"الفصل التاسع و الأربعون"

644 15 1
                                    

" الفصل الثامن و الأربعُون"
صدمـة.. صدمة لم تستوعبها فورًا و هي تنظر نحوه ببلاهة، أعينها المتوسعة الغير مصدقة معلقة بهِ، فرّت الدماء من عروقها و قد شعرت بقلبها يكاد يثب من بين أضلعها، شعرت بالرؤية تشوش أمام عينيها، و كأنها تودّ الانسحاب و لكنهُ لم يترك الفرصة تسنح لها و هو يرخى قبضتهِ عن ذراعه ليقبض على فكّها و هو يغرس نظراته المتوهجة في عينيها ليردد بزئيـر:
- ردي عليـا، رُدّي
نهج صدرها علوًا و هبوطًا و هي تحاول تجميع أحرفها البعثرة لتُكوّن:
- انت.. عرفت؟.. إزاي؟امتى؟
أرخى قبضتهِ قليلًا عن فكها.. ثم حررهُ و هو يستدير ليضرب الحائط من خلفهِ بقبضته المتكورة بينما يزمجر بعنف:
- هندّمـه، و رحمة أبويا لأندمه على اللي عمله، هخليه يدفع التمن أضعاف!
بينما هي تقف و هي تنظر نحوه بعدم فهم، التقطت أنفاسها بصعوبة ، التفت ليحدجها بنظرة حامية، ثم همّ بالخروج و لكنها استوقفته و هي تقف أمامه عاقدة حاجبيها و هي تقول متشككة:
- قالك.. هو اللي عرفك، صح؟ قالك إن اللي دخلت مكتبك و جبت..
قاطعها زائـرًا و هو يسحب ساعدها إليه:
- ليـه؟ شيفاني مفغل يا بنت حسيـن، هتقابلي ابن الـ*** ده في نص بيتي، و تكلميه ليل نهار من غير ما أعرف كل كلمة بتتقال! شايفاني مفغل عشان حاجة زي دي تحصل من ورايا
و انخفضت نبرتهِ حتى باتت أشبه بالفحيح و هو يردف:
- سبحان اللي صبّرني عليكي كل ده يا بنت حسين
و أشار بكفهِ و قد اهتزّت عضلات صدغيهِ إثر إطباق أسنانه:
- رايحة تتحامي مني في واحد ***** يا بنت حسيـن، راحة تكلميه في انصاص الليالي؟
استمدّت قوتها من ضعفها.. لملمت شتاتها المبعثر و هي تقف أمامه مرفوعة الرأس لم تقوَ على إجابتهِ بشكل فوريّ و قد أحق في جملتهِ الأخيرة فقط، بينما نظراتهُ الملتهبة تتجول بين عينيها، و أنفاسهِ المهتاجة تطوف حول بشرتها، دنت أكثر منهُ و هي تضمّ شفتيها، ثم فرقتهما لتقول بلهجة قوية و هي تنقر بسبابتهِ على صدره:
- انت اللي أجبرتني أعمل كده!
فجأر بها ساخطًا:
- ما أنا فعلًا غلطان اني سايبك تجيبي آخرك و مجيبتكيش من شعرك، أنا غلطان
و همّ مجددًا بالتقدم و لكنها قبضت بإحدى كفيها على تلابيبه و هي توقفهُ هادرة باهتياج:
- أيوة انت السبب.. انت، خليتني أعمل حاجات عمري ما تخيلت أعملها، انت عملت فيا إيـه؟ عملت إيه فيا!
و انخفضت نبرتها و هي تقول مضيقة عينيها:
- مخليني فاكرة كل ده إني بضحك عليك.. و الحال إن انت اللي بتضحك عليا
تقوست شفتيه بقسوة و هو يزيح كفها عن ياقتهِ:
- مش يامن الصياد اللي يتضحك عليه يا.. بنت حسين! مش أنا
و تحرك.. تقدم بخطواتهِ حتى بلغ باب الغرفة، و كاد يهمّ بالخروج لولا قولها و هي لم تتحرك قيد أنملة:
- هتعمل إيـه؟ هتقتله؟
التفت نحوها و هو يُطبق إحدى كفيهِ حتى برزت عروقه الخضراء بينما يحدجها بنظراته المشتعلة، فالتفتت حينئذ و هي تشير نحو الخارج مغمغمة بلهجة محتدة:
- روح يا صياد.. روح اقتله، و خليه يقتلك، روح و اقتلوا بعض انتو الاتنين.. روح! واقف ليـه؟
و عقدت ساعديها أمام صدرها و هي تقول و نظراتها المؤنّبة مسلطة عليه:
- روح اقتله زي ما قتلت حبيبتك.. اقتله زي ما قتلت خالد، يالا
مضى نحوها و قد فارت الدماء تمامًا في عروقهِ و هو يصيح مطيحًا بإحدى التحف:
- مش قولت مسمعش اسمه على لسانـك؟
فناطحتهُ بالرأس و:
- ليــه؟ ها ليـه؟ ما انت زيه، ما انت عملت زي ما كان هيعمل
أطبق على فكها و هو يجأر بها بشراسة:
- انتي مراتي.. فاهمة يعني ايه مراتي؟
و ضيّق عينيهِ و هو يشير لنفسهِ بسبابتهِ متابعًا باستهجان واضح:
- بتشبهيني أنا بابن الـ****** ده؟
فهدرت بهِ باختناق واضح و قد برزت عروق جبينها:
- بــس، ملكش دعوة بخالي، متجيبش سيرته!
فاشتدت قبضته على فكها و هو يسألها بلهجة محتدمة متجاهلًا قولها:
- أنا غصبتك؟.. غصبتـــك؟
ترقرقت العبرات في مقلتيها، و لكنها كبحتها بقسوة و هي تحيد ببصرها عنه قائلة بلهجة قوية:
- ابعد إيدك عني.. انت بتوجعني
و بدلًا من أن يحررها كان يدفعها بعنفٍ لتسقط فوق الفراش، انحنى "يامن" بجسدهِ عليها قابضًا بقسوة على فكها و هو يستند بكفهِ الآخر بجوار رأسها هادرًا بجنـون:
- ما تنطقي؟، غصبتـــك على حاجة؟ انطقــــى!
و رفع كفه قليلًا عن الفراش ليشير بسبابته إليهِ أسفلهما:
 - هنا.. هنا بالظبط، غصبتك على حاجــــة؟
و أيضًا لا تنطق.. فقط دموعها التي انسدلت بشكل عموديّ لتغرق الفراش من أسفلها و هي ترمقه بنظراتٍ قويّة من عينيها، فاستفزتهُ أكثر..تكوّر كفه الآخر بعنف و هو يجأر بها من بين أسنانهِ:
- ما تنطقي.. ساكتة ليـــه؟ انطقــــى
- لأ!
صرخت خرجت مكبوتة من صدرها، ثم استطردت بلهجة أشد بأسًا:
- لأ.. ده الجواب اللي انت عايزه؟ ده الجواب اللي هيريحك؟ لأ يا يامن، مغصبتنيش، ارتاح.. انت مغصبتنيش على حاجة، أنا اللي كنت غبيّة لما استـ..
فاشتدت قبضته على فكها و هو يميل أكثر عليها مرددًا باستنكار:
- ندمانــة؟ ندمانة ليـه؟
و أعقب قولهُ بكلماتهِ المستهجنة:
- مش أنا جوزك يا هانــم و لا انتي ناسية؟ مش جــوزك؟
- و مش على أساس هتطلقني؟، مش على أساس هترميني؟ و لا كنت مستني اللحظة دي.. كنت مستنى تاخد غرضك مني و ترميني، مش كده يا يامن بيـه؟
أرخى قبضتهِ عن فكها و قد تركت أصابعه الغليظة آثارها عليه، ثم استند بكلتا كفيه بجوارها و نظراته القاتمة تنغرس بين عينيها و هو يميل أكثر عليها:
- للمرة المليون بتحسسيني إني أ*** إنسان في الدنيا
نهج صدرها علوًا و هبوطًا من فرط انفعالها.. صمت هنيهة و هي تقابل نظراته التي شعرت بالشرر المتطاير منها يخترقها، صمت ساد قليلًا لم تستمع فيها سوى لأنفاسهما المهتاجة المتقابلة، حادت بأنظارها عنه لتردد:
- انت اللي بتحسسني بده.. انت اللي بتدي الانطباع ده
و أشارت بكفها و هي تدفعهُ قليلًا عنها لتجلس مستقيمة عقب أن انتصب في وقفتهِ بينما كانت تشير بكفها مغمغمة من بين أسنانها المطبقة:
- إنت اللي قولتلي كده.. انتي اللي قولتلي ده أنا مجبتش حاجة من عندي،.. اليوم اللي لبست فيه اسود كان عشانـك، عشانك انت لكن انت مهتمتش، كل اللي هامك هو نفسك، حسيت إني بهزأ منك يا يامن صح؟.. اتكلم
صمت هنيهة تتجول نظراته القاسية على ملامحها، ثم أشاح بوجههِ عنها مدمدمًا:
- و أنا مهمنيش غير اللحظة دي!
و عادت أنظاره تتجه نحوها و هو يشير متابعًا بسخط و قد ارتفعت نبرتهُ:
- مهنيش غير اللحظة اللي أبهت فيها بسوادي عليكي! غير اللحظة اللي هسحبك فيها لجحيمي
ترقرقت العبرات في مقلتيها بالرغم من قوتها الظاهريّة، حرفت نظراتها بين عينيه و هي تنهض عن الفراش لتقف أمامه قائلة بلهجة محتدة:
- و أنا مهمنيش غيرك يا يامن.. مهمنيش غير إني أشاركك في السواد اللي انت محاوط نفسك بيه
فاهتاج و قد برزت عروق جبينه بوضوح و الدماء تندفع فيه:
- السواد ده مخترتوش بنفسي.. السواد ده هو اللي اختارني، هــو.. هــو، مش أنا!
فهدرت بهِ محتجة:
- غلط.. غلط، انت اللي اخترت تعيش فيـه، انت اللي اخترت الأسود في كل حاجة في حياتك، متجيش في الآخر و تعتب عليه، انت اللي اختارت ده
زفر أنفاسهِ الملتهبة و هو يشيح بأنظاره عنها فشعرت به يُطلق دخانًا من فرط احتدام النيران بداخلهِ، فسحبت نفسًا عميقًا و قد هدأت نبرتها قليلًا حتى بدت مؤنبة:
- قول يا يامن.. اتكلم، مش ده الصح؟، مش انت اللي اخترت
فتشنّجت عضلات عنقهِ و بزغت عروق نحره بوضوح و هو يجأر بـ:
- أيوة اخترتـه، اخترته عشان أبويا اللي اتقتل قدام عيني و لدلوقتي مجيبتش حقه، اخترته عشان مضيعش تعب سنين أبوها اللي عاشهم بيكبر في شركاته.. بسبب عمي، اخترتهُ عشان أحاول أحمي أخويا و مخليهوش يشوف اللي شوفته، اختارته عشان أقدر أبص في وش عمي و مخلصش عليه، اخترته عشان ابن عمي اللي هجر البيت بسبب أمه و أمي، اخترته عشان و***** عمي اللي شوفتها بعيني و مقدرتش أتكلم عشان ابنه
نهج صدره علوًا و هبوطًا و قد اصطبغ وجهه بالحمرة القانية.. فبدا و كأنهُ جذوة من النيران، بينما يستطرد بلهجة أشد ثباتًا و قد كشّر عن أنيابه:
- اخترته عشان مضعفش قدام ست تضيعلي حياتي و تخليني عايش مريض بحبها زي أبويا، اخترته عشان أبقى أقوى من ان الدنيا تدوس عليا زي ما بتدوس على ناس كتيـر
صمت هنيهة يتأمل دموعها المتأثرة التي انسدلت على وجنتيها، فراح يستطرد بلهجة حالكة:
- اخترته عشان أعيـش يا بنت حسيــن، عشان أعرف أعيش!
- و انت عايش؟
نبرة مبحوحة خرجت منها بقهرٍ و قد أدمت كلماتهِ فؤادها، عقب أن ابتلعت غِصة عالقة في منتصف حلقها، بينما دموعها تنسدل بصمت على وجنتيها، فالتوى شدقيه بابتسامة ساخرة و هو يحيد بأبصاره عنها:
- تؤ.. مش عايش
و عاد ينظر نحوها مشيرًا بعينيهِ قائلًا بجفاءٍ تام:
- اليوم اللي شوفت أبويا فيه بيتدفن تحت التراب.. مُتت فيه
تلمست وجنته و هي تدنو منهُ أكثر حتى بات بينهما بضع سنتيمترات مغمغمة بلهجة صادقة شبه خافتة و الدموع تترقرق في مقلتيها:
- و أنا بحاول أحييك.. معملتش حاجة غير إني حاولت أحييك، مقدرتش حتى أنتقم منك على غلطك معايا، مقدرتش
نزح كفها عن وجنتهِ و هو يشيح بوجههِ بعيدًا، و بمُنتهى القسوة أردف بلهجة خالية من الحياة:
- متحاوليـش، متحاوليش يا بنت حسين، اللي بيموت عمره ما بيعيش، اللي بيموت مرة.. بيموت ألف مرة، لكن عمره ما يعيش تاني!
و رمقها بنظرة أخيرة، ثم أخفى عينيهِ خلف زجاج نظارتهِ القاتمة متمنيًا أن تخفى تلك العبرة الواحدة التي ترقرقت في أحد مقلتيه، ثم حكّ ذقنهِ بقسوة و هو يستدير منصرفًا، تتابعهُ أنظارها القانطة، فتح الباب و قبل أن يطأ بقدميهِ خارج الغرفة كانت تغمغم بصوتها المتوسل:
- يامن
لم يلتفت نحوها، و لكنهُ تيبس في محلّه إثر ندائها المستنجد به:
- متمشيش
 لم يتحرك قيد أنملة.. في حين كانت تستطرد توسلها و هي تميل برأسها للجانب قليلًا:
- أنا محتاجة لك.. محتاجة وجوك معايا، مش عايزة انتقامك منه، أنا عايزاك انت!
ابتلعت تلك الغصة العالقة في حلقها ثُم استطرد بصوت مبحوح خالجهُ الرجاء:
- متمشيـش يا يامن، متمشيش!
أطبقت جفنيها لتفرّ من بينهما تلك الدمعة الحارقة المختلفة عن أيّ عبراتها حينما خطى بجفاء خارج الغرفة دون حتى أن يلتفت نحوها ليمنحها نظرة أخيرة من عينيهِ، صافعًا الباب بعنفٍ من خلفه شعرت بجدران الغرفة ترتجّ اثره، انهار جسدها على طرف الفراش و هي تنظر لخاتمها الذي التمع بريقه في مقلتيها، تلمّست إياه بينما تهمس لنفسها بتحسر:
- أنا محتاجــة لك
.................................................................
جلست أعلى الأريكة تلاحقها نظرات جدتها المستنكرة و هي تقول بتبرم:
- خير يا بتي؟ مين دول اللي جايباهم حدّاكي؟
نظرت نحو رجال حراستها، ثم أشارت لهم فينتظرونها خارجًا، ثم التفتت نحو جدتها و هي تقول بلهجة باهتة:
- دول تبع جوز يارا
انعقد حاجبيّ العجوز المتساقط منها الكثير و هي تقول متذمرة:
 و بيعملو ايه اهنهِ؟
تسائلت "سعاد" و هي تجلس جوار ابنتها بقلق حطّ على ملامحها:
- في إيه يا رهيف.. انتي بتقلقيني يا بنتي
زمّت "رهيف" شفتيها و هي تعبث بأناملها، ثم قالت بلهجة جادة عقب أن طردت زفيرًا حارًا من صدرها:
- بصراحـة، في ناس حاولوا يقتلوني في فرح يارا، معرفش مين دول أو عايزين إيه مني.. و أستاذ يامن عرف بده، فخلى معايا رجالة من بتوعه يحرسوني... عشان ده ميتكررش تاني
شعرت "سُعاد" و گأن قلبها يكاد ينخلع من محلهِ و هي تحتوي كفّ "رهيف" مرددة بارتياع:
- يقتلوكي؟! انتي بتقولي إيه يا رهيـف؟
هزت رأسها مغمغمة باقتضابٍ:
- ده اللي حصل يا ماما
و لكن تلك العجوز لم تقتنع، فضاقت عيناها و هي تُدقق النظر في ملامح حفيدتها و قد تحدبت شفتيها:
- مين دِه اللي هيجتلك يا بتي؟، ايه الكلام اللي بتقوليه دِه؟
تنهدت "رهيف" بضيق و هي تنظر نحوها قائلة بلهجة ذات مغزى:
- معرفش يا جدتي.. ممكن حد عايز أرض أبويا مثلًا
و راحت أنظارها تتجه نحو "متولي" الذي يجلس و كأنهُ يجلس على مراجل، بينما "راشد" قد صعد لغرفتهِ من فورهِ حالما خطّت قدمه داخل المنزل، ثم تقوست شفتيها بسخرية واضحة و هي تسأله:
- مش كده يا خالي؟ ايه رأيك في اللي حصل لي؟
أطبق "متولي" على أناملهِ و هو يشيح بأنظاره بعيدًا عنها، فأردفت و هي تلوى ثغرها بابتسامة باهتة بينما تنهض عن جلستها:
- أستأذنك يا جدتي.. راجعة تعبانة، هطلع أرتاح في أوضتي
و خطت من أمامها لتصعد حيث غرفتها، متجاهلة حاليًا الحديث فيما يخصّ قرارها.. بإلغاء تلك الزيجة.
...................................................................
تمكن بسهولة جمّة من العبور عقب أن اشتبك رجالهِ مع رجال الحراسة المرابطين أمام مقرّ شركتهِ، و دلف مصوبًا سلاحه و هو يُهشم برصاصتهِ المتتالية كل ما يقابلهُ فتبعثر الوسط تمامًا، و انفلتت الصرخات المرتعدة من جميع العاملين بينما قِطع الزجاج تتناثر هنا و هناك، و بعض رجالهِ من خلفه يتولون مهمة تحطيم الشاشات المنتشرة على مكاتب العاملين، و باقى الأجهـزة، انتهت رصاصات "يامن".. فأخرج ذخيرتهِ و هو يغيّرها بينما صوتهُ يصدح گالرعد في الأرجاء و نظراته تتجول في الوسط:
- نــائف يا دمنهـــوري
و صمت هنيهة و هو يستمع لأصوات الصراخ النافذ، ثم عاد يجأر و عروق جبينه قد بزغت للعيان:
- اطلعلي يا دمنهـــوري متستخباش زي النسوان!
و فور أن صدحت كلماتهِ كان " نائف" يخرج من مكتبه بالطابق الثانيّ بشركتهِ الصغيرة، و تقدّم من الدرابزون و هو ينظر للأسفل بنظرات متوقدة مرددًا بصوت محتدم:
- بتزود الحساب ليـه يا مينــو، ليه كده بس يا حبيبي
لمس "يامن" بلسانهِ جانب و جنتهِ من الداخل و هو يرفع أنظارهِ إليه فور أن أنهى تغيير الذخيرة، ثم قال:
- انزلي يا دمنهــوري
و صوّب سلاحهُ في وجهه و هو يقول بلهجة شرسة كاشفًا عن أنيابهِ:
- و لا تحب أطلعلك أنا؟!.
..................................................................
كانت قد برحت غرفتها و قد نفذت المياه لديها عقب أن شعرت بالعطش الشديد.. سارت نحو المطبخ الذي يقع بالطابق السُفليّ، فتفاجأت بخلوّهِ، تغضن جبينها و هي تمضى نحو البراد دون اكتراث، و فتحته و هي تبحث عن ما يروى ظمأها، حتى انتفضت إثر صوتهِ العذب الذي خالجهُ الحنيـن:
- رهيـف!
استدارت إليه عاقدة حاجبيها و هي تتلفت حولها، ثم ارتكزت ببصرها عليه و هي تصفع البراد بعنف:
- نعم يا راشـد؟
تنهد بقنوط و هو يدنو منها ثم أردف بخشونة:
- رهيـف، أرجوكي تسمعيني
ارتفع كتفيها و هي تنظر نحوه باستنكار:
- أسمعك ليه يا راشد؟، أسمع إيه أصلًا!
أطبق جفنيه قليلًا ثم فتحهما مجددًا و هو يقول بلهجة جادة:
- هتسمعي يا رهيـف، هتسمعيني كويس، أنا من الأول مكنتش..
شعرت بالاشمئزاز من شخصهِ، تقلصت تعبيراتها و هي تتأفف ثم مرّت من جواره منتوية الخروج و هي تقول بجفاء بيّن:
- مفيش حاجة لسه تتسمع.. أنا سمعت كل اللي كان مفروض أسمعه يا راشد
توقف أمامها على بُعد مناسب و هو يقول بلهجة مُصرّة:
- لأ يا رهيف، هتسمعيني، لازم تسمعي
زفرت "رهيف" بامتعاض و هي تتلفت حولها، ثم قالت منبهة إيّاه:
- راشد.. الواقفة دي متنفعش أبدًا، عديني لو سمحت
و لكنهُ لم يبالي، فراح يقول و قد تشنجت ملامحه قليلًا:
- رهيـف، أنا منكرش إني كنت هتجوزك عشان أبويا...
فقاطعتهُ باستهجان و هي تحل عقدة ساعديها:
- متقولش عشان أبوك يا راشد.. متقولش عشانه، متنكرش انك طماع زيه زيك بالظبط، انت كنت هتجوزني عشان أرضي اللي كنت هتتحكم فيها زي ما تحب، يمكن كمان كنت تجبرني أبيعهالك.. الله أعلم انت كان في دماغك إيه!
فحاول أن يشرح لها و يُبرر:
- يا رهيف صدقيني.. أنا كنت هرفض ده، و رحمة أمي يا رهيف كنت هرفضه، مش عايز منك غير تصدقيني
تشدقت "رهيف" بقسوة:
- هترفض؟ بعد إيـه؟ بعد ما ضمنت موافقتي
- رهيـ..
قاطعتهُ بلهجة متشددة و هي تشير بسبابتها محذرة:
- اسمع يا راشـد، أنا مرضيتش أتكلم في الموضوع ده عشان لسه راجعين، لكن انت بنفسك هتروح لجدتي و تقولها مش هتجوز رهيف، و إلا و الله.. و الله يا راشد مش هيحصل طيب، هقول لجدتي على حقارتكم، و هي تبقى تقرر بنفسها، إن كان حفيدها العظيم راشد يستحقني.. و لا لأ!
و ضاقت عيناها قليلًا و هي تدنو منهُ، بينما نظراتها القوية تنحرف بين عينيه تقابلها نظراتهِ المحتدمة، ثم قالت و هي تضغط على نِقاط ضعفهِ:
- و أظن انت عارف.. جدتي للأسف مش لسه ليها كتير، ممكن في ثانية.. تحرمك انت و أبوك من الميراث
و صمتت هنيهة تتأمل ملامحهِ المتشنجة التي لم يبدُ عليها تأثير بقولها الأخير، فراحت تومئ بحركة مستنكرة و هي تقول بازدراء:
- و ساعتها تبقوا خدتوا جزائكم، بعد الطمع اللي طمعتوه!
 و تركتهُ و هي تمر من جوارهِ قاصدة دفعهِ بعنفٍ بكتفها، فأطبق بعنفٍ على أسنانه و هو يُقبّض كفه، ثم ضرب على المنضدة المتوسطة للمطبخ و هو يقول بإصرار عجيب:
- اعملي اللي عايزاه يا رهيف، اغضبي و طلعي كل غضبك فيا، لكن انتي مش هتبقى لغيري!
...............................................................
الأنظار المُتبادلة تكاد تكفي لإشعال الوسط و اندلاع حرائق مُستعرّة فيه.. انفرجت شفتيّ "نائف" كاشفًا عن ابتسامة متوعدة و هو يخطو متحركًا من أمام الحاجز الصغير الزجاجيّ لترجل عن الدرجات و هو يستلّ سلاحه من ملابسهِ:
- لأ يا حبيبي، أنزلك أنا، و لا تتعب نفسك
إشارة واحدة من سبابة "يامن" لرجل مُحدد من رجالهِ تفهمها الأخير جيّدًا، و انسحب ليصعد الدرج الآخر و الذي لا يراهُ "نائف" من موقعه أثناء هبوطه بينما عينيهِ لم تحيدان عنهُ و هو يقول بلهجتهِ الجافّة:
- عظيم
حتى توقف أمامهُ مباشرةً، و أشهر سلاحه هو الآخر في وجههِ متوقعًا أن يتفاجأ "يامن" بفعلته و لكنه لم يكترث.. و لم يبدُ على تقاسيمه المظلمة تأثرًا.
كِلاهما يقفان في مواجهة بعضهما البعض.. النظرات المتوعدة تقابلها نظرات شرسة، و الملامح السوداويّة تقابلها ملامح حالكة، سلاحيهما مُشهران في وجه بعضهما البعض، و عضلات الفكين مشتدة، الصمت هو السائد بينهما،.. بينما تلك النظرات لو كانت تتحدث لأحدثت دوّيًا هائلًا و صاخبًا، و كان "نائف" من بادر بقولهِ المُظلم:
- اضرب و أنا أضرب يا يامن.. خلي الحرب دي تخلص
فكان ردّهُ متصلبًا للغاية و هو يقول:
- صدقني يا نائف.. أنا مش باقي على حياتي و لو لذرة، لكن عهد عليّا مموتش قبل ما أصفي حساب مراتي منك!
انعقد حاجبيّ "نائف" و هو يمط شفتيه للأمام:
- انت زعلت؟ معلش يا مينو، دي كانت "قرصة ودن" مش أكثر.. مكنتش أعرف إنك بتموت فيها كده!
تعمّد أن يضيف كلمة محددة قالها "يامن" من قبل بينما "يامن" قد انفرجت شفتيهِ بقسوة و هو يردف بلهجة حالكة بالرغم من ثباتها:
- أمور الحب و العواطف و الكلام ده أنا اسمي ميتحطش فيه.. لكن لما يبقى الموضوع يخص اللي يخصني أنا ممكن أحرق الأرض باللي فيها
حكّ "نائف" بسبابتهِ ذقنهِ و هو يقول بشفقة زائفة:
- صدقني يا يامن.. أنا هعيط من كتر تأثري، أصلك يا حبيبي متعرفش حاجة، متعرفش ان اللي واثق فيها دي عملت إيه فيك! متعرفش إنها باعتك في لحظة، الملفات اللي اتسرقت من مكتبك .. يارا، يارا هي اللي خدتهم، و هي اللي وصلتهم لي!
و على عكس ما توقع "نائف" من أن يثُور "يامن" و ينفجر بركانهِ في وجههِ عقب تلك القنبلة التي فجّرها، كانت ابتسامة صقيعيّة ترتسم على ثغر "يامن"، حتى أنهُ ضحك ساخرًا منه فتعجب "نائف" من ردّ فعله العجيب، سألهُ بعدم فهم و قد شعر بأن هنالك خطبًا ما:
- إيـه؟، قولت حاجة ضحكتك
خبى صوت ضحكاتهِ الساخرة، و لكنهُ ظلّ محتفظًا ببسمته الباردة، بينما يقول مستخفًا بهِ:
 - تــؤ، صعبان عليّا يا نائف، حقيقي!
و بلحظة كانت ملامحهِ تتجمد فبات وجهه أشبه بصخرة و هو يقول بلهجة متحجرة:
- شكلك نسيت انت بتلعب مع مين يا نائف
و انفرجت شفتيه عن ابتسامة شرسة و هو يقول:
- متعرفش إن أنا بنفسي اللي سلمتها الملفات دي، و إن كل مكالمة منها ليك أنا كنت معاها، متعرفش إني عارف ان في جاسوس في رجالتي، و إن الملفات معايا! كلها معايا.. و إني خسرتش أي حاجة!
كان كمن نزع فتيله قنبلتهِ، فانفجرت في وجهه و قد اصطبغ وجهه بالحمرة القانية:
- يعني كانت بتلعب بيّا.. بتلعب بيا أنا كل ده، حتة بت .....
قاطعهُ "يامن" قبل أن يتمادي و قد تلاشت بسمتهِ ليحتلّ الجمود وجهه:
- إيّــاك.. إياك بس تحاول تغلط فيها، متزودش في حسابك معايا
فسحب "نائف" صمام الأمان و هو يقول بلهجة قاتمة و قد اندفعت الدماء في عروقهِ أجمع:
- هقتلك يا يامـن، هقتلك و رحمة الغاليين كلهم لأقتلك و أقتلها، و أخلص عليكو كلكم
و هدر معقبًا فور أن أُشهرت في وجههِ جميع الأسلحة:
- نزل سلاحك.. نزل سلاحك بدل ما وديني أخلص عليك، نزله و خليهم ينزلوا
منحهُ "يامن" نظرة مبهمة، لم يتفهمها على الفور، و بكفهِ الآخر أشار ليُخفض الرجال أسلحتهم من خلفه، و دون أن يحيد بأبصاره عنه كان يبسط بطول ذراعه الممسك بالسلاح جوارهِ ثم لوى كفهِ ليُرخى قبضته عن السلاح و ملامحه لا تُنذر بخير مطلقًا، حتى دنا منهُ "نائف" و هو يقول كاشفًا عن أسنانه الصفراء في ابتسامة بغيضة:
- سوري يا مينـو، أنا قولت لو نزلت سلاحك مش هقتلك؟ لأ، و لو قولت
قهقه بسخريّة تثير الأعصاب ثُم أردف من بين ضحكاتهِ:
- أنا أصلًا ماليش عهد
فكان رده غير مباليًا و هو يقول:
- عارف يا نائف، و من امتى كان ليك عهد؟
فخبت ضحكاتهِ تمامًا، و احتل وجهه امارات التوعد و هو يهتف و إصبعهُ يكاد يضغط على الزناد:
- طالما عارف.. يبقى الحق اتشاهد على روحك، يمكن ربنا يغفر لك، و لا أقولك.. بلاش تتشاهد، أشوفك في جُهنّم
و دوى صوت الرصاصة التي انطلقت من السلاح، أعقبها بصرخات العاملين المنبطحيـن في هلع.
...................................................................
- قولت آجى أطمن عليك..أعرف رد فعلك بعد ما اللي عمله ابن أخوك!
تطلع إليه "كمال" بامتعاض و هو يلوي ثغره متأففًا، ثم نطق بعد أن فرغ صبره:
- عايز إيه يا حسيـن؟
عاد "حسين" بظهرهِ قليلًا و هو يستند بإحدى ساعديهِ على الطاولة الصغيرة بينهما، بينما أنظارهِ مسلطة عليه و هو يلوى ثغره بابتسامة باردة، ثُم قال:
- مالك يا كمال؟ جاي أطمن عليك يا أخي، مش كدا!
تكوّر كفّ "كمال" أعلى الطاولة و قد برزت عروقهما محاولًا بشتى الطرق الحفاظ على ثباتهِ الانفعالي، ثم أردف بامتعاض من بين أسنانه التي تكاد تكون ملتصقة:
- متلعبش بأعصابي يا حسيـن، أنا مش فايق لك، لخص و قول عايز إيـه؟
حكّ "حسين" عنقهِ بأحد كفيه و هو يقول قاصدًا استفزازه:
- اللي فضلت تعمله طول العمر بيضيـع، تعبك بيضيع يا كيمو،.. ابن أخوك مش هيقتلني
و مال بجذعهِ للأمام و قد تلاشت ابتسامتهِ و تحولت ملامحه للإظلام و هو يقول قاصدًا الضغط على كلماته:
- ابن أخوك.. حب بنتي، حبها، و استحالة يقتل أبوها
و انفرجت شفتيه بابتسامة شيطانية و هو يستقيم بظهرهِ:
- مبـروك يا كيمو،.. ألف مبروك، ابن اخوك مبقاش في صفك
و حك ذقنهِ بسبابته و هو يقول متشدقًا:
- أو بالأصح هو عمره ما كان في صفك.. هو عايز حق أبوه، و الله أعلم لو لساني فلت بحرف واحد قدامه هيحصل إيـه، و لا إيه اللي ممكن يعمله
اهتزّت عضلات صدغهِ من فرط إطباقه على أسنانه و قد تحولت عينيه لجمرتين متقدتين، لكم الطاولة بقبضته المتكورة و هو يميل عليه مرددًا من بين أسنانه:
- و رحمة الغاليين كلهم لو لسانك الـ***** ده نطق بكلمة لاكون مدفعك تمنها غالي يا حسين
هز "حسين" رأسه استنكارًا و هو يقول ببرود:
- لأ لأ يا راجل.. و ده ينفع ؟، ده احنا عشرة عمر برضو، مينفعش أتسبب في إعدامك
تأمل "كمال" وجههُ.. نظرات دارسة لتفاصيله التي تخفي خلفها شرًا مستطر، انعقد حاجبيه فتجعد جبينه و هو يقول مشيرًا بعينيهِ بفضولٍ قاتم و ذلك السؤال يُؤرق منامهِ ليلًا نهارًا:
- خرجت ازاي من السجن يا حسين؟
اتسعت ابتسامة "حسين" و هو يقول بنبرة منتشية:
- خليك كده يا كمال، تلف و تدور حوالين نفسك و مش عارف راسك من رجليك!
و مال بجذعه عليه قاصدًا إشعال تلك الجذوة المتقدة بالأصل:
- بس اللي أقدر أقولهولك إنه حد قريب منك أوي، حد إنت عمرك ما كنت هتتوقع إنه عمل كده
و رفع كتفيه و هو يمط شفتيه ببرود:
- مع إن الحمار يفهمها يا كيمو، طلعت أغبي مما كنت أتخيل
أطبق "كمال" أسنانه ثم غمغم من بينهما و هو يكبت غضبه بشِق الأنفُس:
- انطق يا حسين، انطق و متخلينيش أصور قتيل النهاردة
مطّ "حسين" شفتيه و هو ينهض عن محله ليقول:
- متهيألي إني اتأخرت، يالا أشوف وشك بخير يا كيمو، خد بالك على روحك!
 و قبل أن يلتفت كانت شفتيه تنبعجان بابتسامة و هو يدمدم بأغنيّة لـ "فيروز" و لكنه عدّل بها قليلًا لتكُون:
- و جايبلي سلام.." هُدهد الجناين".. جايبلي سلام من عِند الحناين!!
و مضى بطريقه و هو يستكمل دندنتهِ الخافتة.
 بينما هو.. لو كان الحميم يسري في تلك الدماء التي تندفع في أوردتهِ فبدت و كأنها ستنفجر لكان أهون عليهِ، اصطبغ وجههُ بحمرة فاقعة و قد برزت عروق جانبيّ رأسهُ و نحره بوضوح، اهتزت عضلات صدغيه من فرط تشديدهُ على فكيه، ثم فرقهما بصعوبة لينطق من بينهما بلهجة متوعدة:
- آآه يا ولاد الـ******، و عِزة جلال الله إن ما وريتكم مين "كمال الصياد" واحد واحد، صبركم بس.. صبركم بالله، الصبر حلـو!
...................................................................
................................
..........................................
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن