"الفصل الثالث و الخمسون"2

677 18 0
                                    

" الفصل الثالث و الخمسون" 2
گانت تجلس أمام تلك البحيرة مستندة لجذع الشجرة المُطل عليها مباشرة بأرض والدها الحبيب الذي تتشبث بها و كأنها أمانةً تركها بين أكفّها و هي تعهدت ألا تضيّع الأمانة.
النسيم اللطيف يداعب صفحة وجهها الجميل و يُطاير حجاب رأسها الكستنائيّ اللون، عينيها الصافيتين تُبصران انعكاس أشعة الشمس الدافئة على صفحة المياه التي تنساب بتلكؤ تام، ضمّت ركبتيها لصدرها و قد شعرت و كأنها نكأت جرحًا بقلبها لم يكن قد برأ قبلًا.. فقد اعتادت الجلوس معه عند تلك البقعة تحديدًا.
حررت ذلك الزفير العالق بحبسهِ بصدرها و الذي ألهب جسدها بالكامل.. أطبقت جفونها و هي تعود برأسها للخلف مستندة لجذع الشجرة، فتمردت تلك العبرة لتنفلت من بين جفنيها و انسابت على وجنتها الباهتـة.. ثُم:
- معاكي حق، المنظر هنا حلو!
تأهبت خلاياها عقب استماعها لصوته، ففتحت عينيها و هي تنظر لصفحة المياه بأعين فاترة دون أن تكلف نفسها عناء النظر أو الإجابة، حينما كان "راشد" يجلس مجاورًا لها.. و لكن على عكسها أخفض ساقيه للماء و هو يستند بكفيه إلى جواره محدقًا بالأفق البعيد، فزفرت بانزعاج شديد و قد تعكّر صفوها، ثم سألته بفتور و هي تطلع إليه بطرفها:
- نعـم؟ جاي تعمل إيه؟
نفخ "راشد" حانقًا و هو ينظر نحوها بسخط بائن، ثم قال باستنكار:
- رهيف انتي هتفضلي كده كتير معايا؟
فقالت و هي تحيد عنه بلهجة ساخرة و هي تقوس شفتيها:
- معتقدش جدتي هتتبسط لما تعرف إنك قاعد معايا هنا.. و لوحدنا
حكّ "راشد" صدغه و هو يقول:
- و معتقدش إنها هتعرف دا!
فسألته و قد احتقنت الدماء في وجهها:
- انت عايز إيه يا راشد بالظبط؟
نظر نحوها نظرة مطولة أعقبها بقولهِ الهامس:
- عايزك!
كشّرت عن أنيابها و هي تنهض عن محلها و قد اهتاجت:
- تصدق انك قليل الأدب
فتابع كلماته المنتقصة و هو ينهض رافعًا ساقيه من الماء و قد ابتلّ بنطالهِ حتى ركبتيه:
- في الحلال.. كدا ارتاحتي
فصاحت به مستنكرة:
- لأ.. و لا هرتاح، تمام؟ أنا لا عايزاك و لا عايزة أشوف وشك حتى
تأفف "راشد" ثم استهجن ما تفعل:
- رهيـف.. أنا مش عارف أتكلم معاكي كلمتين، اسمعيني و بعدين احكمي عليا!
فأشاحت بكفيها و هي تعقد حاجبيها بانزعاج:
- عايزني أسمع إيه بالظبـط؟ انت و أبوك عملتوا لعبة عليا عشان باصين في حتة الأرض اللي باقية لي من أبويا و عايزني أسمعك.. انت و هو كان ممكن تقتلوني ببساطة و عايزني أسمعك.. انت مش مكسوف من نفسك
و كتّفت ساعديها و هي تتابع بازدراء:
- و يا ريتك استكفيت يا راشد، لأ دا انت روحت أظهرت لجدتي قد إيه أنا بنت مش كويسة و مش عايزة غير إني أعصيها.. و ان إنت الحفيد البرئ الطيب اللي مفيش زيه و اللي هيسمع كلامها بالحرف
تلاحقت أنفاسها و قد انفعلت و توهج وجهها بحمرة أضفت جمالًا إلى جمالها، فتعلقت أنظاره الهائمة بوجهها، و فجأة لاحت على ثغره ابتسامة واسعة جذّابة ضاعفت وسامتهِ، فانكمشت المساحة بين حاجبيها و هي تسألهُ بسخط جلّ على وجهها:
- و كمان مجنون! كـدا كتير
و كادت تخطو متجاوزة إياه و لكن تبددت ابتسامته و هو يقف أمامها مباشرة و قد تجمدت ملامحه:
- ما تهمدي بقى شوية في إيه.. إيه الرغي ده!
فاحتجّت و قد بلغ غيظها منه أوجهِ:
- أنا مش رغاية يا راشد و احترم نفسـك
تقوست شفتيه بابتسامة عابثة و هو يُؤكد قوله:
- رغاية
فأجابته بتعند شديد:
-لأ
- آه
- لأ
- لأ
- آه!.. هاه!
و توسعت عيناها غير مصدقة ذلك الفخ الذي نصبهُ لها بينما كان صوت ضحكاته الظافرة تجلجل في الأرجاء، أطبقت "رهيف" أسنانها باحتداد أشد، ثم استطردت:
- تصدق انك انسان تافه، حاسب عديني
 و مرت من جواره و هي تُثبت حقيبتها على كتفها.. فتتبعها و قد تلاشت ضحكاتهِ و تبدلت ملامحه للجديّة التامة و هو يسألها:
- راحة فيـن؟
أجابته بلا اكتراث و هي تخطو خارج نطاق أرض والدها المحاطة بسياجٍ خشبيّ:
- مشوار مهم.. و معتقدش ملزمة أعرفك بيه
و قبل أن يهمّ بالاعتراض كانت تلتفت نصف التفاتة و هي تتابع سيرها:
- و ماما عارفاه، قبل ما لسان يفكر ينطق بكلمة!.. تمام؟
فتوقف محله تتابعها أنظارهِ الشزرة، أشاح عنها ليتوسط خصره بكفيه و هو يزفر حانقًا، ثم ركل تلك الحجرة الصغيرة التي أمامه بعنف و هو يقول مستهجنًا:
- و بعديـن معاكي بقى؟ أنا زهقت
................................................................
ما يُقارب الأسبوع..
و هو يبحث عنه كمن يبحث عن إبرة وسط كومة قشّ، و أيضًا لا أثر لهُ.
كُلٌ بغرفة مكتبه قد تناثر و تعبأ الوسط بشظايا الزجاج و هو يصيح بهم معنّفًا باهتياج:
ـ يعني ايه مالوش أثر؟.. يعني إيه؟
متراصين من خلفهِ شابكين أكفّهم خلف ظهورهم و گأن على رؤوسهم الطير، حتى دلفت هي دون سابق إنذار مقتحمة الغرفة لتتفاجأ بالفوضى السائدة.. ارتفع حاجبيها و هي تشمل المكان بنظراتها ثم انتبهت إليه.. نظراته التي حادت نحوها فباتت گأسهم تخترقها، ضمّت شفتيها بضيق بينما كان هو يشير إليهم بإصبعيهِ فانصرفوا وحدًا تلو الآخر، استند "يامن" بكفيه على سطح المكتب و هو يميل بجذعه قليلًا للأمام، مصدرًا زمجرة عنيفة، بينما كانت تدنو منه و هي تسألهُ باهتمام:
ـ انت كويس؟
أسبـوع مرّ و هو يتجاهلها تمامًا عقب أن انهار في أحضانها، شعر و كأنها تُعريه أمام نفسهِ، تُظهر ضعفه الذي لا يعترف به و تجعله يطفو على السطح.
زفرت عقب أن تلقّت تجاهلًا آخر منه و عبست ملامحها و هي تقول:
ـ تمام.. أنا آسفة إني اقتحتمت خصوصياتك
و تهيأت للخروج، فاستوقفها صوته الجاف و هو يلتفت نصف التفاتة:
ـ استنى
وقفت.. و قبل أن يهمّ بالحديث كان رنين هاتفه يتعالى، زفر معربًا عن ضيقه الجم، ثم سحبه عن سطح المكتب أمامه، أجاب فورًا و هو يستقيم:
ـ ها؟.. عملت إيه؟إيــه؟
و توهجت عيناهُ و هو يقول محتجًا:
ـ يعني ايه مخرجش من البلد.. أومال راح فين الأرض انشقت و بلعته!
زفر و هو يحكّ مؤخرة رأسه مستمعًا لرده ثم قاطعه بنفاذ صبر:
ـ فارس.. اسمعني كويس، الاتنين دول في بينهم حاجة، واضحة
و زمّ شفتيه حنقًا ثم جأر:
ـ ايوة ابن الـ***** هو اللي هربه! واضحة
تنهد بضيق أطبق على صدره و هو يتوسط خصره بكفه ثم أطبق جفنيه و هو يجيبه:
ـ أيوة..اكيد يعني مش هسيب اخويا ثانية من غير ما أكون عارف تحركاته
ثُم قال منهيًا الحوار و قد أصابهُ السئم:
ـ المهم تعمل اللي قولتلك عليه، لازم أعرف الاتنين دول بينهم ايه بالظبط
و احتدمت نظراته و هو يردف بغموض:
ـ لأن و ديني.. لو كان اللي في دماغي صح ما حد منهم هيسلم من شري
و أنهى المكالمة.. التفت فوجدها تقف بوجه متجهم عابس عاقدة ساعديها امام صدرها، و تهز إحدى قدميها انفعالًا، فقذف بالهاتف و هو يزجرها بنظراته:
ـ عايزة ايه انتي كمان؟
ضاقت عيناها و هي تسأله باحتداد واضح:
ـ في ايه بالظبط؟.. انت بتعمل ايه، ممكن تفهمني؟
لوى شفتيه باستخفاف واضح:
ـ لأ مش ممكن..حاسبي
و همّ بإزاحتها عن طريقه، و لكنها تيبست أمامه و هي تقول مضيقك عينيها:
ـ يامن انا إيه بالنسبة لك؟
تأفف و هو يلوى شفتيه بنفاذ صبر:
ـ مش هنخلص بقى؟
فـ أجابت و هي ترفع ذقنها بتحدي:
ـ لأ.. رد على سؤالي
ثم ضاقت عيناها محددًا و هي تتجول بهما على تقاسيمه فتسأله بشئ من الغيرة جعلها تعانى كثرة التفكير طوال تلك المدة:
ـ كنت بتحبها؟
ارتكز بصره عليها ثُم سألها بلهجة مشتدة:
ـ بتسألي ليه؟
ارتفع كتفيها و هي تقول متظاهرة بعدم الاكتراث:
ـ فضول.. مجرد سؤال
حدجها بنظرة مزدرية ثم قال مستخفاً:
ـ قولتلك قبل كده يا بنت حسين.. الفضول الزيادة ده مش كويس!
سألته بوضوح و كأنها لم تستمع لقوله:
ـ قتلتها؟
أشاح بنظراته بعيدًا عنها و هو يزفر متأففًا، فأعادت سؤالها بنبرة أكثر احتدادًا:
ـ قتلتها؟
فأجابها بفتور و هو يحرف نظراته نحوها:
ـ لو إني اتسببت في موتها عندك معناه القتل.. فـ ايوة، قتلتها
و مر من جوارها.. ليسحب سيجارة من علبته و أشعلها و هو يقف أمام الحاجز الزجاجيّ الفاصل بين الحديقة و غرفة مكتبه، للحظة لاحت امام عينيه تلك اللحظات.. حين فكرت تلك العابثة بالفكاك منه قبلًا حيث قفزت عبر شرفتها، و لكنهُ أمسك بها بيُسر بالغ، و أوهمها أن ما حدث لم يمكن سوى نسجُ هلاوس، و اليوم هي تقف خلفهُ.. يستشعر تلك السخونة المنبعثة من وجنتيها اثر غيرتها الظاهرة، شتان بين هذا و ذاك.. يومئذ و اليوم، مرّ الكثير، بأحداثٍ شتى، لا يزال العشق يسفحهما لوجهة غير معلومة و نهاية مطاف لا يدركها.
 سحبته "يارا" من شروده حين قالت بفضول مواريةً لغيرتها:
ـ ميـن؟..كانت مين؟
سحب "يامن" السيجارة من بين شفتيه ليُطلق دخانها من فمهِ و هو يجيبها:
ـ مراتـه!
توسعت عيناها.. للحظة لم يرف لها حفن و هي تحل ساعديها فتسأله بعدم استيعاب:
ـ نعم؟.. مرات مين؟
التوى ثغره بابتسامة ساخرة و هو يقول متهكمًا:
ـ نائف
«يذكرها جيّدًا.. اللقاء الأول، النظرة الأولى، الابتسامة الأولى، إنها هي.. تلك الجميلة سارقة القلوب، و لكنهُ غير.. فـ أنّى لهُ بقلبٍ فيهديه لها؟
لقاؤهما الأول كان بذلك الملهى الليلي الذي لجأ إليه ذات مرة عقب ان شعر و گأن الأرض ضاقت عليه بما رحُبت، أسرف في شُرب تلك المواد المُسكرة حد الثمالة، و لكنه ظلّ محتفظًا ببقايا عقلهِ، كاد يرفع الكأس الذي لا يعلم رقمه إلى شفتيه و هو يقف أمام البار.. فاستوقفتهُ تلك اللمسة الرقيقة للغاية أعلى كفه الخشن، تقوست شفتيه امتعاضًا و هو يلتفت إليها ليحدجها بنظراته المتهوجة، فكان ثغرها قد افترّ عن ابتسامة صافية و هي تردد بود:
ـ كفاية شرب.. شايفاك بتشرب من بدري
ـ حاسبي
و دفع كفها عنه بلا اكتراث و هو يتجرع ما بالكأس برشفة واحدة، ثم تركهُ و هو يشير للنادل فأسرع يصبّ من إحدى الزجاجات بكأسه، في حين حمحمت و هي تتابعه بشغف، ثم قالت و هي تبسط كفها منتظرة مصافحتهِ:
ـ تالين العامري
ارتكزت أنظاره لثوان على كفها.. ثم حاد بناظريه عنها و گأنها حبة رمال تطايرت من أمامه و مضت، ضغطت "تالين" على شفتيها بحرج و قد التهبت وجنتيها، ثم سحبت كفها و هي تقول:
ـ اتأكدت دلوقتي بس انك يامن الصياد
تجرع ما بكأسه ثم تركهُ للنادل و هو يرمقها بنظرة متسائلة فأجابتهُ بوضوح و ابتسامة متسعة أبرزت صف أسنانها الناصعة:
ـ بيقولوا عليك وقح جدًا
فالتوى ثغرهِ باستخفاف و هو يحيد ببصرهُ:
ـ كويس انك عارفة..حلي بقى عن سمايا
فأردفت نافية برأسها و كأنها تفرض وجودها عليه:
ـ  i'm sorry to say that.. لكن مقدرش أسيبك و انت في الحالة دي!
التوت شفتيه باستنكار و هو يردد بصوت متثاقل عقب أن تجرع كاسًا آخر:
ـ خليكي كدا.. أما نشوف أخرتها
كان يعتقد انها مجرد عابثة..ستقضى مجرد ايامًا عابرة بحياته و تمضي كسابقاتها، و لكنها غير، تشبثت به و كأنه الملاذ..و أطبقت عليه بأناملها، لاحقتهُ بكل مكان، صار يراها يوميّا و بكل لحظات حياته، تداهمه بوجودها في أي ثانية و كأنها تظهر من العدم، و للحق أنها أحبّته بصدق، و لم تكن قد ارتكبت جرمّا بحياتها سوى ذلك الحب الذي أضنى قلبها و هي تحاول استمالته.. و لكنه گقالب الثلج لم يتأثر بأي من محاولاتها، و لكنها لم تقنط.. بل كانت تشعر بسعادة عارمة و هي تتمتع بمشاكسته و مرافقته هنا و هناك، و هو سمح لها بذلك دونًا عن غيرها، لم يُعلمها حدها الذي تخطتهُ إلا بعد فوات الأوان و قد صارت حرفيّا أسيرة لعشق لم تجنِ منه سوى الشوك، و هو.. لم يكن ليشعر بأي شئ نحوها.. مُطلقًا.
صارحها.. واجهها بالحقيقة المُرة و ألقاها في وجهها عقب ان فشل فشلًا ذريعًا في صدّها، و عانت هي بعد ذلك، قررت أن تترك البلاد و تهاجر فتريح عقلها قليلًا.. و كانت المرة الأخيرة التي استمع فيها صوتها الباكي الرقيق عبر الهاتف في اتصالٍ وردهُ منها:
ـ أنا عايزة أقولك حاجة.. هعترفلك بحاجة أخيرة يا يامن و أرجوك متقفلش
و صمتت هنيهة و هي تستشعر ذلك الثقب في قلبها يسيل دمائًا وهمية، ثم أردفت و هي تنظر من خلال نافذة طائرتها:
ـ I Love You Yamen..Really I loved you
و خفت صوتها و قد فشلت حتى في أن تستمع لصوتهِ، فأردفت تُطالبه بـ:
ـ عايزاك تقول اسمي.. مرة واحدة بس، يمكن تكون الأخيرة
أطلق زفيرًا مختنقًا من صدره ثُم قال بلهجة جافة خالية من أي مشاعر:
ـ تالين
التوى ثغرها بابتسامة متسعة و هي تحني بصرها و قد شقت عبراتها طريقها على وجنتيها، ثُم أنهت المكالمة بقولها:
ـ   I Miss you
و لم تكن تعني بذلك أنها ستفتقدهُ..بل كانت تعني أنها تفتقده بالفعل.. و أغلقت المكالمة و هي تنتحب بأنين خافت، بينما كان هو في أوج جفائه و عدم اكتراثهِ، و لكن سؤال واحد أخذ يدور ببالهِ، أهي غبية أم ماذا!.. ماذا أحبت بهِ هو تحديدًا دونًا عن غيرهِ؟!.
و صارت ذكرى عابرة.. حتى أنها لم تكن تتوافد إلى ذكرياتهِ، و لم تكن تعني له حتى ليتذكرها كثيرًا، حتى أتاهُ ذلك الاتصال الهاتفيّ من رفيقهِ الأوحد دون "فارس":
ـ  مش هتصدق..اتجوزت
حكّ "يامن" صدغه ، ثم شرع يسكب قهوتهِ بفنجانهِ و هو يجيبه باستخفافٍ:
ـ قول كلام غير دا
ـ حتى أنا مش مصدق انها خلاص بقت ملكي!
لم تُحل عقدة حاجبيه و هو يحيبه بلا اكتراث:
ـ اشبع بيها.. أعملك ايه يعني؟
تأفف "نائف" ثم قال بشئٍ من الضيق:
ـ اوف.. يا اخي مفيش مبروك، أي كلمة عدلة!
حمل "يامن" قدحهِ و خرج من المطبخ ليخطو نحو غرفة المعيشة، ترك قدحه أعلى المنضدة المستطيلة ثم جلس أعلى الأريكة رافعًا ساقًا أعلى الأخرى و هو يقول بتهكم:
ـ مبروك.. على ايه؟ دخلت القفص برجليك، استحمل بقى اللي هيجرى لك
ـ ليه الكلام دا بقى؟
حكّ "يامن" بإبهامه ذقنه و هو يقول بصوت رجوليّ:
ـ لأني عارفك كويس.. يومين و هتزهق، متحاولش تقنعني انك شوفتها..حبيتها، فاتغيرت و بقيت انسان تاني و مش عايز من الدنيا غيرها
حرر "نائف" رابطة عنقه قليلًا و قد اختنق صدره.. ثم قال:
ـ ليه كدا بس يا عم يامن.. متقفلهاش في وشي الله يكرمك، و بعدين أنا حبتيها بجد
فكان رده باردًا و هو يسحب قدحهِ:
ـ قول دا لحد غيري، محدش حافظك قدي يا نائف.. مش هتقدر، النسوان داء فيك، و بكرة نشوف
فزفر "نائف" أنفاسه المختنقة و هو يبرر له:
ـ أنا حبيتها يا يامن.. صدقني دي غير كل اللي أعرفهم، عارف انك لا بتآمن بالحب و لا المشاعر، لكن صدقني، أنا حبيت
ارتشف "يامن" من قدحه ثم أبعده عن شفتيه ليقول ببرود:
ـ ده مش حب يا نائف.. دا كدبـة، كدبة عيشتها و هتجبرها تعيشها معاك
فأنهى "نائف" ذلك الجدال بـ:
ـ بقولك ايه.. أنا عارف اني مش هعرف أقنعك، أنا نازل مصر
فسخر منهُ تمامًا:
ـ هتنزل مصر عشان تقنعني؟
فنفي "نائف" ضاحكًا:
ـ لأ مش للدرجة دي، بس هي عايزة تقابل أهلها
ارتفع حاجبي "يامن" و هي يتكهن بـ:
ـ مصرية؟
فاستمر في ضحكهِ و هو يقول:
Wait me ـ بالظبط، كلها كام يوم و أكون طابب عندك يا مينو!..
......................................
لم تكن صدمة إليه كما كانت بالنسبة إليها، فحبيبها و عشيقها الأول ما هو إلا رفيق زوجها الحاضر.. من كانت تحلم أن تكون ملكهُ هي، فـ إذ بها وهبت نفسها لرفيق حياته، شعرت بقلبها يكاد يُجتث من محلهِ.. و راحتها تحتضن كفه، بينما عبراتها المترقرقة لم تتمكن من كبحها، أطبقت على أناملهِ و كأنها تخشى أن يفرّ منها، بادر هو بسحب كفه من قبضتها حينما كان "نائف" يطبق على ساعدها و هو يسألها بتلهف شديد:
ـ مالك يا توتا؟.. انتي كويسة
فتصنعت الابتسام و هي لا تحيد بناظريها عن عدستيه الثاقبتين التي لطالما عشقت النظر خلالهما، ثم قالت و هي تنزح عبراتها:
ـ  nothing baby ..تقريبًا حاجة دخلت في عيني
ثم وجّهت حديثها له بلهجة رقيقة لم تخلُ من التحسر:
- nice to meet you.. yamen
...........................................
لم يكن يشعر بشئ سوى السخط.. أيّا كان لم يكن ليرغب بزواجها من رفيقه اللاهي الذي يعلم طباعهِ جيّدًا.. و كما تكهن تمامًا.
فور أن فتح باب منزلهِ وجدها ترتمي في أحضانه دافنة وجهها فيه و هي تردد من بين نحيبها:
ـ طلع خاين.. صاحبك خاين يا يامن، خايـن!
كاد "يامن" يهمّ بدفعها و لكنهُ توقف في اللحظة الأخيرة عقب قولها، ربت على خصلاتها المتناثرة على صدره العاري المبتل بحبات العرق كونهُ كان يُمارس الرياضة بغرقة الألعاب الرياضيّة، ثم قال محاولًا التهدئة من روعها:
ـ طب اهدى
تغضن جبينها و قد تعجبت جمودهِ، ثم رفعت أنظارها البائسة نحوه و هي تسأله باستهجان:
ـ كنت عارف؟.. كنت عارف و مكلفتش نفسك حتى تعرفني!
فـ احتد و تلك المسافة ما بين حاجبيه تتلاشى:
ـ انتي مجنونة يا تاليـن؟.. أعرفك ايه؟ أقولك بعد اسبوعين من جوازكم؟
فهدرت به و قد فقدت آخر ذرات تعقلها:
ـ ايوة تعرفني.. مش من حقي؟ مش من حقي أعرف ده!
تنهد "يامن" و هو يتفقد الوسط بعينيه، ثم همّ بسحبها للداخل و هو يأمرها بـ:
ـ تعالى معايا
و لكنها سحبت ذراعها بانفعال و قد بلغ اهتياجها أوجهِ:
ـ لأ.. هتفهمني كل حاجة هنا
زفر متأففًا ثم قال مشيحًا بكفه و هو يضيق عينيه:
ـ ايه اللي خلاكي تستعجلي يا تالين؟.. يعني إيه بعد سفرك بشهر أعرف بجوازك؟ تعرفي ايه عنه عشان تتجوزيه؟
ضمت شفتيها بندم جلي و هي تنظر نحوه باحتداد، بينما كان يتهكّم منها قائلًا:
ـو لا كنتي بتنتقمي مني؟
نظرت نحوه مطولًا ثم أجابته بعمق:
ـ طلعت بنتقم من نفسي مش منك.. انت متستاهلش اي حاجة، متستاهلش حبي ليك، متستاهلش محاولاتي معاك، متستاهلش الوقت اللي ضيعته عشانك
فلم يكترث كثيرًا لقولها، دسّ كفيه بجيبه و هو يقول:
ـ طب ما انا عارف.. إيه الجديـد؟
فهدرت به و الدموع تحفّ عينيها:
.. و لسه بحبك زي ما أنا! Stupid ـ الجديد إني
لم تكن تنبته حتى إلى أنه يتتبعها.. هي استقلت المصعد، و هو استقل الدرجات التي توقف متواريًا عند آخرهما.
و گأن خيوط الصداقة العميقة كانت تكفي لمقص "تالين" أن تقصقصها ببساطة، غدت الصداقة أشد عداوة، و لم يكن "يامن" بصامت.. تجاوز مرة مرتين و منحهُ أكثر من فرصة ليشرح له أن الأمر لم يتعدَ كونه من طرفها هي، و لكن الأخير رفض أي من تبريراته، و اعتبرهُ خائنًا له و لصداقتهما الممتدة منذ الصغر.
و "يامن" لم يكن ذلك الصبور الذي يجلس ساكنًا أمام إساءة "نائف" لهُ و تشويه سُمعتهِ منتويّا بذلك محاولة تدميرهِ، فصارت الحرب أحمى وطيسًا و باتت على أشدها، "نائف" يرتكب خطأً.. فيرده "يامن" بالضعف.
حتى ذلك اليـوم الذي أزمع فيه "نائف" على التخلص منه نهائيّا.. فكانا يقفان على حافة ذلك الجبل، كلاهما مستقيم.. كلاهما متحفز.. كلاهما لا يوجد ذرة ندم بعينيه.. أذرعهما الحاملة للسلاح مبسوطة كلٌ في مواجهة الآخر، و كان "يامن" من يقف على الحافة.. ان لم تقتله رصاصة عدوه، فسيسقط عن ذلك الارتفاع الشاهق، فكان "نائف" يهدر متوعدًا:
ـ خلاص يا يامن.. نهايتك على ايدي
لوى "يامن" شفتيه و هو يردد بلا اكتراث:
ـ اضرب.. مستني ايه؟
نزع "نائف" صمام الأمان و ملامحه تزداد قتامة أثناء قوله:
ـ تتشاهد.. مستنيك تتشاهد على روحك، برضو مقدرش أنسى ان كنت صاحبي في يوم من الأيام
التوت شفتيّ "يامن" ساخرًا و هو يقول بتهكم واضح:
ـ لأ أصيل يا دمنهوري
ـ يامـــن
انتبه كلاهما إلى تلك السيارة التي اصطفت أمامها بشكلٍ مفاجئ فأُصدر صوت احتكاك الإطارات بالأرضية، ترجلت "تالين" من فورها.. و هرعت مستوفضة نحو "يامن" لتقف أمامه و هي توليه ظهرها لتكن في مواجهة "نائف" مبادرة باحتداد:
‏ـ لو هتقتله.. يبقى تقتلني أول
‏و التفتت نحوه نصف التفاتة لتتأمل ملامحه بنظرات متيمة على الرغم من أن نظراته لم تنحرف نحوها لثانية.. بل مسلطة فقط على زوجها، ثم عادت تنظر لـ"نائف" و هي تقول:
‏ـ مش هسيبك تقتله.. و لو مات، مش هيموت لوحده
‏أبعدها "يامن" بدفعة واحدة من إمامه و هو يقول بلهجة محذرة:
‏ـ اطلعي منها يا تالين
‏فعادت تقف أمامه و هي تقول بتلهّف مرتاب بينما تهز رأسها نفيًا:
‏ـ لأ.. مش هسيبك يا يامن، مش هسيبك
‏فهدر "نائف" و قد تشنجت عضلات عنقهِ و بزغت عروقه بوضوح:
‏ـ تاليـــن.. حاسبي احسن لك
‏و لكنها لم تكترث لقولهِ، بل التفتت لـ "يامن" و هي تتشبث بكفه مغمغمة و عبراتها تنسدل على وجنتيها:
‏ـ مش هسيبك يا يامن.. مش هسيبك
‏فحذرها مما تفعل و قد أرخى ذراعه جواره، مخفضًا سلاحهِ:
‏ـ تالين.. متبقيش مجنونة، اطلعي من الموضوع ده
‏و لكن "نائف" لم يرخِ ذراعهِ.. و لم يزح فوهة السلاح، بل صوّبها نحو "يامن" و هو يهددهما بقولهِ المستعرّ:
‏ـ لو مبعدتيش فأنا مش مسؤول عن اللي هيحصل لك
‏فـ اسهتجن "يامن" قوله و هو يخطو نحوه عقب إن أقصاها عن طريقه:
‏ـ هتقتل مراتك يا متخلف؟.. هتضيعها أكتر ما ضيعتها
‏فتشنجت نبرته و هو يشير بالسلاح:
‏ـ محدش ضيعنا غيرك.. انت اللي ضيعتها و ضيعتني، حتى حُب حياتي استكترته عليا يا يامن!
‏زفر "يامن" أنفاسه الملتهبة متأففًا ثُم ردد باحتدامٍ:
‏ـ و****** هي اللي ضيعتها مش أنا، قولتلك من أول ثانية.. و انت مصدقتنيش
‏نهج صدر "نائف" علوًا و هبوطًا و هو يطبق أسنانه حينما تتبعتهُ "تالين" لتقف أمامه.. بينما كانت تقول محمّلة إياه الذنب الأعظم:
‏ـ انت السبب في كل حاجة يا نائف متجيش دلوقتي تحط الذنب عليه
‏و احتدت لهجتها و البغض يشعّ نحوه من عينيها:
‏ـ انا بكرهك يا نائف.. بكرهك و مكرهتش في حياتي قدك
‏حينها لم يرف لهُ جفن و هو يُصوب سلاحه نحوها، بل أنهُ ازداد اصرارًا على تلقينها درسًا لن تنساهُ، فأشار "يامن" بعينيه و هو يأمرهُ بجفاء:
‏ـ حاسب السلاح..حسابك معايا مش معاها
‏ارتفع ذقن "تالين" و هي تصوب نظراتها المتوهجة نحوه، ثم قالت بتحدي واضح:
‏ـ لو يامن حصل لهُ حاجة.. فحياتي ملهاش معنى من بعده!
‏كانت رصاصتهِ مُصوبة باحترافيّة للغاية، حيث الطلقة بجوار كتفها قليلًا و بحيث لا تصيب العظام او أي منطقة حيوية قد تؤذيها، فقط أراد الثأر لكرامته المهدورة، و لكن من وجهة نظره أن "يامن" أفسد مخططهِ بالكامل، حين دفعها بعنف لتسقط أرضًا و تلقى الطلقة بدلًا عنها، فكانت المصوبة نحو كتفها الأيمن تصيب جانب صدرهِ الأيمن، كان ثابتًا و كأن شيئًا لم يكن.. و لكنها كمن هبط عليه صاعقة للتو، ارتجف جسدها و قد سرت قشعريرة به، تفصد جبينها عرقًا و كأنها قد تيقنت من موتهِ.. نهضت عن الأرضية بسيقان مرتجفة، حينما كان "يامن" ينظر نحوها، تمكن بسهولة ما تنتوي فعله حين خطت مقتربة من الحافة.. فتوسعت عيناه و هو يجأر بها محاولًا ردعها:
‏ـ تاليــن!
‏و خطى مستوفضًا نحوها، حينما كانت تقف في مواجهتهِ و نظراتها الشغوفة تتأمله، ثم انحرفت نظراتها نحو "نائف" المتيبس لتقول بلهجة مريبة:
‏ـ حياتي ملهاش معنى من بعده!
‏و فتحت ذراعيها للهواء دون ذرة ندم و هي تترك جسدها ليهوي من أعلى ذلك الارتفاع الشاهق.. حينما كان كفّ "يامن" يمتد ليُطبق على أناملها، ما جعل شعور الذنب حيالها يتفاقمُ أنهُ تلمس أناملها.. تلمس بشرتها الرقيقة بأنامله الخشنة و همّ بالإطباق عليها، و لكنها گحبة غبارٍ انسابت من كفه قبل أن يقبض عليه.. ففشل في إنقاذها وقف متيبسًا و هو لا يكاد يستوعب ما حدث توًا.. و لم يستمع سوى لصوت زوجها و هو يجأر بـ:
‏ـ تاليـــن!
...............................................................
.................................
...........................................................
 
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن