"الفصل الحادي عشر"

759 15 2
                                    

"الفصل الحادي عشر"
يقولـون الهوى، و تناسوا أن قلبي لم يعد صالحًا
_____________________________________________
تخشّب و تخشب كفهُ قبل أن يبلغ المِقبض ، تلاشى الارتباك عن وجههِ بشكلٍ تام ليحل الجمود محلهِ ، تصلّبت عضلات جسده و هو محدقًا بنقطةٍ ما في الفراغ أمامه ، لم تشغل كلماتهِ ذهنه إلى ذلك الحد الذي توقعهُ الأخير ، هو نابذًا.. نابذًا أن يُطلق مُسمى على أفعالهِ ، رافضًا تمامًا أن يكون هنالك تفسيرًا ، تفسيرهُ الوحيد أنها تنتمي إليه.. غرضًا يخصهُ لا أكثر و لا أقل ، لم تتعدَ كونها غرضًا فقط و أبدًا ، و لم يكن ينتوي أن يُغير ذلك المُسمى إلى ما يندرج تحت خانة المشاعر و العشق و الجوى .. ما كان منهُ إلا أن التفت برأسهِ نصف إلتفاتة قبل أن يردد بصوت خاوٍ من الحياة مشيرًا بسبابتهِ إلى صدرهِ :
- شكلك نسيت يا .. يا فارس ، يامن الصياد قلبه مات من سنين .. مات و اتدفن مع أبوه في قبره !
أدار المقبض و انصرف صافقًا الباب بعنفٍ .. ولج للخارج و أثناء ذلك كان أفراد الحِراسة يقفون منتصبين في انتظار أوامرهِ ، بدوا جميعًا كمن حطّ الطير على رؤسهم، إثر تلك الصدمة العظيمة، فـ ربّ عملهم، من كان على فراش الموت، يخرج عليهم في كامل هيبتهِ و شموخهِ و تجبره و تسلّطهِ .. لم يكترث لهم ، و لم يُلقي إليهم بنظرةٍ واحدة ، خطى مستوفضًا نحو المِصعد فـ تبعوه ، و كذلك الطبيب الذي شُده ، أخذ يثرثر مترجيًا إيّاه بالعدول عن ما يفعل و قرارهِ بالخروج من المشفى في حالتهِ تلك ، و لكنهُ لم يلقِ بالًا لهُ ، بل الأصح أنه لم يكن يستمع إليه حتى ، استطرد سيرهُ بلا توقف ، مُجبرًا ساقيهِ على الخطو ، مُجبرًا حاله على تحمّل تلك الآلام التي تنهشُ من رأسهِ رُويدًا رويدًا ، أخذ ذهنهِ يستعيد تدريجيًا حتى تزاحم أكثر و أكثر ، فـ اختلط بهِ الماضي بـ الحاضر بـ المُستقبل الذي أخذ ينخرُ أحلامهِ ، أطبق جفنيهِ بقوة محاولًا محو تلك اللمحات التي تُؤجج نيرانًا لا تُخمد بصدره ، ثرثتهِ كانت منفذًا لتحرير قدرًا من سخطهِ و امتعاضهِ ، و بدون سابق إنذار التفت قابضًا على تلابيب الطبيب و دفعهُ بقوة حتى حشرهُ بينه و بين الحائط من خلفهِ ، غرس حميم نظراتهِ بين عينيهِ و هو يردد هادرًا بجفاء :
- بقولك إيـه !
أجفل من المُفاجأة ، تسارعت دقاتهِ و اضطربت أنفاسه ، و لكنهُ لم يتأثر بتلك النظرات التي تكفي لإصهار أشد القلوب بأسًا ، تمسك بزمام شجاعتهِ و هو يرمقهُ بنظراتٍ جادة بينما كان "يامن" يستطرد حديثهُ المُنتقص:
- كل اللي بتقولهُ ده ميفرقش معايا ، مش يامن الصياد اللي هيستني واحد زيك يقوله يعمل ايه !
استجمع شُتات نفسه و هو يردف محاولًا تحذيره :
- يا باشا أنا يهمني مصلحتك.. حضرتك فوقت في وقت غير متوقع و يُعتبر قِياسي ، و أنا خايف يحصل حاجـ..
ترك ياقته و هو يتظاهر بضبطهِا له و هو يقتطع حديثهُ متهكمًا :
- لأ متخافش.. خاف على نفسك أحسن !
قال كلماتهِ الأخيرة و هو يجتذب ياقتهِ بحركةٍ عنيفة للأسفل أحنت رأسه ، و كأنهُ تهديد صريح منه ، ثم شملهُ بنظراتٍ مُزدرية قبل أن يُتابع طريقه و أفراد الحِراسة من خلفهِ ، فزمّ الطبيب شفتيهِ بضيق و هو يلتقط أنفاسه متابعًا انصرافه ، ثم ردد متأففًا و هو يعيد ضبط ياقته :
- صحيح.. خيرًا تعمل شرًا تلقى ، أومال لو كنت عدوه كان عمل فيا إيه ؟
...............................................................................
لم يكن يُصدق عيناه بعدما اطلع على الربح الهائل العائد على جريدتهِ في وقتٍ قِياسي لم يتعدَ بضع ساعات ، آلاف المواقع على مواقع التواصل الاجتماعي تتحدث فقط و أبدًا عن " عائلة الصياد" و تلك النائبة التي حلّت عليهِم ، و كان لـ جريدتهِ السبق بذلك .. حيثُ كانت الأولى التي تنشر تلك " الشائعات" .. و ما جعل " الشائعات" واقعًا مفروغًا منه هو ذلك المقطع المُسجَّل لـ " عمر الصيّاد " و هو يؤكد بلسانهِ ما قِيل و تلك الاتهامات المُوجهة لزوجةِ أخيه ، رفع نظراتهُ المُنبهرة للجالس قِبالته قبل أن يُردف :
- هايـل يا فهد ! مكنتش متخيل إن في خِلال ساعات الربح يبقى بالشكل ده ، السحب على الجرايد خيالي ، بالرغم من اننا منشرناش الخبر غير في نص الليل !
كان رافعًا ساقًا أعلى الأخرى و قد احتّل الغرور صفحة وجهه ، حك بطرف اصبعه أنفه و هو يردد متغطرسًا :
- عيب .. ده أنا فهد الإمام !.. انت كنت فاكر ايه ؟
تنغض جبين الأخير قبل أن يردد و قد مال بجذعهِ للأمام مستندًا بمرفقهِ إلى سطح مكتبه :
- بس اللي مش فاهمه ازاي " عمر الصياد " اثبت كلامنا .. مع إني كنت حاطط إيدي على قلبي من التكذيب، و ساعتها كل حاجة كانت هتتقلب علينا
وجدت ابتسامة عابثة طريقها على شفتيه و هو يردد متهكمًا :
- واضح إن العيلة كلها حبايب ، سيبك .. خلينا في المُهم !
تفهم سريعًا مقصده فـ أشار بكفهِ قائلًا بنبرة جادة :
- متقلقش ، نصيبك محفوظ .. و أكتر من اللي اتفقنا عليه بكتير ده انت السبب في كل ده
خلل أصابعه بخصلاتهِ قبل أن يُخفض احدى ساقيهِ مُعقبًا ذلك بقولهِ الساخر:
- ربنا يقدرني على عمل الخير دايمًا
ضحك الكهل ضحكة مُثقلة تردد صداها في الغرفة ، بينما كان الأخير ينتصب متمتمًا بصوت متغطرس:
- أستأذن أنا بقى.. ألحق أنام لي ساعتين ، مش عايز يفوتني حاجة من العرض ، العيلة دي كل دقيقة و التانية بتتحفنا بأخبارهم !
فـردد الأخير بعدما أنهى كركرتهِ متفهمًا:
- تقصد عمر الصياد !
أومأ مردفًا بإيجاز :
- بالظبط كده .. يالا أورڤوار !
و مضي نحو الخارج تاركًا إياه بغرفة مكتبهِ ، مُطلقًا صفيرًا خافتًا من بين شفتيه ، و ما لبث أن ابتعد عن المُحيط حتى أخرج هاتفه و هو يردد بنبرة عابثة ناقرًا على شاشته :
- ألحق أبلغ الباشا بنجاحنا العظيـم ده !
.........................................................................
انصرافه ترك خلفهُ علامات استفهام لدى الأخير قبل أن يتمتم هامسًا :
- مش واضح
كارثة.. كارثة بكلِ المقاييس ، لقد هاج و ماج و بات كـعاصفةٍ أهلكت الكوكب عندما عَلِم فقط بذلك البلاغ الذي قدمهُ والده و اتهامه لها صريحًا ، تناسى تمامًا تلك الكوارث الأخرى بما فيها تلك الاتهامات الجريئة التي وُجِهت لزوجتهِ و التي تمس شرف زوجتهِ، رمش بعينيهِ عدة مرات غير مستوعبًا ، و ما لبثت أن خطى مستوفضًا للخارج عسى أن يلحق به .
على الجانب الآخر..
دلف خارج المِصعد مُحاطًا بأفراد حراستهِ ، و هو يستكمل إغلاق أزرار قميصهِ التي كان قد تركها ، ثم خلل أناملهِ بخصلاتهِ السوداء يعيدها للخلف ، و خطى فوق الأرضية الصلبة نحو الخارج ، الجميع صُعِق.. منتصبًا.. شامخًا ، على وجههِ تعبيرات كانت كافية لزرع الرعب في أنفس أهلِ الأرض جميعًا ، وجهه لم يبدُ الوهن عليهِ و ما كان لهُ محلًا بين تعبيراتهِ التي كانت تبث أنهُ يسعى لإحراق الأرض بـ من عليها .. تعالت الهمسات و التلامزات بين الجميع ، و لكنهُ لم يكن ليكترث بذلك ، كان في عودتهِ.. إعصار ينتوى اجتثاء ما يُقابله من جذورهِ ، صاعقةً لا تُبقى.. و لا تذر .
كان قد بلغ باب المشفى فـ خرج منها ، و ما إن وطأت قدميهِ خارجًا حتى تعالت الشهقات و الأصوات بشكلٍ ملحوظ ، كانت امارات الصدمة تعبيرٌ مُرتسم على أوجه الجميع ، فـ هو بنفسهِ يخرج عليهن بعد ساعاتٍ من مُحاولة اغتيالهِ ، و بضع كلماتٍ سيتفوهُ بها أمامهِم تكفي لإشباع فُضولهِم ، تدافعوا يتسابقون ليصلوا إليهِ ،  احتشد أفراد الصحافة و الإعلام من حولهِ ،و لكنهم قد التزموا حدًا لا يُمكنهم تخطيهِ بفضل أفراد الحِراسة الذين شكلوا بأجسادهم القوية ذات العضلات المفتولة حاجزًا بينهم و بينه ، فكانوا بالكاد يرونه ، تدافعت الأسئلة على ألسنتهم بينما كان يسير مُحاطًا بكوكبتهِ و هو يستأنف طريقه بشموخٍ و كأن شيئًا لم يكن ، حتى بلغ مسمعهُ ذلك السؤال الذي انفلت من لسانِ أحدهم فكان أشبهِ بإشعالهِ فتيل القنبلة :
- إيه ردك على الاتهامات الموجهة لزوجتك بكونها حاولت قتلك بعدما اكتشفت العلاقة بينها و بين " خالد الدسوقي" ابن خالها !.. خاصةً بعدما أكد " عمر الصياد" الاتهامات دي !
تسمر أفراد الحِراسة لإثر توقفهِ المُفاجئ و قد شعر بعروقهِ لا تكاد تتسع لكمّ الدماء التي اندفعت بها حتى كادت تنفجر ، فـ التهب وجههُ و تشبّعت بشرتهِ القمحية بالحُمرة الفاقعة فـ بات أقرب لجمرةٍ من السعير ، التفت مُسلطًا نظراتهِ على من عبث بعداد عمره فـ كانت نظراتهُ وحدها تكفي.. نظراتٍ تقاذف الحميم من بينها ، أشار للحارس الذي كان يحجب بجسدهِ عنه فلم يكن يرى سوى وجهه ، خفتت الأصوات من حولهِ إثر التغير المُفاجئ بهِ ، فصارت لا تتعدى التهامسات الخافتة ، نظراتهِ وحدها كانت كافية لإرباكهِ .. ليس إرباكهِ ، بل انتفاضهِ خوفًا ، و تجلّى ذلك في ارتعاشة كفيهِ الممسكين بالميكروفون حتى أنهُ أسقطه من كفه ، خُطوةً واحدة منهُ خطاها نحوهُ جعلت الدماء تفرُ من أوردتهِ ، اقتطع التواصل البصري بينهما بـ إرخائهِ جفونهِ المرتجفة و كأنهُ بذلك سيفر منه ، خطوةً أخرى نحوهُ جعلتهُ يكاد يتراجع للخلف منتويًا الفرار، و لكن للأسف لم تُسعِفهُ قدماه المتسمرتين بالأرضية ، تقلّصت المسافات بينهما فـ استمع بوضوح إلى فحّهِ أمام وجهه بهمسٍ أشبه بهمس الشيطان :
- سمعني كده اللي قلتهُ تاني !
       فرّت الكلمات من على لسانهِ ، و لكنهُ حاول بصعوبةٍ استردادها ، فباتت متلعثمة مرتجفة و هو يحاول نزح إثمهِ عنه :
- حضـ..حضرتك ده .. ده مش كلامي ، ده.. ده كلام " عمر الصياد" أخو حضرتك
أومأ بحركةٍ خفيفة و كأنهُ تفهم ما يُقال بينما كان يبسط ذراعهِ بحركةٍ أدركها الحارس جيدًا ، فـ أخرج سلاحه من ملابسهِ و هو يسلمهُ له ، تناولهُ " يامن" منه و هو يخفض نظراتهِ ليعبث بهِ بأصابعه:
- عمر الصياد .. قولتلي بقى !
تسلطت عينا الأخير على سلاحهِ الناريّ حتى كادتا تخرجان من محجريهما ، قذف الرعب في قلبهِ حين رآه يسحب صِمام الأمان ليُطلق رصاصتهِ التي عرفت طريقها في قدمهِ ، دوى صوت الطلقة في الأرجاء فكانت كافية لبث الهلع في أنفسهم ، تعالت الصرخات المكدومة و هم يبتعدون بمسافة كافية عنه ، سادت رائحة الهلع في المُحيط و هم يرون خرّ الأخير ساقطًا على الأرضية الصلبة بينما صرخاتهِ لا تنقطع ، انحنى عليهِ "يامن" ليكون بموازاتهِ و هو يردد بنبرةٍ جافة باردة :
- متخافش.. دي مُجرد قرصة ودن صغيرة مش هتأثر !
لم ترتخِ عضلات وجههِ المُتشنجة و هو يُكشر عن أنيابهِ متمتمًا بشراسة :
- هتعملك عاهة مستديمة بس تفكرك بيا.. عشان لما لسانك الـو×× ده ينطق بكلمة في حق اللي يخصني تبقى تفكر للمرة المليون قبلها !.. بس خد بالك ، لأن المرة الجاية مش هتلحق حتى تفكر !
آلامهِ تكاد تفتك بهِ ، الألم ينهش منهُ بشكلٍ مريب ، و الرصاصة التي أُطلقت قد شعر بها تتوغل أنسجتهِ حتى مزقتها ، لم تكفّ صرخاتهِ عن الارتفاع و عيناه مُسلطتان على حِذائه الذي شرعت الدماء تُلوثه ، و لم يكن لـ يرأف بحالهِ ، بل أنهُ انتصب في وقفتهِ، دعس "يامن" قدمهِ فـ تعالت صرخاتهِ المُريبة حتى بحّ صوته ، تلفت ممررًا شواظ نظراته بين الجمع و هو يهدر گصوت الرعد في بأسهِ :
- مين تاني عايز يتكلم ؟
لم يجد ردًا ، الجميع باهت .. صامت و كأن على رؤوسهم الطير ، الأبصار شاخصة بهلعٍ ارتسم بوضوح فوق صفحة وجوههم ، فـ جأر بنبرة أشد بأسًا و احتدامًا :
- انطقـوا !
فُتح الباب ليلج خارجهُ ليجد ذلك التجمع ، تغضن جبينهُ و هو ينقل النظرات الحائرة حتى تقدم دافعًا أحد الحراس من كتفهِ لتتبين الرؤية له ، شخصت أبصاره و هو يحدق بـ المشهد البشع ، ابن عمهِ يدعسُ قدمًا تتفجر منها الدماء قابضًا على سلاحهِ الناري ، توسعت مقلتاه و هو يمضي نحوه محاولًا إبعاده عن الأخير ، حاول دفعه و هو يردد مستهجنًا :
- انت بتعمل إيه ، حاسب يا ابني هتقتله !
لم يتمكن من زحزحة جسده عنه سنتيمترًا واحدًا ، بل إنهُ من دُفِع فـ ارتد جسده للخلف  و هو يحدجه بنظرات النارية مُحذرًا  و هو يشير بسبابته :
- اخــرس.. انت بالذات مسمعلكش نفس !
أدرك أنهُ حتمًا قد وصلتهُ الاتهامات الموجهة نحو زوجته ، هيئتهِ لم تكن لتُنذر سِوى بذلك ، و بيد أنهُ سيلقي بذلك على عاتقه ، كونه لم يتمكن من منع تلك الشائعات أن تنتشر لتطول زوجته ، أطبق جفنيهِ يسترد أنفاسهِ المُضطربة قبل أن يردد متوسلًا :
- يامن اهدى و ...
- بــــــس
هدر بها و هو ينتزع قدمهِ من فوق قدم الأخير الذي سحبها إليهِ على الفور و نظراتهِ الهلعة الزائغة تتجه نحوه ، و فور أن رآه يعيد النظر إليه أجفل جفونه على الفور محاولًا كتم صوت صِياحه الحاد ، بصق " يامن" فوقه و ثم أردف مُشمئزًا :
- صدقني لو مكنش عندي الأهم من قتلك مكنتش هتاخد نفسك تاني ! لكن للأسف.. نجدت مني !
برح مكانهِ و هو يوزع النظرات على الجميع.. كاد أفراد الحِراسة يتبعونهُ فـ لم يُستحسن ذلك ، استوقفهم هادرًا بصوت حالك :
- مفاتيح العربية و محدش ورايا
ناولهُ الحارس مفاتيح السيارة ، بينما كان يُتابعه "فارس" بنظراتٍ قلقة ، كاد يتحرك نحوهُ و لكن نظرات الاتهام التي قذفهُ بها جعلت ساقيه تتسمران بمحلهما ، و رحل.. استدار ليمضي مُبتعدًا عن المُحيط بأكمله ، قَصِد مصفّ السيارات الخاص بالمشفى و استقل سيارة الحراسة خلف المِقود، صافعًا الباب بعنف من خلفهِ، ترك رأسه يستند على المقعد مُطبقًا جفنيهِ و قد نهج صدره علوًا و هبوطًا ، كزّ بعنفٍ على أسنانهِ مُشددًا على عضلات فكيه حتى ارتجف صدغيهِ ، كور قبضتهِ بقوة و هو يُفرق جفنيه لاكمًا المقود بعصبية مزمجرًا بغضب ، ثم أردف من بين أسنانهِ المطبقة :
- بتهربي مني تاني .. تاني يا بنت حسين!
أدار المحرك و ضغط على دواسة البنزين و هو يُدير المقود بحركة عصبية فـ أصدرت الإطارات صوتًا اثر احتكاكها بالأرضية ، و بإحدى كفيهِ كان يحك عنقه بعنفٍ حتى التهب لون بشرته متمتمًا بصوتٍ قاسٍ متوعد يحمل الغموض بين طيّاته:
- لسه مش قادرة تصدقي ان مفيش ليكي مكان تهربي ليه مني.. غيري !
...............................................................................
كان قد هبط من العقار و توجه حيث السيارة القابعة بالأسفل  استقلها بجوار مقعد السائق منذ ما يُقارب الثلاث أو الأربع ساعات ، و أثناء ذلك شرعا يُتابعان ما يُنتشر على مواقع التواصل الاجتماعي ثم أردف بصوتٍ تائه متحيّر:
- هنعمل ايه ؟
فـ بسط كفه و كأنه يُعرب عن قلة حيلته :
- و احنا في إيدينا إيه نعمله
ضم " ماجد" شفتيهِ معًا قبل أن يفرجهما ليُردف :
- الكلام اللي اتقال فوق ده لازم يوصل له ، لازم يعرف اللي بيتقال على مراته ، خاصةً ان كل حاجة اتنشرت على الفيس و التويتر و السوشايل ميديا كلها ، و قبل ما توصل له من برا ، لازم يعرف إن حتى جيران مراته آآ..
فقاطعهُ ساخرًا :
- توصل لمين .. لجثة !.. انت بتتكلم و لا كأنه عايش .. يا ابني استحالة يقوم منها !
ابتسامةً متهكمة عرفت طريقها إلى شفتيهِ و هو ينظر نحوهُ من طرف عين ، ثم استطرد :
- انت اللي غبي ، ده " يامن الصياد" يا ابني .. مش ده اللي هيأثر فيه !
أشاح بكفهِ و هو يردف بلا اكتراث :
- يا شيخ فال الله و لا فالك.. ادعي ربنا انه يموت يكون ريحنا و ريح البشرية كلها منه و من شره !
جحظت عيناه و هو مُحدقًا بتلك السيارة التي انعطفت لتمر بذلك الطريق الجانبي ، سيارة يعرفها جيدًا ، بل أنهُ يعرفها حق المعرفة ، انتفض بمحلهِ بينما كان الأخير يُتابع استخفافه و قد شرع ذهنه يقوم برسم خطوطًا عن مستقبله :
- يــا .. تخيّل كده يا واد يا ماجد ، معتش في حد اسمه يامن الصياد ، و اسطورته تنتهي ، مش هنسمع صوته تاني ، مش هنشوف نظراته اللي تخلي دم الواحد يهرب من جسمه ، يـــا .. دي تبقى حِكاية انما ايه !
افترّت شفتيهِ بابتسامة ساخرة كادت تصل لأذنيهِ و قد تيقن حين ترجل من سيارتهِ صافقًا الباب صفقةً عنيفة وصل صداها إليهم .. انها صفقتهِ المعتادة التي تكاد تخلع باب السيارة من محله .. كان موليًا ظهرهُ يسير في الاتجاه المعاكس قاصدًا العقار الذي تقطن بهِ عائلة زوجته.. لم يكن من الصعب عدم التعرف عليه ، ذلك الشموخ و التجبر لا يليق بغيره ، نظر نحو المجاور له من طرفهِ و هو يقاطع خيالتهِ متمتمًا بنبرة مُستهزئة :
- ألف مبروك.. "يامن الصياد" رجع !
...............................................................................
الأجواء احتدمت مجددًا عقب استعادتها التامّة لوعيِها ، بات المنزل كـ بُركان ثار فجأة فانطلقت الحُمم من فوهتهِ ، لم يكفّ الشجار بينهما بينما هي تجهش بكاءً لا تدري ماذا تفعل ، شعرت بتخاذلها دومًا.. دومًا لا تملك ما تفتعله ،  لكنها بالفعل شعرت بذهنها قد أصابهُ الخور المفاجئ اثر الأحداث المتوالية فلم تكن تتمكن الاستيعاب أو التفكير ، دفنت وجهها بين كفيها تستكمل نحيبها المكتوم مُنزوية على نفسها بأبعد أريكة و هي تستمع إلى صرخات والدتها الحادة :
- كله بسببك .. كل حاجة حصلت بسببك ، بنتي بقت قاتلة بسببك انت
فـ لم يكن ليصمت أمام تحميلها إياه ذنب لم يقترفه ، امتد كفه ليجتذب ساعدها بعنفٍ هو يهدر ساخطًا :
- تاني بتجيبي الذنب عليا !.. أنا مالي باللي عملته ؟
صمتت و هي تحدجه بنظراتها النارية فـ هز جسدها بعنفٍ و هو يزأر بها :
- انطقــــي !
فلم تتمكن من احتباس كلماتِها كثيرًا ، فوجدت الكلمات تندفع على لسانها بحرية :
- انت قتلته.. مفيش تفسير غير كده ، القتل بيجري في دمها بسبب أبوها !
ارتخت تعبيراته المُتشنجة و تصلبت عضلات جسده أرخى أنامله قليلًا عن قبضتها و لكنه لم يحررها ، توسعت مقلتاه اثر كلماتها المُريبة ، و لم تتمكن شفتاه بـ نطق سِوى :
- انتي بتقولي ايه ؟
فرددت ساخطة و هي تحاول انتزاع ذراعها من قبضته :
- يوسـف ! انت قتلته ، انت اللي قتلت يوسف
فـ هدر بها بنبرة محتدمة قاتمة و هو يقبض على ساعدها مانعًا إياها من التملص منه :
- انتي اتجننتي ؟
كانت وجنتيها مُلتهبتان من فرط غضبها و هي تردد :
- أيوة اتجننت .. كل ده و مش عايزني أتجنن .. كل ده و عايزني أكون عاقلة .. كل اللي بيحصل لعيلتي ده و عايز يبقى لسه فيا عقل
نقرت بسبابتها بعنفٍ على كتفه و هي تردد مستهجنة :
- بعنيا دول شوفتك و انت بتقلتله ! فاكر و لا ناسي .. لما جيت تقتله و جت في بنتك ! و بردو مهمكش .. بنتك كانت هتروح بسببك و انت مهمكش حاجة
شدد من ضغطهِ على عضلات فكه ثم ردد بلهجتهِ الساخطة :
- واحد.. و ده مش مجرد واحد ، ابن أكبر عدو ليا بيقولي انه اتجوز بنتي من ورايا.. عايزاني عمل إيه ؟ أباركله و أقله عقبال ما أشوف عيالكم !
فهدرت و قد نفذ صبرها :
- يـــــوه ، مات .. مات، أكبر عدو ليك مات ، و ابنه هيحصله بسببك و بسبب أنانيتك ! حاسب سيب ايدي !
فزعق بصوتٍ أخرسها :
- كل شوية بسببك بسببك ، متجبيش الذنب على نفسك مرة ، ميمشيش معاكي ان انتي السبب اللي وصلنا لهنا ، ميمشيش معاكي إن مشاكلنا كلها بسببك انتي و عشانه حبك ؟
و كأنه سكب دلوًا من الثلج فوق رأسها فـضرب الصقيع بأوصالها ، شعرت ببرودةً تسرى بأطرافها فانسحبت الحُمرة شيئًا فشيئًا من أعلى وجنتيها ، رمشت بعينيها عدة مرات غير مستوعبة ما قِيل ، أشارت بسبابتها إلى نفسها و قد زاغت نظراتها متمتمة باستنكار :
- أنا !
حرر قبضتهُ عن ساعدها و هو يردد بنبرة قاسية :
- أيوة انتي .. انتي السبب في اللي وصلناله ، كان ممكن تعارضي أبوكي و ترفضي الخطوبة من الأول ، لكن انتي وافقتي
تغضن جبينها و هي تصيح بشجب جلي و قد بحّت نبرتها :
- عشان مقدرتش.. مقدرتش أرفض و انت عارف ، أجبروني و مقدرتش أعمل حاجة ، و رغم كده مسكتتش ، حاربت عشان أنهي الخطوبة في أسرع وقت ، اتخليت عن راجل بجد .. راجل شهم يقدر يحافظ عليا و يحميني ، راجل يقدر يعيشني ملكة ، راجل بيحبني .. اتخليت عن كل ده و جيتلك انت ! سيبته ورايا و مشيت و اخترتك انت
أشاحت بكفها متابعة بازدراء لم تكن لتمتلكهُ قبلًا ، و كلماتٍ لم تكن ليُفكر بها ذهنها قبلًا لولا كلماتهِ التي أججت ذلك في صدرها، و نبشت جدران ذهنها فأعطى اشاراتٍ للسانها لتتفوه بـ :
- سيبت القصور و اخترت بيت شوية و هيقع علينا، سيبت الفلوس و اخترت الفقر ، سيبت الاحترام و اخترت الذل ، سيبت راحة البال و اخترت العذاب و كتر التفكير ، سيبت الهدوء و اخترت الزعيق و البهدلة و قلة القيمة .. ناسي ، ناسي أنا شوفت إيه أول جوزنا من عيلتك ؟ ناسي أنا قاسيت قد إيه معاك ، نـاسي !
التوت شفتيها بابتسامة ساخرة متمتمة بتهكم مرير :
- سيبت كل حاجة عشانك .. سيبت راجل حبني .. راجل كان هيقدر يحقق لي أي حاجة  أتمناها ، راجل كانت يتمنى يشوف نظرة حُب في عينيا ليه ، سيبت يوسف.. و اخترت حسين !.. يوسف اللي مات بسببنا ، و بردو ابنه هيموت بسببنا !
ضحك.. كركر ضاحكًا بسخرية حتى ارتفع احدى حاجبيها استنكارًا ، و ما ان انتهى حتى أردف بنبرة حالكة و قد تقلص وجهه من جديد:
- قولي كده .. حنيتي لحبيب القلب .. قولي انك بتموتي فيه عشان بتشوفي فيه أبوه قولي انك مش عايزاه يموت لمجرد انه بيفكرك بيوسف !
عادت وجنتيها تتوهجان و قد اندفعت الدماء بعروقهما و هي تهدر به مُحذرة :
- لا انت زودتها أوي ! انت أكيد اتجننت ! أكيد جرى لعقلك حاجة !
انتفضت "ولاء" فزعة اثر الطرقات العنيفة على باب المنزل و كأن أحدهم يوشك على خلعهِ من محله ، ازدردت ريقها بتوجس و هي تنظر حيث غرفتهما الموصَد بابِها ، حتى عادت الطرقات بشكلٍ أعنف من السابق ، فلم تجد مفرًا ، نهضت بحذر و هي تنزح دموعها بأطراف أناملها و قلبها ينتفض رعبًا بين أضلعها ، أدارت المِقبض و فتحت باب الشقة فـ تجمّدت محلها و قد شعرت ببرودة تسرى بأوصالِها ، ارتعدت فرائصها و هي تراهُ أمامها بكامل تجبّره و طغيانه ، توسعت مقلتيها و فغرت شِفاها ، لم تعلم مر عليها من الوقت و هي مُحملقة به ، حتى تحركت شفتيها لتهمس بخفوت :
- انت !
.........................................................
.......................
..........................................................................

 
 


 
 
 
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Opowieści tętniące życiem. Odkryj je teraz