"الفصل الخامس و الستون"

700 14 0
                                    

"الفصل الخامس و الستون"
نهض عن محله و تأهب للرحيل، فاستوقفهُ "كمال" باشمئزازٍ بيّن و هو يلتفت حولهُ:
- انت هتسيبني في المخروبة دي تاني.. ما تتوب علينا من القرف ده و توديني حتة عدلة
سحب "نائف" سترتهِ عن ظهر مقعده و هو ينظر نحوه متأففًا، ثم نطق بازدراء:
- عايزني أوديك فين؟ فندق سبع نجوم.. مش كفاية لاقي حتة تتاوي فيها ببلاش
تقوست شفتيّ "كمال" و هو يردد مستحقرًا:
- ليه.. انت عايزني أدفع تمن قعادي معاك كمان؟
فلوى شفتيه ببرود و هو يرد:
- أنا قولتك كده يا كيمو؟ متفهمنيش غلط أومال!
و نظر صوب حجرتها و هو يجمع حاجياتهِ:
- خليني أدخل أطمن على القمر ده!
و دس هاتفه بجيبهِ مرفقًا بسلسلة مفاتيحهِ و هو يخطو نحو الغرفة ممتعًا عينيهِ برؤيتها، فأشاح "كمال" غير مكترثًا و هو يقول:
- ادخل يا أخويا ادخـل.. انت على بالك من حاجة!
فتح "نائف" باب الغرفة و ولج فتيبس محلهِ و قد اعترهُ صدمة سريعًا ما تحولت لغيظٍ تفاقم و هو يجأر من بين أسنانه المشددة:
- كمــال
أجفل إثر صراخه فنهض من محله ليهرع نحوهُ من فوره و هو يسأل بجزع:
- في إيه؟
سريعًا ما تتبعت عيناهُ ذلك الحبل السميك الذي نجحت بعد محاولاتٍ جمّة من حلّ عقدته التي كانت تكبل معصميها، و تلك النافذة العلوية التي ارتصّ من أسفلها بضعة صناديق تمكنها من التسلق خلالها للخارج، ثم التفت نحو "كمال" و هو يردد ملوحًا بكفه:
- البت هربت و احنا نايمين على ودانا؟.. هربت و احنا الاتنين موجودين
و دفعهُ من كتفهِ بعنف بدى في حركتهِ:
- حاسـب
و خطى مستوفضًا للخارج يتبعهُ رجلين حراستهِ،  فعرض عليهِ "كمال" قبل أن يلج الأخير:
- آجي معاك؟
- خليـك.. أنا هعرف أجيبها الـ***** دي!
و صفق الباب من خلفهِ، فجلس "كمال" مجددًا على أحد المقاعد و هو يتحسس عنقه بانفعال، تقوست شفتيه عقب أن تأفف.. ثم قال متوعدًا:
- معلش.. ترجع و هخلص عليها يمكن ناري تبرد شوية، ما أنا لازم أصفي حسابي مع سهير
عِدة دقائق مرّت عليه كالأدهر.. و الدقائق امتدت لما يقارب النصف ساعة، حتى انتفض جسدهُ مع تلك الركلة العنيفة التي أصابت الباب فخلعتهُ من مفاصلهِ و تهاوى على الأرضيّة مصدرًا دوّيا مرتفعًا ليُطل هو بكامل هيبتهِ من خلفهِ مشهرًا سلاحه، نهض "كمال" عن جلسته و قد حملقت عيناهُ فيه، فأشهر "يامن" سلاحه نحوه و قد التوى ثغره بابتسامة قاتمة:
- أهلا كمال.. ليك وحشة!
ازدرد ريقهُ و عيناه تتجولان في الوسط.. أطبق جفنيه بقوة حين تذكر أن "نائف" اصطحب السلاح الذي كان هنا معهُ، فعاد يرتكز ببصره عليه حينما ردد "يامن" و هو يخطو خطوتين للداخل ببرود:
- بس إيه يا كمال؟.. مش كنت تعرفني ان عندي عمّ غيرك عشان يبقى في صلة رحم!
تعلقت نظرات "كمال" الباردة بهِ، ثم نطق من بين شفتيه باستخفاف:
- انت عرفت؟
- عرفت.. و عرفت حجات كتير تانية
و أظلت ملامحه تمامًا و قد تلاشت بسمتهِ، و كأن النيران اندلعت بين عينيه و هو يخطو نحوهُ مردفًا بلهجة خالية من الحياة:
- زي إنك مش بس قتلت دبرت لقتل أبويا.. ده انت قتلك مراتك الأولى.. و التانية!
أطبق "كمال" على أسنانهِ بتمقّط واضح و قد أصاب وجنتيه احمرارًا غاضبًا و هو ينطق من بينهما استهجانًا:
- هي كمان لحقت تعرفك؟.. حسابها زاد معايا أوي!
فنطق من بين شفتيه بهدوء يسبق عاصفتهِ.. هدوء يناقض ملامحه الشرسة:
- و انت حسابك مش بس زاد.. انت حسابك ميتصفاش إلا بالدم اللي لعبت بيه السنين اللي فاتت
ازدرد "كمال" ريقهُ و هو ينظر نحوه و قد تزعزعت ثقته قليلًا، و لكنه شمخ بذقنه و هو يقول بثقة زائفة:
- مش هتقتلني.. مش هتقتل يا يامن، أنا عارفك، دا أنا مربيك على إيدي
فجلجل صوت ضحكاتهِ الساخرة بالوسط.. ثم تلاشت بسمته و خبى صوتهُ تمامًا و قد تحجرت ملامحه و كأنه لم يكن يضحك منذ ثانية فقط، فوّهة السلاح سُلطت بين عينيه مباشرة و هو يخطو خطوة أخرى نحوهُ مردفًا بلهجة حالكة:
- ما انت قولت بلسانك.. تربيتك، استحملها بقى!
تراجع "كمال" للخلف و قد بدأ الخوف يتسرب بداخل أوردتهِ مما أدى لشحوب وجههِ، ثم نطق نافيًا برأسهِ:
- دا انت نسخة مني.. مش هيهون عليك تقتلني
و أشار بعينيه لوجههِ و هو يغمغم بارتجافة صاحبت نبرتهِ:
- انا.. أنا و يوسف نفس الوش، و انت نسخة مننا، مش هتقدر، مش هون عليك
فقال "يامن" دون أن يرفّ لهُ جفن:
- أمنية فين؟
فلم يكن هنالك داعي للكذب.. فـ أجاب بكلمة واحدة:
- هربت، و نائف وراها
أطبق "يامن" أسنانهِ باغتياظ شديد، حينما كان "كمال" يشير إليه ليخفض سلاحهِ و قد دبّت ارتعاشة قوية في أنحاء جسده:
- نـ..نزل السلاح يا يامن، نزل سلاحك و خلينا نتفاهم
تقوست شفتيه ببسمة جانبيّة قاتمة و هو يقول متشدقًا بجفاء تام:
- نتفاهم.. لا معلش، في جهنم بقى ان شاء الله!
فحذرهُ "كمال" و قد زاغت عيناه:
- يامن.. انت ابن يوسف، ابن يوسف مش هيقتل.. ابن يوسف مش هيلوث إيده بالدم
انخلع قلبهُ من فرط الرعب حين سحب "يامن" صمام الأمان و ملامحهِ قد تيبست و حلّ عليها ظلام مريب و قد اهتزّت عضلة من صدغهِ إثر إطباقه المُشدد على أسنانهِ، و هو يشرع في التقدم نحوهُ.. حينما كان "كمال" يتراجع و قد شعر بقلبه يهوى في قدميه، أجبر ساقيه الهلاميتين على الخطو للخلف و هو يشير بكفهِ:
- اوعى.. اوعي يا يامن، هتتعذب، هلازمك في أحلامك، دمي هتشوفه في المياه اللي بتشربها، صورتي هتطلعلك في كل حتة، مش هتقدر تعيش بعد ما تقتلني.. مش هتقدر!
و كأنهُ رجلًا آليّا.. لا يسمع و لا يبصر، فقط تلوح أمام عينيه لقطات محددة كانت كافية ليزداد إصرارهِ المريب على سفك دمائهِ، واصل التقدم.. و واصل "كمال" التراجُع، حتى التصق ظهره في الجدار من خلفهِ فتشكل الهلع بأبشع صوره على وجههُ حين توقف "يامن" أمامه.. فرصة نجاتهِ مستحيلة إن أطلق رصاصته عن ذلك القرب، فصرخ "كمال" صرخة مدوّية:
- مش هترتاح يوم.. مش هتعيش مرتاح يوم يا يامن، صدقني، مش هتعرف تعيش
تفرّقت أسنانهِ لينطق من بينهما بلهجة خاوية من الحياة:
- الكلام دا لحد غيري.. لأني مش عايش أصلًا يا كمال
و صدح صوت الطلقة التي انطلقت من سلاحهِ في مشهد عادت تفاصيهِ أمام عينيهِ.. حينما كان "حسين" القاتل و والدهِ الضحيّة، و اليوم هو القاتل.. و "كمال" الضحية، ما كان أكثر تاثيرًا و تطابقًا بين المشهدين أن "كمال".. هو نفسهُ "يوسف"، ممما جعلهُ "حسين" القاتل،.. لم يكتفِ بطلقة واحدة بل أطلق طلقاتٍ اخترقت جميعها رأسهُ الذي تفجّرت الدماء منهُ و قد لفظ أنفاسه الأخيرة و مات محملقًا بهِ بعينين التي تجسّد الهلع فيهما، حتى انتهت الذخيرة فلم يتمكن من إطلاق وابلًا يكفيهِ و يكفي روحه التي تود لو تشبع جوعها بالمزيد، نهج صدره من فرط انفعالهِ و هو يحدجهُ بنظراتهِ، حتى ارتخى جسدهِ تمامًا و سقط أسفل قدميه جثة هامدة غارقًا في بركة من ذلك السائل الأحمر الدافئ الذي طال حذائيهِ و بنطالهِ.. و لكنهُ لم يبالي اكتفى برمقه بنظراتٍ أخيرة و قد ارتخى ذراعهُ الحامل للسلاح جواره، شعر و كأن قلبهُ قطعة من الجليد و هو ينظر لوجههِ الذي صار مثقبًا و لم تعد حتى تتبين ملامحه من كثرة الدماء التي غلّفتهُ، و لكنه كان يكفي ليعاد المشهد أمام عينيه مجددًا.. فتجسد بدلًا عن "كمال" أخيه "يوسف"، ارتفعت أنظار "يامن" عنه و قد استثقل أن تظل نظراته عالقة بهِ، و أطبق جفنيه محاولًا محو ذلك الهاجس و لكنه لم يتمكن، ترك سلاحهِ يسقط أرضًا.. فغُمر في بحر الدماء الذي تكون أسفل منهُ.. عظام صدغيه ارتعشا بقوة من فرط إطباقهِ لهما.. شعر بلهيب نيرانه يتصاعد من صدره ليطال عنقهِ فتشنجت عضلاتهِ و هو يود لو يسمح بتلك النيران أن تتحرر من داخلهِ مع تلك الصرخة المدوّية عقب أن فرق أسنانه و قد تشنجت عضلات جسدهِ بأكمله.
.................................................................
تمطّعت بذراعيها في الهواء و هي تتململ في نومتها، أنّت بخفوت و قد استشعرت صداعًا برأسها نجم عن طول مدة نومها، تغضن جبينها حين أبصرت الضوء القادم من النافذة يغمر الغرفة، استقامت في جلستها و قد أجفلت حين لم تجدهُ على الأريكة.. نهضت من فورها عقب أن نزحت الغطاء عنها، ثم راحت تبحث عنه في أرجاء "جناحهما".. و لكنها لم تجده، زفرت باحتجاج.. ثم توجهت نحو الباب و فتحتهُ لتجد "جاسم" يقف على مقربة من الحجرة.. و حالما رآها دنا منها، فسألتهُ باغتياظ شديد:
- يامن نزل من امتي يا جاسم؟
فكان يقف عاقدًا كفيه خلف ظهرهِ، نكّس رأسه غير قادرًا على إجابتها، فرددت شجبًا و قد تغضن جبينها:
- هو سؤالي صعب للدرجة دي؟
فقال دون أن يرفع نظراتهِ بتصلّب:
- معنديش أوامر أرد على حضرتك!
ارتفع حاجبيها استنكارًا ثم نطقت بفتور:
- ماشي يا جاسم
و دلفت موصدة الباب في وجههِ، خطت للداخل و راحت تدلف للشرفة المرفقة بجناحهما، فتيبست محلها حين وجدت أعلى الطاولة كوبًا من النعناع.. تغضن جبينها حين وجدت بجوار المزهرية الصغيرة التي تحوي وردة واحدة أو أسفلها تحديدًا و قد بزغ من الورقة المطوية جزءً منها، راحت تسحبها إليها و قد انكمشت المسافة ما بين حاجبيها، و ما جعلها تفغر شفتيها هو:
-" مش هيرد.. سؤالك جوابه عندي.. حلو النعناع؟"
صدمةً جعلتها تشهق متراجعة للخلف و كأن صاعقة مسّتها و هي تستعيد ما حدث و:
«دلفت و هي ترتجف من ذلك البرد الذي صاحبهما طوال رحلة العودة كانت الوقت تقريبًا عصرًا.. تشبثت بمعطفها الثقيل الذي منحتهُ إياها تلك الفتاة قبل مغادرتها رافضة خلعهُ.. حينما تقدم هو ليقوم بتشغيل المكيف ليكون بوضع التدفئة و هو يردد:
- اقلعي الجاكيت
هزت رأسها نفيًا و أسنانها تصطك ببعضها البعض:
- لا.. لا.. لا، هفضل قاعدة كده مش قادرة أقلعه أبدًا
و جلست على طرف الفراش و هي تنفخ في كفيها لتبعث الدفء فيهما، ثم قالت و هي منكمشة على نفسها:
- إيه الجو دا؟.. أنا هموت
فقال و هو يخلع عنهُ سترتهِ من فوره و قد فشل حتى ذلك الجو في أن يُخفف من لهيب ظهره، ثم قال و هو يتأمل ملامحها:
- شوية و هتدفي
ارتفعت أنظارها نحوهُ ثم تشدقت ساخرة:
- ما تقولي إدفي أحسن يمكن أنفذ أمرك!
زفر حانقًا و هو يشيح بوجههِ عنها تاركًا سترته جانبًا:
- طلبتلك نعناع
فـ أشرق وجهها بابتسامة أضاءت وجهها و هي تردد:
- بجد.. عظيم
فنظر نحوها من طرفهِ نظرة عابرة، ثم ترك سترته جانبًا، ثوانٍ و كان الباب يُطرق.. فخرج "يامن" من الغرفة الخاصة بالجناح و ما هي إلا دقائق و عاد يحمل الكوبين و قد ترك المنضدة خارجًا، ناولها كوبها فالتقطتهُ من فورها و هي تضمّه بكلتا كفيها لتدفئهما و هي تردد بابتهاج:
- عظيم جدًا يعني.. كان جاي على بالي أوي
و لكنهُ كان جامدًا و قد تركها، جلس على الأريكة و قد شرع يرتشف من فنجان قهوتهِ الذي يتصاعد منهُ الدخان و نظراته مسلطة عليها، و حالما أنهى ارتشافهِ ترك قدحه جانبًا ، شرع يحل أزرار قميصهِ و هو ينظر نحوها بغموض، ثم نهض ليخلع القميص تمامًا و ظلّ فقط بالقميص الداخليّ الأسود الذي أظهر ذراعيه المتخمين بالعضلات، ثم استلقى على الأريكة ، فسألته مغضنة جبينها و هي تترك كوبها حالما أنهته:
- انت هتنام؟
فهمهم معربًا عن إجابته دون أن ينطق، و أشاح بوجههِ عنها و لكنها سألت بضيق:
- هتنام كده ازاي يعني؟ الجو برد جدًا؟.. البس قميصك على الأقل
فكان صوتهُ قد انخفض و كأنهُ منهكًا:
- تؤ
نفخت في ضيق و هي تغمغم بكلمات ساخطة فأمرها بـ:
- يا تطفي النور و تنامي يا تقعدي برا
فقالت متذمرة و هي تنهض عن جلستها:
- حاضر.. هاخد هدومي و أطفيه
و مضت نحو حقيبة ثيابها، جلست أرضًا أمامها لتبحث فيها عن ثياب بيتيّة ثقيلة تناسب تلك الأجواء و انتقت واحدًا، ثم ولجت للمرحاض الملحق بالجناح لتبدل ثيابها عقب أن أغلقت الأضواء، و هو كما هو.. مستندًا لجانب صدغهِ على ساعده الذي تركهُ أعلى الوسادة، حتى خرجت من المرحاض، و كأنها شعرت بملل يجتاحها، خطت نحوه مغضنة جبينه و هي تسألهُ:
- يامن.. انت نمت؟
فلم تتلقَ منهُ ردًا.. انحنت قليلًا لتتأكد من انتظام أنفاسهِ فكان هو خيرُ ممثلًا.
 جلست على ركبتيها جواره و لم تقاوم تلك الغربة التي حثّتها على العبث بخصلاته، فراحت تخلل أناملها فيهم، كان مقتطعًا عليها طريق رؤيتهِ، بحيث كان متعمدًا أن يكون مشيحًا بوجهه عنها، و لكنها سحبت كفهُ الخشن.. سارت بأناملها الملساء برقة عليهِ و هي تغمغم بتنهيدة حارقة:
- يا ريت لو أقدر أخفف عنك وجعك، يا ريت لو أقدر أكون شباك يدخل لك النور اللي انت محرمهُ على حياتك! لكن انت للأسف مش سايبني حتى أحاول!
و أحنت نظراتها عنه و هي تنهض.. جلست على الفراش و ظلت تتابعه و الأفكار تعصف برأسها، حتى شعرت فجأة بثقل جفنيها.. و كأن سلطان النوم سيداهمها، و ما هي إلا ثوانٍ و كانت تغطّ في ثبات عميق.
 نظر "يامن" في ساعة يده التي لم يخلعها، ثم نهض عن نومته ريثما تأكد أنها الآن تغطّ في سبات عميق، خطى نحوها، ثم جلس إلى جوارها تحديدًا، تأمل ملامحها بعمق شديد و هو يمسح برفق على خصلاتها، و وجنتها.. حتى توقف إبهامهُ عند شفتيها متحسسًا خطوطهما، و لم يمنع نفسهُ من أن ينحني عليها لينهل قبلة مطولة حسيّة من شفتيها لن تشعر بها، ثم ابتعد قليلًا ليجد ثغرها قد افترّ عن شبح ابتسامة مغرية، تدارك نفس سريعًا.. فنهض ليرتدي قميصه مجددًا، و أعقبهُ بسترتهِ، ثم خرج من الغرفة عقب أن سحب هاتفه و سلسلة مفاتيحه، و خطى خارجًا من الجناح بأكملهِ، وجد "جاسم" يقف على مقربة من الباب، و فور أن رآهُ تحرك نحوه فبادر "يامن" و هو يشير للغرفة:
- متتحركش من قدام الجناح يا جاسم.. و هي متخرجش من جوا، مفهوم؟
أومأ "جاسم" و هو يردد صاغرًا لهُ:
- أوامرك
و نكس راسه و هو يعقد كفيه خلف ظهرهِ، فقلص "يامن" المسافة بينهما و هو يردد بصوت أخفضه ليكون وقعهُ أكثر قوة:
- جاسم.. أنا سايب جزء مني أمانة معاك و حطيت فيك ثقتي
و تظاهر بأنهُ ينزح ذرة من الغبار علقت على كتفهِ ثم قال بلهجة مُشتدة:
- متخلينيش أندم على ده.. لأن لو ندمت هندمك معايا!
فلم يرفع نظراته نحوهُ و هو يردد بلهجة ثابتة:
- ثقتك فيا شرف ليا يا باشا، صدقني عيني مش هتغفل عن اللي بيحصل ثانية واحدة
أومأ "يامن" بحركة لا تكاد تلحظ و بلهجة مُتيبسة:
- عظيم
و استدار ليرحل.. فـ ما كان منهُ أن ينتظر ثانية واحدة عقب أن أدرك محل تواجدهما الحالي»
........................................................
-لأ
صرخة خرجت من حناياها و قد شعرت بالهلع يتملك منها، و كأن ساقيها هلاميتين لا تقويان على حمل جسدها، فتراخى جسدها أعلى المقعد و هي تستكمل القراءة:
- " نعناعك هيكون برد.. لكن ناري لأ!"
فيض من العبرات شقّ سبيله في واديين وجنتيها، تركت الورقة جانبًا و قد استشعرت أناملًا تطبق على قلبها و أظافرًا تخدشهُ فتدميه.
 دفنت وجهها بين كفيها و هي تنتحب بأنين مرتفع، و لكن سريعًا ما تحول ضعفها لقوة تكفي للإطاحة بكل ما حولها، أطبقت أسنانها و هي تنزح دموعها بعنفٍ و قد التهب وجهها بالحمرة الفاقعة، تركت الشرفة سريعًا و راحت تخطو للخارج بتشنجٍ صاحب خطاها.. فتحت باب الغرفة و قبل أن يدنو "جاسم" منها كانت هي توفض نحوهُ، و بحركة مباغتة أطبقت على تلابيبهُ و هي تجأر بهِ:
- كنت عارف؟ كنت عارف إنه سافر؟ صــــح؟
فظلّ متماسكًا متصلبًا محنيًا بصرهِ بشكل أثار أعصابها أكثر، فهدرت و قد برزت عروق جبينها:
- انطـــق، كنت تعرف دا؟
- معرفش حاجة يا هانم.. يامن بيه سايبك أمانة معايا، مقالش هو هيروح فين!
دفعتهُ بعنف للخلف و لكنهُ لم يتزحزح قيد أنملة نظرًا للفارق الجسمانيّ بينهما، ثم أمرته بـ:
- وديني.. وديني عنده، اتصرف و وديني عنده حالًا.. احجز تذكرة حالًا
فظلّ مطرقًا و هو يهمهم بتصلّب:
- آسف يا هانم.. معنديش أوامر أعمل دا!
فقالت بزمجرة و قد اتقدت عيناها:
- و أنا بديك الأمر.. يبقى تنفذه!
- آسف.. أوامري باخدها من الباشا مباشرة
ضربت الأرض بقدمها بعصبية و قد تشنجت عضلات وجهها، ثم قالت قبل أن تتركه و تدلف:
- انت مش الحارس بتاعه.. مش المفروض تحميه؟ لو حصل له حاجة يا جاسم أنا مش هرحمك
و صفقت الباب في وجههِ، و راحت تجرى اتصالًا بـ "فارس" من فورها و هي تدلك جبينها و تدور يمينًا و يسارًا في الغرفة، أطبقت جفنيها بعنف و قد شعرت بالثواني تمر كالسنون عليها، حتى أتاها ردّه البارد:
- ألو
فكان ردها محتدمًا و هي تهدر:
- كنت عارف إنه سافر و سيبته و لسه هنا؟ انت إيــه؟ مبتحسش؟
أطبق بأنامله أكثر على المقود و قد تغضن جبينه و هو ينطق مستفهمًا:
- انتي بتقولي إيه؟ مش فاهم حاجة
فرددت مستهجنة من بين أسنانها المطبقة، و قد بلغ انفعالها أوجهِ:
- عايز تقنعني ان يامن سافر مصر من غير ما يقولك
فصفّ السيارة من فورهِ على جانب الطريق، حدّقت عيناهُ و هو يردد كلماتها و قد تواثب قلبه بين أضلعهِ:
- يامن سافر مصر!.. امتي؟ أنا كنت لسه مكلمه امبارح
- فارس.. متعملش فيها مش عارف
فردد و هو يضرب المقود بأناملهِ:
- و أنا لو هعرف كنت هسيبه يا هانم!.. انتي مجنونة؟
نهح صدرها علوًا و هبوطًا و قد شعرت بقواها تخـور تمامًا، تهالك جسدها على طرف الفراش و هي تهمس و قد عادت الدموع تترقرق في مقلتيها:
- هيقتلوا بعض.. هيقتلوا بعض، كمال مش هيسيبه عايش أبدًا
تغضن جبينهُ في تعجب لمعرفتها بما يخص "كمال" على الرغم من كونهما يخفيان تلك النقطة، و راح يسألها:
- انتي.. عارفة؟
فـ أبدت لهُ معرفتها بالأمر و قد اختنق صوتها:
- عارفة.. عارفة كل حاجة تخصّ كمال من قبل ما تعرف انت، لكن مقدرتش أقول حاجة، عارفة إنه قتل والدتك، و عارة إنها كانت حامل، عارفة إنه قتل يوسف.. لكن معرفتش إنه متفق مع بابا غير .. متأخر!
« ذلك المبنى الصغير دومًا ما كان يُثير فضولها.. مبنى يقع ضمن نطاق القصر، و لكنهُ بطرفٍ مترامٍ، و حالما وجدت الفرصة سانحة لها دلفت إليه من فورها، كان يبدو مخزنًا.. فيحوى قطع أثاث قديمة، و صناديق عِدة مكتظة مغلقة ، و لم يكن به ضوء حتى، لولا أن الشمس لا تزال تحتضنها السماء لما كانت رأت شيئًا من محتواه.
 خطت.. خطوة تليها خطوة و هي تتلفت يمينًا حينًا و يسارًا حينًا آخر، فلم تنتبه إلى تلك النقطة التي بلغتها.. حيث صندوقًا صغيرًا موضوعًا في منتصف الطريق اصطدمت قدمها به فتعثرت و سقطت رغمًا عنها، تأوهت و هي تعتدل في جلستها على الأرضية و ضاقت عيناها و هي ترمق ذلك الصندوق باغتياظ، حتى تمكنت من الوقوف.. نفضت ذرات الغبار العالقة في ثيابها و هي تنطق بضيق:
- و دا إيه اللي حاطه في نص الطريق كده!
و انحنت لتحملهُ فوجدتهُ ثقيلًا للغاية على الرغم من صِغر حجمه، فنفخت بضيق و هي تزيحهُ للجانب قليلًا عن طريق الدفع، فانتفض جسدها و قد زاغت عيناها حين أُصدر ذلك الصوت المرتفع الذي لا تعلم كنههُ بعد.. تسلطت مقلتيها على الجدار المقابل لها تحديدًا.. و قد انخفض جزءً منهُ للأسفل فكشف عن سلمًا دائريّا مهيبًا من خلفه، استشعرت دقاتها تكاد تصُم أذنيها و تلاحقت أنفاسها من فرط الهلع الذي انتابها للحظات، و لكنها سريعًا ما نحّت ذلك الشعور جانبًا و هدأت من روعها، مشت بخطى بطيئة حتى خطت من أعلى الجدار الذي اختفى بفتحة في الأرضيّة..
 و كأنهُ باب حجري ينسحب للأسفل حينما أزاحت الثُقل المعدني "الصندوق" عن قطعة محددة في الأرضيّة، انحبست أنفاسها و هي تهبط الدرجات و قد عمّ ظلام دامس جعلها تلتفت حولها هلعًا، توقفت في منتصف الدرجات و استعانت بإضاءة هاتفها، ثم طفقت تستكمل ما بدأت.
حتى هبطت للأسفل فسعلت عدة مرات و قد شعرت بأن الجو معبئًا برائحة عطنة امتزجت مع الرطوبة، أجفل جسدها حين شعرت بظلال صغيرة تتحرك على الأرضيّة فوجهت الإضاءة نحوها لتجدها بضع كائنات رمادية متفاوتة الأحجام، لم تتمكن من كبت صرخة هلع خرجت منها حتى أبصرتهم يختفون في جحرهم من الجدار.
 و لكنها لم تهدأ.. صدرها يعلو و يهبط من فرط الانفعال و الفزع، و لكنها لم تتراجع و قد قطعت نصف شوطها، خطت مجددًا و أذناها لا تلتقطان سوى صوت تنفسها الغير منتظم و المتلاحق، وجّهت الإضاءة هنا و هناك لتتبين أخيرًا.. بيد أنها مكتبة تحوى رفوفها المتهالكة كتبًا عِدة بعضها لا يحمل حتى أغلفة.. الأوراق مُصفرة و بعضها حنطية اللون، سارت بعينيها على الرفوف فتغضن جبينها حين وجدت ما يُشبه المذكرات اليومية، و على الفور سحبتها و كأنها وجدت كنزًا.
 و لكن للأسف.. معظم صفحاتهِ ممزقة و الأخرى مُجعدة منكمشة فلا تظهر الكلمات المونة، تهدل كتفيها قنوطًا و لكنها لم تيأس بعد.. خاصة و كأن تلك المذكرات بدا و كأنها تحوى أسرارًا عظيمة و الواضح أنهُ تم الإلقاء بها في الماء فأفسدتها، عادت تفتح أولى الصفحات و وجهت إضاءة الهاتف نحوها و هي تقربها من عينيها محاولة قراءة الاسم المدون بها، حتى قرأت بصوت مسموع و قد تبيّنت الحروف بصعوبة شديدة:
- تـ..ـهر! 
و بدا أن هنالك حرفًا لم تلتقطهُ عيناها و قد كان ممحوًا، و بدا و كأن الحرف الأول لم يكن صحيحًا، حاولت أن تشبههُ بأحد الأسماء التي تخص تلك العائلة، و لكن حملقت عيناها و هي تهتف بذهـول:
- سُهيــر!
و راحت تتفحص الأوراق مجددًا محاولة التقاط أيّة كلمات، و لكنها كانت كالخرقة البالية.. و لكن بالصفحات الأخيرة شعرت و كأن هنالك شيئًا ما، فراحت تقلب الصفحات حتى تجد تلك الصفحتين التي اندس بينهما قرصًا مدمجًا مغلف، و بدا أنهُ تمّ وضعهُ بعدما استُخرجت تلك المذكرات من الماء و تركت هنا، على الفور سحبتهُ إليها و لكنها لا تعلم كيف خبأتهُ في ملابسها من فورها قد أن تلتفت و قد أجفل صوتها على صوت الأحدب:
- ليه كده يا بنتي؟
رمشت عدة مرات و هي تحملق بوجههِ، حينما كان هو يخطو نحوها، و حالما أبصر تلك المذكرات اختطفها من فوره و أخفاها بين الأرفف و هو يقول بامتعاض و قد بدا على وجههِ التجهم:
- يوسف لو عرف إنك جيتي هنا مش هيحصل خير
ضمّت شفتيها معًا و هي تنظر نحوهُ.. حينما كان هو يردد و هو ينظر نحوها من طرف عين محاولًا إخفاء الارتباك من لهجتهِ:
- انتي.. لاقيتي هنا حاجة؟
هزت رأسها لتنفى ذلك و قد استشعرت أنهُ على علمٍ بأسرار عظيمة و يخفيها في جبعته، حاولت ضبط نبرتها و إظهار التماسُك و هي تنطق متسائلة:
- لأ.. بس إيه المكان الغريب دا يا عم منصور؟
و كأن لمحة منشرحة لاحت على وجههِ و تنفس الصعداء بعد إجابتها، مما فاقم شكوكها أكثر، و بدا لها و كأن "يامن" لا يعلم حتى بذلك المكان.. بل و لم يخطوهُ منذ الكثير و الكثير، راقبت التبدل الملحوظ في تعبيراتهِ حينما كان يشير إليها:
- تعالى نطلع يا بنتي.. اوعي تعرفي يوسف إنك كنتي هنا
أومأت برأسها بعدم اقتناع و قد شعرت و كأنهُ يقطع شكّها باليقين بتصرفاته الغريبة تلك.
 حتى خرجت برفقته من المخزن بأكملهِ، فكان يشدد عليها طوال الطريق ألا يعلم "يامن" أي شئ عن تواجدها هنا اليوم، و فور أن دلفا القصر افترقا.. هي صعدت لغرفتها من فورها و هو خطى نحو المطبخ، تلفت حولهُ ليتأكد من عدم متابعة أحدهم لهُ، ثم راح يحادثها هاتفيًا بارتباك شديد، مُبرَر:
- ألو.. أيوة يا سهير، مرات يوسف كانت هتكشف كل حاجة
و أحنى نظرهُ و هو يغمغم بقنوط:
- كانت هتبقى مصيبة يا سهير.. مينفعش تعرف حاجة، لو يامن عرف إن كمال هو اللي قتل يوسف مش هيسيبه.. مينفعش حد غيرنا يعرف السر دا يا سهير!
............................................................
«وقفت أمام المرآة ، لتتأكد من هيئتها، و تضبط هندامها للمرة الأخيرة ، و قد شعرت بقلبها يزقزق من السعادة ، و الابتسامة العريضة تزين ثغرها ، فركت كفيها بتوتر طفيف ، و لكنها سرعان ما التقطت هاتفها الصغير  ، و هى تتمتم بحبور :
_ لازم أصور اللحظة دى ، عشان أحتفظ برد فعل كمال لمَ يعرف !
فقد رزقها الله بجنين آخر ينمو في أحشائها ، فبعد مولد ابنها "فارس"، وجدت صعوبة في تكرار حملها ، و لكن الآن ، قد جاءت تلك اللحظة السعيدة التي انتظرتها مطولا ، همست لنفسها بسعادة عارمة :
_ هيجيلك أخ يا فارس!
اتسعت ابتسامتها ، و قامت بفتح برنامج الكاميرا ، و فعّلت تصوير الفيديو، دسّت "ريم" الهاتف الجوال في جيبها بحيث تكون الكاميرا موجهة نحو من أمامها ، ظلت تتخيل رد فعله الذى بالطبع لن يختلف عنها ، لم تترك نفسها للتفكير أكثر ، بل خرجت من غرفتها متجهة نحو غرفة المكتب الخاص بزوجها ، فتحت الباب بهدوء قاصدة مفاجأته ، و لكن قبل أن تكمل فتحه ، التقطت أذنيها حديثه في الهاتف بدون قصد منها ، و هو يتحدث بنبرة جافة :
_ بقولك ايه ، أنا قتلت أخويا عشان الفلوس ، أحسنلك تخاف منى و تكتفى بالمبلغ اللى بعتهولك ، مش عشان حتة رصاصة طلقتها جابت أجله هدفعلك مبلغ زي ده، ما أنا كنت عملتها بإيدى و خلصت.. أنا مبتهددش، اعلى ما في خيلك اركبه، مش حتة واد ميسواش هيهدد كمال الصياد على آخر الزمن، اسمع يالا..آخر مرة تكلمنى فيها ، و إلا هتشوف منى وش مش هيعجبك !
أغلق الهاتف في وجهه ، و ألقاه على المكتب الخشبى بلا اكتراث و ………!
 
انقضت عليه ، تقبض على ياقة قميصه ، و هي تصيح باستهجان تام:
- ازاى قدرت تعمل كده ، أنا كنت فاكراك أطيب انسان في الدنيا ، ازاى اتخدعت فيك السنين دى كلها ، ازاى تقتل أخوك ، أنا مش مصدقة !
اتسعت حدقتاه في صدمة ، كان آخر ما توقعه أن تكون قد استمعت الى محادثته ، قبض على كفيها ، و قد اشتعل رأسه من الغيظ و انتفخت أوداجه ، و  دفعها للخلف بعنف ،فهدرت بصوتها عاليا :
_ مش هتقدر توقفنى يا كمال ، أنا هقولهم على كل حاجة ، لازم تتعاقب على جريمتك !
و أوفضت نحو الباب و لكنها لم تكد تخطو خطوة واحدة إلا و كان يجتذبها بعنف من خصلاتها إليهِ، قبض بـ كفه على فـكها ، و حدجها بنظرات مميتة ، متجاهلا صراخها ، كشر عن أسنانه و هو يردد بـ شراسة لم تعهدها من قبل :
_ اسمعى يا***** لو فتحتى بوقك ، هوريكى  اتقى شرى أحسنلك !
تآوهت من عنفه ، و حاولت تخليص شعرها _ الذى شعرت به يقتلعه من جذوره _من قبضته ، و لكنها فشلت ، فقالت بازدراء :
_ هقول يا كمال ، الساكت عن الحق شيطان أخرس  و أنا مش هسكت عن حاجة زى دى ، مش هعيش مع قاتل زيك
و بصعوبة جمّة تخلصت من إطباق كفيهِ و تملصت منه، ضربتهُ بمرفقها في جانب معدتهِ فتأوه و هو يتلمسها بأناملهِ، استغلت "ريم" الفرصة و أوفضت نحو الباب، و لكنهُ كان الأسرع، حيث انحنى ليجتذب البساط من أسفلها فأسقطها أرضًا، تعالى صراخها و قبل أن تهمّ بالنهوض كان "كمال" يجثو فوقها ليعيق حركتها مُطبقًا بمفيه على عنقها، تلتوت من أسفله و قد جحظت عيناها محاولة الخلاص منه، و لكنهُ كان يشدد أكثر من قبضتيه حتى يجتثّ روحها، خدشتهُ "ريم" في كفيه لأكثر من مرة و لكنه لم يتأثر و لم يتأوه حتى، فبسط كفيها جوارها بحركة عشوائية محاولة إيجاد ما ينقذها، حتى تلمست إحدى قطع الأنتيكة ملقاة أرضًا و قد بدى أنها دعتها و هي تركض، أناملها فقط تتلمسها، و لكنها لم تتمكن من الإطباق عليها، فتأوهت و هي تحاول أن تتنحى بجسدها للجانب قليلًا من أسفله حتى نجحت، فسحبتها "ريم" من فورها و ضربتهُ بها بقسوة في جانب رأسهِ، صرخ "كمال" متأوهًا و هو يهبّ على قدميه يسبها بأقذع الألفاظ فاستغلت فرصة إنشغاله، تزحزحت بجسدها عن الأرضية و رئتيها تُملآن بالأوكسجين مجددًا، استندت بكفيها على الأرضية و هي تنهض مستعينة بطاقة الغضب المكبوتة بداخلها، حتى تمكنت من الوقوف، تكاد تبلغ باب الغرفة، و لكنهُ لم يكن يتركها تنجو ببساطة، و فجأة وجدت جسدها يندفع بعنف للحائط ثم أدارها إليهِ ليلتصق ظهرها بالجدار من خلفها، أطبق "كمال" بكفيه على عنقها  مجددًا، و هو يردد بتوعد شرس بنبرة خالية من الحياة :
- انتي مش لازم تعيشي أبدًا هقتلك يا ريم، هقتلـك زي ما قتلته، هقتلــك!
حملقت بهِ بأعين متوسعة،..حاولت الحديث لتستميله عله يتركها ، فقالت بصعوبة ، و بصوت متقطع :
_ أنـ..ا أنا حا...حامل يا .. كمال ، هتقتل ابنك معايا !
في نفس اللحظة ، اتجهت "هدى "نحو الباب الزجاجي الذى يفصل بين غرفة مكتبه و بين الحديقة ، و قد قررت الحديث معه في موضوع هام بالنسبة اليها ، لتتفاجأ بالمشهد أمامها ، فاختبأت خلف الجدار حتى لا يلمحها ، و أخرجت هاتفها على الفور، فتحت برنامج الكاميرا بعجلة  و التقطت له العديد من الصور على تلك الوضعية ، حيث كان يخنق زوجته ، لم تهتم حتى بإنقاذها من براثنه ، بل كل ما اهتمت به تلك الفرصة التى أتت على طبق من ذهب لها ، أغلقت برنامج الكاميرا ، و قامت بإرسال الصور لإحداهنّ تثق بها و …..
 ولكنه لم يكترث بل و أطبق على عنقها أكثر حتى شحب لون وجهها ، و  تراخى جسدها بين يديه، مطبقة جفنيها ، فترك عنقها ، لتسقط على الأرضية جثة هامدة !
نهج صدره علوًا و هبوطًا ، و حرر ربطة عنقه قليلا ، و هو ينظر لها ، بل لجثتها باحتدام، ثم غمغم ببرود تام و كأنه لم يرتكب جريمتين قبل ثوان معدودة:
- معلش يا ريم ، كان لازم تموتى ، بدل ما أتعلق على حبل المشنقة !
تأكدت "هدى "من وصول الصور ، و بعثت برسالة أخري:
- " لو اختفيت فجأة ، اعرفى انى حصلى حاجة ، و ابعتى الصور دى للشرطة"
فتحت الباب الزجاجي فجأة فالتفت "كمال" اليها ، كشر عن أسنانه.. قبض على كفيه في غيظ  ، و قد تأكد من رؤيتها له بسبب الابتسامة الخبيثة المرتسمة على ثغرها ، سارت بخطوات مغترة نحوه ، فلوى شفتيه في تهكم ، و قال بازدراء :
- ما انتى هتموتى  زيها يا مرات أخويا ، متفرحيش أوى  مش هتلحقى تفتحى بؤك !
صدرت منها ضحكات متتالية  بصوت مرتفع ، و قد أدمعت عينيها من الضحك ، و فجأة تحولت تعابير وجهها ، و اختفت ضحكاتها ، ليظهر الجمود على وجهها ، و قالت بنبرة مغترة:
- مش هتعرف يا كمال ، كل حاجة حصلت صورتها ، صورتك و انت بتخنقها ، و مش بس كده بعتها لحد عمرك ما هتعرف توصل له ، و لو حصل لى حاجة ، الصور دى كلها هتتبعت للبوليس !
كز على أسنانه بعنف ، و قد تأكد من عدم وجود مفر ، لن يستطيع قتلها اذًا في تلك الحالة ، شملها بنظرات نارية  و عيون قدح منها الشرر ، اتجهت "هدى" نحوها ، و انحنت على الأرضية أمامها ، و وضعت كف يدها على عنقها لتتأكد من توقف النبض ، و لكنها لاحظت وجود ذلك الهاتف فضيقت عينيها ، التفتت بحذر لتجد "كمال" موليا ظهره لها ، و هو يمسح على وجهه بعصبية ، فالتقطته على الفور ، لتظهر صورتها بوضوح في الكاميرا ، و خبأته في ملابسها ، لتحتفظ بجميع الدلائل معها وحدها ، بعد ذلك اليوم المشؤوم ، بحث" كمال" عن الدليل في كل مكان ، بعد أن تزوجها و قد وافقت من فورها.. لم تكترث حتى كونهُ قاتلًا، و لم تكترث كونها تعلم بجرائمهِ المتعددة.
أطبقت "هدى" بكفيها على عضدي الأخيرة و هي تغمغم باحتداد:
- سهيــر، لازم ترمي المذكرات دي، كمال عرف إن انتي اللي عارفة كل حاجة، هيخلص عليكي
فهزت رأسها نافية و هي ترفض ذلك رفضًا قاطعًا:
- لأ.. مستحيل أتخلص من الدليل الوحيد اللي..
فأطبقت أكثر بأناملها و هي تضغط ضغطة خفيفة على ذراعيها مرددة بتريث و هي تتلفت حولها بحذر:
- اسمعي.. أنا أقنعت كمال إن الفيديو ارتمى من زمان، هو ميعرفش غير بالمذكرات اللي انتي كاتبة فيها كل حاجة لما سمعنى بكلمك عليها، ميعرفش إن الفيديو لسه موجود
و أيضًا ترفض ذلك و هي تهز رأسها بالنفي القاطع، فرددت "هدى" محذرة إياها من بين أسنانها المطبقة:
- سهير، لو معملتيش دا يبقى تتشاهدي على روحك.. زي ما كمال قتل أختك و جوزها.. زي ما قتل جوزك، زي ما عذبك العذاب دا هيقتلك
فكانت نبرتها لا حياة فيها و هي تغمغم:
- يكون أحسن.. أنا مش عايزة أعيش، هعيش لمين؟
- و أمنية؟.. البنت اللي سايبيها معاكي أمانة؟ هتموتي و تسيبيها
لم يكن قولها محذرًا.. كان مهددًا اكثر، ترقرقت العبرات في عينيّ "هدى" و هي تناظرها بقنوط، و قد شعرت ألا مفرّ لها.
و وقفت بجوارهِ تمامًا بقلة حيلة و نظرة تخاذل تلوح في عينيها.. تراقبهُ و هو يتخلص من المذكرات عقب أن ألقاها في منتصف البحيرة القريبة من المزرعة، حتى التوى ثغره بابتسامة ظافرة و هو يلتفت نحوه منفضًا كفيهِ، خطى نحوها ثم ربت على كتفها برفق و هو يغمغم عقب أن منحها إيماءة واثقة:
- تعجبيني يا سهير
و انخفض كفهُ قليلًا ليُطبق على ساعدها و هو يجتذب جسدها إليه و قد أظلمت ملامحهِ، غرس نظراته الشرسة بين عينيه و هو يقول بلهجة مهددة بغضتها:
- لو بس فكرتي تفتحي بؤك هتشوفي موتك في موت بنت أختك
و التوى ثغرهُ بابتسامة شيطانيّة و هو يتابع:
- المرحومة!
و دفعها بعنفٍ للخلف و هو يشملها بنظراتٍ مزدرية، و انصرف تاركًا لها خلفهُ، تابعتهُ "سهير" بنظراتها البائسة، ثم نطقت من بين شفتيها:
- منك لله يا أخي.. حسبي الله و نعم الوكيل فيك
و انحرفت نظراتها نحو المذكرات التي تطفو على السطح، جثت على ركبتيها، و امتد كفها لتسحبها إليها، كانت مدمرة.. معظم الكلمات تم محوها بما يحويها من أسرار، و لكنها عزمت على الاحتفاظ بها رغم ذلك، التفتت إثر صوتهِ الذي صدح فجأة من خلفها و هو يغمغم:
- هو اللي قتله؟ مش كدا؟.. هو اللي قتل يوسف يا سهير؟
أجفل جسدها و هي تحملق به بصدمة واضحة، نهضت عن محلها و هي تتلفت حولها بحذر ثم دنت منه و هي تتوسلهُ:
- أرجوك يا منصور محدش يعرف دا، أرجوك.. أنا حياتي مش مهمة عندي، لكن.. لكن حياة بنت أختي اليتيمة متعلقة في رقبتي
فقال بلهجة مُشتدة:
- لازم أعرف كل حاجة يا سهير، لو عايزاني مقولش.. يبقى مفيش حاجة تستخبى عني!
أومأت برأسها و هي تقول بتلهف و قد انسابت عبراتها:
- هقولك.. هقولك كل حاجة يا منصور، لكن أمانة عليك.. محدش يعرف دا أبدًا»
.......................................................................
.............................................
..........................................................
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن