"الفصل السابع و الخمسون"

768 20 2
                                    

"الفصل السابع و الخمسون"
ما ابتلى اللهُ عبدًا إلّا ليختبر مدى تجلده.. تحلّ بالصبر و لا تجزع، عسى الفرج أن يكون قريبًا.
______________________________________________
إنها تعيش الأسوء الذي لم تتخيّلهُ و لم ينحدر تفكيرها إلى تلك الدرجة منه.. الأسوأ على الإطلاق، لم تكن تدرك أن فقدانه سيفعل بها الأفاعيل، و أنها ستشعر بذلك الشعور الذي يصعب وصفهِ.
إنهُ ذلك القاطن بين الحنايا، تستشعر به فراغًا مريبًا و ألمًا رهيبًا، حتى تلك الدماء التي تسري في أوردتها تشعر و كأنها جمرات متوقدة ضخّها القلب الملتهب، و ها هي تراها أمامها تكاد تفقدها و لا يوجد أي تحسن ملحوظ بحالتها المتدهورة.
 انسلت من بين ذراعيه بصعوبة لترتكن برأسها على الوسادة و قد أمر بإحضار فراشًا لها بغرفة والدتها كي تكون برفقتها ، تركت وسادتها تتغذى على دموعها الغزيرة، و كتمت أنّة خافتة مشبعة بعذابها اللامتناهي في وسادتها عقب أن اختلست نظرة من بين دموعها المشوشة لعينيها إليها، سحب "يامن" مقعدًا.. ثم خلع عنه سترته و حل أزرار قميصه و قد شعر بحرارة ظهرهِ تتزايد و تُلهبه أكثر، و تركها على ظهر المقعد ثم جلس أمامها، سحب كفها و احتواهُ بكفهِ متلمسًا أناملها الرقيقة بأصابعه الخشنة، ثم رفع  كفها إلى شفتيه ليطبع قبلة حانية في باطنهِ، و بكفه الآخر كان ينزح خصلاتها المتناثرة بعشوائية على وجنتيها و تلمسهما نازحًا بعض من دموعها الحرقة و هو يغمغم بلهجة ثابتة منخفضة:
- كفاية
 وجهها تلاشى بياضه تقريبًا من فرط احمراره المتوهج و أنفها المنتفخ الأحمر.. و جفنيها قد حُددت خطوطهما و برزا أكثر من فرط دموعها الهاطلة منهما، دمائها احتُقنت في الشعيرات الدموية بعينيها فأكسبت بياضهما حُمرة جليّة، كل ذلك كان وقعه عليه عظيمًا و هو يرى تدهور حالتها لتلك الدرجة، احتفظ بباطن كفها على وجنتهِ المحترقة و هو يميل عليها بجذعه فحرمها فرصة اقتناص نظرة لوالدتها،  في حين كانت تنطق هي بمرارة من بين نشيجها الخافت:
- مش قادرة.. مش قادرة أستحمل أبدًا
فنطق محاولًا زرع الثقة بداخلها:
- هتستحملي.. و هتعيشي.. و هتنسي، لازم تنسي.. لازم تنسيه، لأنه ميستحقش دمعة تنزل من عينيكي عشانه
نظرت لعينيه مباشرة باستنجاد و هي تهز رأسها نفيًا:
- مش هقدر، أنا تعبانة أوي، انت مش حاسس بيا.. مش هتعرف أنا حاسة ازاي
فقال بلهجة متراخية و هو يمرر إبهامه على كفها:
- محدش حاسس بيكي قدي
فسألته و هي تقوس شفتيها بألم بالغ:
- انت نسيته؟ عرفت تنساه؟.. أنا هقدر أنساه؟ هفضل أحس بالعذاب ده لحد امتى؟ هيفضل الشعور ده جوايا يامن
تنهد بقنوط شديد  و هو ينحني أكثر ليستند بجبهتهِ على جبهتها فقالت بتحسر مستشعرة أنفاسه الحارة التي تلفح صفحة وجهها:
- هيفضل موجود.. صح؟ الشعور ده مش هيسيبني طول ما أنا عايشة؟
ابتعد عنها قليلًا ليتأملها بنظرات مُشفقة، ثم ألصق شفاههِ بوجنتها اليمنى ليطبع عليه قبلة حانية و هو يهمس بـ:
- يا ريت لو أقدر أعمل حاجة عشانك
فقالت بلهجة بائسة مريرة و هي تنتحب:
- حتى هي هتسيبني يا يامن.. حتى هي هتسيبني لوحدي، لو ماما حصل لها حاجة أنا مش هقدر أستحمل، لو حصل لها حاجة أنا ممكن أموت
مسح برفقٍ بالغ على وجنتها و هو يهمس:
- شـشـش.. متقوليش كده
فعادت تهمس من جديد متبعة قولها بأنين خافت:
- أنا عارفة انها هتسيبني لوحدي.. أنا عارفة إنها مش هتمشي و تسيبني
اعتدل قليلًا في جلسته و هو يُدثرها جيدًا.. ثم نزح دموعها و شرع يمسح على خصلاتها و هو يحثها على النوم قائلًا بلهجة جامدة:
- نامي.. حاولي ترتاحي شوية
فقالت و دموعها لا تكفّ عن الانسدال من جفنيها:
- مش هعرف.. مش هعرف أبدًا
و عادت تهمس باحباط شديد:
- أنا مش زيك.. مش هقدر أستحمل زي ما انت استحملت، أنا أضعف منك بكتير، أنا ضعيفة أوي
أخفض كفهُ المحتوى لكفها و هو يملأ فراغاتهِ بأناملهِ مطبقًا عليه، ثم أردف بلهجة ثابتة:
- مينفعش تضعفي.. لازم تبقى أقوى من كده
فرمقته بنظرة قانطة و هي تهمس بمرارة:
- مش عارفة.. أنا تعبانة أوي
و وضعت كفها على موضع قلبها و هي تحاول شرح ما يعتمل فيهِ:
- قلبي بيوجعني أوي يا يامن
طرد زفيرًا حارًا مشبّعًا بمشاعر الألم البالغ الذي يضجّ به صدره، ثم شدد من احتوائهِ لكفها.. و نزح مجددًا عبراتها الحارة و هو يهمس بلهجة آمرة:
- تعالي
فنهضت نصف جلسة  لتحيط ظهره بذراعيها دافنة نفسها في أحضانهِ، كبت تأوههِ من فعلتها و هو يحتوى جسدها بذراعيه، حينما كانت تمرغ رأسها في صدره مستكملة نحيبها و شهقاتها المُدمية لقلبه، حتى مضت فترة و كانت تشعر بالخور يصيبها،.. فخبت صوتها و أناتها فغفت بين ذراعيه متأثرة بآلام روحها المقيتة، و أناملهُ لا تكفّ عن العبث بخصلاتها.
أبعدها عنه بحذر و هو يستقيم في وقفتهِ ليمدد جسدها مركنًا رأسها إلى الوسادة المريحة، ثم دثرها جيدًا، و انحنى ليترك قبلة عابرة على خصلاتها، ثم انتصب مجددًا و هو يلتفت إثر ذلك الصوت الخافت الذي اخترق مسمعهِ:
- يـ..ـامن
تحرك نحوها على الفور فكانت تنزع عن وجهها قناع التنفس و هي تنظر نحوهُ متأثرة بذلك التشوش المصيب رؤيتها، فسألها "يامن" بجدية شديدة:
- حاسة بإيـه؟
- يـ..ـامـ..ـن
التوى ثغرها بابتسامة باهتة للغاية و هي تهمس لهُ بعسرٍ بالغ:
- تعرف إن اسمك أنا اللي اختارته!.. يوسف خد الاسم اللي كنت هسميه لابني، لو كان عندي ولد!
جلس جوارها على طرف الفراش متنهدًا بثقل جثى على صدره، فسألتهُ بيأس و قد تلاشت بسمتها:
- مات؟ صح؟
و لم يجبها سوى بنظرة انبثقت من عينيه، فرمشت مرة واحدة و هي تقول بخفوت عسير:
- أنا.. عارفة، كنت حاسة بده، كنت حاسة انه سابني حتى و أنا مش في وعيي!
و نظرت نحو السقف ثم غمغمت بحبور متلكئ:
- لكن.. مش زعلانة ابدًا، لأني عارفة إني هروحله قريب
فشدد "يامن" من لهجتهِ و هو يقول:
- حبيبة.. اوعي، أنا مش هسيبك تعملي ده
و أشار لابنتها الغافية بإنهاك شديد، ثم قال بلهجة حالكة:
- مش هسيبك تعملي ده في بنتك يا حبيبة!
فنظرت نحوه من طرفها مدمدمة بتقوس بسيط بشفتيها محاولة الابتسام:
- مش بإيدي يا ابني.. أنـ..
فسألها حينئذ مقاطعًا حديثها بلهجة مُتهمة:
- و لا هي مش بنتك؟
رمشت عدة مرات دون أن تمنحه إجابة شافية، فأردف مُطبقًا أسنانه:
- ردي يا حبيبة.. يارا بنت مين؟
حادت بنظراتها عنه لتحدق في السقفية و هي تقول بعُسر بالغ:
- خد بالك منها.. مش عايزة غير حاجة واحدة منك يا يامن
و تحشرج صوتها أكثر و هي تحاول التقاط أنفاسها:
- لو متت.. ادفني مع يوسف!
و ارتخى جفنيها لتنسال تلك الدمعة من بينهما عموديًا بجوار أذنها سابحة في ملكوت آخر و تاركة إياه يعاني من الأفكار السوداويّة، ظل محدقًا بها لبرهة بنظرات شبه مشدوهة لقولها الغريب ثم حاد بناظريه عنها و هو يحكّ عنقه بانفعال، ارتكز بصرهُ على معذبة قلبه فتنهد بضيق بالغ:
- مش هسيبك تقضي على اللي باقي منها يا حبيبة،.. مش هسيبك تتسببي في عذاب تاني ليا، كفاية أوي اللي اتسببتي فيه!
.................................................
- لا حول و لا قوة إلا بالله.. هي صاحبتك دي مكتوب عليها الشقى طول العُمر
زفرت "رهيف" زفيرًا حارًا ثم أتبعته بـ:
ـ أنا ماليش فيه يا ماما.. لازم أكون جمبها
ربتت "سُعاد" على ركبتها ثم قالت متنهدة:
ـ أنا هكلم جدتك
فتلوت شفتيّ "رهيف" باستهجان و هي تقول:
ـ أومال اخر قرار جدتي خدته عشات فرحي كان امتى ان شاء الله
نظرت "سعاد" نحوها بضيق بيّن ثم نطقت بانزعاج:
ـ لسه.. ما انتى عارفة ازاي بحاول بكل الطرق أقنعها يا رهيف، أعمل ايه تاني؟
زفرت "رهيف" زفيرًا مختنقًا.. ثم نظرت من خلال زجاج غرفتها للخارج بشرود و هي تقول بحنين شديد:
ـ امتى بقى أخلص من الكابوس ده و أرجع حياتي
و نظرت نحوها و هي تحتوى كفيها قائلة بابتسامة تلوح على أطراف شفتيها:
ـ و نرجع بيتنا.. وحشني البيت أوي، كل حاجة فيه وحشتني
ربتت "سعاد" على كفيها و هي تترك زفيرًا حارًا أعقبته بـ:
ـ أكيد في حل يا رهيف.. أنا مش هسيبك تضيعي عشان أنانية جدتك
و لوت ثغرها ببسمة مُطمئنة و هي تتمتم:
ـ و متقلقيش..أنا هقنعها تسافري ليارا تاني تعزيها
فسحبت "رهيف" كفيها و هي تنطق باكفهرار:
ـ و حتى لو رفضت.. أنا مش مستنية رأيها، أنا معايا حراسة يامن و هروح و أرجع بسرعة
و شددت من لهجتها و هي تقول محذرة:
ـ و المرة دي استحالة أوافق الزفت راشد ييحي معايا لو عملت فيا إيه.. خلاص يا ماما؟ كفاية اني استحملت غباوته معايا و مع الحراسة طول الطريق، مش هعيده تاني
فعاتبتها قليلًا و هي تعقد حاجبيها:
ـ يا بنتي مش خايف عليكي بعد اللي حصل لك! و جدتك كمان خايفة عليكي عشان كده صممت راشد يكون معاكي
ارتفع جانب ثغرها باستهزاء و هي تحيد بأنظارها عنها ثم تشدقت بـ:
ـ لأ أصيل راشد و الله.. ربنا يخليه لجدته
.................................................................
كم كان صعبًا عليه أن يُقيم سُرادق عزاء قاتل والدهِ بقصره الذي قضى عليه به، و يقف متلقيّا واجب العزاء فيه.. و لكنهُ من أجلها.. فقط من أجلها.
و انتبه إلى اهتزاز هاتفه معلنًا عن اتصال هاتفي، فتغضن جبينه و هو يخرجه ليرى اسمها منبثقًا أمامه، فقال "فارس" عاقدًا حاجبيه بجهم واضح:
ـ مالك في ايه؟
ـ اتصال مهم.. هرد و ارجع
و انسحب من الوسط تمامًا.. حتى التقاها في نقطة خلفيّة من القصر، اقبل عليها حتى توقف أمامها مباشرة، فالتفتت "هوليا" لتجده خلفها.. فسألها "يامن" باستهجان واضح:
ـ ايه اللي هببتيه ده؟.. هو ده اللي اتفقنا عليه
فبررت له باختناق و هي تحنى بصرها:
ـ مقدرتش.. مقدرتش أكمل التمثيلية دي و أكلمه بكل برود من غير ما أحسسه اني عارفة حاجة، مقدرتش أبدًا
و نظرت لعينيه مباشرة و هي تسأله بتحير:
ـ لكن ازاي ده حصل؟.. أكيد البيت متحرقش لوحده
فقال متجاوزًا سؤالها بلهجة مُشتدة:
ـ اسمعي يا هوليا.. يارا مش هتعرف أي حاجة عن أبوها و لا حتى عنك، عظيم؟
انعقد حاجبيها بعدم فهم ثم سألته مستنكرة:
ـ يعني ايه؟ هتخبي عنها؟
نظر لعينيها مباشرة نظرة مطولة.. ثم حاد ببصره عنها ليردف بامتعاض:
ـ انتي السبب في نجاته مني يا هوليا
اتسعت عيناها بشدوه و هي تشير لنفسها بسبابتها:
ـ أنا!
أجابها و هو ينظر في سعة يده بفظاظة:
ـ أيوة انتي.. متهيألي انك اتأخرتي
ضاقت عيناها غيظًا و هي تقول باستنكار:
ـ بتطردني
قوس شفتيه مشيحًا ببصره عنها، حكّ بإبهامه ذقنه ثم قال هازئًا:
ـ معتقدش انك جاية تعزي في حسين يا هوليا
فزمت شفتيها بضيق ثم أردفت متسائلة بتنهيدة حارة:
ـ حبيبة حصل لها ايه؟
حاد ببصره عنها و هو يقول باقتضاب:
ـ في المستشفى.. حالتها مستقرتش
فأفضت لديه القول بشعورها:
ـ على الرغم من اني مش طايقاها.. إلا اني مش راضية عن نهايتها بالشكل ده
تقوست شفتيّ يامن بقسوة مستنكرًا::
ـ مش طايقاها!.. على أساس هو اتجوزها عليكي مثلًا، انتي.. انتي اللي اتجوزك عليها يا هوليا!
تأففت بضيق حطّ على رئتيها ثم نطقت بنفور و هي تشيح ببصرها عنه:
ـ مش عايزة افتكر ابدًا.. أنا بقول أمشى أفضل
و تهيّأت للرحيل و هي تضبط حقيبتها على كتفها، فحذرها و هو يطبق على ساعدها بأناملهِ:
ـ هُوليا.. معتقدش كلامي في حاجة متفهمتش
فأومأت و هي تقول خاضعة لأمره:
ـ حاضر.. مش هتعرف
و أشاحت بناظريها عنه و هي تقول بتمقُّط:
ـ اللي عايزاها تعرف خلاص عرفت، مش هستفيد حاجة لو يارا عرفت أو لأ
فأرخى أنامله عنها و هو يردد بلهجة حالكة:
ـ عظيم.. كويس انك عارفة ده
ـ عن إذنك يا يامن
و برحت محلها منصرفة، حينما كان "مايكل" يُقبل عليه.. تغضن جبينه و هو يتابع رحيل تلك السيدة الأنيقة، ثم التفت إليه و هو يسأل باسترابة:
ـ ?Who is she
تابعتها نظرات "يامن" المتأججة حتى تلاشى طيفها.. ثم حرف نظراته إليه و هو ينطق بجديّة:
ـ سيبك منها.. عايزك
فتسائل بفضول موجز و هو يضيق عينيه:
ـ  فيمَ؟
حكّ "يامن" صدغهِ ثم أردف و هو يشير بيعينه:
ـ لسه حاطط في دماغك الأرض و لا صرفت نظر؟
فتحمّس "مايكل" للغاية و هو يجيب:
ـ OF course no .. مازلتُ أريدها
فأومأ "يامن" و هو يبرر لهُ بانزعاج:
ـ تمام، هكلمها و أشوف رأيها ايه، مش هينفع أبقى مسؤول عن موضوعها في وقت زي ده
و أشار بسبابته و هو يحذره:
ـ خد بالك يا مايكل.. الأرض دي أمانة في رقبتك
فطمأنهُ "مايكل" و قد تزيّن محياه ببسمة واسعة:
ـ Don’t worry man
و ضاقت عيناهُ و هو يسأل بفضولٍ:
ـ و لكن أخبرني ما سبب تغيير رأيك المفاجئ.. كنت ترفض رفضًا قاطعًا
فـ حاد بناطريه عنه و هو يقول بامتعاض:
ـ مش فايق خالص للموضوع ده، كمان مينفعش أعمل كده فيها
منحهُ "مايكل" نظرة مبهمة.. فكان "يامن" ينظر أمامه بغموض و هو يتمتم معربًا عما يجول بخاطره:
ـ ابن الـ**** ده لو عرف بوجود رهيف اللي تعتبر أقرب واحدة ليارا مش هيسيبها.. خلي الأرض دي باسمك أضمن
على الرغم من كونه لم يفهم مرادهِ تحديدًا.. و لكنه لم يرد التدخل فيما لا يعينه، و لكن التفاتة "يامن" إليه و تلك النظرة المهددة التي أتبعها بقولهِ المحذر:
ـ مايكـل
ـ ?What
ربت "يامن" على كتفه بقوة و هو يقول بلهجة ثاقبة:
ـ أنا وثقت فيك و أمنتك على ارض البنت.. يا ريت بس تحاول تلعب بديلك
تقوست شفتي "مايكل" و هو يسأل معربًا عن ضيقه:
ـ  What are you meaning?
فأحابه بلهجة قاسية و هو يضغط على كتفه:
ـ انت عارف قصدي كويس.. رهيف مش النوع إياه، خد بالك
فأزاح " مايكل" كفه عنه و هو يردف بسلاسة زائفة:
ـ Calm down man..I know that
" اهدأ يا رجل، أدرك ذلك"
و أخفض نبرتهِ و هو يبستم بمكر:
ـBut, What about trying?
" ولكن.. ماذا عن المحاولة؟"
.......................................
و ها هي تعُود كما كانت عقب انهيار تام مختزنة ذاك الكمّ من المشاعر المكلومة في قلبها ، مظهرة فقط وجهًا ذابلًا و عينان منتفختان لا تسيل منهما دمعة واحدة..
تجلس بجسد و كأنهُ خاوٍ من الروح تتلقى العزاء في والدها من أناس لا تراهم.. و لا تشعر بهم و لا تكاد تعرفهم، فقط أطياف تمر من أمامها جيئة و ذهابًا يُلقون بضع كلمات لا تدركها و لم تكلف نفسها عناء تمييزها، حتى حضرت "رهيف".. تفاجأت الأخيرة بحالتها المريبة تلك، حينما كانت هي تردف باستهزاء شابهُ المرارة عقب كلمات مواسية من "رهيف" لم تسمن و لم تغني من جوع:
ـ ضيعت حياتي عشانه.. و برضو مقدرتش أنقذه
ربتت "رهيف" على كفها برفقٍ و هي تقول:
ـ ده قضاء و قدر يا حبيبتي.. عمره كده
فنظرت نحوها نطرة متوهجة:
ـ لأ.. مش عمره، و انتي عارفة ده، البيت حد حرقه
فأحابتها "رهيف" متنهدة بضيق أثقل من كلماتها:
ـ عارفة.. أكيد نائف
ـ تـؤ.. مش نائف
فازدردت "رهيف" ريقها توجسًا.. نظرت نحوها مردفة بخشية:
ـ يارا.. اوعي تكوني بتفكري في جوزك
ـ و لا يامن
نظرت "رهيف" نحوها نظرة مطولة محاولة سبر أغوارها و حالما فشلت سألتها في استرابة:
ـ يارا.. انتي في إيه في دماغك بالظبط؟
نهضت عن مقعدها بانهاك و هي تغمغم:
ـ مش قادرة.. أنا طالعة فوق
و برحت محلها بالفعل لتصعد للأعلى على الرغم من محاولات "رهيف" لاستبقائها، تلفتت "رهيف" حولها باحثة عن شخص بعينه حتى وجدتها.. فمضت نحوها بخطوات مرتبكة حتى جلست أمامها.
فكرة أن تكون بقصرهِ و هي لا تملك فيه أي حق عسيرة للغاية عليها، تمنت لو كان بمقدورها عدم الحضور، و لكنها وجدت نفسها هنا دون أي اعتراض، لم تنتحب.. و لم تبكي حرقة، فقط بضع دموع تنسال على وجنتيها و كأن ما فعله بها صباح اليوم كان كافيًا ليُميت إحساسها تمامًا، فاقم_ دون قصد_ شعورها و كأنها منبوذة بسبب إعاقتها التي أُلحقت بساقها، دعس كرامتها ببساطة و مضى غير مباليًا بها، شعرت و كأن جذوة الانتقام بداخلها تضطرم أكثر و أكثر... زمّت "رهيف" شفتيها ثم نطقت بحذر و هي تحاول مواساتها مربتة على كفها:
- البقاء لله يا ولاء
نظرت نحوها "ولاء" بأعين مشوشة ، و ما إن تعرفت عليها حتى تلوت شفتيها سخطًا، ثم حادت بنظراتها بعيدًا عنها دون أن تجيبها، فاحتوت "رهيف" كفها بضغطة خفيفة و هي تقول بهدوء:
- ربنا يصبرك على فراقه
فأجابتها باقتضاب واضح و هي تنزح دموعها بمحرمة ورقية:
- يا رب
..................................................................
كان الجمع قد بدأ ينفضّ.. و السيدات تنسحبن من القصر واحدة تلو الأخرى، حتى لم يبقَ سوى "ولاء" و "رهيف" التي نهضت من محلها و هي تودع "ولاء" منتوية الرحيل، و ما إن شرعت تتحرك للخارج حتى وجدتهُ أمامها، تغضن جبينها حين سألها باهتمام واضح:
-  How are you?
فأجابته و هي تحيد بنظراتها عنه بسخافة:
- fine..ممكن أعدي؟
فقال بعبث واضح، لا يناسب إطلاقًا تلك الأجواء الكئيبة:
- أأنا ضخم لتلك الدرجة فأقطع طريقك.. أعتقد أن يمكنكِ المرور من جواري
توهجت وجنتيها غيظًا منه، ثم تشبثت بحقيبتها بحركة عنيفة و هي تتنحى للجانب قليلًا لتمر فتبعها فتحركت يسارًا فتبعها أيضًا، فتوقفت محلها و هي ترمقه بنظرات مستشاطة قائلة باحتداد:
- لو سمحت.. أنا مبحبش الطرق دي
فقال عاقدًا حاجبيه ببراءة:
- و ماذا فآلت "فعلت"؟.. أريد المرور أيضًا
زفرت "رهيف" حانقة، ثم تحركت لتمر أخيرًا من جواره.
حينما كان "فارس" يخُط بقدمه داخل القصر، بحث عنها بعينيهِ و هو يدخل حتى و أخيرًا وجدها، و على عكس ما توقع كانت تنهض عن محلها فور رؤيتها له و هي تضمّ وشاحها الحريري الأسود إلى صدرها، ثم قالت حين توقفت أمامه مباشرة بلهجة خالية من الحياة:
- أنا عايزة أمشي من هنا.. هروح لماما
فقال متنهدًا بحرارة و هو يحاول استبقائها:
- ولاء.. في أوضة متجهزة مخصوص عشانك
أشاحت بنظراتها عنه و هي تمسح وجهها بالمحرمة ثم نطقت بجفاف:
- لا.. مش عايزة، أنا عايزة أكون جمبها
فأشار إليها و هو يعرض عليها:
- طب تعالي.. هوصلك
و للعجب أنها لم ترفض، حيث أجابته طواعية و هي تلتفت:
- حاضر، ثواني هجيب شنطتي
.......................................................
توقفت أمامه على عتبة القصر تحديدًا في حين كان يدلف هو ليقف بالداخل فسألته بلهجة عذبة سؤالًا عابرًا قبل أن تخرج:
- ازيك يا أستاذ يامن؟
فسألها مباشرة و عيناه تتجولان هنا و هناك بحثًا عنها:
- يارا فيـن؟
تنهدت بحرارة معقبة و هي ترفع نظراتها للأعلى:
- طلعت.. قالتي انها عايزة ترتاح
استقرّت نظراته بالطابق العلويّ.. حرر زفيرًا مختنقًا من أسره بصدره حينما كانت "رهيف" تنظر لساعة يدها:
- أنا لازم أمشي، هحاول آجي بكرة ممكن تكون أفضل شوية
فردد و هو يلتفت نحوها مستوقفًا إياها:
- استني.. عايزك في موضوع الأرض
و أشار لغرفة مكتبهِ و هو يقول:
- تعالي معايا
..................................................................
طوال الطريق صامتة.. مُرتكنة برأسها إلى الزجاج المجاور لها، بينما هو يعاني.. تلك الفكرة التي تستحوذ على ذهنهِ بأن يكون ما قال "يامن" صحيحًا تجعله يشتاط، فقط لتمر أيام العزاء الثقيلة على قلبهِ و سيطالبه بذلك الدليل من فورهِ، حتى أنه لا يتمكن من الترقب لتلك الفترة، كلاهما شاردًا، و كلاهما يحمل من الهمّ ما تفيض به نفسه.
استشعر "فارس" و كأن هنالك ما أطبق على صدرهِ، فأخفض الزجاج المجاور له و هو يحاول جاهدًا استنشاق الهواء النقيّ من حولهِ، استند بمرفقهِ على حافة النافذة و أصابعه قد بدأت تتكور على المقود، استشعرت "ولاء" و كأن سرب من الهواء أحاط بها، ضمّت طرفي شالها معًا و هي تلتفت لتطلب منه:
- ينفع تقفل الشباك؟
بدا أنه لم يستمع إليها، تأملت ملامحه المظلمة و قد تغضن جبينها، ثم اعتدلت في جلستها قليلًا لتناديه:
- فارس؟
تنبه حين نطقت اسمهِ فالتفت نحوها و هو يسألها:
- كنتي بتقولي حاجة؟
أشارت بعينيها للنافذة و هي تردد:
- بسألك.. ينفع تقفله؟
- طيب
و عاد يغلقه مجددًا و قد استثقل ذلك، في حين كانت تلتفت مجددًا لتستند برأسها على الزجاج، و ساد صمت ثقيل، حتى قطعتهُ بقولها المُحبط و هي تلتفت له على حين غرة:
- هو أنا وحشة؟
- أكيـد!
و كان وقع كلمتهِ المباغتة عليها عظيمًا، توقفت الكلمات على أطراف لسانها و قد حفّت الدموع عينيها، حينما التفت إليها ليقول بلهجة جادة:
- زمان كنتي بالنسبة لي أجمل انسانة قابلتها في حياتي.. لكن بصراحة، دلوقتي إنتي معاقة
كلماتهِ كانت تصيبها في مقتل، أحنت نظراتها عنه و هي تردف باستهجان من بين دموعها المتساقطة:
- انت السبب.. و جاي دلوقتي تقولي معاقة! انت اللي دوستني، انت اللي عملت كده فيا!
حكّ صدغهِ ببرود و هو ينظر للطريق أمامه:
- معاقة من جوا!.. مشوهة، مش بس معاقة
فارتفعت نظراتها المشدوهة نحوهُ غير مصدقة ما قاله توًا، ثم أشاحت بناظريها عنه و هي تردف بتبرم نازحة دموعها:
- أنا معملتش حاجة
فكان ردّه جامدًا دون حتى أن يمنحها نظرة واحدة:
- عملتي كتيـر.. من أول ما فكرتي في جوز أختك بدأت صورتك تتغير في عيني!
فهدرت بهِ رافضة ما يقول:
- كفايـة، أنا معملتش فيها حاجة!
و تابع بلا اكتراث لقولها:
- اللحظة اللي شوفتك فيها لابسة هدوم متلبسهاش غير بنات الليل.. اللحظة اللي لاقيتك فيها جوا الديسكو بين الـ***** اتشوهت صورتك في عيني أكتر و أكتر
و نظر نحوها نظرة قحت شررًا و هو يردف بلهجة ذات مغزى:
- اللحظة اللي جريتي فيها عليه و لا كأنه هياخدك في حضنه، مبقيتيش بس مشوهة.. انتي بقيتي مسخ في عيني!
فاضت دموعها أنهارًا و هي ترمقه بعتاب مرير، فأشاح بناظريه عنها و هو يقول بلهجة متصلبة:
- يا ريت كفاية تشوهي نفسك بنفسك أكتر من كدا!
فقالت محاولة التبرير و هي تبكي بحرقة:
- أنا معملتش حاجة.. مأذنبتش، أنا حبيت
فجأر بها و قد كان لكلمتها و قعًا عظيمًا عليهِ:
- حبيتي ميـن؟ يامـن؟ ليــه؟ عملك إيه عشان تحبيه!
ارتفعت شهقاتها و هي تحيد ببصرها عنه في حين انخفضت نبرته قليلًا و هو يهتف باستنكار موزعًا النظرات بينهما و بين الطريق:
- قوليلي على حاجة واحدة عملهالك خلاكي تقعي في غرامه؟.. اتكلمي، ساكتة ليه؟
و طال صمتها فلم يصدر عنها سوى نهنهاتها الخافتة، فسخر منها بجفاء و هو يقوس شفتيه:
- طبعًا.. هتردي تقولي إيه؟ انتي عندك حاجة تتقال!
فاض بها الكيل، فنزحت دموعها بظهر كفها و هي تردد بلهجة شبه مبحوحة محاولة التماسك:
- وقف العربية.. وقف العربية و نزلني
لم يعرها اهتمامًا.. و كأنه اكتفى بسكب الملح على جرحها المفتوح و تركها خرقة بالية، فأطبقت أسنانها و قد توهجت وجنتيها ثم هدرت و هي تضرب الباب:
- وقف العربية قولت.. أنا غلطانة إني وافقت توصلني
و كأنها سرابًا لا حقيقة ملموسة، فقالت متوعدة و قد فرغ صبرها:
- تمام.. هنزل أنا بطريقتي
 و بهوجائيّة  كادت تفتح الباب لتثب خارج السيارة، و لكنه تدارك الأمر و هو يغلق الأبواب، ففشلت في فتحهِ، التفتت نحوه و هي تزفر في ضيق:
- أوف!
فقال ناصحًا و هو يلتفت نحوها ليمنحها نظرة عميقة مشبعة بالنيران و هو يدير المقود منحرفًا لطريق جانبيّ:
- ارجعي لنفسك يا ولاء.. ارجعي لنفسك قبل ما يفوت الأوان و تخسريها
و أشار لساقها بعينيهِ و هو يقول بلهجة جادة:
- و لو على رجلك متقلقيش.. اتواصلت مع دكتور عظام ألماني.. لكن هو حاليًا في روما، تتحسن والدتك و بعدين هسفرك
و صمت هنيهة ثم تابع و هو يحيد بنظراته عنها:
- متفكريش إني ناسي أو مطنش.. ده دين في رقبتي هسددهولك
فهدرت بهِ و قد أوغر صدرها ذلك الشعور:
- انت شايفني شحاتة بتعطف عليها، أنا مش عايزة منك حاجة
فجأر باحتدام:
- ولاء
فقالت مُحتدة و قد احتقنت الدماء في عينيها:
- بلا ولاء بلا زفت.. أنا مش عايزة منك حاجة، تمام؟
و صمتت هنيهة تلتقط أنفاسها اللاهثة، ثم أجابته باستهجان:
- تعرف.. هو فعلًا معمليش حاجة عشان أحبه، و كل تصرفاته معايا كانت غبية و كلامه زي السم، و أكيد مش أحسن منك.. لأن انت و هو أساسًا لا تمتان للإنسانيّة بصلة، و مش عارفة أنا حبيته على إيه!
و التفتت لتنظر من زجاج النافذة و هي تقول متذمرة:
- جاوبت سؤالك خلاص؟.. دلوقتي نزلني
اعترافها بحبهِا الغير منطقي لا يعلم لمَ يُثير بداخله الحرد الشديد و الضغينة، زفر حاولًا تحرير بعضًا من اختناق صدره الذي أطبق عليه، حتى تنبّه لكلمتها تلك فكررها بشكل صحيح تلك المرة:
- تمتان!
فأومأت و هي تلتفت نحوه مردفة بتحدي:
- ايوة.. مؤنث تمت
فقال مستهجنًا و هو يعطف نظراته بينها و بين الزجاج الأماميّ:
- أنا عديتها المرة اللي فاتت.. لمي نفسك كده و اتعدلي عشان اسمها مثني يا جاهلة، مؤنث دي إيـه!
عقدت حاجبيها ثم أحنت بصرها عنه و هي تحمحم:
- احم.. بتلغبط بينهم
فتشدّق و قد ارتفع جانب ثغره بابتسامة ساخرة:
- بتلغبط؟.. أنا بقول تنزلي أحسن
رفعت نظراتها المغتاظة نحوه، ثم هدرت و كأنها أخذت كلمتهِ على محمل الجد:
- طب ما انت اللي حابسني!
فقال و قد فرغ مخزونهِ من الصبر:
- اتعدلي بقى يا بت متصدعينيش.. هي كلها عشر دقايق و أخلص من زنّك
ضاقت عيناها و هي تكرر كلمتهِ بحنق:
- بت!.. خلصت روحك، إيه بت دي كمان!
و لكنهُ عاد يلتزم ببرودهِ المُحرق للأعصاب و هو يُطلق صفيرًا خافتًا من بين شفتيه، فزمجرت غاضبة و هي تستدير بجسدها قائلة بصوت مسموع:
- مستفز
فأجابها ببلادة:
- عارف!
- أوف
................................................................
خطّت بقلمها توقيعها على تلك الورقة التي جلست تنتظر المحامي الخاص بـ "يامن" ريثما ينتهى منها، حينها كان قد أنبئها بضرورة الابتعاد عن اسمهِ بخصوص تلك الأرض تحديدًا و لم يُعرب عن شكوكهِ التي تتمثل في كونها الأحدث شرائًا إن اكتشف "نائف" فيسعى لتدميرها، و لم يكن أمامها خيارًا سوى الموافقة عقب أن سعى لطمأنتها.. و كأنها تثق أن رفيقه ذاك لن يتمكن من التمادي، و أن وجود "يامن" تحديدًا كافي ليخلصها من شكوكها، هو الأحقّ بالثقة حتى من أهلها عقب مواقفهِ معها، لذلك نوعًا ما تثق في أنهُ ليس سيئًا إلى ذلك الحد الذي تتخيله رفيقتها.
تركت "رهيف" قلمها و هي تتنهد في ضيق من تلك الخطوة التي أقدمت عليها، و لكنها لم تكن لتملك خيارًا آخر.. و ما خفف عنها انزعاجها هو ترقّبها لرؤية تعبيرات "راشد" فور أن يعلم أن الأرض لم تعد ملكها، و لا يحق لها استعادتها بأي شكل كان، حفزها ذلك الشعور قليلًا و أخمد غليل صدرها، ارتفعت أنظارها نحو "مايكل" الذي سحب الورقة و هو يتطلع إلى توقيعها، ثم تنبت إلى قول "يامن" الجامد:
- مش عايزك تقلقي.. في الوقت اللي تحدديه الأرض هترجع باسمك
و نظر نحو "مايكل" و هو يقول بلهجة ذات مغزى:
- و لغاية ما ده يحصل فهي بتاعتك.. مش مجرد توقيع زي ده هيغير الحقيقة
و تأمل قليلًا رفيقه و ابتهاجهِ الواضح و تهلل أساريرهِ، فنطق بحدة و هو يحكّ ذقنهِ بإبهامه:
- و لا إيه يا مايكـل؟
تنبّه "مايكل" فعقد حاجبيه و هو يرفع أنظاره عن الورقة، ثم غمغم ببلاهة:
- أتهدثني؟
تقوست شفتيّ "يامن" إزدراءً ثم أردف بقسوة:
- الأرض مش معنى إنها بقت باسمك يعني بتاعتك.. حط ده في دماغك كويس
- Okay.. I know that, just relax
رمقه بنظرة محذرة، ثم قال دون أن يلتفت حالما استمع للطرقات:
- ادخل
فدلفت "سهير" و هي تغمغم بخفوتٍ:
- ولاء هانم مشت مع فارس بيه
نظر نحوها "يامن" غير متفهمًا مغزى كلماتها:
- عارف
فحمحمت "سهير" و هي تقول:
- كنت بسأل حضرتك.. نحضر لرهيف هانم أوضة تانية و لا هتقعد في الأوضة اللي حضرناها لولاء هانم
فأشاح "يامن" ببصره نحوها و كأنه يسألها، فرفضت رفضًا قاطعًا:
- لا لا.. أوضة إيه يا أستاذ يامن؟
فقال "يامن" بنفاذ صبر:
- أكيد مش هسيبك تسافري في وقت زي ده
فغمغمت بامتنان:
- لأ مينفعش حقيقي.. حراسة حضرتك معايا، و كمان مقولتش لماما و هتقلق عليا
فنهض عن محلهِ تهيّئًا للانصراف و هو يقول بجفاء:
- مبحبش أعيد كلامي مرتين.. سهير معاكي شوفي اللي عايزاه اعمليه
توهجت وجنتيها حرجًا من فظاظتهِ، فقال "مايكل" محاولًا التخفيف عنها:
don’t care  - إنه فظّ في بعض الأحيان..
 حينما كان "يامن" يمضى للخارج مشيرًا لـ "سهير" لتدلف، توقف على عتبة الباب و هو يلتفت ليضيق عينيهِ، ثم هدر باسمهِ باحتداد:
- مايكـل
فالتفت الأخير و هو يُغضن جبينه متسائلًا بضيق:
- What?
- قاعد عندك تعمل إيه؟
فسحب "مايكل" الورقة لتكن بحوزتهِ و هو ينهض مودعًا إياها بابتسامة عابثة:
- إلى لقاء قريب
و ابتعد تتابعهُ نظراتها الغير مستريحة، للحظة أصابها الندم مما فعلت.. شعرت و كأنها فرطت في أرضها ببساطة، مجرد أن تشعر بذلك جعل اختناقها يتزايد، و كأن هنالك ما يطبق على صفحات قلبها، حتى انتبهت إلى "سهير" التي أقبلت عليها، فرفعت نظراتها إليها و هي تسألها رافعة حاجبيها:
- هو أنا كده مقدرش أرفض أقعد!
التوى ثغر "سهير" بابتسامة باهتة صغيرة ثم عرضت سؤالها:
- تحبي أحضر لحضرتك أوضة تانية؟
هزت "رهيف" رأسها نفيًا عدة مرات، ثم قالت متنهدة بحرارة:
- لأ.. لأ، أوضة تانية ليه؟
و خفضت صوتها و هي تنهض عن محلها:
- ممكن بس توريني مكانها و أنا هبقى ممتنة جدًا
سار "مايكل" في أعقاب" يامن" للخارج حيثُ البهو الفسيح و هو يسأله متشدقًا:
- ألا يمكنني المبيت أيضًا.. أرى أنك فتهت "فتحت" قصرك فندقًا خمس نجوم!
فنظر "يامن" نحوه من طرفهِ ثم قال معربًا عن شعورهِ نحوه:
- مش مرتاحلك.. ابعد عن البت و سيبها في حالها أحسن لك
و توقف عن سيره و هو يلتفت بكامل جسده إليه فتوقف "مايكل" بدوره، حذرهُ "يامن" بنظراتهِ قبل قوله الجاف:
- مايكـل.. مش معنى إن أرضها بقت بإسمك إنك تشوف ده طريق ليك معاها، أنا فاهمك كويس
حمحم "مايكل" ثم قال بارتباك طفيف:
- What do you say?
فأجابه "يامن" بصوت خشن:
- بقول اللي في دماغك.. البنت دي بالذات خط أحمر
و ربت بقوة على كتفه و هو يميل عليه قليلًا ليردف بلهجة قاتمة:
- متخلينيش أندم إني شيلتك المسؤولية دي يا مايكل، لأني لو ندمت.. هندمك معايا
و أنهى قولهِ بضغطة قوية كتحذير رفيق للغاية، ثم شرع يسلك طريقه للأعلى.
 في حين زمّ "مايكل" شفتيه بضيق أطبق على صدرهِ، ثم التفت و قد انقشع ضيقهُ حين رآها تخرج من غرفة المكتب.. عبرت "رهيف" من جواره دون أن توليه أي اهتمام حتى ابتعدت عنهُ تتبعها نظراته المهتمة، أثار استفزازهِ تحشّمها الزائد عن الحد و حجاب رأسها.. حيث لا يظهر منها سوى كفيها و مع ذلك تبدو رقيقة للغاية بثوبها الأسود الأنيق الذي يضيق حتى الخصر و ينسدل بتوسع بسيط للأسفل فلا يُجسد تفاصيلها و يصل بأكمامهِ حتى رسغيها، و طريقتها الغريبة في التعامل معهُ هو دونًا عن غيرهِ.. لاحظ أنها لا تنظر إليه كثيرًا، بل تكاد لا تنظر إليه حتى، و هو الذي اعتاد التهاتف عليه و ارتماء جنس حواء تحت أقدامهِ، و لم يعتد من قبل تلك المعاملة الـ"ـجافة" من إحداهنّ، فباتت و كأنها حالة خاصة، كلٌ أثار استفزازهِ و اهتمامهِ في نفس الآن.. و كأنها تفاحة محرمة بالنسبة إليه، و كم هو يتوق لتذوقها، و ما عليهِ سوى الصبر ليوقعها في الشرك الذي ينصبهُ من أجلها.
.......................................................
.................................
..............................................................................
 
 
"الفصل السابع و الخمسون"
ما ابتلى اللهُ عبدًا إلّا ليختبر مدى تجلده.. تحلّ بالصبر و لا تجزع، عسى الفرج أن يكون قريبًا.
______________________________________________
إنها تعيش الأسوء الذي لم تتخيّلهُ و لم ينحدر تفكيرها إلى تلك الدرجة منه.. الأسوأ على الإطلاق، لم تكن تدرك أن فقدانه سيفعل بها الأفاعيل، و أنها ستشعر بذلك الشعور الذي يصعب وصفهِ.
إنهُ ذلك القاطن بين الحنايا، تستشعر به فراغًا مريبًا و ألمًا رهيبًا، حتى تلك الدماء التي تسري في أوردتها تشعر و كأنها جمرات متوقدة ضخّها القلب الملتهب، و ها هي تراها أمامها تكاد تفقدها و لا يوجد أي تحسن ملحوظ بحالتها المتدهورة.
 انسلت من بين ذراعيه بصعوبة لترتكن برأسها على الوسادة و قد أمر بإحضار فراشًا لها بغرفة والدتها كي تكون برفقتها ، تركت وسادتها تتغذى على دموعها الغزيرة، و كتمت أنّة خافتة مشبعة بعذابها اللامتناهي في وسادتها عقب أن اختلست نظرة من بين دموعها المشوشة لعينيها إليها، سحب "يامن" مقعدًا.. ثم خلع عنه سترته و حل أزرار قميصه و قد شعر بحرارة ظهرهِ تتزايد و تُلهبه أكثر، و تركها على ظهر المقعد ثم جلس أمامها، سحب كفها و احتواهُ بكفهِ متلمسًا أناملها الرقيقة بأصابعه الخشنة، ثم رفع  كفها إلى شفتيه ليطبع قبلة حانية في باطنهِ، و بكفه الآخر كان ينزح خصلاتها المتناثرة بعشوائية على وجنتيها و تلمسهما نازحًا بعض من دموعها الحرقة و هو يغمغم بلهجة ثابتة منخفضة:
- كفاية
 وجهها تلاشى بياضه تقريبًا من فرط احمراره المتوهج و أنفها المنتفخ الأحمر.. و جفنيها قد حُددت خطوطهما و برزا أكثر من فرط دموعها الهاطلة منهما، دمائها احتُقنت في الشعيرات الدموية بعينيها فأكسبت بياضهما حُمرة جليّة، كل ذلك كان وقعه عليه عظيمًا و هو يرى تدهور حالتها لتلك الدرجة، احتفظ بباطن كفها على وجنتهِ المحترقة و هو يميل عليها بجذعه فحرمها فرصة اقتناص نظرة لوالدتها،  في حين كانت تنطق هي بمرارة من بين نشيجها الخافت:
- مش قادرة.. مش قادرة أستحمل أبدًا
فنطق محاولًا زرع الثقة بداخلها:
- هتستحملي.. و هتعيشي.. و هتنسي، لازم تنسي.. لازم تنسيه، لأنه ميستحقش دمعة تنزل من عينيكي عشانه
نظرت لعينيه مباشرة باستنجاد و هي تهز رأسها نفيًا:
- مش هقدر، أنا تعبانة أوي، انت مش حاسس بيا.. مش هتعرف أنا حاسة ازاي
فقال بلهجة متراخية و هو يمرر إبهامه على كفها:
- محدش حاسس بيكي قدي
فسألته و هي تقوس شفتيها بألم بالغ:
- انت نسيته؟ عرفت تنساه؟.. أنا هقدر أنساه؟ هفضل أحس بالعذاب ده لحد امتى؟ هيفضل الشعور ده جوايا يامن
تنهد بقنوط شديد  و هو ينحني أكثر ليستند بجبهتهِ على جبهتها فقالت بتحسر مستشعرة أنفاسه الحارة التي تلفح صفحة وجهها:
- هيفضل موجود.. صح؟ الشعور ده مش هيسيبني طول ما أنا عايشة؟
ابتعد عنها قليلًا ليتأملها بنظرات مُشفقة، ثم ألصق شفاههِ بوجنتها اليمنى ليطبع عليه قبلة حانية و هو يهمس بـ:
- يا ريت لو أقدر أعمل حاجة عشانك
فقالت بلهجة بائسة مريرة و هي تنتحب:
- حتى هي هتسيبني يا يامن.. حتى هي هتسيبني لوحدي، لو ماما حصل لها حاجة أنا مش هقدر أستحمل، لو حصل لها حاجة أنا ممكن أموت
مسح برفقٍ بالغ على وجنتها و هو يهمس:
- شـشـش.. متقوليش كده
فعادت تهمس من جديد متبعة قولها بأنين خافت:
- أنا عارفة انها هتسيبني لوحدي.. أنا عارفة إنها مش هتمشي و تسيبني
اعتدل قليلًا في جلسته و هو يُدثرها جيدًا.. ثم نزح دموعها و شرع يمسح على خصلاتها و هو يحثها على النوم قائلًا بلهجة جامدة:
- نامي.. حاولي ترتاحي شوية
فقالت و دموعها لا تكفّ عن الانسدال من جفنيها:
- مش هعرف.. مش هعرف أبدًا
و عادت تهمس باحباط شديد:
- أنا مش زيك.. مش هقدر أستحمل زي ما انت استحملت، أنا أضعف منك بكتير، أنا ضعيفة أوي
أخفض كفهُ المحتوى لكفها و هو يملأ فراغاتهِ بأناملهِ مطبقًا عليه، ثم أردف بلهجة ثابتة:
- مينفعش تضعفي.. لازم تبقى أقوى من كده
فرمقته بنظرة قانطة و هي تهمس بمرارة:
- مش عارفة.. أنا تعبانة أوي
و وضعت كفها على موضع قلبها و هي تحاول شرح ما يعتمل فيهِ:
- قلبي بيوجعني أوي يا يامن
طرد زفيرًا حارًا مشبّعًا بمشاعر الألم البالغ الذي يضجّ به صدره، ثم شدد من احتوائهِ لكفها.. و نزح مجددًا عبراتها الحارة و هو يهمس بلهجة آمرة:
- تعالي
فنهضت نصف جلسة  لتحيط ظهره بذراعيها دافنة نفسها في أحضانهِ، كبت تأوههِ من فعلتها و هو يحتوى جسدها بذراعيه، حينما كانت تمرغ رأسها في صدره مستكملة نحيبها و شهقاتها المُدمية لقلبه، حتى مضت فترة و كانت تشعر بالخور يصيبها،.. فخبت صوتها و أناتها فغفت بين ذراعيه متأثرة بآلام روحها المقيتة، و أناملهُ لا تكفّ عن العبث بخصلاتها.
أبعدها عنه بحذر و هو يستقيم في وقفتهِ ليمدد جسدها مركنًا رأسها إلى الوسادة المريحة، ثم دثرها جيدًا، و انحنى ليترك قبلة عابرة على خصلاتها، ثم انتصب مجددًا و هو يلتفت إثر ذلك الصوت الخافت الذي اخترق مسمعهِ:
- يـ..ـامن
تحرك نحوها على الفور فكانت تنزع عن وجهها قناع التنفس و هي تنظر نحوهُ متأثرة بذلك التشوش المصيب رؤيتها، فسألها "يامن" بجدية شديدة:
- حاسة بإيـه؟
- يـ..ـامـ..ـن
التوى ثغرها بابتسامة باهتة للغاية و هي تهمس لهُ بعسرٍ بالغ:
- تعرف إن اسمك أنا اللي اختارته!.. يوسف خد الاسم اللي كنت هسميه لابني، لو كان عندي ولد!
جلس جوارها على طرف الفراش متنهدًا بثقل جثى على صدره، فسألتهُ بيأس و قد تلاشت بسمتها:
- مات؟ صح؟
و لم يجبها سوى بنظرة انبثقت من عينيه، فرمشت مرة واحدة و هي تقول بخفوت عسير:
- أنا.. عارفة، كنت حاسة بده، كنت حاسة انه سابني حتى و أنا مش في وعيي!
و نظرت نحو السقف ثم غمغمت بحبور متلكئ:
- لكن.. مش زعلانة ابدًا، لأني عارفة إني هروحله قريب
فشدد "يامن" من لهجتهِ و هو يقول:
- حبيبة.. اوعي، أنا مش هسيبك تعملي ده
و أشار لابنتها الغافية بإنهاك شديد، ثم قال بلهجة حالكة:
- مش هسيبك تعملي ده في بنتك يا حبيبة!
فنظرت نحوه من طرفها مدمدمة بتقوس بسيط بشفتيها محاولة الابتسام:
- مش بإيدي يا ابني.. أنـ..
فسألها حينئذ مقاطعًا حديثها بلهجة مُتهمة:
- و لا هي مش بنتك؟
رمشت عدة مرات دون أن تمنحه إجابة شافية، فأردف مُطبقًا أسنانه:
- ردي يا حبيبة.. يارا بنت مين؟
حادت بنظراتها عنه لتحدق في السقفية و هي تقول بعُسر بالغ:
- خد بالك منها.. مش عايزة غير حاجة واحدة منك يا يامن
و تحشرج صوتها أكثر و هي تحاول التقاط أنفاسها:
- لو متت.. ادفني مع يوسف!
و ارتخى جفنيها لتنسال تلك الدمعة من بينهما عموديًا بجوار أذنها سابحة في ملكوت آخر و تاركة إياه يعاني من الأفكار السوداويّة، ظل محدقًا بها لبرهة بنظرات شبه مشدوهة لقولها الغريب ثم حاد بناظريه عنها و هو يحكّ عنقه بانفعال، ارتكز بصرهُ على معذبة قلبه فتنهد بضيق بالغ:
- مش هسيبك تقضي على اللي باقي منها يا حبيبة،.. مش هسيبك تتسببي في عذاب تاني ليا، كفاية أوي اللي اتسببتي فيه!
.................................................
- لا حول و لا قوة إلا بالله.. هي صاحبتك دي مكتوب عليها الشقى طول العُمر
زفرت "رهيف" زفيرًا حارًا ثم أتبعته بـ:
ـ أنا ماليش فيه يا ماما.. لازم أكون جمبها
ربتت "سُعاد" على ركبتها ثم قالت متنهدة:
ـ أنا هكلم جدتك
فتلوت شفتيّ "رهيف" باستهجان و هي تقول:
ـ أومال اخر قرار جدتي خدته عشات فرحي كان امتى ان شاء الله
نظرت "سعاد" نحوها بضيق بيّن ثم نطقت بانزعاج:
ـ لسه.. ما انتى عارفة ازاي بحاول بكل الطرق أقنعها يا رهيف، أعمل ايه تاني؟
زفرت "رهيف" زفيرًا مختنقًا.. ثم نظرت من خلال زجاج غرفتها للخارج بشرود و هي تقول بحنين شديد:
ـ امتى بقى أخلص من الكابوس ده و أرجع حياتي
و نظرت نحوها و هي تحتوى كفيها قائلة بابتسامة تلوح على أطراف شفتيها:
ـ و نرجع بيتنا.. وحشني البيت أوي، كل حاجة فيه وحشتني
ربتت "سعاد" على كفيها و هي تترك زفيرًا حارًا أعقبته بـ:
ـ أكيد في حل يا رهيف.. أنا مش هسيبك تضيعي عشان أنانية جدتك
و لوت ثغرها ببسمة مُطمئنة و هي تتمتم:
ـ و متقلقيش..أنا هقنعها تسافري ليارا تاني تعزيها
فسحبت "رهيف" كفيها و هي تنطق باكفهرار:
ـ و حتى لو رفضت.. أنا مش مستنية رأيها، أنا معايا حراسة يامن و هروح و أرجع بسرعة
و شددت من لهجتها و هي تقول محذرة:
ـ و المرة دي استحالة أوافق الزفت راشد ييحي معايا لو عملت فيا إيه.. خلاص يا ماما؟ كفاية اني استحملت غباوته معايا و مع الحراسة طول الطريق، مش هعيده تاني
فعاتبتها قليلًا و هي تعقد حاجبيها:
ـ يا بنتي مش خايف عليكي بعد اللي حصل لك! و جدتك كمان خايفة عليكي عشان كده صممت راشد يكون معاكي
ارتفع جانب ثغرها باستهزاء و هي تحيد بأنظارها عنها ثم تشدقت بـ:
ـ لأ أصيل راشد و الله.. ربنا يخليه لجدته
.................................................................
كم كان صعبًا عليه أن يُقيم سُرادق عزاء قاتل والدهِ بقصره الذي قضى عليه به، و يقف متلقيّا واجب العزاء فيه.. و لكنهُ من أجلها.. فقط من أجلها.
و انتبه إلى اهتزاز هاتفه معلنًا عن اتصال هاتفي، فتغضن جبينه و هو يخرجه ليرى اسمها منبثقًا أمامه، فقال "فارس" عاقدًا حاجبيه بجهم واضح:
ـ مالك في ايه؟
ـ اتصال مهم.. هرد و ارجع
و انسحب من الوسط تمامًا.. حتى التقاها في نقطة خلفيّة من القصر، اقبل عليها حتى توقف أمامها مباشرة، فالتفتت "هوليا" لتجده خلفها.. فسألها "يامن" باستهجان واضح:
ـ ايه اللي هببتيه ده؟.. هو ده اللي اتفقنا عليه
فبررت له باختناق و هي تحنى بصرها:
ـ مقدرتش.. مقدرتش أكمل التمثيلية دي و أكلمه بكل برود من غير ما أحسسه اني عارفة حاجة، مقدرتش أبدًا
و نظرت لعينيه مباشرة و هي تسأله بتحير:
ـ لكن ازاي ده حصل؟.. أكيد البيت متحرقش لوحده
فقال متجاوزًا سؤالها بلهجة مُشتدة:
ـ اسمعي يا هوليا.. يارا مش هتعرف أي حاجة عن أبوها و لا حتى عنك، عظيم؟
انعقد حاجبيها بعدم فهم ثم سألته مستنكرة:
ـ يعني ايه؟ هتخبي عنها؟
نظر لعينيها مباشرة نظرة مطولة.. ثم حاد ببصره عنها ليردف بامتعاض:
ـ انتي السبب في نجاته مني يا هوليا
اتسعت عيناها بشدوه و هي تشير لنفسها بسبابتها:
ـ أنا!
أجابها و هو ينظر في سعة يده بفظاظة:
ـ أيوة انتي.. متهيألي انك اتأخرتي
ضاقت عيناها غيظًا و هي تقول باستنكار:
ـ بتطردني
قوس شفتيه مشيحًا ببصره عنها، حكّ بإبهامه ذقنه ثم قال هازئًا:
ـ معتقدش انك جاية تعزي في حسين يا هوليا
فزمت شفتيها بضيق ثم أردفت متسائلة بتنهيدة حارة:
ـ حبيبة حصل لها ايه؟
حاد ببصره عنها و هو يقول باقتضاب:
ـ في المستشفى.. حالتها مستقرتش
فأفضت لديه القول بشعورها:
ـ على الرغم من اني مش طايقاها.. إلا اني مش راضية عن نهايتها بالشكل ده
تقوست شفتيّ يامن بقسوة مستنكرًا::
ـ مش طايقاها!.. على أساس هو اتجوزها عليكي مثلًا، انتي.. انتي اللي اتجوزك عليها يا هوليا!
تأففت بضيق حطّ على رئتيها ثم نطقت بنفور و هي تشيح ببصرها عنه:
ـ مش عايزة افتكر ابدًا.. أنا بقول أمشى أفضل
و تهيّأت للرحيل و هي تضبط حقيبتها على كتفها، فحذرها و هو يطبق على ساعدها بأناملهِ:
ـ هُوليا.. معتقدش كلامي في حاجة متفهمتش
فأومأت و هي تقول خاضعة لأمره:
ـ حاضر.. مش هتعرف
و أشاحت بناظريها عنه و هي تقول بتمقُّط:
ـ اللي عايزاها تعرف خلاص عرفت، مش هستفيد حاجة لو يارا عرفت أو لأ
فأرخى أنامله عنها و هو يردد بلهجة حالكة:
ـ عظيم.. كويس انك عارفة ده
ـ عن إذنك يا يامن
و برحت محلها منصرفة، حينما كان "مايكل" يُقبل عليه.. تغضن جبينه و هو يتابع رحيل تلك السيدة الأنيقة، ثم التفت إليه و هو يسأل باسترابة:
ـ ?Who is she
تابعتها نظرات "يامن" المتأججة حتى تلاشى طيفها.. ثم حرف نظراته إليه و هو ينطق بجديّة:
ـ سيبك منها.. عايزك
فتسائل بفضول موجز و هو يضيق عينيه:
ـ  فيمَ؟
حكّ "يامن" صدغهِ ثم أردف و هو يشير بيعينه:
ـ لسه حاطط في دماغك الأرض و لا صرفت نظر؟
فتحمّس "مايكل" للغاية و هو يجيب:
ـ OF course no .. مازلتُ أريدها
فأومأ "يامن" و هو يبرر لهُ بانزعاج:
ـ تمام، هكلمها و أشوف رأيها ايه، مش هينفع أبقى مسؤول عن موضوعها في وقت زي ده
و أشار بسبابته و هو يحذره:
ـ خد بالك يا مايكل.. الأرض دي أمانة في رقبتك
فطمأنهُ "مايكل" و قد تزيّن محياه ببسمة واسعة:
ـ Don’t worry man
و ضاقت عيناهُ و هو يسأل بفضولٍ:
ـ و لكن أخبرني ما سبب تغيير رأيك المفاجئ.. كنت ترفض رفضًا قاطعًا
فـ حاد بناطريه عنه و هو يقول بامتعاض:
ـ مش فايق خالص للموضوع ده، كمان مينفعش أعمل كده فيها
منحهُ "مايكل" نظرة مبهمة.. فكان "يامن" ينظر أمامه بغموض و هو يتمتم معربًا عما يجول بخاطره:
ـ ابن الـ**** ده لو عرف بوجود رهيف اللي تعتبر أقرب واحدة ليارا مش هيسيبها.. خلي الأرض دي باسمك أضمن
على الرغم من كونه لم يفهم مرادهِ تحديدًا.. و لكنه لم يرد التدخل فيما لا يعينه، و لكن التفاتة "يامن" إليه و تلك النظرة المهددة التي أتبعها بقولهِ المحذر:
ـ مايكـل
ـ ?What
ربت "يامن" على كتفه بقوة و هو يقول بلهجة ثاقبة:
ـ أنا وثقت فيك و أمنتك على ارض البنت.. يا ريت بس تحاول تلعب بديلك
تقوست شفتي "مايكل" و هو يسأل معربًا عن ضيقه:
ـ  What are you meaning?
فأحابه بلهجة قاسية و هو يضغط على كتفه:
ـ انت عارف قصدي كويس.. رهيف مش النوع إياه، خد بالك
فأزاح " مايكل" كفه عنه و هو يردف بسلاسة زائفة:
ـ Calm down man..I know that
" اهدأ يا رجل، أدرك ذلك"
و أخفض نبرتهِ و هو يبستم بمكر:
ـBut, What about trying?
" ولكن.. ماذا عن المحاولة؟"
.......................................
و ها هي تعُود كما كانت عقب انهيار تام مختزنة ذاك الكمّ من المشاعر المكلومة في قلبها ، مظهرة فقط وجهًا ذابلًا و عينان منتفختان لا تسيل منهما دمعة واحدة..
تجلس بجسد و كأنهُ خاوٍ من الروح تتلقى العزاء في والدها من أناس لا تراهم.. و لا تشعر بهم و لا تكاد تعرفهم، فقط أطياف تمر من أمامها جيئة و ذهابًا يُلقون بضع كلمات لا تدركها و لم تكلف نفسها عناء تمييزها، حتى حضرت "رهيف".. تفاجأت الأخيرة بحالتها المريبة تلك، حينما كانت هي تردف باستهزاء شابهُ المرارة عقب كلمات مواسية من "رهيف" لم تسمن و لم تغني من جوع:
ـ ضيعت حياتي عشانه.. و برضو مقدرتش أنقذه
ربتت "رهيف" على كفها برفقٍ و هي تقول:
ـ ده قضاء و قدر يا حبيبتي.. عمره كده
فنظرت نحوها نطرة متوهجة:
ـ لأ.. مش عمره، و انتي عارفة ده، البيت حد حرقه
فأحابتها "رهيف" متنهدة بضيق أثقل من كلماتها:
ـ عارفة.. أكيد نائف
ـ تـؤ.. مش نائف
فازدردت "رهيف" ريقها توجسًا.. نظرت نحوها مردفة بخشية:
ـ يارا.. اوعي تكوني بتفكري في جوزك
ـ و لا يامن
نظرت "رهيف" نحوها نظرة مطولة محاولة سبر أغوارها و حالما فشلت سألتها في استرابة:
ـ يارا.. انتي في إيه في دماغك بالظبط؟
نهضت عن مقعدها بانهاك و هي تغمغم:
ـ مش قادرة.. أنا طالعة فوق
و برحت محلها بالفعل لتصعد للأعلى على الرغم من محاولات "رهيف" لاستبقائها، تلفتت "رهيف" حولها باحثة عن شخص بعينه حتى وجدتها.. فمضت نحوها بخطوات مرتبكة حتى جلست أمامها.
فكرة أن تكون بقصرهِ و هي لا تملك فيه أي حق عسيرة للغاية عليها، تمنت لو كان بمقدورها عدم الحضور، و لكنها وجدت نفسها هنا دون أي اعتراض، لم تنتحب.. و لم تبكي حرقة، فقط بضع دموع تنسال على وجنتيها و كأن ما فعله بها صباح اليوم كان كافيًا ليُميت إحساسها تمامًا، فاقم_ دون قصد_ شعورها و كأنها منبوذة بسبب إعاقتها التي أُلحقت بساقها، دعس كرامتها ببساطة و مضى غير مباليًا بها، شعرت و كأن جذوة الانتقام بداخلها تضطرم أكثر و أكثر... زمّت "رهيف" شفتيها ثم نطقت بحذر و هي تحاول مواساتها مربتة على كفها:
- البقاء لله يا ولاء
نظرت نحوها "ولاء" بأعين مشوشة ، و ما إن تعرفت عليها حتى تلوت شفتيها سخطًا، ثم حادت بنظراتها بعيدًا عنها دون أن تجيبها، فاحتوت "رهيف" كفها بضغطة خفيفة و هي تقول بهدوء:
- ربنا يصبرك على فراقه
فأجابتها باقتضاب واضح و هي تنزح دموعها بمحرمة ورقية:
- يا رب
..................................................................
كان الجمع قد بدأ ينفضّ.. و السيدات تنسحبن من القصر واحدة تلو الأخرى، حتى لم يبقَ سوى "ولاء" و "رهيف" التي نهضت من محلها و هي تودع "ولاء" منتوية الرحيل، و ما إن شرعت تتحرك للخارج حتى وجدتهُ أمامها، تغضن جبينها حين سألها باهتمام واضح:
-  How are you?
فأجابته و هي تحيد بنظراتها عنه بسخافة:
- fine..ممكن أعدي؟
فقال بعبث واضح، لا يناسب إطلاقًا تلك الأجواء الكئيبة:
- أأنا ضخم لتلك الدرجة فأقطع طريقك.. أعتقد أن يمكنكِ المرور من جواري
توهجت وجنتيها غيظًا منه، ثم تشبثت بحقيبتها بحركة عنيفة و هي تتنحى للجانب قليلًا لتمر فتبعها فتحركت يسارًا فتبعها أيضًا، فتوقفت محلها و هي ترمقه بنظرات مستشاطة قائلة باحتداد:
- لو سمحت.. أنا مبحبش الطرق دي
فقال عاقدًا حاجبيه ببراءة:
- و ماذا فآلت "فعلت"؟.. أريد المرور أيضًا
زفرت "رهيف" حانقة، ثم تحركت لتمر أخيرًا من جواره.
حينما كان "فارس" يخُط بقدمه داخل القصر، بحث عنها بعينيهِ و هو يدخل حتى و أخيرًا وجدها، و على عكس ما توقع كانت تنهض عن محلها فور رؤيتها له و هي تضمّ وشاحها الحريري الأسود إلى صدرها، ثم قالت حين توقفت أمامه مباشرة بلهجة خالية من الحياة:
- أنا عايزة أمشي من هنا.. هروح لماما
فقال متنهدًا بحرارة و هو يحاول استبقائها:
- ولاء.. في أوضة متجهزة مخصوص عشانك
أشاحت بنظراتها عنه و هي تمسح وجهها بالمحرمة ثم نطقت بجفاف:
- لا.. مش عايزة، أنا عايزة أكون جمبها
فأشار إليها و هو يعرض عليها:
- طب تعالي.. هوصلك
و للعجب أنها لم ترفض، حيث أجابته طواعية و هي تلتفت:
- حاضر، ثواني هجيب شنطتي
.......................................................
توقفت أمامه على عتبة القصر تحديدًا في حين كان يدلف هو ليقف بالداخل فسألته بلهجة عذبة سؤالًا عابرًا قبل أن تخرج:
- ازيك يا أستاذ يامن؟
فسألها مباشرة و عيناه تتجولان هنا و هناك بحثًا عنها:
- يارا فيـن؟
تنهدت بحرارة معقبة و هي ترفع نظراتها للأعلى:
- طلعت.. قالتي انها عايزة ترتاح
استقرّت نظراته بالطابق العلويّ.. حرر زفيرًا مختنقًا من أسره بصدره حينما كانت "رهيف" تنظر لساعة يدها:
- أنا لازم أمشي، هحاول آجي بكرة ممكن تكون أفضل شوية
فردد و هو يلتفت نحوها مستوقفًا إياها:
- استني.. عايزك في موضوع الأرض
و أشار لغرفة مكتبهِ و هو يقول:
- تعالي معايا
..................................................................
طوال الطريق صامتة.. مُرتكنة برأسها إلى الزجاج المجاور لها، بينما هو يعاني.. تلك الفكرة التي تستحوذ على ذهنهِ بأن يكون ما قال "يامن" صحيحًا تجعله يشتاط، فقط لتمر أيام العزاء الثقيلة على قلبهِ و سيطالبه بذلك الدليل من فورهِ، حتى أنه لا يتمكن من الترقب لتلك الفترة، كلاهما شاردًا، و كلاهما يحمل من الهمّ ما تفيض به نفسه.
استشعر "فارس" و كأن هنالك ما أطبق على صدرهِ، فأخفض الزجاج المجاور له و هو يحاول جاهدًا استنشاق الهواء النقيّ من حولهِ، استند بمرفقهِ على حافة النافذة و أصابعه قد بدأت تتكور على المقود، استشعرت "ولاء" و كأن سرب من الهواء أحاط بها، ضمّت طرفي شالها معًا و هي تلتفت لتطلب منه:
- ينفع تقفل الشباك؟
بدا أنه لم يستمع إليها، تأملت ملامحه المظلمة و قد تغضن جبينها، ثم اعتدلت في جلستها قليلًا لتناديه:
- فارس؟
تنبه حين نطقت اسمهِ فالتفت نحوها و هو يسألها:
- كنتي بتقولي حاجة؟
أشارت بعينيها للنافذة و هي تردد:
- بسألك.. ينفع تقفله؟
- طيب
و عاد يغلقه مجددًا و قد استثقل ذلك، في حين كانت تلتفت مجددًا لتستند برأسها على الزجاج، و ساد صمت ثقيل، حتى قطعتهُ بقولها المُحبط و هي تلتفت له على حين غرة:
- هو أنا وحشة؟
- أكيـد!
و كان وقع كلمتهِ المباغتة عليها عظيمًا، توقفت الكلمات على أطراف لسانها و قد حفّت الدموع عينيها، حينما التفت إليها ليقول بلهجة جادة:
- زمان كنتي بالنسبة لي أجمل انسانة قابلتها في حياتي.. لكن بصراحة، دلوقتي إنتي معاقة
كلماتهِ كانت تصيبها في مقتل، أحنت نظراتها عنه و هي تردف باستهجان من بين دموعها المتساقطة:
- انت السبب.. و جاي دلوقتي تقولي معاقة! انت اللي دوستني، انت اللي عملت كده فيا!
حكّ صدغهِ ببرود و هو ينظر للطريق أمامه:
- معاقة من جوا!.. مشوهة، مش بس معاقة
فارتفعت نظراتها المشدوهة نحوهُ غير مصدقة ما قاله توًا، ثم أشاحت بناظريها عنه و هي تردف بتبرم نازحة دموعها:
- أنا معملتش حاجة
فكان ردّه جامدًا دون حتى أن يمنحها نظرة واحدة:
- عملتي كتيـر.. من أول ما فكرتي في جوز أختك بدأت صورتك تتغير في عيني!
فهدرت بهِ رافضة ما يقول:
- كفايـة، أنا معملتش فيها حاجة!
و تابع بلا اكتراث لقولها:
- اللحظة اللي شوفتك فيها لابسة هدوم متلبسهاش غير بنات الليل.. اللحظة اللي لاقيتك فيها جوا الديسكو بين الـ***** اتشوهت صورتك في عيني أكتر و أكتر
و نظر نحوها نظرة قحت شررًا و هو يردف بلهجة ذات مغزى:
- اللحظة اللي جريتي فيها عليه و لا كأنه هياخدك في حضنه، مبقيتيش بس مشوهة.. انتي بقيتي مسخ في عيني!
فاضت دموعها أنهارًا و هي ترمقه بعتاب مرير، فأشاح بناظريه عنها و هو يقول بلهجة متصلبة:
- يا ريت كفاية تشوهي نفسك بنفسك أكتر من كدا!
فقالت محاولة التبرير و هي تبكي بحرقة:
- أنا معملتش حاجة.. مأذنبتش، أنا حبيت
فجأر بها و قد كان لكلمتها و قعًا عظيمًا عليهِ:
- حبيتي ميـن؟ يامـن؟ ليــه؟ عملك إيه عشان تحبيه!
ارتفعت شهقاتها و هي تحيد ببصرها عنه في حين انخفضت نبرته قليلًا و هو يهتف باستنكار موزعًا النظرات بينهما و بين الطريق:
- قوليلي على حاجة واحدة عملهالك خلاكي تقعي في غرامه؟.. اتكلمي، ساكتة ليه؟
و طال صمتها فلم يصدر عنها سوى نهنهاتها الخافتة، فسخر منها بجفاء و هو يقوس شفتيه:
- طبعًا.. هتردي تقولي إيه؟ انتي عندك حاجة تتقال!
فاض بها الكيل، فنزحت دموعها بظهر كفها و هي تردد بلهجة شبه مبحوحة محاولة التماسك:
- وقف العربية.. وقف العربية و نزلني
لم يعرها اهتمامًا.. و كأنه اكتفى بسكب الملح على جرحها المفتوح و تركها خرقة بالية، فأطبقت أسنانها و قد توهجت وجنتيها ثم هدرت و هي تضرب الباب:
- وقف العربية قولت.. أنا غلطانة إني وافقت توصلني
و كأنها سرابًا لا حقيقة ملموسة، فقالت متوعدة و قد فرغ صبرها:
- تمام.. هنزل أنا بطريقتي
 و بهوجائيّة  كادت تفتح الباب لتثب خارج السيارة، و لكنه تدارك الأمر و هو يغلق الأبواب، ففشلت في فتحهِ، التفتت نحوه و هي تزفر في ضيق:
- أوف!
فقال ناصحًا و هو يلتفت نحوها ليمنحها نظرة عميقة مشبعة بالنيران و هو يدير المقود منحرفًا لطريق جانبيّ:
- ارجعي لنفسك يا ولاء.. ارجعي لنفسك قبل ما يفوت الأوان و تخسريها
و أشار لساقها بعينيهِ و هو يقول بلهجة جادة:
- و لو على رجلك متقلقيش.. اتواصلت مع دكتور عظام ألماني.. لكن هو حاليًا في روما، تتحسن والدتك و بعدين هسفرك
و صمت هنيهة ثم تابع و هو يحيد بنظراته عنها:
- متفكريش إني ناسي أو مطنش.. ده دين في رقبتي هسددهولك
فهدرت بهِ و قد أوغر صدرها ذلك الشعور:
- انت شايفني شحاتة بتعطف عليها، أنا مش عايزة منك حاجة
فجأر باحتدام:
- ولاء
فقالت مُحتدة و قد احتقنت الدماء في عينيها:
- بلا ولاء بلا زفت.. أنا مش عايزة منك حاجة، تمام؟
و صمتت هنيهة تلتقط أنفاسها اللاهثة، ثم أجابته باستهجان:
- تعرف.. هو فعلًا معمليش حاجة عشان أحبه، و كل تصرفاته معايا كانت غبية و كلامه زي السم، و أكيد مش أحسن منك.. لأن انت و هو أساسًا لا تمتان للإنسانيّة بصلة، و مش عارفة أنا حبيته على إيه!
و التفتت لتنظر من زجاج النافذة و هي تقول متذمرة:
- جاوبت سؤالك خلاص؟.. دلوقتي نزلني
اعترافها بحبهِا الغير منطقي لا يعلم لمَ يُثير بداخله الحرد الشديد و الضغينة، زفر حاولًا تحرير بعضًا من اختناق صدره الذي أطبق عليه، حتى تنبّه لكلمتها تلك فكررها بشكل صحيح تلك المرة:
- تمتان!
فأومأت و هي تلتفت نحوه مردفة بتحدي:
- ايوة.. مؤنث تمت
فقال مستهجنًا و هو يعطف نظراته بينها و بين الزجاج الأماميّ:
- أنا عديتها المرة اللي فاتت.. لمي نفسك كده و اتعدلي عشان اسمها مثني يا جاهلة، مؤنث دي إيـه!
عقدت حاجبيها ثم أحنت بصرها عنه و هي تحمحم:
- احم.. بتلغبط بينهم
فتشدّق و قد ارتفع جانب ثغره بابتسامة ساخرة:
- بتلغبط؟.. أنا بقول تنزلي أحسن
رفعت نظراتها المغتاظة نحوه، ثم هدرت و كأنها أخذت كلمتهِ على محمل الجد:
- طب ما انت اللي حابسني!
فقال و قد فرغ مخزونهِ من الصبر:
- اتعدلي بقى يا بت متصدعينيش.. هي كلها عشر دقايق و أخلص من زنّك
ضاقت عيناها و هي تكرر كلمتهِ بحنق:
- بت!.. خلصت روحك، إيه بت دي كمان!
و لكنهُ عاد يلتزم ببرودهِ المُحرق للأعصاب و هو يُطلق صفيرًا خافتًا من بين شفتيه، فزمجرت غاضبة و هي تستدير بجسدها قائلة بصوت مسموع:
- مستفز
فأجابها ببلادة:
- عارف!
- أوف
................................................................
خطّت بقلمها توقيعها على تلك الورقة التي جلست تنتظر المحامي الخاص بـ "يامن" ريثما ينتهى منها، حينها كان قد أنبئها بضرورة الابتعاد عن اسمهِ بخصوص تلك الأرض تحديدًا و لم يُعرب عن شكوكهِ التي تتمثل في كونها الأحدث شرائًا إن اكتشف "نائف" فيسعى لتدميرها، و لم يكن أمامها خيارًا سوى الموافقة عقب أن سعى لطمأنتها.. و كأنها تثق أن رفيقه ذاك لن يتمكن من التمادي، و أن وجود "يامن" تحديدًا كافي ليخلصها من شكوكها، هو الأحقّ بالثقة حتى من أهلها عقب مواقفهِ معها، لذلك نوعًا ما تثق في أنهُ ليس سيئًا إلى ذلك الحد الذي تتخيله رفيقتها.
تركت "رهيف" قلمها و هي تتنهد في ضيق من تلك الخطوة التي أقدمت عليها، و لكنها لم تكن لتملك خيارًا آخر.. و ما خفف عنها انزعاجها هو ترقّبها لرؤية تعبيرات "راشد" فور أن يعلم أن الأرض لم تعد ملكها، و لا يحق لها استعادتها بأي شكل كان، حفزها ذلك الشعور قليلًا و أخمد غليل صدرها، ارتفعت أنظارها نحو "مايكل" الذي سحب الورقة و هو يتطلع إلى توقيعها، ثم تنبت إلى قول "يامن" الجامد:
- مش عايزك تقلقي.. في الوقت اللي تحدديه الأرض هترجع باسمك
و نظر نحو "مايكل" و هو يقول بلهجة ذات مغزى:
- و لغاية ما ده يحصل فهي بتاعتك.. مش مجرد توقيع زي ده هيغير الحقيقة
و تأمل قليلًا رفيقه و ابتهاجهِ الواضح و تهلل أساريرهِ، فنطق بحدة و هو يحكّ ذقنهِ بإبهامه:
- و لا إيه يا مايكـل؟
تنبّه "مايكل" فعقد حاجبيه و هو يرفع أنظاره عن الورقة، ثم غمغم ببلاهة:
- أتهدثني؟
تقوست شفتيّ "يامن" إزدراءً ثم أردف بقسوة:
- الأرض مش معنى إنها بقت باسمك يعني بتاعتك.. حط ده في دماغك كويس
- Okay.. I know that, just relax
رمقه بنظرة محذرة، ثم قال دون أن يلتفت حالما استمع للطرقات:
- ادخل
فدلفت "سهير" و هي تغمغم بخفوتٍ:
- ولاء هانم مشت مع فارس بيه
نظر نحوها "يامن" غير متفهمًا مغزى كلماتها:
- عارف
فحمحمت "سهير" و هي تقول:
- كنت بسأل حضرتك.. نحضر لرهيف هانم أوضة تانية و لا هتقعد في الأوضة اللي حضرناها لولاء هانم
فأشاح "يامن" ببصره نحوها و كأنه يسألها، فرفضت رفضًا قاطعًا:
- لا لا.. أوضة إيه يا أستاذ يامن؟
فقال "يامن" بنفاذ صبر:
- أكيد مش هسيبك تسافري في وقت زي ده
فغمغمت بامتنان:
- لأ مينفعش حقيقي.. حراسة حضرتك معايا، و كمان مقولتش لماما و هتقلق عليا
فنهض عن محلهِ تهيّئًا للانصراف و هو يقول بجفاء:
- مبحبش أعيد كلامي مرتين.. سهير معاكي شوفي اللي عايزاه اعمليه
توهجت وجنتيها حرجًا من فظاظتهِ، فقال "مايكل" محاولًا التخفيف عنها:
don’t care  - إنه فظّ في بعض الأحيان..
 حينما كان "يامن" يمضى للخارج مشيرًا لـ "سهير" لتدلف، توقف على عتبة الباب و هو يلتفت ليضيق عينيهِ، ثم هدر باسمهِ باحتداد:
- مايكـل
فالتفت الأخير و هو يُغضن جبينه متسائلًا بضيق:
- What?
- قاعد عندك تعمل إيه؟
فسحب "مايكل" الورقة لتكن بحوزتهِ و هو ينهض مودعًا إياها بابتسامة عابثة:
- إلى لقاء قريب
و ابتعد تتابعهُ نظراتها الغير مستريحة، للحظة أصابها الندم مما فعلت.. شعرت و كأنها فرطت في أرضها ببساطة، مجرد أن تشعر بذلك جعل اختناقها يتزايد، و كأن هنالك ما يطبق على صفحات قلبها، حتى انتبهت إلى "سهير" التي أقبلت عليها، فرفعت نظراتها إليها و هي تسألها رافعة حاجبيها:
- هو أنا كده مقدرش أرفض أقعد!
التوى ثغر "سهير" بابتسامة باهتة صغيرة ثم عرضت سؤالها:
- تحبي أحضر لحضرتك أوضة تانية؟
هزت "رهيف" رأسها نفيًا عدة مرات، ثم قالت متنهدة بحرارة:
- لأ.. لأ، أوضة تانية ليه؟
و خفضت صوتها و هي تنهض عن محلها:
- ممكن بس توريني مكانها و أنا هبقى ممتنة جدًا
سار "مايكل" في أعقاب" يامن" للخارج حيثُ البهو الفسيح و هو يسأله متشدقًا:
- ألا يمكنني المبيت أيضًا.. أرى أنك فتهت "فتحت" قصرك فندقًا خمس نجوم!
فنظر "يامن" نحوه من طرفهِ ثم قال معربًا عن شعورهِ نحوه:
- مش مرتاحلك.. ابعد عن البت و سيبها في حالها أحسن لك
و توقف عن سيره و هو يلتفت بكامل جسده إليه فتوقف "مايكل" بدوره، حذرهُ "يامن" بنظراتهِ قبل قوله الجاف:
- مايكـل.. مش معنى إن أرضها بقت بإسمك إنك تشوف ده طريق ليك معاها، أنا فاهمك كويس
حمحم "مايكل" ثم قال بارتباك طفيف:
- What do you say?
فأجابه "يامن" بصوت خشن:
- بقول اللي في دماغك.. البنت دي بالذات خط أحمر
و ربت بقوة على كتفه و هو يميل عليه قليلًا ليردف بلهجة قاتمة:
- متخلينيش أندم إني شيلتك المسؤولية دي يا مايكل، لأني لو ندمت.. هندمك معايا
و أنهى قولهِ بضغطة قوية كتحذير رفيق للغاية، ثم شرع يسلك طريقه للأعلى.
 في حين زمّ "مايكل" شفتيه بضيق أطبق على صدرهِ، ثم التفت و قد انقشع ضيقهُ حين رآها تخرج من غرفة المكتب.. عبرت "رهيف" من جواره دون أن توليه أي اهتمام حتى ابتعدت عنهُ تتبعها نظراته المهتمة، أثار استفزازهِ تحشّمها الزائد عن الحد و حجاب رأسها.. حيث لا يظهر منها سوى كفيها و مع ذلك تبدو رقيقة للغاية بثوبها الأسود الأنيق الذي يضيق حتى الخصر و ينسدل بتوسع بسيط للأسفل فلا يُجسد تفاصيلها و يصل بأكمامهِ حتى رسغيها، و طريقتها الغريبة في التعامل معهُ هو دونًا عن غيرهِ.. لاحظ أنها لا تنظر إليه كثيرًا، بل تكاد لا تنظر إليه حتى، و هو الذي اعتاد التهاتف عليه و ارتماء جنس حواء تحت أقدامهِ، و لم يعتد من قبل تلك المعاملة الـ"ـجافة" من إحداهنّ، فباتت و كأنها حالة خاصة، كلٌ أثار استفزازهِ و اهتمامهِ في نفس الآن.. و كأنها تفاحة محرمة بالنسبة إليه، و كم هو يتوق لتذوقها، و ما عليهِ سوى الصبر ليوقعها في الشرك الذي ينصبهُ من أجلها.
.......................................................
.................................
..............................................................................
 
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now