"الفصل الثامن عشر"

716 22 2
                                    

       "الفصل الثامن عشـر"
دلفت بخيلائها المعتاد و كعبها بنقر الأرضية مع كل خطوة تخطوها لذلك المقهى الفخم الذي كان اقتراحها لتراه به يتبعها أفراد حِراستها الأشداء ذوى البنية القوية و الأجساد الضخمة ، تطايرت خصلاتها الذهبية  التي صارت تصل حتى أسفل كتفيها بقليل ، و برزت ساقِها ذات البشرة المرمرية من أسفل ثوبها المُجسّم لتفاصيل جسدها ذو اللون النبيذيّ الذي عادت للقصر خصيصًا لتبدله متعمدة أن تبدو أمامه بـ أبهى صُورها ، برق ذلك العقد الثمين الذي يتدلي منهُ حجر كريم أحمر اللون يتماشي مع لون ثوبها فزيّن تلك المنطقة المكشوفة من نحرها حتى حافة الفتحة الدائرية ، و الذي يصل أكمامه حتى منتصف عضدها ، خلعت عن عينيها نظراتها الشمسية ذات اللون الرماديّ و رفعتها اعلى خصلاتها الذهبية ، فبرز وجهها الجميل بتفاصيله التي حددتها و تعمدت إبرازها بمساحيق التجميل، بدت بهيئتها تلك لا تتعدي سِن الثلاثين ، كان يتابعها بنظراتهِ المنبهرة حقًا ، فـ قد مضى الكثير ، و لكنها حتى بدت أجمل مما مضى ، انتصب في وقفته و قد احتل مبسمه ابتسامة عريضة حتى و أخيرًا وصلت إليه ، فـ ومضت عيناه ببريق و هو يمد كفهُ إليها منتظرًا أن تُسلمه كفها ، فـ فعلت" هدى" بغطرسة واضحة ، و ما إن احتضن كفها كفه حتى انحنى " حسيـن" قليلًا و هو يُلصق شِفاه بـ ظهر كفها طابعًا قبلةً عليه بحركةٍ لم تتوقعها مطلقًا ، فـ بعثر حصونها التي شرعت تشيدها مُطولًا ضده_ فـ كان لقائهما شيئًا حتمًيا_ و كاد يهدم بفعلة واحدة نواياها الانتقاميّة تجاهه ، و لكنها تماسكت و هي تسحب كفها فور أن انتصب ، تأملت ملامحه التي احتفظت بوسامتها رغم مرور السنون ، رفعت ذقنها بشموخٍ محاولة أن تُخبى ذلك البريق اللامع بحدقتيها ، فـ كان يُبادر بحفاوة:
- مر وقت طويــل يا هُدى هانم
أجابته بنبرة شبه محتدة على الرغم من هدوئها:
- أكتر من 24 سنة يا حسين
 نفى برأسه و هو يردد بصوتٍ هادئ:
- 17 يا هُدى!.. 17  من آخر مرة شوفتك فيها
ازدردت ريقها حين كاد أحد حراسها يسحب مقعدها ، فـ استوقفه بحركةٍ من كفه ، و دار حول الطاولة ليسحب مقعدها و هو يردد بخشونة:
- اتفضلي يا هانم
اعتلت المقعد و هي تحاول جاهدة التحكم بـ عواطفها و مشاعرها التي تتأجج مع كل حركة يفتعلها ، طردت زفيرًا حارًا حتى اعتلى مقعده أمامها ، مائلًا بجسده ناحيتها قليلًا ، و أراح ساعديه فوق الطاولة شابكًا كفيه معًا ، ثم ردد بهدوءٍ حذر:
- تحبي تشربي إيـه؟
- هوت شوكليت
أومأ و هو يشير نحو النادل مرددًا:
- يا متـر ، تعالى من فضلك
حضر بين يديه و هو يردد بنبرة لبقة:
- أؤمرني يا فندم
- واحد شاي ليا ، و هوت شوكليت للهانم
فـ نظر النادل نحوها و هو يومئ برأسه مغمغمًا بابتسامة مصطنعة:
- انتي تؤمري ياهانم
ثم انصرف من أمامهما ، فـ تشنجت عضلات وجه "هدى" المسترخية قليلًا و هي تغمغم بـ حِدة:
- هـا يا حسين؟ طلبت تقابلني ليه؟
تلاشى هدوئه و هو يعود بظهره للخلف مرددًا بعتاب واضح:
- مش عارفة ليه؟.. مش شايفة ابنك عمل إيه؟
فـ ناطحنه بالرأس و هي تردد بامتعاض:
- و مش شايف بنت حبيبة عملت إيـه في ابني؟
فغمز قائلًا بنبرة ذات مغزى:
- ما هي بنت حبيبة بنتي برضو يا هدى هانم، و لا إيـه؟
احتدمت الدماء في عروقها و هي تردد محتدة:
- بنتك أو بنتها مش فارقة!.. متغيرش الموضوع
أومأ و هو يردد بصوتٍ رصين:
- ابنك اتجوز بنتي!.. عارفة ده معناه إيه يا هدى؟
فـ عادت بظهرها للخلف لترفع ساقًا فوق الأخرى و هي تردد ساخرة:
- طبعًا عارفة! اننا بقينا نسايب؟
اتسعت ابتسامته العابثة و هو يقول:
- لأ ده احنا كده جايين نهزر!
أطلقت ضحكةً رقيعة مصطنعة قبل أن تتلاشى ضحكتها و بسمتها معها، و يظل فقط ذلك الجمود الذي احتل ملامحها و هي تقول:
- أقولك معناه إيه؟.. ان بنتك تحت رحمة ابني يا حسين!.. ابني اللي لما هيرجع هياخد بتاره و تار أبوه ، سـواء منك .. أو منها!
فـ حك " حسين" بسبابته ذقنه النابتة و هو يردد بنبرة ثابتة:
- هُــدى.. خلينا نتكلم بصراحة ،احنا بنلعب على المكشـوف، أنا و انتي عارفين اني مقتلتش يوسف
و مال عليها مرددًا بهمسٍ واثق:
- و أظـن أنا و انتي عارفيـن كويس مين اللي قتله!
توسعت مقلتاها و هي ترمقه بعدم استيعاب ، فرت الدماء من عروقها و قد انفرجت شفتاها بعدم تصديق ، شعرت بجفاف حلقِها و قد لُجم لسانها فلم تتمكن من الحديث، فـ ردد "حسين" بلهجة صارمة:
- دي حاجة مفيش فيها شك ، نرجع بقى لموضوعنا ، بنتي.. ثم بنتي يا هدى! صدقيني لو حصل لها حاجة ، مش عارف أنا ممكن أعمل إيه!
.........................................................................
مُنذ أن تلقت اتصالها و هي لا تدري ما تفعله ، ارتباكٌ رهيب سيطر على كل حركاتها ، و صاحب ارتعاشة كفيها و هي تفتح باب مقعدها مُبصرة تلك السيارة المصطدمة بـ الشجرة فتهشمت واجهتها و مقدمتها ، التفتت لتردد بصوتٍ متوسل لسائق سيارة الأجرة قبل أن تترجل:
- انزل معايا يا ابني الله يخليك ، و هديك اللي انت عايزه
كان جليًا عليه الشهامة التي لا تُوجد إلا نادرًا ، فـ أومأ برأسهِ و هو يترجل عن السيارة:
- حاضر يا مدام
 تعمّدت "حبيبة" أن ترتدى قناع التماسك حتى لا تُضعف ابنتها ، فـ رفعت ذقنها و هي تسحب شهيقًا عميقًا زفرته بتروٍ ، قبل أن تترجل بدورها لتمضي نحو السيارة ، فـ أبصرت ابنتها ساكنة على الأرضية بجوار بابهِ المفتوح ، تكاد تكون ملتصقةً به و هي تستند بجبينها على ساقهِ بوضعٍ واهن و كأنها غير قادرة على الحراك ، قاومت بصعوبة سيل الدموع الذي كاد يفر من عينيها و هي تردد متعمدة إثارة انتباهها:
- يارا
انتفضت "يارا" و هي ترفع رأسها إليها فتابعت نشيجها و هي تنهض بصعوبة مستمدة طاقتها من شحنة الخوف المختزنة بداخلها ، مضت نحوها لترتمي في أحضانها و هي تهمس بصوتٍ متلعثم من بين شهقاتها:
- هيموت!.. هيموت يا ماما ، هيمـوت مستحيل يعيش بعد كل ده ، مستحيـل!
ربتت على كتفها و هي تحاول أن تبعدها عنها مرددة بتريث عقلاني على الرغم من شوقها لها:
- خلينا نلحقه يا حبيبتي ، بلاش نضيع وقت كتير ، الوقت اللي بنضيعه في الكلام ده هو أولى بيه
ابتعدت عنها و هي تحاول أن تكتم شهقاتها بكفيها مغمغمة:
- صعـب يا ماما ، صعب ، هو قالي إنه هيموت ، قالي إ....
قاطعتها و هي تردد بعتابٍ لطيف:
- مفيش صعب على ربنا يا حبيبتي
ثم التفتت لتردد للسائق بنبرة شبه متوسلة:
- معايا يا ابني خلينا نلحقه
و دنت من مقعده ، فـ اقترب السائق بدوره و هو ينحني عليه محاولًا اجتذاب جسده من الداخل :
- عنك يا مدام
وجد صعوبةً في سحبه مع الفارق الجُسمانيّ ، و لكنه اجتذب جسده في النهاية مطوقًا لظهره بذراعه ، و تعمد أن يجعله يستد بذراعه على كتفه ، فـ هرعت " حبيبة" نحوه و هي تطوق عنقها بذراعه و ظهره مع الأخير ، حتى تمكنا بصعوبة شديدة من سحبهِ حتى السيارة ، أجلسهُ السائق بـ المقعد الخلفي فـ شرعت "يارا" تستقل المقعد بجواره ، بينما أوصدت "حبيبة" الباب و هي تستقل المقعد الأمامي ، و استقل السائق بدورهِ مقعده ضاغطًا على دواسة البنزيـن ، مال" يامن" بجسدهِ عليها و هو يهذي بخفوتٍ وصل بالكاد لمسامعها من بين حالتهِ التي امتزجت ما بين الوعي و اللاوعي منذ أن تم تحريك جسده:
- سيبيني يا بنت حسيـن!.. متبقيش غبية
تأمل السائق تلك الدماء التي تغرق ثيابه بـ أعين مرتابة ثم ازدرد ريقه و هو يردد بصوتٍ جاد:
- أطلع على المستسشفى يا مدام؟
هزت "حبيبة" رأسها و هي تردد بنفي قاطع:
- لا لا لا ، ارجع على نفس العنوان اللي جايين منه
تغضن جبينه و هو يردد متشككًا:
- متأكدة؟
أومأت و هي تعقب:
- أيـوة،.. بسرعة بس الله يكرمك
كان "يامن" قد استند برأسهِ على كتفها فـ لامست خصلاتهِ الناعمة وجهها ، ارتبكت من قربهِ منها ، و حاولت أن تبعده فـ اتّضح لأذنيها هذيانه:
- ابعدي يا بنت حسين!.. ابعدي
 و دفن وجهه بالكامل في عنقها و هو يستمر في هذيانهِ، وجدت نفسها مجبرة ان تحاول ابعاد خصلاتهِ التي تدغدغ بشرتها و جلد رقبتها و وجهها ، فمررت اناملها بينها تلقائيّا و قد رفعت نبرة صوتها و هي تحتج على قول والدتها عاقدة حاجبيها:
- انتي بتقولي ايه يا ماما؟.. يعني إيه ميطلعش على المستشفى ، أومال هنعمل إيه في حالته دي
التفتت "حبيبة" لترمقها بنظرةٍ صارمة:
- مينفعش نروح المستشفى!.. و لما نرجع أفهمك
و قست نبرتها قليلًا و هي تردد بنبرة ذات مغزى:
- و نتكلـم!
تفهمت "يارا" تلميحها المُبطن و لكنها لم تكترث ، حيث وجهت نظراتها للسائق و هي تردد بجديّة:
- متسمعش كلامها ، خدنا على أقرب مستشفى من هنا
- متسمعلهاش حضرتك لو سمحت ، ارجع للمكان اللي خدتني منه
أومأ ممتثلًا لأمر الأخيرة و هو يردد بنبرة جادة:
- امرك يا مدام
تابعتها "يارا" بنظراتٍ مستشاطة من عينيها المكتظة بالدموع قبل أن تهتف معاتبة بجفاءٍ واضح:
- انتي مش شايفة حالته!
التفتت "حبيبة" و هي تردد مستهجنة:
- شوفي ميـن اللي وصلنا لكده و بعدين اتكلمي
حادت عن نظراتها المتهمة و هي تكتم شفتيها بكفها ، ثم أعادت خصلاتها خلف أذنيها و هي تخفض نظرها نحوه ، مرددة بصوتٍ متهدج:
- انت .. انت سامعني؟
فكان يستأنف هذيانه الخافت:
- اهربي يا بنت حسيـن! اهربي ،فكري بعقلك و اهربي
استأنفت تمريرها لأناملها بين خصلاته و هي تعود برأسها للخلف مُطبقة جفنيها حتى تساقطت دموعها لتنغرس بين خصلاته أثناء تضرعها الخفيّ:
- يـا رب ، أنا ماليش غيرك
.................................................................................
لم تتمكن من الجلوس برفقتهِ أكثر و قد شعرت به يحاصرها ، فنهضت عن جلستها و هي تنطق بتشنج:
- أنا ماشية
فـ ردد " حسين" بتهكمٍ ساخر:
- مش هتستنى تشربي الـ "هـوت شوكليت"
صرّت بعنفٍ على أسنانها و هي تُخفض نظراتها على عينيها ، ثم رفعت ذقنها بشموخٍ و هي تردد متوعدة:
- مـرة تانية ، الواضح اننا هنتقابل كتير يا حسين
فـ نهض عن مقعده ليُصافحها مرددًا بنظرة ذات مغزى:
- أكيـد يا هدى ، أصـل الماضي لما بيفتح ابوابه يببقى صعب تتقفل غير لما تخلص الحسابات!
ارتابت من كلماتهِ المُبطنة ، و لكنها حاولت قدر المستطاع أن توارى ريبتها ، حتى انحنى ثانية ليطبع قبلة هادئة على ظهر كفها، تناقض الحروب الناشبة بينهما، فسحبته برفقٍ قبل أن ينتصب مرددًا:
- سلام يا.. يا هُـدى
أومأت برأسها بخفة بدون أن تعقب ، ثم استدارت على عقبيها لتمضي و يمضي من خلفها أفـراد حِراستها..غير منتبهة لزوجها الذي كان يجلس على طاولة قريبة بحيث يراهم خِلسة و لكنه غير قادر على استراق السمع ، و ما إن وطأت قدميها خارجًا ، نهض متشنجًا ليخطو نحو "حسيـن" قابضًا على تلابيبه بكفيه مرددًا بتهديد صريح:
- و رحمة أبـويا يا حسيـن لأوريـك!
أومأ الأخير برأسه و هو يردد بنبرة متصلبة:
- اعلى ما في خيلك.. اركبه يا كمال
لاحظ " كمال" التهامس و التلامز فيما حولهم اثر اندفاعهِ ، فـ دفع جسد "حسيـن" بعنفٍ للخلف و هو يردد بتحذير مبطن:
- انت لسه متعرفش مين "كمال الصياد".. و شكل 17 سنة نسّـوك ، لكن أنا بعون الله هفكرك!
و شمله من أسفله لأعلاه بـ نظراتٍ مشمئزة ثم مضى نحو الخارج عقب أن أطبق المكان على رئتيه ، فـ أشار " حسيـن" لمن حوله مرددًا بابتسامة سخيفة:
- سـوري يا جماعة ، أخـوات و حصل بيننا مشكلة ، ده مصارين البطن بتتعارك!
أومأ البعض له، و البعض الآخر لم يوليه اهتمامًا ، قست تعبيرات " حسيـن" و هو يجلس معدلًا هِندامه و ياقته  مرددًا بغموضٍ قاتم:
- و شكل 24 سنة نسـوك يا كمال ، لكـن انا هفكرك!
......................................................................
انتهى الطبيب من تعليق المحلول الطبيّ له عقب أن أعاد تنظيف الجرح و رتقه، ثم التفت نحو "حبيبة" التي سألتهُ بقلق:
- حضرتك متأكد إنه هيكون كويس
طمأنتها الطبيب ذو الملامح البشوشة و هو يردد بهدوء:
- متقلقيش يا مدام، الدم اللي فقده مكانش كتير زي ما انتو متخيلين
فـ تنفست الصعداء عقب قوله و هي تردد بانشراح:
- الحمد لله
فـ ودّ تحذيرها لما قد يحدث:
- هـو ممكن يُصاب بالحمى و سخونية شديدة نتيجة تلوث الجرح ، لكن ان شاء الله ده ميحصلش ، ربنا يطمنكم عليه
- يا رب
أخرج دفترًا صغيرًا و قلمًا حبريًا من جيبه و هو يردد بلهجة جادة:
- على العموم أنا هكتبله على أدوية و مضادات الالتهاب، لو ده حصل ياخدهم
و خط بقلمهِ الحبري فوق الورقة ، ثم انتزعها عن الدفتر و هو يسلمها لها قائلًا بصوتٍ هادئ:
- اتفضلي
سحبتها منه ثم ألقت نظرةً عابرة على فحواها ، قبل أن تقوم بطيّها و هي تتنهد بحرارة مغمغمة:
- متشكرة جدًا يا دكتور
فـ أومأ و هو يردد بنبرة هادئة:
- الشكر لله وحده
فـ أشارت بكفها تقتاده للخارج:
- اتفضـل
......................................................................
مُنذ أن دلف حجرتها و هي غير قادرة على الوقوف مع الطبيب ، فقط تجلس بـ صالة المنزل على أحد المقاعد حول المائدة ، كانت شاردة للغاية و لم تنتبه سِوى مع تربيتة أختها على كتفها قائلة و هي تسند القدح أمامها:
- عملتلك عصير ليمون يهديكي
مسحت بكفها على رقبتها ممررة أناملها على بشرتها و هي تسلط نظرها على الكوب ثم رفعت نظراتها لأختها، ثم قالت بعدم اشتهاء:
- مش عايزة، مليش نفس لأي حاجة
تنهدت "ولاء" محررة زفيرًا حارًا عن صدرها ، ثم سحبت لنفسها مقعدًا و اعتلهُ و هي تتمعن النظر لملامح شقيقتها ، امتد كفها لتسحب كف الأخيرة الذي أخذ يخدش عنقها من حركتها التلقائية و هي تهتف معنفة:
- لما انتي متوترة أوي كده عملتي كده ليـه؟
اعتقدت "يارا" أنها تعاتبها على فعلتها الهوجاء و طعنها له ، فـ رددت بوهن و هي تسحب كفها:
- أرجوكي يا ولاء تسيبيني في حالي ، أنا مش فايقة لأي حاجة
و لكنها لم تكترث لرغبتها و استأنفت معاتبتها الجافة:
- جايبالنا مصيبة في البيت يا يارا!.. حرام عليكي ، أبـوكي لو عرف هيودينا في داهية ، مكونتيش تسيبيه يموت و نخلص!
تغضن جبين "يارا" اثر تقطيبها و هي تهمس بعدم استيعاب:
- انتي بتقولي إيـه؟
ابتسمت "ولاء" بسخرية و هي تقول بتهكمٍ ساخط:
- بعرفك اللي هيحصل!.. كنت ناقصة ده كمان ، أساسًا زهقت من كتر خناقهم و شكلهم اللي مبيخلصش!
و هبّت واقفة ثم دارت على أعقابها لتعود لغرفتها بخطواتها المتعرجة مختفية بداخلها موصِدة الباب خلفها ، فـ تابعتها "يارا" بأعين متوسعة من فعلتها الغير متوقعة ، ارتفع حاجبيها استنكارًا و هي تدفن وجهها في كفيها ، حتى انتفضت ملتفتة إثر سماعها صوت الباب ينفتح، تقدمت " حبيبة" و هي تردد مشيرة إلى ابنتها:
- لو مش هنتعبك يا دكتور تشوفلي بنتي ، كانت معاه في العربية
أومأ الطبيب و هو يردد برحابة صدر:
- تمام ، معنديش مشكلة
فـ شرحت له والدتها قائلة:
- هي من ساعتها رقبتـ..
فـ اقتطعت "يارا" كلماتها و هي تردد باقتضاب:
- متشكرة يا دكتور أنا كويسة دلوقتي
تغضن جبين "حبيبة" و هي تنظر نحوها بنظراتٍ مغتاظة مرددة باعتراض:
- كويسة ازاي يعني يا يارا ، مش..
فـ غمغمت "يارا" بارتياب موجهة حديثها للطبيب:
- هو كويس؟
أردف الطبيب و هو يلوى ثغره بابتسامة هادئة:
- متقلقيش يا مدام ، ان شاء الله هيتحسن
تنفست الصعداء و هي تدفن وجهها في كفيها ، فـ أردف الطبيب ناظرًا لوالدتها:
- أنا مضطر أمشي يا مدام حبيبة
فـ أشارت بكفها و هي تبتسم ممتنة :
- أيوة طبعًا ، اتفضل يا دكتور
أرشدت الطبيب لطريق الخروج و هي ترمقها من زاوية عينها ، و ما إن خرج من محيط المنزل ، عادت إليها و هي تعقد ساعديها امام صدرها محتلة المقعد الذي تركته أختها منذ قليل ، فـ أحنت "يارا" بصرها و هي تغمغم:
- متبصليش كـده
رددت " حبيبة" حانقة و هي تتمعن النظر لملاحها:
- أومال أبصلك ازاي؟
 رفعت نظراتها إليها و هي تهمس بصوتٍ مختنق:
- أنا معملتش حاجة
فـ حلّت "حبيبة" ساعديها و هي تردد معنفة لها:
- أومال اللي حصل ده إيـه؟.. اشرحيلي؟
نظرت لها مُطولًا بنظراتٍ تشي بالكثير ، و لكنها عقدت العزم على عدم التفوه لها بحرف ، فـ كيف ستقص عليها ما مرت به على يد ابن خالهِا ، و الذي انتهى الأمر بقتل "يامن" له ، مرّت تلك الذكريات أمام عينيها فـ شعرت برغبةٍ عارمة في الارتماء في أحضانها و البكاء المرير ، و لكنها عِوضًا عن ذلك ، تماسكت بصعوبة اختنق صدرها إثرها ، و هي تردد مبررة بتلعثمٍ، أثناء حيودها بنظرها عن نظراتِها المُقتنصة:
- مقـ.. مقدرتش أمسك نفسي ، حصل كده في لحظة غضب و خلاص!. هعمل إيه يعني؟
فـ نهرتها بـ سخطٍ تام:
- ايـه البرود اللي انتي فيه ده يا يارا؟.. كنتي هتقتلي جوزك؟ هي حصلت!
استشاطت غيظًا لذلك اللقب، فراحت تردد بنبرة محتدمة:
- ايه يا ماما؟.. هو إيه اللي جوزك ، انتي صدقتي و لا إيه؟
فـ رددت الأخيرة مستهجنة:
- لأ جوزك يا حبيبتي!.. جوزك و لازم تقتنعي بده عشان مفيش قدامنا حل تاني ، انتي متعرفيش حاجة، متعرفيش إيه اللي حصل بسبب عملتك دي و في الآخر.. جاية ببرود تقولي لحظة غضب
فـ انهرت الدموع من عينيها و هي تغمغم بصوتٍ مرير:
- أنا فكرت إنك الوحيدة اللي هتفهميني!.. حتى انتي مش قادرة تفهمي حاجة
سحبت "حبيبة" شهيقًا عميقًا زفرتهُ على مهلٍ ، أثرت عليها نزعتها الأمومية أمام دموع ابنتها التي شعرت بها تهبط گالحمم البركانية على قلبها، فـ لم تتمكن من ارتداء قناع القسوة كثيرًا ، سحبت كفها إليها و احتوته بضغطةٍ خفيفة و هي تردد بحنو أمومي:
- ما هو اللي عملتيه ده ميتصدقش ، انتي اللي مكونتيش بتقدري تأذي نملة حتى!.. تعملي كده
فـ رددت بتلميحٍ مبطن و هي تكفكف عبراتها الحارقة:
- اللي شوفته منه مش قليل ، و اللي مريت بيه مش قليل عشان تعاتبيني
ضيقت عينيها و هي تسلط نظراتها على وجهها ، ثم همست بتشكك و هي تعقد حاجبيها:
- في حاجة حصلت مش عايزة تقولي عليها ، صح؟
ابتلعت "يارا" غصة عالقة في حلقها ثم غمغمت نافية:
- لأ.. مفيش حاجة
فلم تقتنع ، ضغطت على كفها و هي تهمس و قد انتفض قلبها بين أضلعها:
- قوليلي يا يارا!.. هـو ، هو عملك حاجة ؟ طمنيني
هزت رأسها نفيًا و هي تردد بخفوتٍ محاولة الفرار من نظراتها التي تحاصرها:
- لأ
سألتها "حبيبة" بقلق:
- أومال في إيه؟
سحبت "يارا" كفها من قبضة الأخيرة و هي تردد متهربة:
- مفيش حاجة يا ماما ، و مش عارفة أقولك حاجة غير كده ، تمام.. أيوة كنت هقتله ، لحظة غضب و بس
تنهدت "حبيبة" بحرارة من أسلوبها المتعند ، ثم أسندت ساعديها على المائدة احداهما فوق الآخر و هي تردد بجفاء:
- أهي لحظة الغضب دي هتوديكي في داهيـة!.. البوليس و الدنيا مقلوبة عليكي!
ارتبكت و هي تهمس بخفوتٍ معيدة خصلاتها خلف أذنها:
- لأ ما هو.. يامن.. قالي انه سحب البلاغ
- إيــه؟
.........................................................................
تركت ما اقتنتهُ من خضرواتٍ على سطح المائدة ثم سحبت لها مقعدًا و اعتلته مرتمية بجسدها المنهك عليه ، استندت بمرفقيها على سطح الطاولة و هي تدفن وجهها في كفيها متنهدة بحُرقة ، استشعرت ذلك الألم الطاحن الذي يكاد يفتك بعِظامها ، حتى شعرت ابنة أختها بالشفقة عليها ، أخذت تفتح الأكياس البلاستيكية و قد تقوست شفتيها بألمٍ ، التزمت الصمت حتى رددت الاخيرة و هي ترفع وجهها فاركة لهُ بكفيها:
- آه ، ربنا يتوب عليا من اللف على كعوب رجليا على شغلانة
فلم تتمكن من الصمت حينئذ و غمغمت بنبرة متوسلة:
- يا خالتي الله يخليكي ارجعي ، لو عايزاني أروح أبوس لك إيدها عشان ترجعلك أعملها
فـ رددت "سهير" بتنهيدة مُطولة :
- القصر ده معتش ليا لي رجوع فيه يا "أُمنيـة".. أنا حتى اتأخرت ، كان لازم ده يحصل من زمان
فـ سحبت " أُمنية" مقعدًا و اعتلته و هي تحتوى كفيها مغمغمة بـ قلقٍ تام:
- طب و هنعمل إيـه يا خالتي؟
ضغطت على كفيها ضغطة خفيفة و هي تجيبها بقلة حيلة:
- و لا حاجة يا أُمنية ، هتصرف لغاية ما أشوف شغل
فـ رددت بتلعثمٍ ذو مغزى و هي تتهرب منها بنظراتها:
- لو.. لو بس تسيبيني أدور أنا على شغل يا خالتي ، لو بس...
فـ اقتطعت "سهير" كلماتها و هي تغرس أناملها بين خصلاتها الكستنائية المموجة ، هامسة بنبرة هادئة:
- لما أموت يا أمنية ابقى اعملي اللي عايزاه
أحنت بصرها عنها مغمغمة بهدوءٍ حذر:
- بعد الشر عنك يا خالتي ، أنا مقصدش
توقفت "سهير" عن تمرير أناملها بين خصلاتها ، ثم احتضنت وجنتها لتقرب رأسها منها طابعة قبلة حانية على جبينها متشمّمة عبقها بها:
- الله!.. إيـه الجمال ده يا أخواتي؟ ده انتي ريحتك دي بالجنة و ما فيها
التوى ثغر " أُمنيـة"  بابتسامة باهتة من ذلك الإطراء ، ثم رفعت عينيها العسليتين نحوها و هي تردد بصوتٍ مرح:
- طب قوليلي بقى ، عايزاني أطبخلك إيـه النهاردة؟
ابتسمت "سهير" و هي تغمغم مشيرة إلى الحقائب البلاستيكية:
- قشّرى البطاطس عما أجيلك
- من عينيا
ربتت "سهير" على كفيها و لسان حالها يلهجُ بالدعاء:
- ربنا يحمينا يا بنتي ، ربنا يحميكي و متتاخديش معايا في الرجليـن!
............................................................................
أومأت "يارا" برأسها و هي تؤكد لها صِحّة قولها:
- أيوة
رمشت "حبيبة" بعينيها غير مصدقة تصرفه:
- ازاي؟
أطبقت "يارا" جفنيها بضجر، قائلة بسئمٍ تام:
- معرفش يا ماما ، متسألينيش ليه و ازاي عشان مش عارفـة!
حررت " حبيبة" زفيرًا حارًا عن صدرها و هي تنظر نحوها مُطولًا ، عمّ الصمت لدقائق ، حتى كسرته "حبيبة" بقولها المستهجن:
- ألا قوليلي صحيح انتي كنتي فيـن؟.. أنا كنت هموت من القلق عليكي
عبثت "يارا" بأصابعها و هي تجيبها بارتباك:
- كنت في بيت واحدة صاحبتي
ضيقت "حبيبة" عينيها و هي تردد متشككة:
- صاحبتك!.. صاحبتك مين؟ و مجيتيش هنا ليه بعد اللي هببتيه ؟ راحة تلجأي للغريب و تسيبي أمك
فـ رددت بنبرة غلّفها الاختناق:
- كنتي عايزاني أعمل ايـه يا ماما؟.. كلكم هتحطوا الذنب عليا و بس ، و بعدين أهو اللي حصل بقى ، بطلي تعاتبيني
فـ رددت "حبيبة" و هي ترمقها شزرًا:
- ماشي يا يارا.. ماشي ، أما نشوف الأيام هتودينا لفين
و عم الصمت التام ثانية ، حيث استندت "يارا" بجبينها على ساعديها أعلى يسطح المائدة و قد بدا الإعياء عليها ، فـ رددت "حبيبة" و هي تتفحصها بنظراتها:
- رقبتك لسه بتوجعك؟
فرددت بنبرة خفيضة بدون أن ترفع نظراتها:
- لأ
- كـذابة!.. هو أنا مش عارفاكي؟ مش كان الدكتور شافهالك بدل ما...
رفعت "يارا" نظراتها نحوها على حين غرة و هي تردد عاقدة حاجبيها بجديـة تامة:
- ماما هو انتي متعرفيش والدة " يامن"؟
اكفهر وجه "حبيبية" و هي تقول ممتعضة:
- إيـه بقى اللي جاب السيرة دي؟
التوى ثغر "يارا" ببسمة هازئة و هي تقول متهكمة:
- يبقى أكيـد تعرفيها
فـ استفسرت منها بأعين ضائقـة:
- بتسألي ليـه؟
ازدردت "يارا" ريقها و هي تحنى بصرها ، ثم أخذت تعبث بـ رابطة شعرها المطوقة لمعصمها و هي تهمس بنبرة خفيضة:
- هـو.. هو يعني أنا.. ، أنا مـ..
- قولي يا يارا ، في إيـه؟
فرفعت نظراتها ثانيةً و هي تردد مستوضحة:
- طب تعرفي عمه؟
ضيقت "حبيبة" عينيها و هي تردد بانزعاج:
- عمه!.. "كمال الصياد" ، و ده يتنسى!
فـ تلهفت "يارا" و هي تتشدق قائلة:
- بجد تعرفيـه؟.. طب .. طب هو عمه ده وحش؟
غمغمت "حبيبة" و هي تشيح بكفها :
- قطع و قطعت سيرته ، كان زبالة في كل حاجة ، ده البيه مكانش بيراعي إني خطيبة أخوه و كان بيعاكسني في الرايحة و الجاية، و انا طبعًا مرضيتش أعمل مشاكل بين التوأمين و كنت بسكت!
حملقت "يارا" بها و قد شحب لون وجهها ، بينما كانت "حبيبة" تسترسل وصف شخصيتهِ:
- كل حاجة كانت في إيد أخوه كان بيبصل له فيها ، أي حاجة مع أخوه كان عايزها ، أبـوكي كان بيحكيلي عن أخو صاحب الشغل بتاعه ، و ازاي عايز يوقع الدنيا في بعض ، و مستغربتش أبدًا لما اكتشفت انهُ أخو صاحب الشركة.. هو نفسه "كمال الصياد"!.
شردت بنظراتها و هي تحدق أمامها و قد ارتابت منه في داخلها، زمت شفتيها بضيقٍ حينما سألتها والدتها:
- انتي بتسألي ليـه؟.. مش فاهماكي
فـ أفاضت القول بما لديها، و قد تلعثمت و ارتبكت نبرتها:
- أنا.. سمعت حاجة مكنش لازم أسمعها !
فـ طالبتها بتفسير ما تقول، و قد بدأت ترتاب قليلًا:
- وضحي أكتر يا يارا
طردت زفيرًا حارًا عن صدرها ، ثم رددت بجدية تامة و هي تكاد تبثّ شكوكها إليها:
- في حد حاول يقتلـ....
اقتُطِع صوتها مع صوت الطرقات الحادة على باب منزلها ، فـ انتفضت و هي تلتفت نحوه ، ثم نظرت لوالدتها بتوجسٍ ، فـ بادلتها نظراتٍ جادة ، همّت بالنهوض فتشبثت "يارا" بكفها و هي تهتف مذعورة:
- أنا خايفة أوي يا ماما ، بابا مش هيعديها
ربتت على كفها و هي تردد بجمود:
- متخافيش، يعمل اللي يعمله!
نهضت "يارا" بدورها منتصبة في وقفتها و هي تنظر نحو الباب الذي خطت "حبيبة" نحوه لتفتحهُ ، فـ دلف و هو يرمقها من زاوية عينه بتأفف ، ثم تابع طريقه للداخل ، و لكنهُ أثناء ذلك اشتمّ عبقًا غريبًا ، أعقبهُ ندائها المرتاب من خلفه:
- بابا !
توقف متيبسًا بمحله غير قادرًا على الحراك، ثوانٍ مضت حتى دنت منه "يارا" و هي تقاوم ذرف الدموع مغمغمة بصوتٍ ملتاع:
- وحشتني أوي يا بابا!.. أوي
التفت حينئذ و هو يرمقها بقسوةٍ ظاهرية ، فـ رددت محاولة أن تبتسم مغمغمة بـ مرحٍ زائف:
- أنا موحشتكش؟
- لأ!.. اللي تبوظ سمعة عيلتي و تخليني ماشي وشي في التراب ، متوحشنيش!
وقع الرد عليها وقع الصاعقة ، تلاشت ابتسامتها تمامًا و تزامن ذلك مع خفقاتها التي راحت تتزايد ، رمشت بعينيها عدة مرات غير مستوعبة ما يتفوّه بهِ ، ثم غمغمت بعدم تصديق:
- انت.. انت بتقول ايـه؟
فـ ابتسم ابتسامةٍ ساخرة و هو يردد بتهكم قاتم:
- هـو انتي متعرفيش يا هانم ان سيرتك بقت على كل لسان فيكي يا مصر؟.. ألا قوليلي صحيح انتي قتلتي جوزك ليه ؟ عشان عشيقك؟
لم تتمكن من التفوّه ببنت شفة و قد شعرت بلسانها متيبسًا ، بينما كانت " حبيبة" تعنفه مرددة بسخطٍ باد:
- كفايـة بقى يا أخـي! انت إيـه؟
أشاح بكفهِ ثائرًا في وجهيهما، و قد انفجر كالبركان قائلًا باهتياجٍ واضح:
- ما هي لازم تعرف اللي بيتقال و اللي منشور في الصحف و الجرايد و السوشيال ميديا ، لازم تعرف المصيبة اللي وصلت نفسها ليها
فرت الدموع رغمًا عنها من مقلتيها و قد تحركت شفتاها لتغمغم بعدم استيعاب:
- انت بتقول ايـه؟
فـ هدر بشراسة و هو يقبض بعنفٍ على ذراعها:
- بقول اللي حصل يا هانم!.. بقول اللي بتقال
ازدردت ريقها و هي تهز رأسها نفيًا محاولة الدفاع عن نفسها:
- محصلش ، و الله ما حصل ، كل ده كـذب و افترا ، كــذب!
حاولت "حبيبة" أن تفصل بينهما و هي تردد باستهجان :
- انت بتعمل ايه يا حسيـن؟ سيب البت ، سيبها بقولك
ظلت نظراتهِ الساخطة مسلطة على وجهها ثم ترك ذراعها دافعًا لها بعنفٍ للخلف ، فـ اجتذبتها "حبيبة" لتسكن أحضانها، انفجرت الأخيرة باكية و هي تدفن وجهها في كتف والدتها ، فـ ردد "حسين" و قد انتفخت أوداجه:
- ما أنا عارف إنه كذب ، عارف و متأكد إنه كـذب! لكن الناس عارفيـن؟.. الناس ليها الظاهر و بس ، و انتي ما شاء الله الظاهر عندك مشرف ، أبوكي طعنك قبل كده عشان اكتشف فضيحتك و قال يغسل عاره ، و بعدين انتي طعنتي جوزك عشان عشيقك!.. مش كده!
تعالت شهقاتها المريرة و قد شعرت بساقيها واهنتين لا تقويان على حملها ، لولا ذراعيّ والدتها المحيطان لها بإحكام لكانت سقطت أرضًا ، احتوتها " حبيبة" و هي تدفنها أكثر في أحضانها بينما نظراتها المتوهجة مسلطة على "حسين" و هي تردد باستهجان:
- و احنا من امتى بنهتم بكلام الناس؟.. و من امتى الناس بتسيب حد في حاله!، احنا ميمهناش غير نفسنا قدام ربنا و بس و رضاه عننا
و تعمدت الضغط على الضمير في كلماتها التالية:
- و الحمد لله ، أنا بنتي "ربيتها".. ربيتها أحسـن تربية يا حسين ، أحسـن تربية  و معملتش حاجة غلط ، و اللي مش عاجبه يخبط دماغه في الحيط!
و ربتت برفقٍ على ظهر "يارا" و هي تردد بحنوٍ أمومي:
- بـس.. بس يا حبيبتي ، احتسبي و اصبري يا يارا ، مش أنا معرفاكي ان الدنيا ابتلاءات!.. و ان ربنا بيختبرك و بيختبر صبرك؟
ابتعدت "يارا" قليلًا لتبين لوالدتها ملامحها ، حيث كانت الدموع الحارقة تنهمر على وجنتيها كـ الشلالات رددت و هي تتشبث بها بـ حُرقةٍ تدمي القلوب و لمحاتٍ مما عايشته على يد قريبها تعاد أمام عينيها:
- انا معملتش حاجـة
خبت قوتها تدريجيًا و قد صارت ساقاها هلاميتين غير قادرتين على تحمل ثقل جسدها ، فـ انهار جسدها على الأرضية و هي تصرخ بمرارةٍ من بين شهقاتها المتوالية:
- معملتش حاجة ، هـو.. هو اللي كان..آه!
جثت والدتها على ركبتيها أمامها و هي تحاول أن تنزح دموعها الحارقة عن وجنتيها مغمغمة بـ قهرٍ و قد تشوشت الرؤية لديها اثر تجمع الدموع فيهما:
- طب اهدى.. اهدى بس عشان خاطري!
خرجت "ولاء" من الغرفة على مضض ، ثم تيبست بمحلها توزع النظرات المصدومة فيا بينهم:
- ايه اللي بيحصل بالظبط؟.. في إيه يا ماما؟
فـ ردد "حسيـن" حانقًا و هو يشير لها:
- ادخلي يا ولاء و اقفلي عليكي الباب ، مالكيش انتي دعوة
فحاولت الاحتجاج:
- بـس يا بابـ..
فـ قاطعها بصرامة:
- هي كلمة يا ولاء ، ادخلي جوا
فـ اضطرت " ولاء" آسفة أن تعود إلى غرفتها ممتثلة لأمرهِ، بينما كانت " حبيبة" تحاول جاهدة تهدئتها:
- خلاص بقى يا يارا، كل حاجة هتتصلح يا حبيبتي ، اصبري و كل حاجة هتبقى أحسـن
هزت رأسها نفيًا عدة مرات و هي تغمغم بمرارة:
- محدش فاهم حاجـة ، أنا معملتش حاجة ، ده كان..آآه
و استصعبت أن تتم كلماتها ، فـ رفعت " حبيبة" نظراتها الُمحتقنة نحو "حسيـن" ، فـ أشاح الأخير بنظراتهِ عنهم و هو يتظاهر بعدم الاكتراث ، ثم أخفضت نظراتها إليها و هي تقبل جبينها عدة مرات ، ثم غمغمت بنبرة حانية و هي تنزح دموعها:
- هو ده اللي عملتهولك يا يارا؟.. مالكيش دعوة بأي حاجة تتقال ، احنا ميهمناش غير رضا ربنا و بس ، و بعدين مش أنا قايلالك ان ده اختبار من ربنا عشان يختبر صبرك ، اصبري و احتسبي ، و صدقيني يا روحي هتفرج من عنده ، قولي يا رب
فـ غمغمت بحرقـة نبعت عن تلك الغصة في فؤداها امتزجت مع شهقاتها:
- يا رب
ربتت "حبيبة" على كتفها و هي تنهض عن الأرضية ساحبة لها من ذراعيها حتى استقامت ، فـ رددت "يارا" بقهرٍ و قد خفت صوتها:
- أنا معملتش حاجة
طبعت " حبيبة" قبلةً أخرى على جبينها متنهدة بحرقة:
- آآآه يا حرقة قلبي على اللي بيجرالك يا بنتي ، حسبي الله و نعم الوكيل فيهم ، حسبي الله و نعم الوكيل
التقطت أنفاسها بصعوبة من بين شهقاتها ، فـ رددت " حبيبة" و هي تدفعها من ذراعها برفقٍ لتحثها على الدلوف لغرفتها مذكرة إيّاها متعمدة الضغط على أحرف كلمتهِا:
- ادخلي انتي أوضتك و اقفلي الباب كويس ، تمام
ازدردت "يارا" ريقها و هي تنزح دموعها بـ أنامل مرتعشة ، فـ نظرت لها "حبيبة" بـ نظرات ذات مغزى ، أومأت "يارا" عدة مرات و هي تحال جاهدة التحكم بتوبة بكائها ، فـ خبى نشيجها عدا من شهقاتها التي اخذت تنفلت منها بين الحين و الآخر رُغمًا عنها ، خطت نحو غرفتها تجرجر أذيال الحسرة خلفها، محاولة ألا تلتفت لوالدها ، حتى دلفت و أوصدت الباب من خلفها ، ثم التفتت لتستند بظهرها عليه فوجدتهُ أمامها محتلًا فِراشها حدجته بنظراتٍ كارهة من بين دموعها ، تراخت ساقيها ، فانهار جسدها و هي تبكي بحُرقة ، كتمت شهقاتها و أنّاتها بكفيها و هي تطبق جفنيها بعنفٍ محاولة محو الذكريات عن عقلها ، و راحت تضم ساقيها إلى صدرها و هي تدفن وجهها بين ركبيتها هامسـة بأنين خافت:
- منك لله!.. انت السبب في كل حاجة حصلتلي ، يا ريتني سيبتك ، يا ريتني!
كاد "حسين" يخطو نحو باب الغرفة و ما زالت تعبيراته متشنجة ، محاولًا أن يواسي ابنتهُ بعدما أصابها بسببهِ ، فـ سدّت "حبيبة" الطريق أمامه و هي تعقد ساعديها أمام صدرها مغمغمة بنبرة متحدية فاترة:
- رايح فيـن يا حسيـن؟ رايح تجرح في بنتك أكتر من كده؟.. و لا افتكرت كلمتين لسه عايز تقولها لها
فـ حاول أن يُزيحها عن طريقه و هو يقبض على ذراعها مرددًا بنبرة حازمة:
- حاسبي يا حبيبة متولعيهاش
انتشلت ذراعها من قبضته و هي تقول بنبرة محتدمة و قد فَرِغ مخزونها من الصبر:
- انت عندك شيزوفرينيا؟.. انت مش شايف عملت إيه في البت و جاي تقولي أنا بولعها!
فـ حذرها بلهجة مشتدة و قد ارتفع حاجبهُ:
- حبيبـة ، اغزي الشيطان و حاسبي
و دفعها عن طريقه من كتفها دفعةً شبه قوية ، ثم مضي نحو باب الغرفة ، امتدت أنامله ليدير المقبض ، فـ رفعت "حبيبة" ذقنها للأعلى و هي تقول بنبرة ذات مغزى:
- بس بنتك مش جوا لوحدها يا حسيـن!
تغضن جبين "حسين" و هي يلتفت مرددًا بنبرة ساخرة:
- هو انتي اتعميتي و لا إيـه؟ ما بنتك ولاء لسه داخلة أوضتها !
فـ رددت نافيـة و هي ترمقه بنظراتٍ محتدة:
- و أنا مقولتش ولاء
ظلّ جبينه مجعدًا و هو ينطق بنفاذ صبر:
- أومال ميـن ان شاء الله اللي جـوا ؟ أخوكي ساكن معانا و أنا معرفـش
فـ افترّ ثغرها عن ابتسامة متحدية و هي تنطق بنبرة باردة:
- انت روحت بعيـد كده ليه يا حسيـن ، ده جـوز بنتك.. يامن!
...........................................................................
.............................................
...............................................................
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Tempat cerita menjadi hidup. Temukan sekarang