"الفصل السادس"

695 17 0
                                    

" الفصل السادس"
تركت صغيرتها في الفراش و دثرتها جيدًا ، انحنت عليها تُلصق شفاهها بجبينها مقبلة إياها بحنو أمومي ، تراجعت للتمعن النظر لملامحها ، و هي تُمشط بكفها خصلاتها ، و رُغمًا عنها فاضت عيناها بالدموع ، ابتعدت عنها لتسحب هاتفها مُحاولة اعادة الاتصال بهِ بلا جدوى ، فـ عبست ملامحها و قد تعالت شهقاتها و هي تضم الهاتف إلى صدرها ، سرعان ما تحول وجهها لكتلةٍ ملتهبة من النار ، توهجت عينيها و هي تتمتم بنبرة قاتمة :
- انتي السبب يا يارا ، انتي السبب في اللي حصل لابني ، و الله ما سايباكي !
................................................
دفع الباب دفعة خفيفة بعد أن أدار المفتاح .. دلف و هو يستشعر ذلك الهدوء و السكينة التي أُغدقت على المنزل.. و لكنها للأسف لم تتسرّب إلى نفوس من هم بداخله ، ترك زفيرًا حارًا من صدرهِ متنهدًا بحرارة ، ثم أوصد الباب من خلفه ، تغضّن جبينه و هو يخطو للداخل عقب أن أثارتهُ تلك الأطياف المتحركة ، غيّر وجهته نحو غرفة المعيشة ليجدها مستلقية على الأريكة أمام التلفاز فبدت أنها قد داهمها سلطان النوم على حين غفلةٍ ، زمّ شفتيهِ و هو يسحب جهاز التحكم من بين أناملها ، أشهره نحو التلفاز و أغلقهُ ثم تركه ، وجّه أبصاره نحوها و انحنى عليها ليهز جسدها برفقٍ :
- ولاء.. قومي نامي في أوضتك
انتفضت فزعة اثر صوتهِ و هي تغمغم :
- بابا
فـ حاوط كتفيها و هو يردد مشدوهًا
- اهدي يا ولاء
تصارعت أنفاسها و هي تحاول التقاطها أثناء قولهِ :
- مالك يا بنتي ؟
ازدردت ريقها و هي تردد باضطراب :
- ابدًا.. اتخضيت بس
فـ لوى شفتيهِ ببسمةٍ هادئة و هو يربت على كتفها :
- مقصدش أخضك يا حبيبتي
- حصل خير يا بابا
صمتت هنيهة ثم تابعت بتوتر طفيف :
- فضلت أستنى حضرتك بس الظاهر اني غفلت .. انت اتأخرت كده ليه ، قلقتني عليك
فـ قبض بلطفٍ على مرفقها:
- و لا حاجة يا ولاء ، تعالى أدخلك أوضتك
عاونها لتقف ثم سحب عُكازها الملقى على الأرضية بجوارها ، فـ حاوطت كتفيهِ منتقلة برفقتهِ للداخل متكئة على عكازها الخشبي ، بينما كان يقول بتبرم و عيناه تتجولان بالمنزل :
- أمال أمك فين ؟
أشارت بعينيها نحو غرفة شقيقتها قبل أن تردد بقنوط :
- زي كل يوم ، هتفضل حابسة نفسها في أوضة يارا
زفر بتأففٍ لم يتمكن من مواراتهِ  دفع باب غرفتها لتلج و خطى بها نحو فراشها ، تركت عكازها بينما عاونها لتتمدد على الفراش و هو يقول بنبرة جادة:
- طب نامي انتي و متشغليش بالك
فدفنت رأسها في وسادتها و أطبقت جفنيها و هي تتمتم بنبرة غلب عليها النعاس:
- حاضر
دثرها قبل أن يستدير ليغادر الغرفة ، و سريعًا ما غطت في سبات عميق.. فـ لم تسنح للأفكار الفرصة لتتقاتل بذهنها ، فـ راحت تخترق أحلامها لتنغص حتى عليها نومها .
أوصد الباب و هو يطرد زفيرًا حانقًا من بين شفتيه ، توهجت عيناه و هو يكز على أسنانهِ بعنفٍ، خطا "حسين" نحو غرفة ابنتهِ ، أدار المقبض و دلف ليجدها غافية على فراشها تضم دميتها بين ذراعيها ، دنا منها بخطواتٍ حثيثة ، انحنى عليها متأملًا ملامحها عن قرب ، تفاصيلها الدقيقة التي لطالما كان أسيرًا لها ، و لكنها تمادت.. تمادت للغاية ، لم يرتكب_ من وجهة نظرهِ_ ما يدينه ليستحق ما تفعلهُ بهِ .. لـ ربما أخطأ.. كـلٌ أخطأ ، ابنته ، هو ، زوجته ، كل منهم يتمادى في أخطائهِ فـ بدوا گبيادقًا يُحرّكهم هو كيفما يشاء متلذذًا بما يحل بهم من فواجع ، تركوا الفرصة تسنح لهُ و قد كان يقتنصها فـ اغتنمها على الفور ، تفككوا و تركوا المسافات لتتخللها مشاعر البغض و النقم .. كانت وجهة نظرهِ هكذا.
 سحب الدمية من بين ذراعيها ، و لانت ملامحه و هو يُمرر ذراعه خلف ظهرها و الآخر خلف ركبتيها ، و حملها بين ذراعيه ، استندت برأسها على كتفهِ فـ انتشى ، و گأنها تلجأ إليهِ ، افترّت شفتيهِ ببسمة و هو يمرر نظراته على ملامحها ، و انحنى يُلصق شفاهه بجبينها تاركًا قبلة عليه ، سمح لنفسه بأن يستنشق عبقها الذي اشتاقهُ و فاقم ما بهِ من لوعة ، سحب شهيقًا عميقًا و هو يخطو نحو الخارج حائدًا ببصرهِ عنها ، محاولًا السيطرة على كمّ المشاعر المتأججة التي واتته في هذه اللحظة ، فـ هي .. بين ذراعيهِ ، في أحضانه ، أنفاسها الدافئة تلفح بشرته و كأنها تخترق أضلعه ، اقتادته قدماه نحو غرفتهما ، فـ دلف و خطى نحو الفراش ، انحنى بجذعهِ ليترك جسدها فوقه و دثّرها جيدًا ، و راح يتمدد مجاورًا لها ، بل أنهُ سحبها لتستقرّ رأسها بين أضلعه ، و كفيهِ يمشطان خصلاتها ، و لأول مرة منذ زمن طالت بهِ العواصف يتسلل شعور الارتياح لـ جوانحهِ ، و لكنه لم يكن يعلم ما ينتظره ، فـ العاصفة عندما تتلاشى دفعةً واحدة و ينقشع أثرها احذر.. فـ ما هي إلا تدبير لـعاصفة أخرى أحمى وطيسًا.. عاصفة تكاد تجتثّ الأخضر.. و اليابس .
........................................................
لم تكن تدري تحديدًا ما أصابها، و لكن أعظم شعور طغى عليها هو الرهبة ، الصوت الصادر عن جهاز النبضات يكاد يصم أذنيها ..بدا و كأنه أسواط تُجلد بها ، و لكن لم يُضاهى ذلك برؤيتهِ و قطبين الصاعق يلتصقان بصدرهِ فـ يرتد جسدهُ بلا أي جدوى ، مات حتمًا ، لم يكن هناك مؤشرًا لاستعادتهِ ، استشعرت و كأن ملك الموت يحوم في الأرجاء منتظرًا اقتناص روحه ، أو أنه اقتنصها و قضي الأمر بينما تُركت هي تائهة بين أروقة ذنبٍ لا يُشفع و بين أحضان مدينة تعصف بها الرياح العاتية أينما تشاء ، مدينة.. لا تنتمي إليها ، و طرقها لم تعتد السير بها ، أجوائها ثلجية.. صوت الرعد يدوى فـ يقذف في قلبها الرعب..البرق يخترق صفحة السماء بجسارة ، الغيوم متلاصقة فـ تكاد لا ترى صفحة السماء ، الجو غائم معتم.. بل أنه حتى حالكًا، و هو .. هو كان من اصطحبها عنوة إلى هنا ، و لكنهُ ظل برفقتها حتى حلول الآن ، و حان الوقت لتركها وحيدة بها ، ضعيفة كـ ورقة في مهب الريح فـ تذروها حيثما تشاء .
تلاشت أي ذرة أمل كانت قد نمت بداخلها و هي ترى جسدهُ يرتدّ أعلى الفراش..  شحب لون وجهها و توسعت مقلتيها بصدمةٍ واضحة و هي محملقة بوجههِ الذي تراه بالكاد من بين تلك الأجساد المحيطة بهِ ، كادت أن تترك جسدها يتراخى لتفقد وعيها ، و لكنها قبل ذلك سـ تفرّ.. سـتفر من هنا رافضة المواجهة ، و بالفعل .. استدارت لتهرول مبتعدة و كأنها رأت شبحًا للتو ، لم تكن تدري أن دموعها قد فاضت أنهارًا على وجنتيها و هي تنفى برأسها عدة مرات محاولة انكار تلك الحقيقة التي صارت واقعًا مُتجسدًا.. لقد أضحت " قاتلة".. بالمعنى الحرفيّ لذلك .
..............................................
ناولتهُ قُطبيّ جهاز الصعق الطبي  بعد أن قامت بدهنهما بـ دهن موصل للكهرباء ليُخفض من مقاوم الجلد للتيار تجنبًا لحدوث حرقٍ سطحي بـ جلد صدرهِ ، تناولهما منها، هادرًا بـ:
- اشحنيه على 300
فـ استجابت الأخرى لهُ على الفور ، بينما كان يُلصق القطبين بصدرهِ لينتفض جسدهِ ، تابع الطبيب المؤشرات عبر الأجهزة و التي لم تكن مُبشرة بالمرة ،  فـ أعاد الكرة مجددًا.. لا يستجيب ، لا جديد ، تلك المرة هدر بـ عزمٍ أقل و عيناه تتجولان على الأجهزة الطبية ، و جهاز قياس النبضات :
- 360
عاد يُلصق القُطبين بصدرهِ فـ انتفض جسدهُ للأعلى.. ليسكن جسدهُ بعد ارتدادهُ فوق الفراش الطبيّ ، حتى تهدل كتفيهِ و قد يأس ، أحنى بصره عن جسده و قد نهج صدره علوًا و هبوطًا بفعل التوتر السائد، مرر عينيهِ على الأجهزة الطبيّة و.......
............................................................................
حبـُوره آنذاك لم يكن يُضاهى ، الابتسامة لا تُفارق شفتيهِ ، يكاد يجزم بأنهُ حاليًا تخلّص من كابوس.. كابوسٍ اختلقه بـ نفسهِ و صنعهُ بيديهِ فـ بات لزامًا عليه تحمّل نتاج ما افتعله طوال تلك السنوات ، و اليوم قد قُدمت له الفرصة على طبق من ذهب ، فـ ما كان منهُ إلا أن اغتنمها .. فرصة لا تُعوض بـ حدثٍ لم يكن متوقعًا ، و هو من كان صباحًا يتفاخر بجبروتهِ المعتاد و أزمع على قتلهِ ..ردّها إليه بـأسرع مما كان يتخيل ، من كان صباحًا كـ الوحش الكاسر .. فيضان بأمواجٍ هائجة يجتث ما يواجهه بلا تمييز ، و الآن هو مُلقى بين الحياة و الموت .
كان يستمتع بـحمّام دافئ يزيل عنهُ آثار الأحداث المتوالية .. لم يدرِ كم من الوقت مرّ عليه و هو هكذا في المسبح الصغير مستسلمًا لحالة الارتخاء التي داهمته حتى اكتفى ، نهض ملتقطًا منشفة حاوط بها خصرهُ و مضى باتجاه الباب .. لتلتقط عيناه صورته المنعكسة على يساره في المرآة أثناء سيره ، فـ تسمر .. التفت ليدنوَ منها و ابتسامة خبيثة تعلو شفتيهِ ، استند بكفيهِ على الحوض و هو يُحملق بصورتهِ .. ملامحه تكاد تكون متطابقة مع أخيهِ المتوفى ، بينما طِباعهِ أشبه بطبع ذئب لم يعلم يومًا سِوى خيانة قطيعه و نهش لحومهم ، و بإبهامهِ مسح على ذقنهِ النابتة قليلًا و هو يمسح بلسانهِ على أسنانهِ المُصفرّة ، ثم قال بنبرةٍ لا تخلو من الضغينة :
- كنت عايزني استحملك لامتى يا ابن أخويا ؟ استحملتك كتير
توهجت مقلتاه و كأن الشرر يتطاير منهما و كشّر عن أنيابهِ و هو يردد بصوتٍ حالك:
- جه الوقت اللي تقابل فيه أبوك .. ما هو مش بعد موته سابلي جزء منه ، بس أبشع !
تسللت أنامله بين خصلاته ليُمشطها ناثرًا حبّات المياه العالقة بها و قد عاد لبروده:
- موتك مخدش دقيقة ، شكلك كنت مستنيها يا .. يا ابن أخويا ، نتقابل في الآخرة بقى .
 و أعقب كلماتهِ بـ قهقهات مرتفعة و كأن ما تفوّه بهِ توًا .. مجرد نكتة مرحة .
..............................................
أزاح ذراعهُ عن كتفيّ والدتهُ و هو يُحدق بهِ بأعين قدحت شررًا هادرًا بسخط :
- يعني ايه ؟ هتمعنعي أشوف أخويا
ظلّت نظراتهُ المميتة مُعلقة بها و هو يردد بصوتٍ حاد :
- مش بمنعك انت .. بمنعها هي !
عقدت ساعديها أمام صدرها و هي تهدر بنبرةٍ قاتمة :
- و بصفتك ايه بتمعني ؟ لأ ده انت اتجننت رسمي
أشاح بكفهِ و هو يدنو منها خطوة أخرى هادرًا بصوتٍ حالك :
- و بصفتك ايه جاية هنا يا .. يا هدى هانم ؟ بصفتك ايه عايزة تشوفيه ؟
زفرت بحنقٍ مردفة بتأفف :
- انت مش هتبطل طريقتك دي بقى ؟ أنا زهقت منها ، أنا أمه .. أمه عارف يعني ايه يعني أعمل اللــ....
انفرجت شفتاه بابتسامة ساخرة ، و هو يردد بتهكم جلّ على ملامحه :
- أمه! ده بجد!
فـ تدخل " عمر" بدوره متمتمًا بشجب :
- بطل بقى ده مـ..
ارتسمت الصرامة على ملامحه و هو يردد بنبرة جادة :
- متدخلش يا عمر !
فـ أشاح بكفهِ متأففًا:
- يـــوه
لم يكترث " فارس" له ، بل التفت اليها ليتجعّد جبينه مستطردًا بنبرة جافة :
- أمه! لسه فاكرة انك أمه ؟ لسه راجعة تفتكري بعد السنين دي كلها انك أمه ؟
حادت ببصرها عنه و هي تلوى شفتيها بتأفف متمتمة :
- أنا منسيتش للحظة اني أمه ، هو اللي نسى ده !
فـ صاح بها باحتجاج مستنكر :
- لأ يا هدى هانم ، انتي اللي قصدتي تعملي كده ، انتي اللي قصدتي تخليه يـ....
توقفت الكلمات على أطراف لسانهِ حينما رآى ذلك الشرر المتطاير من حدقتيها و هي تُحدق بنقطة ما خلفه ، تغضن جبينه بينما كانت تهدر بصوتٍ قاتم :
- انتي اللي عملتي كده فيه .. أيوة انتي !
تسمرت بمحلها محملقة بها و هي تُقبل عليها قاصدة شنُّ هجومًا ضاريًا عليها ، ارتد جسدها للخلف حين رأتها تكاد تصل إليها ، ودت لو يمكنها الفرار منها و لكنها كانت الأسرع ، حيث انقضت عليها قابضة على ساعدها بعنفٍ و هي تجتذبها إليها هادرة باحتدام:
- فاكرة هتفلتي بعملتك ، أنا متأكدة ان انتي اللي عملتي كده !
تصارعت خفقاتها حتى كادت الأصوات تصم أذنيها ، نهج صدرها علوًا و هبوطًا و هي تحاول التملص من قبضتها ، حاولت أن تتفوه مدافعة عن حالها و لكن الأحرف تبعثرت من لسانها فلم تتمكن من تكوين جملة مفيدة ، حتى أنقذها هو من ذلك المأزق الذي حُشرت به ، فـ حاول الفصل بينهما و هو يردد بجدية تامة :
- اللي وصله للحالة دي هو انتي و عمايلك .. مترميش بلاويكي على غيرك !
نجح أخيرًا في ابعادها عنها و وقف أمامها كـ السد المنيع يحول دون اقترابها منها بينما كانت تردد بشراسة و هي تحاول تجاوزهِ:
- فاكر انك هتحوشني عنها ، أنا عارفة الأشكال دي كويس ، ما هو مش معقول بلطجية هيقدروا يدخلوا الفيلا و يقتلوا ابني في بيته من غير مساعدة ، مفيش غيرك يا بنت حبيبة ، بس صبرك عليا ، أنا هوريكي
تشبعت بشرتهِ بالحمرة الغاضبة .. قبض بعنفٍ على ساعدها و هو يردد من بين أسنانهِ المطبقة :
- انتي زودتيها أوي يا .. يا مرات أبويا ، امشي قدامي .
استدار و هو يسحبها خلفه في حين لم تكترث له حتى و هو يسحبها .. تسلطت كامل قوتها على رمي كلماتٍ لاذعة تُصيبها في مقتل و هي تلتفت لتحدجها بنظراتٍ تكاد تفترسها :
- متفكريش انك هتخلصي .. لأ ، دي البداية ، دي مجرد البداية ، ابني هيرجع .. هيرجع .. مش يامن الصياد اللي يموت بالسهولة دي ، متفرحيش كتير لأنه راجع و هيوريكي ، هيندمك على اللي عملتيه ، هيندمك انتي و عيلتك ، هيخسرك كل فرد فيها و افتكري كلمتي ، ده يامن الصياد.. يامن ابني أنا .. هيرجع و ...
لم تنتهِ كلماتها.. ظلت تهذي بكلماتٍ مطولة مهددة فلم يختفِ سوى صوتها اثر ابعادها عنوة ، في حين كانت الأخيرة بحالة لا يرثى لها ، تضاعف شحوب بشرتها ، و شعرت بالرؤية تهتز أمام عينيها ، و لكنها تماسكت ، حركت بؤبؤيها لتُسلط نظراتها على " عمر" الذي رمقها بنظراتٍ تحمل الضغينة ، ثم عاد بظهرهِ عدة خطوات و التفت لينطلق خلفهما و هو يصيح مستنكرًا :
- فارس .. استني عندك
فـ أشار له و هو يلتفت نصف التفاتة زائرًا بنفاذ صبر :
- بــــس
فـ توقف أمامهُ ليحول دون مضيه المبتعد و هو يردد بتبجح :
- مش هسكت سامعني ، انت زودتها أوي
بينما كانت تهدر كـ المجنونة و هي تحاول اجتذاب ساعدها :
- سيبني يا غبي ، مش هعديهالك يا فارس ، مش هعديهالك ، غلطاتك زادت معايا أوي !
كزّ بعنفٍ على أسنانه مشددًا على عضلات فكيهِ و هو ينقض بكفهِ الآخر على ياقتهِ مُجتذبًا لهُ منها ، غرس نظراتهُ المميتة بعيني الأخير و هو يردد مهددًا من بين أسنانهِ المُطبقة فـ خرج صوته أشبه بالفحيح:
- اسمع يالا ، خلي اليوم ده يعدي على خير و إلا قسمًا عظمًا لتشوفوا فارس تاني غير اللي تعرفوه ، فارس اللي اتربي في بلاد برا لما بيقلب مش هتحب تشوفه ، لأني ببقى ابن شوارع ساعتها !
رمش " عمر" بعينيهِ الجامدتين عدة مرات و هو يردد مستهزئًا :
- انت بتهددني .. أنا مبتهددش !
فـ أزاح " فارس" قبضته عن ياقتهِ و تظاهر بأنه ينزح ذرة غبار غير موجودة عن كتفهِ مرددًا بتهكم :
- أحسن لك تفضل كده .. و دلوقتي تطلع لأخوك ، و ملكش دعوة باللي بيحصل ، بدل ما أحكم عليك متشوفوش انت التاني.. تمام ؟
ثم دفعهُ بعنفٍ للخلف محدجًا إياه بنظراتٍ شرسة ، و مضى و هو يعصف بها يمينًا و يسارًا و سط صرخاتها و هذيانها ، توهجت عينا الأخير و امتقع وجهه و هو يكور قبضتهِ حتى برزت عروق كفهِ فـ لكم الجدار بقوةٍ و هو يُزمجر غاضبًا ، محاولًا بذلك التنفيث عن شحنة السخط المكبوت بداخلهِ .
............................................................................
لم تعلم إلى أين تقتادها قدماها ، تسير بلا وجهة محددة ، خشت أن تتجه نحو الباب الرئيسي للمشفى فـ تجدهم ، حاولت أن تُفكر بـ حلٍ بديل للفرار من هنا و لكن لم يُسعفها تفكيرها و قد شعرت بتروس ذهنها قد أصابها الصدأ ، فـ استوقفت أحداهن تسألها بنبرة متلعثمة و وجهٍ باهت :
- لو سمحتي .. مفيش مكان أقدر أخرج منه غير الباب الرئيسي ؟
أومأت برأسها و هي تُجيب بنبرة عادية :
- لا في .. مخرج الطوارئ
فـ تشبثت بذلك الأمل الضئيل و هي تردد متلهفة :
- و ده ألاقيه فين ؟
أشارت بكفها إلى نقطةٍ ما خلفها :
- آخر الطرقة دي شمال
التفتت تُحدق بتلك النقطة ثم رددت بارتباك :
- شكرًا
تركتها و مضت في الاتجاه المُعاكس و سلكت الطريق المؤدي للمخرج الخاص بالطوارئ حتى بلغته ، أدارت المقبض و هي تتلفت حولها ، و على الفور كانت تخطو أولى خطواتها للداخل ، هبطت الدرجات مهرولة و كأنها تفرّ من موتٍ محتّم ، حتى تمكنت أخيرًا من الخروج من الجهة الأخرى للمشفى .. بـ حيث تضمن ابتعادها عن محيط تلك العائلة بأكملها .
و على الجانب الآخر ، كان قد عبر الباب الحديدي للمشفى متجاهلًا هذيانها و تهديداتها الفارغة كما اعتبرها ، بحث بعينيهِ يمينًا و يسارًا ممشطًا صف السيارات ، ثم مضى جاذبًا لها خلفهُ ، حتى بلغ باب السيارة ، اعتدل السائق في جلستهِ فور رؤيته ، و كاد يهبط عن السيارة لولا استوقفهُ " فارس" بـ حركةٍ من اصبعهِ ثم فتح الباب الخلفي ، و دفعها بعنفٍ و هو يردد بنبرةٍ ساخرة على الرغم من غِلظتها:
- خليك.. خد المدام رجعها القصر ، أصلها تعبانة حبتين !
ثم صفع الباب بقوةٍ ففركت ساعدها الذي تركت أصابعهُ الغليظة آثارًا عليه و هي تنظر نحوهُ من الزجاج المفتوح بنظرات مستشاطة ، ثم قالت بنبرة مهددة:
- أنا هوريك يا فارس انت بتتعامل مع مين ! مش هدى هانم الريحاني اللي يتعمل كده فيها .
انحنى قليلًا ليستند بكفهِ على حافة النافذة محدجًا إياها بازدراء و بنبرة غير مكترثة:
- و لا يفرق معايا !
غلت الدماء أكثر و أكثر في عروقها و هي تهدر بـ :
- هتندم !
ارتفع جانب ثغره بابتسامة ساخرة و هو ينتصب في وقفته داسًّا كفيهِ بجيبيه ، ثم ردد بنبرة متهكمة :
- ان شاء الله .
كزت بعنفٍ على أسنانها و هي تشمله بنظراتٍ مزدرية ، فـ تصلبت ملامحهُ و هو يردد مشيرًا للسائق بنبرة آمرة :
- اطلع على الڤيلا
فـ رد عليهِ الأخير بخنوع:
- حاضر يا بيه
ضغط على دواسة البنزين و انطلق مبتعدًا بالسيارة .. مقاطعًا بذلك تلك النظرات المتحدية بين كلاهما ، فـ التفتت " هدى" لـ تحدق أمامها ، استشعرت ذلك الألم بـ معصمها فـ تسلطت نظراتها عليه لتجد آثار أصابعه ، فـ لم تتمكن من منع لسانها عن سبّهِ:
- غبي و ××××
سلط السائق نظراتهُ على المرآة الأمامية و هو ينظر نحوها بتعجب فـ حدجتهُ بازدراء و هي تنطق باستهجان :
- بتبص على ايه انت كمان ، ركز في الطريق
أومأ برأسهِ و قد أحنى بصره عنها حرجًا و ظلّ متابعًا لطريقه، بينما لسان حالهُ ينطق بـ :
- ده إيه العيلة اللي مفيهاش حد طايق التاني دي !
.................................................................
........................
............................................................................
 
 
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Donde viven las historias. Descúbrelo ahora