"الفصل الخامس و الثلاثون"

697 32 12
                                    

" الفصل الخامس و الثلاثون"
تلك المرة العاشرة تقريبًا يطرق فيها باب منزلها المكون من طابق واحد أرضي، تغضن جبينه و هو يدور حول المنزل فتأكد من عدم تواجدها من النوافذ، فالأضواء بالداخل غير مشعلة، تخصّر و هو يزفر حانقًا و قد أصابه الامتعاض، ثم راح يهاتف عمته التي أجابته بتلهف شديد:
- ها يا راشد ،عملت إيه؟
أجابها بقنوط:
- بنتك دي أغبى إنسانة شوفتها في حياتي يا عمتي! مهاش في البيت!
ارتفع حاجبيها و قد شلت الصدمة عضلات لسانها، فراح "راشد" يتلفت حوله ليقول بنبرة حذرة:
- متعرفيش ممكن تكون راحت فين؟
شعرت "سُعاد" و كأن تروس ذهنها قد أصابها الصدأ، رمشت عدة مرات ثم غمغمت و كأنها لم تستوعب بعد:
- مش البيت إزاي يا راشد؟ أكيد راحت تجيب حاجة و شوية هتيجي!
تنهد بضيقٍ، ثم أجابها:
- معرفش.. معتقدش، أنا كنت حاسس إني مش هلاقيها، متبقاش رهيف لو معملتش كده
دلّكت جبينها بكفها و هي تهمس بضياع شديد:
- طب و بعدين؟ أعمل إيه؟
فحفزها لمحاولة التفكير:
- حاولي تفكري يا عمتي، حد من أصحابها، قرايبها، أي حاجة
تقوست شفتيها بضيق ثم أردفت و قد تهالك جسدها على طرف فراشها:
- معرفش.. مش قادرة أفكر أبدًا، أبدًا
................................................................
أجبرها أن تنظر نحوه فتعجبت نظراته العميقة، هزت رأسها بحركة سلسلة متسائلة:
- نعم؟ عايز إيه من زفتة؟
صمت و لم يجد ما يقال.. بل أنه يجد، يجد الكثير و لكنهُ ألجم لسانه مجبرًا على ارتداء قناع الصلابة و الثبات المخفي قلقه خلفها، حتى طُرق الباب فأردف "يامن" و هو يلتفت نحوه:
- تعالى يا أحدب
دلف الكهل و هو يحمل صحنًا يحوى المياه و قطعة قماشية بيضاء صغيرة، ثم دنا منهما ليقول باهتمام:
- الكمادات اللي الدكتور وصى بيها، يمكن تخفف الوجع شوية لغاية ما تاخد دواها
سحب "يامن" الصحن من بين أنامله و هو يقول بثبات:
- خير ما عملت يا أحدب
ارتفع حاجبيها و هي تتابعه بأعين متوسعة هاتفة باستنكار:
- هو إيه اللي خير ما عملت أنا..
قاطع العجوز حديثها و هو يوجه كلماته البشوشة إليه:
- تؤمرني بحاجة تانية يا يوسف؟
 دنا "يامن" بجسده منها و هو يعتصر القطعة القماشية تاركًا الصحن أعلى الكومود أثناء قولهِ:
- رجع "أشهب".. مش مكتوب لي أشوفه النهاردة تقريبًا!
ابتسم العجوز و هو يومئ قائلًا بوداعة:
- خلي بالك بس من مراتك، و أنا هتصرف مع أشهب متقلقش!
و وجه حديثهُ إليها:
- سلامتك ألف سلامة يا بنتي
أومأت بحرمة خفيفة شبه حانقة، حتى انسحب العجوز، فردد "يامن" بلهجة صارمة و هو يميل بجذعه عليها:
- تعالي
ابتعدت عنهُ أكثر ملتصقة بظهر الفراش من خلفها و هي تقول باحتجاج:
- أبدًا.. أبدًا تمام، أنا هعمل لنفسي
و حاولت أن تسحب القطعة القماشية من بين يديه، و لكنه تركها في الصحن و هو يتأمل خصلاتها المنسابة على طول عنقها و التي ستعيق مهمته، فبحركة خاطفة اقترب و كأنه سيلتصق بها، و جمع بكفيه خصلاتها أثناء استنكارها و هي تحاول التملص:
- يــوه، بوظت شعري، لأ، استنى
و فور أن انتهى من عقده بشكلٍ غير مرتب ابتعد قليلًا بوجه بارد و هو يعيد التقاط القطعة القماشية، فعبست في وجهه و هي تشير إلى معصمها:
- لو كنت بتنطق كنت هقولك إن معايا توكة، لكن انت استغفر الله
 التوت شفتيه و هو يمسك بأطراف أناملها مشيرًا لمعصمها لعينيه:
- إيه ده؟
سحبت "يارا" كفها و قد أصابتها القشعريرة، تظاهرت بالثبات و هي تنتزع رابطة شعرها من معصمها لتشير بها إليه و:
- توكتي
تقوست شفتيه استهجانًا بينما يقول:
- ما أنا عارف إنها زفتة، بتعمل إيه في إيدك دي؟
أخذت تعقد خصلاتها و هي تلملم بعثرتها بينما تقول بلا اكتراث:
- اتعود على كده، أنا ايدي لازم دي بتكون فيها، لأني ممكن أقف في نص الشارع أعوز أرفع شعري!
باغتها بأن لفّ القطعة القماشية حول عنقها البضّ و هو يقول بلهجة قاتمة:
- ابقى فكري اعمليها بس!
احتجت و هي تحاول إزاحتها:
- أوف.. أنا مش عايزة حاجة بقى
ابتعد قليلًا و قد أحكمها على عنقها مستندًا بمرفقيه إلى ركبتيه، بينما ينظر نحوها، فبادلتهُ نظرات مستنكرة، ثم أطبقت جفنيها وهنًا و هي تقول مستندة برأسها لخلف:
- أنا زهقت من الكلام معاك بجد! مش عارفة انت الانسان يتفاهم معاك إزاي!
فكانت لهجتهِ باردة و هو يقول ببلادة تامّة:
- متتفاهميش
فتحت عينيها لتنظر نحوه شزرًا، ثم حادت بأنظارها عنه لتتلمس القطعة القماشية الدافئة و قد شعرت بعضلات عنقها ترتخي شيئًا فشيئًا، دنا بجذعهِ منها و قد تسلطت أنظاره على طول عنقها البض، للحظة تيبس و أنظاره معلقة بموضع نبضها المتلاحق و القطرات الدافئة تنساب على طوله، تغضن جبينها من نظراته و قد خشت أن يكون الأمر تفاقم، فأصابها الذعر و هي تتلمس عنقها ثانية و هي تسأله بارتياب:
- بتبصلي كده ليه؟ هي وارمة أوي؟
حاد بأنظاره عنها و هو يسحب القطعة القماشية ثم يضعها في المياه، و عاد يحكمها حول عنقها ثم ابتعد قليلًا و هو يستند بمرفقه على ركبته بينما يمرر أنامله في خصلاته، تأملتهُ لثوان غير مدركة ما أصابه،.. تجعدت بشرتها بجوار عينيها حين ضاقتا بفضول بينما تسأله، متلمسة القطعة المحيطة لعنقها:
- هو الراجل العجوز ده يقربلك؟
- تؤ
- أومال يبقى مين؟
ارتفعت أنظاره نحوها و هو يقوس شفتيه استنكارًا لفضولها الزائد عن الحد، ثم سأل بجفاء:
- عايزة تعرفي ليه؟
ارتفع كتفيها و هي تقول بسلاسة:
- فضول!
تنهد ثم أعقب ذلك بقوله:
- ده المسؤول عن المزرعة من سنين
فغمغمت بنبرة أقرب منها للسؤال:
- شكله كأنه حد من العيلة، مش مجرد واحد بيشتغل هنا
فأجابها على سؤالها الذي لم تصُغه بلهجة جادة:
- كان أقرب واحد ليوسف
أومأت متفهمة و هي تدمدم غير قادرة على إشباع فضولها ببضع نِقاط أساسيّة:
- واضح إنه كان بيحبه أوي، هو عمره ما ناداك باسمك؟
أشاح بنظراته الضجرة عنها قائلًا:
- تؤ
ارتفع حاجبيها بحركة سلسلة و هي تقول _استنادًا لشكل عمّه المحفور في ذهنها_:
- بصراحة معاه حق، الشبه بينكم رهيب!
دنا منها لينتزع القطعة القماشية بينما أنامله الخشنة تتلمس بشرتها الملساء دون إدراك منها، بينما يقول بلهجة قاتمة:
- أنا مش شبه يوسف في حاجة
و تركها قليلًا في الصحن بينما كان تقول بلهجة مترققة:
- طب و انت ليه محاولتش تكون شبهه في صفاته طالما إنك بتحبه كدا؟
تقوست شفتيه استهجانًا و هو ينظر نحوها مليّا، ثم حاد بأنظاره عنها و هو يقول:
- أسئلتك كترت أوي!
و كاد ينهض من جوارها فارًا من حصارها بينما يشير للصحن:
- هبعت حد يساعدك، أنا نازل
و بينما يسير استوقفته بسؤالها بينما تعقد ساعديها أمام صدرها:
- يامن هو يوسف لو كان عايش كنت هتكون شبهه؟
توقف، ثم التفت إليها ليرمقها رافعًا إحدى حاجبيه استنكارًا، بينما كانت تستأنف:
- لو مكنش اتقتل، لو مكنش شوفته اتقتل، كنت هتبقى غير كده؟
أشاح بأنظاره عنها ليستكمل سيره و هو يقول بلهجة جافة:
- بلاش تفكري فيا كتير يا بنت حسين، عشان متتجننيش!
و خرج صافقًا الباب من خلفه، فظلت أنظارها الحانقة معلقة به لدى تهربه ذاك، ثم نفخت بحنق وهي تقول بضجر:
- معاك حق، أساسًا شخصيتك دي لغز، مستحيل أقدر أحله!
 و نهضت عن جلستها و هي تمضي نحو إحدى الحقائب التي لم تُفرغ بعد، و راحت تسحب الهاتف الآخر لتهاتفه، حتى أتاها صوته الجاد:
- عرفت!
تفهّمت "يارا" مقصدهِ، كونهُ يعلم أنهما انتقلا حديثًا لمنزل المزرعة، فتنهدت بجفوت ثم رددت بسئم:
- عارفة إنك عارف، نبه الراجل بتاعك ياخد باله، يامن شاكك في اللي حواليه
فـ احتد قليلًا و هو يقول متأففًا:
- قولتلك يا يارا جوزك مش سهل
فرددت و هي تجلس على الأرض بجوار الحقيبة:
- و هوصلك الفلاشة ازاي؟.. ما تقولي هو مين و يوصلهالك
هز رأسه نافيًا:
- مقدرش.. لو انسحب عشان يجيبهالي يبقى بقول ليامن الجاسوس أهو!
فضجرت من ذلك، راحت تردد حاقنة:
- طب و بعدين يا نائف؟ أوصلهالك إزاي!
استمعت إلى صوت طرقات على بابها أتبعهُ صوت الخادمة:
- يارا هانم، يامن بيه بعتني لحضرتك، أقدر أدخل
تسلطت أنظارها على الباب لثوانٍ ثم همست بصوت خفيض:
- هكلمك تاني يا نائف، سلام
و أنهت المكالمة و هي تقول بتردد:
- ثانية واحدة
 و راحت تدس الهاتف مجددًا في إحدى الثياب، ثم نهضت عن الأرضيّة و هي تقول بلهجة ثابتة:
- اتفضلي
.................................................................
- غلبني الشوق.. و غلبني، غلبني، غلبني و ليل البُعد، دوبني، دوبني، و مهما البعد.. حيرني، و مهما الشوق سهرني، لا طول بعدك يغيرني، و لا الأيام بتعبدني بعيـــد.. بعيد عنك!
صدح الصوت من جهاز الراديو بالمطبخ، فاشترك به صوت كوكب الشرق مع صوت العجوز الذي أخذ يُدندن و ثغرهُ قد افترّ عن ابتسامة شاردة، و أعقب كلماتها بقولهِ:
- الله الله يا ست!
- الله على الروقان!
أتاهُ صوتها الرقيق من خلفه و هي تدلف للمطبخ، فـ التفت نحوها و هو يسألها ببشاشة:
- عاملة ايه دلوقتي يا بنتي؟
أومأت و هي تقول بلهجة عذبة:
- الحمد لله تمام
سحبت لها مقعدًا لتجلس أمام الطاولة الدائرية فأردف متسائلًا و قد تغضن جبينه:
- خير يا بنتي؟ الغدا شوية و هيكون جاهز
ابتسمت بإشراق في وجهه و هي تقول بينما تومئ برأسها:
- كنت بشوف القصر، و سمعت أم كلثوم، لاقيت نفسي باجي على هنا على طول!
و رددت متشددة بمرح واضح:
- و متحاولش تخرجني، خلاص أنا هلزق هنا
فلم تزل الابتسامة البشوشة عن وجهه و هو يقول متضاحكًا:
- يــا يا بنتي، حد في زمنكم بيسمعها؟
ارتفع كتفيها بينما تقول و هي تلتفت بجذعها نحوه لتتمكن من محادثته، دون ان تؤذي عنقها:
- مش عارفة، لكن أنا بصراحة بعشقها، خصوصًا الأغنيّة دي
و استند بمرفقها على الطاولة و هي تغمز لتعابثه:
- قولي بقى بتسمعها لمين يا عم منصور؟
بهتت ابتسامته قليلًا و هو يقول متنهدًا بحرارة:
- مراتي.. العشق كله، هو فيه غيرها
برقت عيناها بوميض لامع و قد توسعت ابتسامتها بينما تقل مناغشة:
- و مراتك عارفة إنك بتحبها أوي كده؟
أحنى بصره عنها و هو يقول:
- مش عارف، احنا الرجالة بطبعنا مش بنعرف نبين مشاعرنا أوي
و خالج الحنين نبرته و هو يقول:
- بس أكيد هي عارفة إني بحبها
فبدا التشوّق في نبرتها و قد تحفزت خلاياها:
- عايزة أشوفها، هي موجودة هنا
هز رأسه نفيًا و هو يقول متضاحكًا بخفة:
- لأ للأسف، هي بعيدة عني.. بعيدة أوي
تلاشت ابتسامة "يارا" لتضيق عينيها بينما تسأله:
- طب هي مش بتفضل معاك هنا ليـه؟
أصابه القنوط و قد بدا الحزن على تقاسيمه بينما يقول بقلة حيلة:
- يا ريت كنت أقدر يا بنتي، كنت مسكت فيها بإيدي و اسناني، مكنتش بعدتها عني أبدًا،.. لكن للأسف، ربنا أراد إنهُ يرحمها من الدنيا و اللي فيها
تلاشت ابتسامتها تمامًا و قد أحنت بصرها عنه لتقول معتذرة:
- أنا آسفة جدًا و الله، مكنتش أعرف ده
فأشر بكفه و هو يقول مهونًا:
- لا أسف و لا حاجة يا بنتي، دي أحلى حاجة في الدنيا سيرتها
 و صمت قليلًا ليستمع لصوت "أم كلثُوم" ثم هتف و الابتسامة الباهتة تتراقص على شفتيه متنهدًا باشتياق:
- آآه.. فعلًا يا ست، بعيد عنها حياتي عذاب!
تأملتهُ قليلًا ثم سألت بفضول غلبهُ الشغف:
- مش مصدقة إن لسه في حد بيحب حد كده!
ابتسم العم "منصور" و هو يقول بلهجة متراخية:
- يا بنتي.. زماننا كان غير الزمن، الحب حقيقي، حب عايش في القلب ميموتش حتى لو احنا موتنا، أم كلثوم دي كانت رمز الحب، مفيش اتنين بيحبوا إلا و يسمعوا أم كلثوم
و بدت لهجتهِ محتجة مستنكرة و هو يتابع و قد عبس قليلًا:
- مش زمنكم.. بالله عليكي يا بنتي في زمن البنات بتسمع فيه الحاجات الغريبة بتاعتكم دي!
تغضّن جبين "يارا"، ثم أومأت و هي تردد متفهمة:
- آه.. قصدك مهرجانات؟
ارتفع سبابته و هو يقول محذرًا:
- اوعي تكوني بتسمعي حاجة من دي؟
نفت على الفور مشيرة بكفيها و هي تضحك قائلة:
- لأ لأ، أنا ماليش في المهرجانات و الشعبي و الكلام ده أبدًا!
ضحك هو الآخر بدوره أثناء قوله:
- طب الحمد لله، أنا كده ارتحت!
سحب مقعدًا له ليجلس أمامها بينما يقول و هو يتأمل ملامحها:
- مين كان يصدق إن يوسف يتجوز!.. أنا نفسي مش مصدق لسه
عبست قليلًا و هي تحنى أبصارها الضائقة عنه، ثم سألته لتغير دفة الحديث:
- كان اسمها إيه؟
تنهد بحرارة و قد برقت عيناهُ الصافيتين بوميض لامع:
- صفيّة
تأملت بشغف التبدل الذي طرأ على ملامحه، ثم قالت بسلاسة:
- كلمني عنها يا عم منصور
ارتكزت أبصاره عليها و هو يتنهد بلوعة ثم قال:
- يــا.. أكلمك عن إيه و لا إيه، و لا أوصفهالك إزاي يا بنتي، هي دي كانت تتوصف
و استرسل حديثهُ و هو يرى طيفها يتجسد أمامه:
- خايف أظلمها بوصفي، صفية دي كانت اسم على مسمى، صافية أوي،.. كانت معايا على الحلوة و المرة، تفهمني من نظرة عيني، تفهمني من طريقة كلامي، تفهمني من نبرة صوتي، يــا يا بنتي، يا!
و تضاحك بمرح باهت بينما يقول:
- كنا نتخانق كتير أوي، زي القط و الفار
ارتفع حاجبيها و هي تسأله مستنكرة:
- ازاي ده؟ بتحبها الحب ده كله و تتخانقوا؟
أشار بكفه و هو يقول:
- يــــا، ميعديش يوم غير و إحنا متخانقين فيه
و ضحك مجددًا بتثاقل فاهتز كتفيه بينما يقول:
- تغلط فأزعقلها فتعيط فأبقى أنا الغلطان و أصالحها! لكن لو وصلت لخناقة خناقة كانت تسيبني، تسيبني و كل واحد فينا يقعد في أوضته، و خلاص مش متفاهمين و مش قادرين نعيش مع بعض، هي ساعة بالكتير و ألاقيها داخلة عليا بفنجان القهوة، ألاقي نفسي ببوس إيديها عشان ترضى عني!
و ارتفعت أنظاره للسماء و هو يقول بمرح:
- مع إن انتي الغلطانة يا صفيّة!
كانت ابتسامتها تتسع و بالوقت ذاته تمنع عينيها تأثرًا، أحنت بصرها عنه و هي تتنهد قائلة بشجن:
- ربنا يصبرك على فراقها!
فـ استنكر كلمتها و:
- فُراق!.. مين قال إنها فارقتني
 و مال بجذعهِ عليها قليلًا ليقول:
- صفيّة دي عايشة جوايا يا بنتي، صفية لا فارقت، و لا هتفارقني طول ما فيا النفس
 و نهض عن مقعده و هو ينادي الطبّاخ و قد اخترقت حاسة الشم لديه رائحته قائلًا:
- يا صابر.. تعالى يا ابني شوف الأكل ليتحرق
و جلس مجددًا بينما يتأمل ملامحها، ثم أردف و هو يتعمق النظر لعينيها بلهجة خبيثة مخفضًا نبرة صوته:
- قوليلي بقى، انتو متخانقين؟
تجعدت تلك المنطقة المحيطة لعينيها حين ضاقتا و هي تقول:
- مين؟ أنا و يامن؟
و أشاحت بكفها و هي تحيد بأبصارها عنه، قائلة بشئ من اللامبالاة الظاهريّة:
- ده العادي بتاعنا، مش حكاية خناقة، احنا كده على طول
أومأ بحركة سلسلة متفهمة و هو يقول:
- مش عارفة تفهميه
نظرت لعينيه مباشرة و هي تقول مشددة:
- أبدًا.. مش عارفة أفهمه أبدًا، تعبت من المحاولة يا عم منصور
و كأنه اقتنص شيئًا فغمغم بثبات و هو يعود بظهره للخلف:
- اللي بيحب بجد بيفهم يا بنتي، سيبي قلبك يفهمه مش عقلي
فزفرت بعمق و هي تحنى بصرها عنه لتعبث بأناملها، هي بالأصل استشفت أنهُ لا يفقه كنه علاقتهما، و الآن تيقّنت من ذلك بالكامل، كانت على وشك أن تفضى القول بما لديها و لكنها التزمت الصمت، فطالما "يامن" لم يُطلعه على الأمر وجدت أنه من الحكمة ألا تفعل، و لكنه لم يصمت، بل راح يوصيها:
- يوسف شخصيته صعبة عارف، لكن مع الوقت هتتعودي عليه، و تفهميه، تعرفي إمتى يكون محتاجك جنبه، امتى تضايقيه و امتى تهوني عنه، تعرفي همومه، مع الوقت هتفهمي يا بنتي
فلم تصمت حينئذ، شعرت و كأن هنالك ما يطبق على صدرها و تود إزاحته، فنظرت لعينيه مباشرة و هي تسألهُ باستنكار تشكوه:
- و لو غلط معايا يا عم منصور؟ لو غلط معايا غلطة متغتفرش؟
و صمتت هنيهة ثم أحنت بصرها و هي تقول باغتياظ:
- و مش بس كده يا عم منصور، غلطان و مش معترف بغلطه، غلطان و حتى مكلفش نفسه، و غروره مسمحش ليه يهون عليا بكلمة اعتذار واحدة يا عم منصور، مش مقتنع أصلًا إنه عمل حاجة
سحب الكهل نفسًا عميقًا زفره على مهل، بينما أنظاره التي تسبر أغوارها مسلطة عليها، صمت قليلًا فشعرت و كأنه لن يتحدث، و لكنه قال بغتة بحكمة:
- هسألك سؤال يا بنتي، الغلط ده.. هيتصلح بكلمة اعتذار؟
فأجابت على الفور، و هي تقوس شفتيها في فتورٍ:
- أكيد لأ
فعاد يسألها بلهجة ثاقبة:
- هيتصلح بكلمات تهون عليكي؟
بسطت كفها لتقول بارتباك قليل شاب نبرتها:
- أكيد لأ يا عم منصور، بس يخليني حتى أحاول..
قاطعها بلهجة عميقة للغاية:
- بعض الأخطاء يا بنتي.. مبتتصلحش بمجرد كلام، يوسف يا بنتي من صغره و كلمة آسف صعبة على لسانه، نادرًا لما يقولها، أو حتى يعترف بغلطه، لكن كان يعمل حاجة غريبة أوي محدش لاحظها غيري، إنه بيحاول بأي طريقة يصلح غلطه ده!.. و لو سألتيه انت بتحاول تصلح غلط هيقولك..
فاستأنفت نيابة عنهُ:
- معملتش حاجة أندم عليها أو أحاول أصلحها!
تضاحك بخفة ثم قال مشيرًا لها بعينيه:
- بالظبط كده!
تهدل كتفيها قنوطًا بينما كان الكهل يقول محتفظًا باللهجة العميقة في نبرته و هو يسألها:
- فكري يا بنتي، هل يوسف عمل حاجة حاول بيها يصلح غلطه؟ و لا بيتمادى فيه!
ارتفع كتفيها و قد جلّ الارتباك على صفحة وجهها و هي تقول متهربة منه بنظراتها:
- الحقيقة معرفش لكن..
فـ أشجب ذلك قليلًا:
- أومال مين اللي يعرف يا بنتي، رد السؤال ده مش عند يوسف حتى، ده عندك إنتي!
إنهُ محق.. لربما أنه حاول صِدقًا إصلاح أخطائه، و لكن.. لا، هنالك بعض الأخطاء لا يمكن إصلاحها مهما حاول، هكذا.. أقنعت نفسها، فراحت تشيح بأنظارها بعيدًا عن نظرات الكهل المقتنصة، لاحظ هو التردد الذي يجول بخاطرها، فحاول أن يصلح بينهما، قال بلهجة جادة مشيرًا بكفهِ المجعد:
- ميغركيش اللي هو بيعمله ده، يمكن انتي تحسيه جامد، تحسيه قلبه ميت، لكن ميغركيش يا بنتي، هو اللي بيظهر ده، و انتم بتصدقوا ببساطة!، يوسف ده أنا كنت بدعي ربنا إنه يلاقي الإنسانة اللي تحتويه، كنت خايف يقع في واحدة تزيد هم على همه، و لما شوفت الطيبة فيكي قولت بس، ربنا استجاب، قولت هي دي اللي هتفهمه!، قولت هي دي اللي مش هيهمها المظهر، هي دي اللي مش هيهمها البرود اللي بيظهره، ركزي في التفاصيل.. التفاصيل مهمة أوي يا بنتي، التفاصيل... هي بس اللي هتبين، و لو ركزتي، لو دققتي فيها هتعرفي أنا قصدي إيه
 و أشار بكفه المجعد أمامه و كأنهُ يشير إليه:
- لو دققتي في تفاصيله هتعرفي إنه مجروح.. مجروح جرح مش لاقيله علاج يا بنتي، نصيحة مني كوني علاجه، نصيحة مني متبقيش إنتي و الزمن عليه
فارتفع كتفيها استنكارًا و هي تقول:
- انت ليه محسسني إن أنا اللي ظالماه يا عم منصور، هو اللي ظلمني و جه عليا كتير
 و أطبقت جفنيها بوهن مستطردة:
- انت معرفش حاجة يا عم منصور
مال قليلًا بجذعه عليها ليربت بكفه المجعد أعلى كفها الأملس الذي تركته فوق الطاولة أثناء قوله الحاني:
- مقولتش ظالماه يا بنتي، بقول متظلميهوش!، اللي شافه كتير
و أشار بكفهِ المجعد إلى جواره و كأنهُ يشير إلى طول طفل:
- يوسف من و هو قد كده و هو بيقاسي يا بنتي
 و تنهد بحرارة و هو يعود بظهره للخلف مريحًا ساعده على الطاولة:
- مكانش ييجي هنا و هو يوسف و مراته غير لما يتخانقوا، لا يوسف كان بيحبها، و لا هي كانت تحبه!
أدركت حينئذ أنهُ يقصد "يوسف".. و ليس "يامن"، فكادت تشعر بالشفقة حياله حينما كان يقول:
- كان بيحب.. كان بيحب واحدة أوي، و مقدرش ينساها!، و مراته للأسف مقدرتش تنسيه، كانت بتحاكمه ليل نهار، مفيش على لسانها غير انت مبتحبش غيرها!.. و يامن في النص، مفيش يوم يعدي عليه يحس فيه إنه طفل زي باقي الأطفال في سنه
و بدى الأسى في لهجتهِ و هو يستأنف:
- و الحق إنه حاول يا بنتي، حاول يعيش.. حاول يتأقلم مع خناقات أكبر منه و أكبر على عقله إنه يفهمها، حاول يتأقلم إن أبوه و أمه مش متفاهمين و لا عمرهم هيتفاهموا، حاول يعيش و الله يا بنتي، لكن الدنيا قفلت الأبواب كلها في وشه! كل ما يحاول باب جديد يتقفل في وشه، لغاية ما خلاص.. يأس، دفن كل جروحه جواه
تطلعت إليه بنظرة عميقة، و قد شرعت صورتهِ تلوح أمام عينيها، فكان "منصور" يتابع بتنهيدة حارّة:
- خاف يحاول تاني و يمسك في أمل كذاب زي ما بيقول.. الدنيا تجرحه، خاف يحاول تاني فيتقفل باب جديد في وشه، خاف يستنى حاجة مش هتيجي، خاف.. يعيش!
لمَ شعرت بقلبها تتلاحق نبضاتهِ إثر كلماته المؤثرة؟ أصابها الامتعاض من نفسها لتأثرها الـ"غبي" ذاك، و لكن العجوز تعمد ألا يكفّ، فراح يغمغم مسترسلًا بقنوطٍ:
- خاف يعيش.. خاف على قلبه يتجرح تاني فدفنهُ، خاف يثق في حد حواليه فمتجيش الضربة غير منه، خاف يبقى زي أبوه، خاف يبقى زيّه فحكم على نفسه يعيش في شخصية هو نفسه مش راضي عنها، لكن جواه زي ما هو، جواه أبيض، و البياض عند يامن اثم!
 و مال مجددًا عليها ليربت على كتفها تلك المرة بينما يقول بلهجة واثقة:
- و مش عليكي غير إنك تكوني ليه توبة! إنك تحاولي تفهمي جوزك و تهدي عليه، يا ستي اعتبريه مريض بتعالجيه!
فسخرت من قوله و شفتيها تنفرج بفتورٍ و هي تجفل أبصارها عنه:
- أنا مش دكتورة يا عم منصور!.. علاجه مش عندي
أومأ و هو يقول بلهجة جادة و كأنه يحفزها:
- عندك يا بنتي، عندك، يمكن تكوني مش دكتورة زي ما بتقولي، لكن انتي هتعالجيه، أنا واثق فيكي، و حاطط كل أملي عليكي!
رمشت عدة مرات و هي تعبث بأصابع كفيها بلا هدف محدد، بينما كان يقول منهيًا حديثهُ الذي طال:
- و ربنا يهدي سركم و يصلح الحال، خدي بالك من جوزك يا بنتي، و صدقيني هو واخد باله منك، و خايف عليكي!
و نهض عن محله ليهم بالمغادرة و هو يرفع نبرة صوته:
- يا صابر الأكل فاته ولع، انت فيـن يا ابني؟
و كاد يسير بحثًا عنه، لولا "يامن" الذي دلف على حين غرة و هو يقول بلهجة شرسة:
- يارا فين يا أحدب؟
التفتت بجذعها بالكامل لتواجهه مغضنة جبينها، و قد كان وجهه مصطبغًا بالحمرة، و ما إن وقعت أنظاره عليها حتى دنا منها و هو يعنفها قائلًا:
- الهانم قاعدة هنا و انا بقالي سنة بلف عليكي!
تبادلت النظرات الساخرة مع العجوز و كأنها تبعث برسالة ما إليه، ثم نظرت إليه لتقول بثبات:
- أنا هنا، حبيت أقعد مع عم منصور شوية
تنهد بضيق محاولًا كبت غضبه الناجم عن قلقه حين بحث عنها في أرجاء القصر أجمع و لم يجد لها أثرًا، ثم راح يدنو منها بخطى متشنجة و بحركة مباغتة طوّق عنقها بالرقبة الطبيّة و هو يقول بتأفف:
- مرضيتيش تلبسيها ليه؟
و راح يضبط إحكامها حول عنقها لتتناسب مع حجمها، ثم ابتعد بينما كانت تحتج و هي تكاد تزيحها:
- مش عايزة ألبسها، الله
فسحب كفها بحركة عنيفة و هو يقول بلهجة آمرة:
- سيبيها
تلك المرة حادت أبصارها نحو العجوز ليمنحها نظرات ظافرة، ثم انسحب بهدوء شديد دون أن ينبس ببنت شفة، بينما قد عادت بأنظارها إليه و هي تقول بلهجة ذات مغزى واضح:
- بتقيد حركتي، و أنا مبحبش القيود
لم يكن ليتفهم مقصدها و لكنهُ أردف بلهجة صلبة مشيرًا للرقبة:
- ساعات التقييد ده بيكون خانقك، لكن مع الوقت هتعرفي إنها أفضل!
حلّت عقدة حاجبيها و قد تراخت تعبيراتها المشدودة بينما تنظره نحوه باندهاشٍ، حينما كان هو يصرف بصره عنها ليقول مستهجنًا:
- خدتي علاجك؟.. طبعًا لأ
تقوست شفتيها و هي ترد بفتور:
- خدته!
نظر نحوها ثم أشار بعينيه قائلًا بلهجتهِ المتحكمة:
- اطلعي أوضتك لغاية ما الغدا يجهز!
كادت تهز رأسها نفيًا و لكنها لم تتمكن، فتلمست تلك الرقبة الطبيّة بينما تقول:
- لأ مش عايزة
و التفتت بجذعها لتلقي نظرة هادئة على المحيط من حولها من تلك النافذة ثم سألت بتشوق:
- ينفع أطلع برا؟
نظر إلى حيث تنظر مليّا ثم قال موافقًا:
- قومي
نهضت واقفة على قدميها بينما تستدير بجذعها إليه لتعرب بصراحة عن ما يجول بخاطرها:
- تعرف إني بخاف منك لما بتوافق على حاجة أطلبها
نظر لعينيها مباشرة فانحرفت نظراتها العميقة بين عينيه، راحت مشاهدًا غير واضحة تلوح أمام عينها، فغضنت جبينها لتسأل باهتمام:
- احنا اتقابلنا قبل كده؟.. و احنا صغيرين؟
تقلصت المسافة ما بين حاجبيه من سؤالها المباغت، ثم تقوست شفتيه استهجانًا و هو يقول باستخفاف:
- تقريبًا الخبطة جت في دماغك مش في رقبتك!
 و مضى من أمامها بينما تتابعه بأنظارها الشزرة، ثم تحركت من خلفه لتسأله بحنق:
- استنى هنا، قصدك إيه يعني؟ قصدك تقول إني مجنونة؟
........................................................
..............................
.................................................................
بجد أنا بحمد ربنا إن الرواية already مكتوبة و بس براجعها و أنزل الفصول، مش عارفة لولا كدا كنت هعمل إيه
رأيكم بيفرق معايا كتير و بيحفزني أراجع و انزل فصول أكتر، يا ريت متبخلوش عليا بيه، و لو مجرد vote بس❤

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now