"الفصل السادس و الأربعون"

753 17 0
                                    

الفصل السادس و الأربعون"
كان يجلس بأريحية شديدة على طاولة الطعام و يتناول ما أمامهُ بشهيّة مفتوحة، بينما "يامن" المترأس المائدة يجوبه من أسفلهِ لأعلاه باحتقار، تأفف أكثر حين لاك "نائف" الطعام في فمه، ثم أعرب عن ذوقهِ و هو يتمطّق بهِ:
- امممم، الأكل روعة يا مينـو، تسلم إيد الطباخ، خليني أشوفه قبل ما أمشى
تقوست شفتيّ "يامن" ازدراءً و هو يكرر:
- مينو!
أخرج علبة سجائره و هو ينفخ في غيظ و قد توهجت بشرتهِ القمحية، و سحب سيجارة منها ثم أشعلها بقداحته و ألقاها بعنف على الطاولة و هو يحدجه بأنظارٍ قاتمة، سحب نفسًا عميقًا من سيجارته ثم زفره فصنع سحابة رماديّة بينهما أثناء ترديدهِ:
- خير يا نائف.. إيه سر الزيارة دي؟
و نظر للطعام الذي يكاد ينتهي من حولهِ من شراهته تلك و هو يقول ساخرًا:
- و بعديـن مالك؟.. دا الأكل لسه محطوط و انت ما شاء الله خلصت عليه
 و مال بجذعهِ قليلًا للأمام ليسحب السيجارة من طرفيّ شفتيه بسبابته و الوسطى و هو يغرس النظرات الظافرة في عينيّ الأخير و:
- معلش.. هعتبرها صدقة، أصل شكلك مش لاقي تاكل
 و بينما كان "نائف" يلوك الطعام بين أسنانه غير مباليًا، سعل عقب كلماتهِ الأخيرة، شعر و گأن الطعام توقف في منتصف حلقهِ أثناء ابتلاعه له، احمرّ وجهه من شدة اختناقه فراح يسحب كأس الماء و يتجرع ما به كاملًا، ترك كأس الماء جانبًا و هو يحدج "يامن" بنظرات مشتعلة فبادله الأخير نظرات ظافرة شابتها السخرية جعلت دمائهِ تغلى في عروقه، في حين كان "نائف" يغمغم متوعدًا:
- هتندم يا يامن.. هتندم!
حكّ "يامن" صدغه و هو يعود بظهره للخلف مستريحًا في مقعدهِ و:
- متشوق أوي أشوف هتندمني ازاي!
تلك الابتسامة الشيطانيّة التي لاحت على ثغره جعلت النيران تستعرّ في صدره، و لكنه ارتدى قناع الصلابة و اللامبالاة، على الرغم من كونهِ قرأ بين سطور عينيهِ ما يجعلهُ يكاد يطيح بالأخضر و اليابس، و ما جعل نيرانهِ تطفو على السطح هو حين انفتح بابيّ غرفة الطعام بشكلٍ عكسي جرار، لتظهر هي من خلفهِ، بكامل أناقتها، بثوبها الأسود الرقيق الذي فصّل تفاصيل جسدها المنحوت فأبرز رشاقتها، حيثُ ينسدل بضيق على ساقيها حتى ما قبل ركبتيها بقليل، ذو أكمام طويلة ضيّقة، و فتحة صدر دائريّة ضيقة، خصلاتها تركتهم على جانب واحد من عنقها، و الجانب الآخر المكشوف زينته بقرطٍ طويل فضيّ اللون.
 تثنت "يارا" في خطواتها و كعبها العالي يقرع الأرضية من أسفلها و نظراتها المتحدية مسلطة على "يامن" الذي كاد يلتهمها حيّة بنظراتهِ، مقوسة ثغرها بابتسامة ظافرة، و حين رآها.. نهض من فورهِ ليصافحها فصافحتهُ و ابتسامتها العابثة تتسع و هي تنظر نحوه، لا لـ "نائف"، و لكنه لم يكتفِ، بل انحنى ليطبع بشفتيه قبلة غير بريئة على ظهر كفها، ثم انتصب و هو يردد بود و كأنهُ يعرفها منذ سنون:
- أخبارك يا يارو؟
نظرت حينئذ نحوه و هي تجيب محتفظة بابتسامتها المغرية:
- تمام.. أنا تمام، و انت أخبارك إيه؟
- كفاية إني أشوف الليدي يارا عشان أكون كويس
انفلتت منها ضحكة عابثة و كأنها تستفز مشاعره الرجولية أكثر و هي تسحب مقعدًا لها لتجلس أعلاه، بينما هو جالسًا تكاد أسنانهِ تتهشم من فرط إطباقِهم، و كفهُ الذي تكوّر قابضًا على أنامله حتى ابيّضت مفاصل أصابعه، نظراته باتت گالسعير تتناثر منه الشرر المستطر نحوها، وجهه أشبه بجذوة من النيران بلونهِ الأحمر الفاقع الذي طغي على لون بشرته، و تلك العروق البارزة في نحره واضحة للعيان، و خاصة حينما سحب "نائف" مقعدًا آخر ليعتليه بجوارها بينما كانت تردد باهتمام و هي تعقد كفيها أعلى الطاولة:
- نورين أخبارها إيه يا نائف؟ وحشتني جدًا
انحرفت نظراته الماكرة نحو "يامن" و هو يتنهد قائلًا:
- و انتي كمان وحشتينا.. قصدي وحشتيها أوي
و انعطفت نظراته إليها مجددًا و هو يتابع معتذرًا نيابة عن شقيقتهِ:
- بتسلم عليكي.. و بتقولك مبروك، معلش بقى مقدرتش تيجي
أومأت "يارا" و هي تضحك بحبورٍ زائف:
- أنا عارفة.. كلمتني، ربنا معاها
سبحان من جلعهُ ساكنًا بالرغم من حالة الثورة التي بداخلهِ، انحنى قليلًا بجذعهِ دون أن يصرف بصره المتقد عنها، ليُطفأ سيجارتهِ في المنفضة، انفتح الباب.. و دلف أحد الخدم و هو يحمل صحونًا إضافيّة گحصة لها إثر إنضمامها.. و تنفيذًا لأمرها، و فور أن ترك الطعام أمامها انصرف دون تعقيب، سحبت " يارا" شوكتها و بدأت تتناول الطعام بهدوء شديد، انحرفت أنظارها نحو "يامن" و هي تبتلع قطعة من الدجاج مشيرة لطعامهِ الذي لم يمسّه:
- مالك يا بيبي، مش بتاكل ليه؟
كشر عن أنيابهِ و هو يحدجها بنظرات متوعدة بالرد القاسيّ على فعلتها، و لكنها بادلته ابتسامة باردة و هي تسحب قِطعة من صحنهِ:
- أظن متمانعش لو خدت دي.. سوري يا بيبي، أصل أكلك غير أكلي!
تفاجأت بهِ يدفع الصحن في اتجاهها عقب أن حكّ بظهر إبهامهِ ذقنه و هو يلوى ثغره بابتسامة صقيعية:
- اتفضلي يا حبيبتي، ميغلاش عليكي
 و گأنهُ أضاع فرحتهِ بانتصارها المؤقت، فضغطت على شفتها السفلى و هي تقول بغيظ:
- مرسي يا بيبي
أردف "نائف" ساخرًا و نظراته تتوزع فيما بينهما:
- جوز كناريا.. ما شاء الله
و بدا الخُبث في عينيهِ و هو يتنهد قائلًا:
- ربنا يخليكم لبعض يا حبايبي
تركت صحنها جانبًا بعد بضعة دقائق ساد فيها الصمت.. و لكن تلك النظرات المستعرة التي تتبادل بين كلاهما كانت تضيف صخبًا و ضوضاء مرتفعة لم يستمع لهما سِوى كلاهما، حتى انفتح الباب مجددًا و ولج الخادم ليضع حاملًا معدنيّا يحمل فوقه عِدة كؤوس و زجاجة ما.. و تركهم أعلى المنضدة حينما كان "نائف" يسحب كأسهِ و هو يقول بلهجة راضية، و قد افترّ ثغره عن ابتسامة ماكرة:
- حلـو أوي، كده السهرة ابتدت تحلو
و أشار لـ "يامن" و هو يسأله قاصدًا استفزازه:
- ما تشرب يا مينو، و لا بطلت؟
أشار "يامن" بجذوتيه للخادم المتيبس منتظرًا منه أمرًا فانصرف من فورهِ، عادت أنظار "يامن" تتجه نحوه و هو يعتدل في جلستهِ منتصبًا بكفيه ليسحب أحد الكؤوس أثناء قولهِ الجاف:
- معلش بقى يا نائف، ست سنين في السجن نسيتك حاجات كتير عني
و تسلطت أنظارهِ المتوعدة عليه و هو يقرب الكأس من شفتيه:
- لكن أنا بعون الله هفكرك
شرع "نائف" يتجرع ما في الكأس كاملًا برشفة واحدة ثم تركهُ أعلى الطاولة و هو ينظر نحوه بشراسة:
- معلش.. نفتكر، واحدة واحدة نفتكر كل حاجة إحنا الاتنين
و بينما هما هكذا، يتبادلان الأنظار التي شعرت "يارا" بها ستخلق كومة من النيران تلتهم ما حولهم، انحرف "نائف" بنظراته إليها و هو يضع كأسًا أمامها قائلًا بلباقة:
- اتفضلي يا يارو
رمشت "يارا" عدة مرات و هي تنظر للون الغريب للكأس، ضيقت عينيها و هي تتساءل من أي فاكهة صُنع.. و لكنها لم تجد إجابة، اعتقدت أنهُ نوعًا من المشروبات الغازية أو ما إلى ذلك، سحبت الكأس و قربتهُ من شفتيها فحذرها "يامن" بخشونة:
- يــارا!
رفرفت بعينيها و هي تنظر نحوه بعدم فهم، فأشار لها بعينيهِ لتترك الكأس جانبًا، و لكنها شمخت بذقنها و هي تلوى ثغرها بابتسامة متحديّة، و كأنها كانت تنتظر منهُ أمرًا كي تخالفه، و راحت ترتشف ما بالكأس، متجاهلة طعمهِ اللاذع، و محاولة قدر الإمكان عدم إظهار اشمئزازها، حتى تركت الكأس جانبًا ما إن أنهتهُ، تحت وطأة أنظارهِ التي توعدتها، و كأنهُ تشفى فيها و هو يراها هكذا، و عقد عزمه على تركها كونها آثرت تحديهِ، و "نائف" يضع أمامها كأسًا آخر.. فتجرعت ما به هو الآخر، و بـ الثالث كان قد اكتفى.. فور أن تركت كأسها الثالث كان يسألها "يامن" بلهجة صقيعيّة و ابتسامة ساخرة جانبية تلوح على ثغره و هو يترك كأسه جانبًا:
- عجبتك الخمرة يا يارا؟
و قبل أن تبتلع ما بثغرها بصقتهُ أمامها و هي تتنفس بمعدل سريع، نظرت نحوهُ بأعين متوسعة عن آخرها و هي تسحب محرمة ورقية هامسة:
- خـ..خمرة؟
انعقد حاجبيّ "نائف" و هو يقول و كأنه شُده:
- خير يا يارو؟ انتي أول مرة تشربي و لا إيـه؟
و نظر نحو "يامن" المرتكز ببصره عليها و هو يسأله بتهكمٍ:
- هي مبتشربش؟
و كانت نبرته الخبيثة حين أردف:
- بس اللي أعرفه إن حبيبتك تالين مكنتش بتبطل شرب!
حينها لم يتمكن من السيطرة على نفسهِ، نهض مستقيمًا و هو يدفع المقعد من خلفهِ حتى سقط أرضًا، و مضى نحوه ليجتذبه من تلابيبه مجبرًا إيّاه على الوقوف و هو يجأر بهِ:
- أنا صبرت عليك كتير، لكن و رحمة أبويا إن سمعت كلمة زيادة منك لاكون دافنك مكانك، صدقني يا نائف موتك مياخدش في ايدي ثانية!
فاهتاج الأخير، و خلع أخيرًا ذلك القناع الذي ارتداهُ مطولًا.. أطلقت عينيهِ شررًا و هو يحاول إزاحة كفيه عن عنقه مرددًا:
- زي ما موتها مخدش ثانية في إيـدك! هتقتلني يا يامن؟، عايز تقتلني زي ما قتلتها!
 انفلت إحدى كفيهِ ليجتذبه للخارج برفقتهِ رغمًا عن الأخير و قد باءت محاولاتهِ الجمّة للتخلص من قبضته بالفشل، حتى بلغ "يامن" باب القصر فدفعهُ خارجًا و هو يجأر بشراسة:
- ابقى خليني أشوف خلقتك دي تاني يا *******
ارتد جسد "نائف" للخلف و لكنهُ وازن جسده في اللحظة الأخيرة حتى تمكن من الاستقامة، ضبط هندامهِ و هو ينظر نحوهُ بتوعدٍ، ثم أومأ و هو يقول بلهجة قاتمة:
- ماشي يا يامن، لكن الحساب مخلصش، و انت حسابك زاد معايا أوي!
فخرجت نبرتهِ حالكة شرسة و قد برزت عروق جانبيّ رأسه:
 - و ديني لمعرفك مين "يامن الصيّاد" يا*****.. الست سنين اللي قضيتهم في السجن كانوا قرصة ودن يا نائف،  مجرد قرصة ودن مني، لكن خليك فاكر.. يامن الصياد مبيسيبش حقه
و صفق الباب في وجههِ ، ثم دلف مغيرًا مسارهِ حتى بلغ غرفة الطعام، فوجدها محلها و قد بدت غير مستوعبة، لم تتحرك من مكانها، فقط مستندة برأسها على المائدة محاولة استيعاب ما قيل توًا.. و لكن ذهنها لم يسعفها و قد شعرت بالمشروب يتلاعب بخلاياه، فكانت تحاول أن تقاوم تلك الحالة العجيبة التي بدأت تتملكها.
 مضى "يامن" نحوها ليجتذبها بعنفٍ ملحوظ من عضدها مجبرًا لها على الوقوف على قدميها و هو يجأر بها مستهجنًا:
-  إيه اللي نزلك من أوضتك.. انطقي
رمشت عدة مرات و هي تسألهُ و قد شعرت بكلمات "نائف" كسكين حاد طُعن به قلبها:
- انت.. كنت بتحب؟ و.. قتلتها؟
تكور كفهُ  و قد برزت عروقه الخضراء بوضوح، ترنح جسدها بين ذراعيه فغمغمت و هي تحاول الحفاظ على اتزانها:
- ازاي؟ انت..
فأشاح بكفهِ هادرًا و قد تشنجت عضلات عنقهِ:
- ازاي تشربي خمرة؟ انتي اتهبلتي؟
نظرت لعينيه مباشرة و قد بدا وجهها ملتهبًا و هي تقول بسخطٍ:
- و أنا أعرف منين إنها خمرة.. أعرف منين إنك بتشرب؟ أعرف منين إنك بتقدم حاجة زي دي لضيوفك
- ده كان للنـ** اللي قاعد مش ليكي!
حاولت سحب كفها من قبضته و هي تقول مستنكرة:
- احترم نفسك و ابعد عني، حاسب أنا قرفانة منك، أنا.. مش قادرة أصدق إنك...
قاطعها و هو يُشدد من قبضته على ذراعها مستديرًا بها:
- امشي معايا
حاولت انتشال كفها و هي تتلوى بجسدها محاولة الفكاك و هي تضربهُ بكفها عدة مرات في ظهرهِ الصلد:
- سيبني.. سيبني بقولك، هتعمل إيه فيا؟، عايز إيه مني؟ هتقتلني زي ما قتلتها؟ هتقتلني ببساطة
و أحنت بصرها و هي تهدر باهتياج:
- كمان كنت بتحبها! كنت بتحبها و قتلتها، أومال هتعمل فيّا إيـه؟
و لم تكفّ صراخها أو احتجاجاتها طوال الطريق لغرفتهِ بينما هي تُعصف يمينًا و يسارًا، حتى بلغ مقصده، فدفعها بعنف للداخل و دلف موصدًا الباب بالمفتاح من خلفهِ، التفت نحوها و شرارات الغضب تنفلت من عينيهِ و هو يجأر ساخطًا:
- تعرفي ابن الـ***** ده منين؟
هدرت بهِ مستنكرة و هي تشيح بكفيها و قد ترنحت في وقفتها:
- و ده اللي هامك؟، هـو ده اللي هامك؟
دنا منها عدة خطوات و هو يصيح بها بلهجة مُتقدة:
- انطـــقي!
كزّت بعنفٍ على أسنانها و هي تزجرهُ بنظرات مشتعلة، ناظرتهُ بتحدي و هي تقول من بين أسنانها متعمّدة إشعال جذوات اللهب داخلهِ:
- أخو صاحبتي.. و كان بيحبني!
ضيّق عينيهِ و هو يحدجها بنظرة حامية، و كأنها حمم بركانية تتقاذف من عينيهِ:
ـ بيـ... إيــه؟
فرددت و قد قَصدت استفزاز مشاعرهِ الرجولية:
ـ بيحبني!.. و مش بس كِده ، اتقدملي و كان في مشروع جواز بينا ، بس انت هديته!
دنا منها أكثر مُقلّصًا المسافات بينها و بينه حتى باتت سنتيمترات معدودة، توهجت حدقتاه بشكلٍ ملحُوظ ، و التهب لون بشرتهِ و هو يُتمتم هامسًا بنبرة جافة :
ـ سمعيني تاني كده.. بيـ...إيــه ؟
لفحت أنفاسه الدافئة التي بدت گنيرانًا مُلتهبة بشرتها فسرت قشعريرة بجسدها ، تلعثمت و هي تستشعر اقترابهِ منها، رمشت بعينيها عدة مرات ، ثم تمتمت بصوتٍ أخفض من ذي قبل مُحاولة عبثًا استجماع شُتاتها الذي بعثرهُ :
ـ بيحبنـ...
و اقتُطِع صوتها بين شفتيه.. و قد شنّ هُجومًا ضاريًا عليهما، توهج لون بشرتها و هي تحاول الانسحاب من تلك المواجهة الحامية، و لكن كفه كان قد اتخذ محله أسفل رأسها ليُثبتها ، تلوت بين ذراعيه في محاولة منها للفكاك منه و لكن هيهات ، تشرّبت وجنتيها بـ الحُمرة الغاضبة و قد شعرت بالدماء تغلي غليًا في أوردتها ، و ما ان ترك شفتيها مُبتعدًا عنها مسافة لا تُحتسب أردف بصوتهِ الجاف:
ـ جربي تاني تقولي الكلمة دي قدامي و شوفي ايه اللي هيجرى لك
التقطت أنفاسها اللاهثة بصعوبة و هي مُحدقة بهِ بنظراتٍ مُتقدة ، ثم هدرت بهِ باهتياج واضح :
ـ ايه اللي عملته ده! بأي حق تتجرأ تعمل كده، بأي حق بتعمل كده؟ بأي حق بتتجرأ تعمل كده و لا كأنك..
ارتفع جانب ثغره بابتسامة ساخرة قبل أن يُتمتم بإيجاز و هو يُزيح خصلة بأنامله معيدًا لها خلف أذنها:
ـ جـوزك.. يا حرمي المصون!
كزّت بعنفٍ على أسنانها و هي تدفع كفهُ بعيدًا عن وجنتها مرددة بنبرة حامية:
ـ ده مش يديك الحق انك تعمل كده
أخفض نظراتهِ حتى شفتيها المُكتنزتين .. ثم مرر ابهامهِ عليهما و كأنه يعد خطوطهما الدقيقة هو يتمتم بنبرة جافّة:
ـ عملت ايه؟
توسعت حدقتيها و ارتفع حاجبيها ، انسحبت الدماء عن وجهها ليحل الشحوب محله و هي ترى نظراتهِ النهمة مُسلطة على شفتيها فلم تشعر بنفسها سوى و هي تهمهم :
ـ هاه
و قبل أن يلتقم خاصتها ، كانت تشحذ كامل قِواها لدفعه من صدره:
ـ حاسب يا مجنون ، ابعد عني
فلم تتمكن من زحزحتهِ إنشًا ، تصلّبت ملامحه و هو يرفع نظراته لعينيها مُحدجًا إياها بنظراتٍ حامية قبل أن يُردف :
ـ المجنون ده هيوريكي الجنان على أصوله لو سمعتك بتجيبي سيرة الواد ده
فضاقت عيونها لتتفاقم احتدادًا، و هي ترمقهُ بنظرة ناقمة، و من ثم غمغمت بتعنّد زائد:
ـ طب كان بيحبني..  بيحبني..  بيحبـ...
و كان مصير كلماتِها جوفه من جديد في قُبلة أكثر انفعالًا من ذي قبل ، حاولت دفعهِ لأكثر من مرة ، قاومتهُ قدر المستطاع ، و لكن راحت مُقاومتها هباءً أمام اصراره العجيب .. و ما إن ابتعد عنها حين استشعر حاجتها للهواء كانت تنسل من تحت ذراعيه منحنية حتى صارت خلفه، تنفست بمعدل سريع محاولة التقاط أنفاسها للاهثة، ثم سحبت إحدى المزهريات و هي تشهرها في وجهه محذرة إيّاه:
- هقتلك.. هقتلك و المرة دي هسيبك، هقتلك لو حاولت تقرب مني! هقتلك و أقتل نفسي.. انت فاهم؟
شرعت تتراجع عدة خطوات حينما كان يدنو منها و هو بلهجة مشتدة مشيرًا بعينيه للمزهرية:
- ارمي البتاعة اللي في إيدك دي!
- لأ.. هقتـ..آآه
صرخت صرخة عنيفة حين اجتذبها بيُسرٍ من كفها ليلقيها بعيدًا فسقطت متهشمة، و اجتذبها لينهل من شفتيها مجددًا محتويًا احتجاجاتها بشفتيهِ، حتى أفلتها مجددًا ليتيح لها الفرصة للتنفس، حدجتهُ بنظراتٍ مشتعلة متوهجة و قد صار وجهها ككتلة من النيران، و حالما كاد يلتهمهما مجددًا كانت تخدشهُ بعنف في عنقهِ فابتعد قليلًا و هو يسبّ بخفوت من بين شفتيه متلمسًا عنقه، استغلت الأمر و راحت تستل نفسها من حِصاره، التفتت لتعبر و هي تطيح بكل ما يقابلها بينم تصيح باهتياج شديد:
- مش هبقى ليـك، مش هبقى لواحد حقير زيك،.. انت مش هتلمسني
و أوفضت نحو الباب، حاولت أن تفتحهُ و لكنه كان موصدًا بالمفتاح، فأطبقت أسنانها بغيظٍ متفاقم، قبضتهِ التي سحبت ساعدها إليه أجبرتها على الالتفات و النظر في عينيهِ، كادت تحتجّ و:
- مش هتلمسني يا يامن.. مش هتلمسني، مش هيـ...آممم
دكّ حُصونِها ببراعة عجيبة، و اقتحم أسوارٍ شيّدتها من أجله فقط ، اقتحم قلبًا أوصدتهُ من ناحيتهِ جيدًا ، أو أنها كانت تعتقد ذلك ، دفعةً واحدة منه أطاحت بهِ رُغم أنفها ، الثالثة فـ الرابعة و قد بدأ يلين قليلًا ممتصًا غضبها.. و كأنهُ يرتوي من بين شفتيها إكسير حياتهُ ، و هي.. في حالة يُرثى لها ، حينًا تُقاوم و حينًا تتخاذل عن المُقاومة ، انتابها الخُور المُفاجئ و راح ما تناولته من مشروب يتلاعب بخلايا ذِهنها أمام غزوهِ لأراضيها ،و فور أن أدرك استسلامها لاستعمارهِ كان ينحني ليمرر ذراعهُ خلف ركبتيها، حملها بين ذراعيه و اقتادها نحو الفراش ، ليخُط بـ قلمهِ أولى الصفحات في كتـب العاشقين ، متناسيًا ما قد يُعكر صفو تلك اللحظات .. و أنهُ تغاضى عنه إجباريًا.
هُنا..
أدركت أنه نزع صمامًا أحكمهُ بـ قسوةٍ على فُوهة قلبهٍ ، فـ اندفعت مشاعِرًا مُلتهبة منهُ .. مشاعرًا أودعها في قبلةِ حميمية أسرتها ، أدركت أن خلف شخصيتهِ المُتجبرة تلك.. شخصية أخرى لها جوانب عِدة ، و خلف وقفتهِ التي توحي بأنه أقرب لقالبًا من الثلج.. قلبًا دافئًا أصهر قلبِها و أذاب ثلوجِها ناحيته، و مضى غارسًا بنقر خُطاه ورودًا في جِنان روحِها.. ورودًا أينعت بتلاتها و فاح شذاها ، و لم تكن هي بالبخيلة.. وهبتهُ مدينةً حرّمت على غيرهِ السير بها فـ تجوّل بها بحرية، مدينةً اعتنت بها و كأنها وطنها، و بلحظةٍ أهدتها إياه بلا مُقابل، مشاعرًا خبأتها بين طيّاتها عن جميع الرجال.. احتفظت بها لأجل من يُعلن احتلالهِ الدائم لأراضيها.. و ها هـو آخرهم يحظَ بها .
.........................................................................
وقفت أمام قِسم الشرطة، مرفوعة الرأس.. و من خلفها ثلاث رجال عيّنهم "يامن" لحراستها، تتطلع إلى بابهِ الذي يبعد عنها مسافة الدرجات التي لم تصعدها، نزحت أي شعور للخوف و نحّتهُ جانبًا، و ما جعلها أكثر ثقة هي الحراسة التي أصرّ "يامن" على تتبعها أينما تذهب، انحبست أنفاسها في صدرها حين أبصرتهم يدلفون خارجًا، لم يلاحظوها و هي تقف محاطة برجالها.. أو أنهما لم يتوقعان أن "رهيف".. هي تلك "رهيف" التي تقف أمامهما، كانت جامدة الملامح حين حدّق بها "راشد" و هو يهبط آخر الدرجات و قد سبق والده، دنا منها و هو يغمغم بصوت متلعثم:
- ر..رهيف!
بادلتهُ نظرات قوية و ثغرها يفترّ كاشفًا عن ابتسامة باردة و هي تقول:
- ازيك يا راشـد!
و انحرفت أنظارها نحو خالها الذي فور أن دنا منهم كاد يهجم عليها منتويًا اجتذابها من خصلاتها المختفية أسفل حجابها، و لكن بثانية واحدة.. كان رجالها الأشداء يُشكلون بأجسادهم القويّة حدًا فاصلًا بينهما، كزّ "متولي" على أسنانهِ كمدًا و هو يهدر من بين أسنانه المطبقة:
- ماشي يا بت أختي، و حياة اللي خلجني و خلجك.. لأكون موريكي الوش التاني
تنحى رجلًا منهم لتتمكن من رؤية "متولي" و هي تنظارهُ باحتداد متابعة بصوت قويّ:
- كنت غلطان يا خالي لما فكرتني سهلة للدرجة دي
و حرفت أنظارها بين "راشد" و بينه و:
- كان بإمكاني أسجنكم و المحضر يتحول للنيابة.. لكن معلش
و صمتت هنيهة حين ارتكز بصرها المملوء بالعتاب الجاف نحو "راشد" و هي تقول:
- المسامح كريم
تنهد "راشد" بحرارة و هو يحنى بصرهُ أرضًا، حتى شملتهُ "رهيف" بازدراء، انعطفت نظراتها الملتهبة نحو "متولي" و هي تقول باشتداد:
- و أنا كريمة معاكم لأقصي حد، محدش هيعرف اللي كنتم هتعملوه فيا!
و عبثت بأظافرها و هي تقول بلهجة باردة:
- شوفتو أنا كريمة معاكم ازاي؟
و ارتكزت أبصارها على خالها البغيض و هي تنطق و ابتسامة تتراقص على شفتيها:
- لكن للأسف.. مفيش حاجة ببلاش الايام دي
تنهد "متولي" باختناق و أنظارهِ المتوهجة مسلطة عليها، ثُم سأل بنفاذ صبر:
- عاوزة ايه يا بت فؤاد؟
زمت شفتيها ثُم قالت بلهجة أشد قوة و هي تحرف نظراتها فيما بينهما:
- تطلعوني من اللعبة دي.. زي ما أقنعت جدتي بجوازي من ابنك، تقنعها باستحالة ده!
و خفتت ابتسامتها و هي تقول:
- و متقلقش، أنا قولت اني تعبت و قعدت مع صاحبتي شوية،.. و انتم حجزتوا أوضة في فندق قريب لحد ما أقدر أمشي على رجلي
فـ تشدق "متولي" ساخرًا:
- ده انتى مخططة لكل حاجة بجى
اتسعت ابتسامتها حتى كادت تصل لأذنيها و هي تومئ برأسها:
- طبعًا يا خالي.. ما قولتلك، غلطتت لما فكرتني سهلة
و تشبثت بما أصابهم من خلف زوج صديقتها ذاك، فراحت تقول بلهجة مهددة:
- و كنت غلطان لما فكرت إني ماليش ضهر، كفاية جوز صاحبتي اللي طلعكم ، و بكلمة مني يرجعكم!
فتوعدها "متولي" بقولهِ المحتدم:
- بتتحامي من أهلك في راجل غريب يا بت فؤاد!
شبكت "رهيف" أصابعها معًا و قد احتدت نظراتها و هي تقول:
- للأسف يا خالي.. الغريب طلع أهون عليا من كل قريب!
و مررت النظرات المحتدمة فيما بينهما، ثم قالت و هي تخفي عينيها خلف زجاج نظارتها رافعة رأسها بشموخ:
- لكن عرفت ده متأخر.. سلام يا.. خالي
و ابتسمت بسخرية مريرة و هي تلتفت لتشق طريقها نحو السيّارة الخاصة بـ "يامن"، حيث ينتظرها السائق، و من خلفها رجال حراستها الذين سيستقلون السيارة الأخرى التابعة لهم.
...................................................................
كان بكامل أناقتهِ و قد ارتدى حلة من اللون الـ"كافيه" الفاتح و الذي لاق لون بشرتهِ، كان يرتدي سترتهِ و من أسفلها قميص من اللون الأبيض، و لم يكن لينسى رابطة العنق التي تعتبر مزيجًا من اللونين الكافيه الفاتح و القاني، ضبط "فارس" أزار أكمامهِ و أغلقهما، ثُم سحب قنينة العطر لينثر منه بغزارة، و تركها جانبًا فور أن انتهى، صفف شعره جيّدًا للأعلى و هو يقف أمام المرآة، ثم مرر أنامله بين خصلاته، استدار و سحب سترتهِ ليخرج من غرفته بمنزلهِ بين أحضان القاهــرة.
اخترقت أنفه تلك الرائحة فزكمتها، التفت و هو يسير نحو جزء المطبخ المفتوح، ليجد من خلف الحائل الرخاميّ القصير رفيقه و هو يرفع المقلاة عاليًا ليقلب بيض العيون، اتسعت ابتسامتهِ و هو يمضى نحوه بينما يردف ساخرًا:
- هناكل من ايد الشيف مايكل النهاردة
- صهيت؟ "صحيت"
فتنمر "فارس" و هو يدلف:
- لأ لسـه!
التفت "مايكل" لشمله بنظرة جابت أعلاه لأسفله، ثم عاد يصب تركيزه فيما يفعل و هو يقول بينما ابتسامة ترتسم على صفحة وجههِ:
- تُشأرني و كأنك تناولت من يد أحدًا غيري منذ أن أتينا هنا.. أرى أنك تنوي الخروج
هز "فارس" رأسه بإيماءة خفيفة و هو يعقد ساعديهِ:
- آه
فسألهُ "مايكل" بنبرة عاديّة:
- إلى أيــن؟
 حل "فارس" ساعديهِ و هو يستقيم في وقفته، ثم ربت على كتفه و هو يقول مازحًا:
- شكلي مش مكتوب عليا أفطر من إيدك
رمقه "مايكل" من طرف عينه و هو ينقل البيض للصحن و:
- انتظر قليلًا.. أشأُر و كأن هنالك خطبًا ما!
حكّ "فارس" بسبابته طرف أنفه و هو يقول و قد أظلمت عيناهُ قليلًا:
- فعلًا.. لكن متقلقش، مشوار كده هخلصه في السريع
و خرج من جزء المطبخ لغرفة المعيشة و هو يقول بنبرة عالية نسبيًّا:
- كان لازم يخلص من زمان.. لولا وجودنا في القرية
فـ عرض "مايكل" عليهِ، و قد بدأ يرتاب:
- آتي مأك؟ أهو بتلك الخطورة؟
- تـؤ، مش خطير خالص بالنسبة لي
و انخفضت نبرتهِ حتى صارت لا تُسمع من رفيقه:
- لكن خطير.. بالنسبة للطرف التاني!
..................................................................
تململت و هي تأن بخفوتٍ مُستشعرة ذلك الألم الطاحن برأسها ، و ذلك الصداع الذي ينهش من خلاياها ، ودّت الحراك و لكنها استشعرت و كأنها مُقيدة بأغلال من حديد ، شرع الإدراك يتسلل نافذًا عبر ذهنها ، فـ ضيّقت عينيها و هي تُحدق بذلك الوجه القريب منها محاولة تحديد ملامحه ، كانت الرؤية مشوشة قليلًا و لكنها اتضحت بالنهاية ، توسعت مُقلتاها و جحظتا و هي مُحملقة بوجههِ المُحتفظ بجموده و وسامته ، ازدردت ريقها و قد شرعت الذكريات تتوافد إلى ذهنها فتدفقت الدماء إلى وجنتيها ، تهدجت أنفاسها و نهج صدرها علوًا و هبوطًا ، أرادت أن تُكذّب نفسها فـ عطفت نظراتها حتى جسدها الذي لا يسترهُ سِوى الغطاء ، و قبل أن تشهق شهقةً عنيفة اثر تلك الصدمة التي زلزلت كيانها كانت تكتم فاهِا ، و بصعوبةٍ أزاحت ذراعه المُطوق لخصرها بتملكٍ حتى تمكنت النهوض ، التقطت أي من الثياب المُلقاة بإهمال و ارتدتهُ على عجلٍ فكان قميصه الحالِك ، مضت نحو المرحاض و هي تهمّ بإغلاق بضع أزراره و دلفت موصدة الباب بحذر ، استندت بكفيها على الحوض و أخذت تُحدق بهيئتها تلك بأعين مُتوسعة مشدوهة ، لا تكاد تستوعب أنها تحدق بحالها ، و أن من تقف أمامها تلك ما هي إلا "يارا"
فـ شرعت نظراتها الجريحة تتأمل تلك العلامات المُدمغة بها و التي تركها لها أعلى كتفها ، و عظمتي الترقوة ، تلمست احدى الكدمات البسيطة بالعظمتين بأناملها و ذهنها يمنحها تفسيرًا لها ، لو كانت أُخرى لكانت توهجت بشرتها و التهبت من فرط الخجل، و لكنها غير.. كانت بشرتها مُصفرّة شاحبة ، لم تكن تتخيل أن يحظَ بها بتلك السهولة ، و لم تكن تتخيل أن تهبهُ نفسها بذلك اليُسر ، لم يكن من انتظرته ، و لم يكن من صانت نفسها لأجله ، و اليوم هي تقف على حافة الأنقاض ، تمرر عينيها على حُطام سفينتها ، مرّ أمام عينيها ذكرياتٍ كان بها التجبر و الظلم قد طالها منه ، تذكرت كيف اختطفها، كيف جعلها تعيش حالة من الهلع المستمرّ، و كيف جعلها تخط بأناملها ميثاق هلاكها.. و البارحة ، جعلها تخط وثيقة هلاكِها الأبدي، التهبت بشرتها و اضطرمت النيران في حدقتيها ، و لم تشعر بنفسها سِوى و هي تسحب إحدى العبوات و تقذفها بعنفٍ لتصطدم بالمرآة التي عرضت مشاهدًا لم تكن بالحميدة كـ شاشة عرض سينمائي ، فـ أصدرت دويًا مرتفعًا اثر تهشمها ، صرخت بهلعٍ و هي تتراجع للخلف دافنة وجهها بين كفيها ، و من فرط ارتياعها و عدم استيعابها التصقت بالجدار شاخصة البصر لا تدري ما حدث.
اخترق الصوت المدوي أذنيه فجعلهُ يستيقظ من نومتهِ، اعتدل في جلستهِ، فتغضّن جبينه و هو يتأمل الوسط من حولهِ، فنفخ مستشعرًا ما يطبق على أنفاسهِ، تلمس بأناملهِ الفراش جواره ليجده خاليًا منها ، دوى صوت صراخها الحاد فـ حانت منه التفاتةً نحو المرحاض ، أطبق جفنيه بقوة و هو يكز على أسنانه، ثوانٍ ظلّ دافنًا وجههُ بين كفيهِ، كان يعلم أنهُ سـ يندم.. كان متأكدًا أن شعور الندم سيلاحقه بعد تلك الليلة، و لكن رغبتهِ المحمومة التي طالبتهُ بها كانت الأقوى منه، هبّ واقفًا و سحب بنطالهِ و ارتداه على عجل ، ثم مضى نحو المرحاض فوجده موصدًا ، تفاقم ما بهِ من قلقٍ و قد خشى تهورها فهدر و هو يطرق طرقات عنيفة:
ـ افتحي يا بنت حسين
فلم يتلقَ صوتًا.. طرد زفيرًا من صدره و هو يفرك جلد بشرتهِ بعنفٍ ، ثم عاد يطرق بشكلٍ أعنف عن ذي قبل و هو يردد بصوتٍ أجشّ:
ـ افتحي الزفت يا يارا
و لمّا ضاق بهِ ذرعًا هدر بصوتٍ تزامن مع طرقاتهِ العنيفة:
- هتتنيلي تفتحي و لا افتح بطريقتي!
مرّت ثوانٍ گالدهر عليه ، فـ اندفعت الدماء بعروقهِ فالتهب لون بشرته و هو يتمتم حانقًا:
ـ مبدهاش بقى
تراجع للخلف ثم ارتد يدفع الباب بعنفٍ بكتفه ، أعاد الكرّة فلم يحتمل الباب كثيرًا ، فـ انتُزعت مفاصله و كاد يهوي لولا أن قبض بكفيه على حافتيه تحسبًا ان كانت تجلس خلفه ، ثم تركه جانبًا و دلف للداخل و عينيهِ تبحثان عنها ، ليتفاجأ بـ المشهد .. الشظايا متناثرة هنا و هناك ، و هي منزوية على نفسها في أحد الأركان ، كادت نبضاته تصم أذنيه ، هو يدرك جيدًا تهورها و تصرفاتها الرعناء و الغير محسوبة ، أوفض نحوها على الفور و التقط معصميها يفحصهما:
ـ وريني ايدك..انتي عملتي ايه ؟
كانت شاخصة و قد تهدجت أنفاسها ، شاحبة و كأنها أبصرت شبحًا للتو ، تأكد من سلامتها فـ أصرف بصره تلقاء وجهها ، سحبت معصميها و هي تضع احدى كفيها على صدرها المتهدج ثم قالت بهذيان:
ـ لا لا لا..  محصلش حاجة ، أنا معملتش حاجة ، محصلش حاجة و...
فأمرها بخشونة موجزة:
- اهدي
فعادت تهذي بجنون:
ـ مستحيل أكون عملت كده.. مستحيــل، أنا زي ما أنا ، أنا معملتش حاجة
فتمتم من بين أسنانهِ المُطبقة:
ـ اهدي
فـ اهتاجت و هي تدفع كفيه بعيدًا عنها هادرة بنبرة عنيفة:
ـ قولي ان محصلش حاجة .. انت ساكت ليه؟ اتكلـم!
فـ لكم الجدار بقوةٍ بجوار رأسها زائرًا:
ـ اهــــدي!
انتفض جسدها و هي تشهق بهلعٍ مُلصقة ظهرها للجدار مُحدقة بقسماتهِ القاتمة ، و ما ان امتلكت زمام أمورها حتى عادت الدماء الغاضبة تتدفق إلى وجنتيها و قد شعرت بها تغلى كـ المراجل في أوردتها ، توهج شعاع نظراتها و هي تتمتم بصوتٍ مُهتاج:
ـ آه يا سافل يا حقير يا....
حاصرها بينهُ بين و الجدار مُقلصًا المسافات مقاطعًا بهسيسٍ أقرب للفحيح:
ـ شـشـش .. كله كان برضاكي
فبررت لهُ و قد برزت عروق نحرها :
ـ مكنتش في وعي!
فكان باردًا للحد الذي أثار استفزازها حين ردد بجفاء معهود:
ـ مش شُغلي!
التهبت بشرتها أكثر و هي تردد باستهجان واضح:
ـ انت غصبتني.. أجبرتني، أنا مكنتش...
مطّ شفتيه و هو يتلمس وجهها بأناملهِ الخشنة و هو يغمغم بلهجة متريثة متعمدًا أن تلفح أنفاسه بشرتها:
- تـؤ،.. مكنش ده كلامك و انتي في حضني امبارح
- قولتلك.. مكنتش في وعيي، و انت استغليت ده!
- مش مشكلتي
أنفاسهِ الدافئة تلفح بشرتها و كأنها سِياط ، نهج صدرها علوًا و هبوطًا و قد شحب لونها حين وجدته مُسلطًا لنظراتهِ الجائعة على شفتيها ، و قبل أن يلتقمهما كانت تضع كفها حاجزًا و قد تجعد وجهها بتشنج ، فـ بدلًا من شفتيها كان يُقبل أناملها ، تراجع قليلًا ليحدق بها بينما كانت تدفعهُ من صدره متمتمة بنبرة ناقمة:
ـ ابعد عــني!
و جدها تلقائيًا تُغلق أزرار صدر قميصهِ المفتوح التي كانت قد تركت معظمها و هي تردد بشراسة:
ـ مش هتلمسني تاني انت فاهـم..ده بُعدك!
اتسعت ابتسامتهِ الساخرة و هو يُخفض نظراته حتى اناملها المتوترة فلم تتمكن من إغلاق الأزرار ، فأمسك بكفيها ليوقف حركتيهما هامسًا أمام شفتيها بتهكم:
ـ بتخبي ايـه ؟..واضح انك مش فاكرة حاجة خالص
تكاد تجزم أنها ستهشّم أسنانها من فرط إطباقها، في محاولة منها للسيطرة على زمام سخطها الذي يكاد يفلت، أحنت بصرها عنهُ قليلًا  و هي تحاول جاهدة استجماع شتاتها ، فـ حاولت انتزاع كفيهِ هباءً و هي تردد باستهجان:
ـ حاسب سيب التي شيرت!
ضمّ شفتيهِ معًا و هو يتأملهُ، حيث كان بالكاد يصل لفخذيها ، ارتفع جانب ثغره ببسمة ساخرة و هو يردد بنبرة ماكرة:
- مش بتاعي التي شيرت ده؟
ـ هاه!
و خُيل اليها أنهُ بدلًا من إغلاق الأزرار كان يفتحها و هو يردد:
ـ دي ممتلكات خاصة مبحبش حد يشاركني فيها!
ضمّت جسدها و هي تحاول جاهدة التصدى له هادرة باهتياج:
ـ ايه قلة الأدب دي.. حاسب بقولك!
و بعد لحظاتٍ تعمّد فيها أن يتظاهر بأنه سيخلعه عنها.. سحب كفيه و كأنه كان يحاول تهديدها و إرسال رسالة مضنية لها ، حدجتهُ بنظراتٍ حانقة ، بينما عادت ملامحه تتصلب تمامًا و هو يدنو برأسه منها هامسًا بجوار أذنها :
ـ عشان تعرفي.. لو عايز حاجة منك هاخدها
و ترك قُبلة على وجنتها أتبعها برحيله تاركًا إياها في متاهاتٍ لا تجد لنفسها منها مخرجًا
.....................................................................
.................................................
............................................................................. 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now