت الدماء بـ عروقه و برزت عـروق جبينه ونحـره ، ضرب الأرضيـة بـ قبضته بـ قوة و هـو يتابع بـ نبرة مشتعلـة :
_ عمـرى ما هسـامحكــم ، مش هسـامحكـم!
زحـف بـ جسده الى منضـدة الـزينـة ، ثم استند بـ كفيـه عليهـا و حاول بـصعـوبـة أن يستقيـم بـ وقفته ليجـد صدره العاري مليئًا بآثـار الضرب ، فـ كـز أكثـر على أسنانـه ، عادت صورة عمـه البغيض و هـو يستفـزه و يشمـت به كـل مرة أمام عينيه كـ شريط سينيمـائي ، فـ غلت الدمـاء بـ عروقـه ، و جـذب مقبض أحـد الأدراج و شرع يبحث بداخله حتى حصـل على مبتغـاه ، رفع المقـص عاليًا و هـو ينظر له بـ عيـون لامعـة و قـد عقـد العـزم على انهـاء معاناتـه ، فـ حيـاته صارت لا تُطـاق ، لقد تعاون الجميـع بتدميـره نفسيًا ، لم يبد على وجهه أي تعابير للخوف ، بل التوى ثغره بابتسامة و هـو يفكـر في أنـه بتلك الطريقـة سيلقى والده ، فـ رفع المقص عاليًا لـ يغرسه في صدره ، ثم نزعـه ليسلط بصره على الدمـاء التى لوثته ، أخفض نظراته لينظر الى الدمـاء التى شرعـت تسيـل من جرحـه ، و بالرغـم من الألـم المميت إلا أنـه لم يكـن نادمـًا ، تراخى جسـده ليفترش الأرضيـة بـ جسده ، و تراخى كفه الممسك بالمقص لـ يسقط بجواره ، ظل ثابتًا لا يُصدر صوتًا بالرغم من الألـم المميـت الذى يشعر به ، إلا أن الآلام النفسيـة تتعدى ذلك الألـم بـ مراحـل عديدة ، أطبق جفنيـه مستسلمًا لـ ذلك الشعـور الذى شرع يسرق منه وعيـه ، هـامسًا بنبرة ضعيفـة :
_ بأكرهكـم ! >>
...........................................................................................................
تطلب منـه ذلك ثلاثـين ثانيـة كـي ينتشله الواقع من أوج ذكرياته ، ظـل محدقًا في بقعـة الدمـاء التى أخـذت تتسع بـ ظهرهـا و التى اخترقت ثيابهـا ملوثة لها ، مد كفه ليتلمـس تلك الدمـاء بأطراف أناملهِ فـ شعر بملمسهـا الدافئ ، لقـد صـدمته بـ فعلتها الغيـر متوقعـة مُطلقًا بعدما ارتكـب في حقها .. لقد طـوقت عنقـه بـ ذراعيها لتتلقـى الطعنة بدلًا عنه.. ظـلت تعبيراته متصلبـة غير قادر على الاستيعاب بعـد و ما هي الا ثوانٍ تراخى ذراعيها تدريجيًا عن عنقه ، و تراخى جسدهـا بالكـامـل بين ذراعيـه ، فـ كادت تفترش الأرضيـة بـ جسدهـا لولا أن تدارك نفسه في اللحظـة الأخيـرة و حاوط خصرهـا بـ ذراعيـه ، انحنى قليلًا ليـسند جسدهـا على الأرضيـة و مرر ذراعيـه خلف كتفيهـا لـ يرفع جسدهـا اليه قليلًا ، مرر نظراته الجامـدة على وجهها لـ يلاحظ شحوبـه الواضح ، كانت نظراتهـا اليه غير مفهـومـة و هي تُجـاهـد لتبقى واعيـة ، رمشت بـ عينيها و هي تتشبث بأطراف سترتـه ، و تنفسـت بصعـوبـة و هي تهمـس بصوت ضعيف مختنـق :
_ متأذيهـوش ، مـ.. مـتـأذيش بـا..بـابـا !
صـرخـت "حبيبـة" بـ فزع جلي و قد تجمدت اطرافهـا و لم تتمكن من الحركـة :
_ يـــــارا ، بنتـــى ، لأ ، لأااا
كتمت "ولاء" شهقاتهـا المذعـورة بـ كلتـا كفيهـا و هي توزع النظرات بين والدها الذى شرعـت الدمـاء تقطر من نصـل السكيـن القابض عليه ، و بين شقيقتهـا التي افترشت الأرضيـة بـ جسدهـا ، و تمتمت بـ عـدم استيعـاب :
_ يــارا !
لم تتمكن من الحفاظ على وعيهـا أكثـر و الألـم يكـاد يفتك بها ، فـ أطبقت جفنيهـا بـ وهـن ، و تراخى كفهـا الممسك بـ سترته ليسقط بـ جوارهـا ، خفق قلبـه بـ عنف في صـدره ، و على الفور مرر ذراعه خلف ركبتيهـا ، و الآخـر خلف ظهـرهـا ، و حملهـا بين ذراعيـه و هـو ينتصب في وقفته ، تشنجت تعبيراته و احتقن وجهه و عيناه بالدمـاء الغاضبـة و كـز على أسنانه بـ قوة هـو يرفع نظراته الناريـة المميتـة الى "حسيــن" ، هـدر به بـ شراسـة و قد شعر بالدمـاء تغلي بـ عروقـه :
_ هنتحـاسب ! هتدفـع تمـن ده !
ثـم استدار بـ جسده متحركًا نحو باب المنزل ، و خرج منه متعجلًا و هـو يلتهـم الدرجـات نحو الأسفـل ، فـ حيـاة انسـانة على المحـك و هي ليست أي انسـانة انهـا زوجتـه ..!
ظـل متسمرًا في مكانـه لا يُصدق ما فعله للتـو ، ظل يهمهم بـ كلمـات غير مفهـومـة و عيناه معلقتان بابنتـه حتى اختفى طيفهـا ، بينما تحركت "حبيبة" نحو باب المنـزل و هي تصرخ بهلع :
_ بنتـــى ، يـــــارا ، بنتى هتمــوت ، لأ
شـعرت بالرؤيـة تهتز أمام عينيها ، و تلاحقت أنفاسهـا و هي تهمـس بـ ذعر :
_ بنتى !
سريعًا ما تراخى جسدهـا لتخر على ركبتيهـا على الأرضيـة و قد شعرت بشئ يُطبق على صدرهـا فـ يسبب الاختنـاق لها ، انحنت "ولاء" عليها و الدمـوع تنهمـر من عينيها و هي تصرخ بـ فزع :
_ مــامــا
فتحت عيناها بـ صعوبـة و هي تتمتم باختنـاق بصوتٍ ضعيف :
_ الحقــى أختـك ، هيقتـل أختـك يا ولاء ، الحقيهــا
أومـأت برأسهـا العديد من المرات و هي تستند بـ كفيها على الأرضيـة ، ثـم استدرات بـ جسدهـا للخلف لـ توفض نحو الباب و التهمت الدرجـات للأسفـل محاولـة اللحاق بـ شقيقتهـا
.........................................................................................................
سـار بـ خطوات سريعـة نحو سيارته المصفوفـة متجاهلًا نظرات المارة و الهمسـات فيمـا بينهـم ، توقف أمام المقعـد الأمامي و اضطر أن ينزلهـا على ساقيهـا لـ يتمكن من اخراج مفاتيحـه ، و لكنه ظل محاوطًا لـ خصرهـا بإحكام متفاديًا سقوطها ، أخرج مفاتيح سيارته و سارع بـ فتحهـا ، ثم انحنى بـ جذعه قليلًا لـ يمرر ذراعـه خلف ركبتيهـا ، و أسنـد جسدهـا بـ حرص على المقعـد ، مرر عينيه على وجهها الذى ازداد شحوبًا ، و سريعًا ما انتصب في وقفته و هـو يوصـد الباب ، و دار حول مقدمتها لـ يستقلهـا خلف المقـود ، أدار المحرك ثم ضغط على دواسـة البنزيـن لـ يتحرك بأقصى سرعتـه نحو أقـرب مشفى .
...................................................................................................
هرعت "ولاء" نحو السيـارة التي شرعـت تتحرك و على وجهها الذعـر باديًا ، بالرغـم من ابتعـاد السيـارة عنهـا لمسـافـة كبيرة إلا أنهـا لم تفقد الأمـل ، بـل ركضت أكثر محاولـة أن تلحق بهـا ، لم تنتبه الى تلك السيـارة التي بزغـت من التقاطع ، و فجـأة شعرت بأن ساقيهـا لا يلامسـا الأرضيـة ، ثم عـادت تفترش الأرضيـة بـ جسدهـا ليرتطـم جسدها بالأرضيـة ارتطامًا عنيفًا و شرعـت بركة الدمـاء تتكون أسفل رأسهـا ، لم تتمكن من فهـم ما حـدث ، و لكنها شعرت بآلام عظيمـة تفتـك بها ، تشوشـت الرؤية أمام عينيها تمامًا ، فقـدت القدرة على الحركة ، و ضعـف معدل تنفسها ، بقت صـورة شقيقتها تلوح أمام عينيها فـ رمشت بـ عينيها عـدة مرات بـ وهـن محاولة أن تبقى قيـد وعيها و همست من بين شفتيهـا بـ صوت لا يسمعـه غيرهـا :
_ يـارا !
شـرعت صـورة أختها تتلاشـى من أمام عينيها و حـل الظلام الدامـس محلها ..أظلمـت الدنيـا بالكـامـل أمام عينيها ، و استسلمـت لـ ذلك الشعور الذى حثهـا على الغيـاب عـن الواقع بأسـره .
.............................................................................................
ثبت نظراتـه على الطريق أمامـه محاولًا الخروج من دائرة الذكريـات التى أُسـر بـ داخلهـا بسببهـا ، و لكن عادت الذكريات تقتحـم عقلـه و قد أقسمـت ألا تتركـه
...................................................................................................
<< فتح جفنيـه ثم رمش بـ عينيه عـدة مرات ليعتـاد على الإضـاءة بالغرفـة بداخل المشفـى ، تداخلت الأصـوات من حوله في البدايـة و لم يتمكن من فهـم مـا يُقـال ، و لكـنه تمكن من تمييزها ، انه صوت والدته و عمـه ، تمكـن أخيرًا من الاستمـاع الى ما يُقـال ، كـانت والدته تقف موليـة ظهرهـا له ، بينما يقف "كمـال" في مواجهتـه ، التوى ثغـره بابتسـامة شيطانيـة حيـن رآه قد استعاد وعيـه ، أراد هـو أن يزيـد من عـذابـه النفسـي ، فـ حول بصره الى زوجتـه ، و عقد ساعديـه أمام صدره ، و ردد بنبرة مـاكرة :
_ احساسـك كــان ايه يا هـدى لما ابنـك كان ممكن يمـوت بسببك ؟
فـ تجهمت ملامحهـا و رددت بـ فتـور واضـح :
_ بسببي ! و أنـا ذنبـى ايـه انـه ضعيف للدرجة دى ! كـل اللى بعمله راح على الفاضي ، بـردو هيطلع زي يـوسف !
فـرفع الأخيـر حاجبيه للأعلى باستنكـار زائف و :
_ يعني مـش ندمـانة ؟
فـ قوست شفتيهـا باستهجـان :
_ ندمـانة ! طبعًا لأ ! أنـدم ليــه ؟ عشـان بربيـه ؟ عشـان مش عايزة يبقى ضعيف زي أبـوه !
ثم قست تعابيرهـا أكثر و هي تتابع :
_ الدنيـا دى مينفعش فيهـا غير كده ، عايزاه يبقى أقـوى من ان حاجة تكسـره ، يبقى أقـوى من ان حـد يتجرأ يقف قدامـه أو يتجرأ يعارضـه !
ثبت "كمـال" نظراته عليه و هـو يبتسـم له بـ شمـاتة واضحـة ، فـ تابعت "هـدى" بتأفف غير منتبهـة لابتسامتهِ :
_ و لـو مكنش كده مش عايزاه ! مش عايزة نسخـة من يـوسف اشوفهـا قدامـى كل شـويـة ! مش عايـزة أشـوف يوسـف فيـه !
كـز على أسانه بـ قوة و هـو ينظر لكلاهمـا بـ حقـد واضـح ، هنـا كانت تلك اللحظـة التي قرر بهـا أن يتبدل كليًا .. ليس من أجلهـا ، بل من أجلـه و من أجـل أخيـه ، و خصيصًا ..حتى لا يتجرأ "كمـال" ذاتـه على الوقوف أمامه ، و من أجـل الانتقـام ممن تسبب بـ ذلك من الأسـاس بـ قتله لـ والده ، كـان كمـن وُلـد من جديـد بـ شخصيـة أخرى مقررًا دفـن تلك الذكريـات بـ داخلـه >>
..........................................................................................
عاد يفتح جفنيه و قد اختنـق صدره ، التفت برأسـه لها لـ يشعـر بارتبـاك مريب لم يتذكـر أنـه شعـر به منذ فترة طويلـة ، مرر خضراوتيـه على وجههـا الشـاحب شحوب الموتى من يراه يُدرك أنـه لا يكترث لها من جمـود ملامحـه و نظراته لها ، و لكنه على النقيض يشعر باضطراب لم يشعـر به من قبـل ، عـاد المشهـد يتجسـد أمـام عينيه كـأنه وليد هـذه اللحظـة ، كان من المفترض أن يكـون مكانهـا ، و لكنه مازال لا يفهـم لمَ تلقت الطعنـة بدلًا عنـه ، ألـم تكن تكرهه و تتمنى له ذلك ؟ وزع نظراتـه بينهـا و بين الطريق فـ سقط نظره على الشاش الطبي المطوق لمعصمهـا ، ثبت نظراته عليه ، ثم رفعهـا الى وجههـا لـ يردد بإصرار :
_ مـش هتهـربى منى بردو ، مش بمزاجـك !
ثـم انعطف بالسيارة و هـو يُـزيـد أكثـر من سرعتهـا .
............................................................................................
ترجـل "فـارس" من السيـارة التي تجمهـر المارة حولهـا ، و خفق قلبه بـ عنفٍ ، و ارتبكـت ملامحـه حيـن وقعـت عيناه على الفتــاة التي دهسهـا بـ السيـارة بـدون قصـد منه ، على الفـور تحرك نحـوهـا ، و جثـى امامهـا على الأرضيـة لـيتفقد نبضهـا ، فـوجـده ضعيفًا ، تنفـس الصعـداء نوعًـا مـا حيـن وجـدهـا ما زالت على قيد الحيـاة ، ازدرد ريقـه و هـو ينظر لها بتوتـر ، فـ اخترق أصـوات الجمع من حـولـه أذنـه ، حيـث صـاح أحـد الرجـال بـ تذمـر و هـو يضرب كفًا بالآخـر :
- لا حـول و لا قـوة الا بالله !
فـ ردد الآخـر معنفًا لـه و هـو يشير بـ كفـه :
_ يا عـالـم اتقـوا الله فينـا ده احنـا بشـر مش حيوانـات قدامكـم !
فـ صـاح آخـر بـ تبرم و هـو يشملـه بنظرات ازدراء :
_ لمـا انتوا مش بتعرفـوا تسوقـوا بتركبـوا عربيـات ليـه !
نفـخ بـ حنق و هـو يشملهـم بنظرات ازدراء ، و تجـاهـل كلماتهـم مُجبرًا و هـو يمرر أحـد ذراعيـه خلف ظهرهـا و الآخـر خلف ركبتيهـا ، و انتصب في وقفتـه و هـو يحملهـا بيـن ذراعيه، و دار حـول مقدمـة السيـارة ، و وقف أمام المقعـد الخلفـي ، ثم تلفت حوله موزعًا نظراتـه على أوجههـم ، و صـاح بهـم بنبرة عنيفـة :
_ حـد يفتـح الزفـت و لا انتو مش فالحين غير في الكلام !
فـ انتشـرت الهمهمـات بينهـم ، و تقـدم أحـدهـم لـ يفتح له الباب الخلفـي ، فـ انحنـى "فـارس" بـجـذعـه قليلًا لـ يسند جسدهـا بـ حرص على المقعـد الخلفـي ، ثم انتصب في وقفتـه و أوصـد الباب ، و دار حـول مقدمـة السيـارة و استقلهـا خلف المقود ، ثـم أدار المحـرك و ضغط على دواسـة البنزيـن و انطلق بالسيـارة نحـو أقـرب مشفـى .
.......................................................................................
ترجـل "يـامـن" من السيـارة و دار حـول مقدمتهـا ثم فتح الباب و انحنـى بـ جذعـه ممرًا ذراعـه خلف ركبتيهـا و الآخـر خلف ظهـرهـا ، و حملهـا بين ذراعيه و هـو يستديـر بـ جسده للخلف و تحرك بـ خطـوات واسعـة نحو الداخـل ، و مـا ان رآه الممرضـون سارعـوا بإحضـار سرير نقـال ، فـ أسنـد جسدهـا عليـه بـ حـذر ، كـادت الممرضـات تدفعه و لكنه قبض بـقوة على حافته بـ كفيـه ليثبتـه و هو مسلطًا لنظراته الجامدة على وجهها ، فـ رددت احـداهـن باعتراض على ما يفعـل :
_ لـو سمحـت يا حضـر..
فـرمقهـا بنظرة حاميـة أربكتهـا و أجبرتهـا على ابتلاع كلماتهـا ، بينما انحنـى ليهمـس بـ جوار أذنهـا بـ صـرامـة :
_ قولتلك مش هسيبك ! متحاوليـش !
ثـم انتصـب في وقفتـه و أرخـى كفيـه عـن السريـر النقـال ليتمكـنَّ من دفعهِ ، فـ تسمـر في مكانـه و هـو يراقب ابتعادهـم للحظـات ، كـز على أسنانه بـ عنف كـور قبضتيـه بقوة حتى برزت عروق ظهره الخضراء ، أخـرج زفيرًا حارًا فـ بدا و كـأنـه ينفث نيرانًا ، ثـم تحرك في اتجـاه غـرفـة الطوارئ بـ خطوات ثابتـة .
...............................................................................................
كـان "حسيـن" بـ حالـة يُرثـى لهـا ، وقفت "حبيبـة" أمامه و جـذبت السكيـن من يده و هـي تردد بـصوت محتدم بنبرة شبه مبحـوحـة من بين شهقاتهـا :
_ قتلــت بنتـك ! قتلـت بنتـك يا حسيــن !
أخفضت نظراتهـا لتنظـر الى السكيـن الذي أخـذت الدمـاء تسيـل منه ، و انهمـرت الدمـوع من عينيهـا كـ الشلال ، ارتخـى كفهـا عنه فـ سقط على الأرضيـة ، رفعت نظراتهـا المحتقنـة اليـه ، و كـزت على أسنانهـا ، ثـم قبضت بـكفيهـا على تلابيبـه و هي تصيـح باستهجـان :
_ جالك قلب تقتـل بنتـك ! بنتـك هتمـوت بسببك ! سـامع بسببك انت !
نـظر لها بأعيـن تائهـة و كـأنـه لا يستوعـب ما حـدث بـعد ، و أخـذ يغمغم بكلمـات مبهـمهـة ، فـ هـزت رأسهـا استنكارًا و ابتعدت عنه و هي تردد بـ قهـر :
_ عمـرى ما هسـامحـك لو حصلهـا حاجـة ، مش هسـامحــــك !
فـ أخفض نظراته ليجمدهـا على السكيـن الملـوث نصلهِ بدمـاء فلذة كبده متمتمًا بتلعثـم :
_ أنـا .. أنـ.. مـ..مــش..!
قطع صوت تلعثمـه طرقـات قـويـة على باب المنـزل ، فـ تقلصت تعابير وجههـا معتقدة بأنهـا ابنتهـا و قد عـادت الى المنـزل ، ثـم هرولت باتجاهه لتفتحـه لتتجمـد تعبيراتهـا من الصدمـة و شخصـت أبصارهـا و هي تنظر الى رجـال الشـرطـة ، تراخـى كفهـا القابض على المقبض بـجوارهـا ، فـ صـاح بهـا أحـدهـم بنبرة خشنـة :
_ ده بيت حسيــن الحديدى ؟
نظرت له بنظرات تائهـة و أومـأت برأسهـا لا اراديًا ، فـ أشـار أحـدهـم للآخـريـن ، اقتحـم رجال الشرطـة و المبـاحث الجنائيـة المنـزل لمعاينـة مكـان الجـريمـة ، خفق قلبهـا بـ عنف في صدرهـا ، و اتجهـت لأقـرب أريكـة ليتهـالك جسدهـا فوقهـا ، شعـرت بصعـوبـة التنفـس ، ظلت جامدة في مكانهـا كـ تمثـال لا حراك فيـه و قـد ثبتت بصرهـا على زوجهـا الذي لم يقـل عنهـا صدمـة .
............................................................................................
قـــراءة ممتعـة

في مرفأ عينيكِ الأزرق Место, где живут истории. Откройте их для себя