"الفصل الرابع و الأربعون"

748 16 0
                                    

 "الفصل الرابع و الأربعون"
ب

ينما تسير هائمة على وجهها تفاجأت بتلك القبضة التي اجتذبتها إليه من ساعدها، فأجبرها على النظر لعينيه المتوهجة التي تقدح شررًا، استنكرت و هي تتلفت حولها ملاحظة بعض الأعين الفضولية التي تابعتهما، ازدردت ريقها و هي تحذرهُ من التمادي هامسة:
- بتعمل إيه؟ الناس كلها بتبص علينا
 و حاولت عبثًا سحب ساعدها من قبضته المحكمة و هي تقول محتجة:
- سيب دراعي يا مجنون
التفت حولهُ شاملًا من حولهم بأعين حانقة، ثم عاد ينظر إليها و هو يقتادها بعيدًا عن ذلك التجمع و هو يهمس من بين أسنانهِ بلهجة آمرة:
- تعالي معايا
لم يبالي باحتجاجاتها و كلمتها الممتعضة و هي تعصف من خلفهِ، حتى توقف أخيرًا و تركها، فراحت تهدر بهِ ساخطة و هي تفرك ساعدها:
- في إيه يا فارس؟ انت اتجننت؟
كوّر كفهُ مطبقًا على أنامله و هو يرمقها بنظراته الملتهبة أثناء استهجانهِ فعلتها:
- أنا برضو اللي اتجننت و لا انتي؟
و أشار بكفه هادرًا باحتدام و هو يدنو منها خطوة أخرى، غارسًا نظراتهِ المضطرمة في عيونِها:
- برضو مش قادرة تقتنعي، مش قادرة تقتنعي إنه عمره ما هيكون ليكي؟
استهجنت تدخلهِ في حياتها و التصاقهِ بها بتلك الطريقة، فضيقت عينيها و هي تسأله بازدراء:
- انت شايف نفسك ميـن؟، شايف نفسك مين عشان تتحكم في حياتي.. قريبي؟ كنت من باقية عيلتي؟
كزّ بعنف على أسنانه و هو يحدجها بأنظاره القاتمة، و ما جعل نيرانهِ تتقد أكثر.. هو عدم إيجاده لإجابة لسؤالها، بالفعل لمَ؟ لم لا يتركها فحسب؟ لم يشعر و كأنهُ مسؤولًا عنها، و لكنه راح يبرر بلهجة قوية ريثما أتى ذلك إلى ذهنه:
- لأني السبب.. لأني السبب في اللي حصلك
و أردف متابعًا بنبرة أشدّ وقعًا عليها، بتصميمٍ نبع من نظراتهِ نحوها:
- و مش هسيبك تضيعي نفسك يا ولاء، سامعاني؟.. هلزقلك زي ضلك، أي خطوة هتخطيها هتلاقيني جمبك فيها!
و تركها و رحل مبتعدًا تتابعهُ أنظارها المتوهجة، حتى تلاشى طيفهُ من أمامها فضرب الأرض بنعل حذائها بتشنج و هي تتأفف بقوة.
........................................................................
- ليــه؟
صرخة مستهجنة  ألقتها في وجههِ عقب أن أعملته بمعرفتها لخطتهِ القذرة تلك، كان "متولي" جامدًا بمحله، و ملامحه باردة للغاية، و ما جعل دمائها تغلي غليًا في أوردتها هو صمته المطبق، و عدم تفوههِ بكلمة واحدة حتى، توسعت عيناها غيظًا و هي تراهُ ينصرف من أمامها،.. أو هكذا خُيل إليها و هو يستدير ليكون خلفها، و قبل أن تلتفت نحوه لتردد مستخفة بمرارة:
- طب على الأقل دافع عن نفسك يا خالـ..! آه
لم تكن تدري ما حدث سوى أنها شعرت بألم مبرح يضرب مؤخرة رأسها.. تلك المنطقة الحيوية للغاية، مما أدى إلى تشوش رؤيتها من فورها، و سريعًا ما التهم الظلام الشره ما حولها، اختلّ توازنها، و سقطت مفترشة الأرضية و قد انسدلت تلك العبرة العالقة في عينيها عموديّا بجوار أذنها، ترك الحاج "متولي" عكّازهِ عقب أن ضربها بهِ أرضًا، تلفت حوله ليضمن عدم متابعة أيّهم إليه، ثم أخرج هاتفه الصغير و أجرى اتصالًا بابنه من فورهِ:
- اطلع و شغل العربية يا ولدي،.. بجولك اطلع متكتِرش!
...............................................................
و أخيرًا انتهى..
دلفت لداخل القصر  و قد أوفضت نحو إحدى الأرائك من فورها،.. تنهدت بارتياح و هي تجلس لتخلع نعلها و قد أصابها كعبهِ الطويل بالإرهاق و آلمتها قدمها، زفرت و هي تنظر نحوه بينما كان يمسك هاتفه و هو يتحدث بهِ بغموض موليّا ظهرهِ لها، حتى توقف "فارس" أمامه، فأنهى "يامن" المكالمة و هو ينظر نحوه، بادر "فارس" بقوله:
- أنا مع مايكل.. في فندق قريب عرفني إنه حجز فيه
أشار "يامن" بأنظارهِ يسارًا و هو يقول بلهجتهِ الثابتة:
- في أوضة متجهزة ليك.. و أوضة تانية ليه
ربت "فارس" و هو يشير بأنظارهِ غامزًا و قد بدأ يلين قليلًا:
- مرة تانية، خليك على راحتك انت و مراتك
أشاح "يامن" بنظره و هو يسأله:
- مشيت؟
أومأ "فارس" و هو يقول و قد تفهم مقصده:
- أيوة.. مدام حبيبة و ولاء، العربية اللي جابتهم هتوديهم!
ثم فرط "فارس" عضلات عنقه و هو يقول بلهجة جادة:
- بقولك إيه، أنا ماشي، مش قادر أقف حتى
و نظر من خلفه و هو يقول بلهجة غامضة:
- حاجة واحدة بس هعملها.. قبل ما أمشي
و تركهُ بارحًا محله، خطى نحو "يارا" التي ازدردت ريقها توجسًا، ارتابت و هي تقف على قدمها الحافية، و هي تنقل أنظارها المتوترة بين "فارس" و "يامن" الذي وقف محله بالخلف، توقف "فارس" أمامها و هو يتنهد مطولًا، فراح كفها يتفحص معصمها بحركة عفوية، و لكنها للأسف لم تجد رابطة خصلاتها، ابتلعت ريقها بتوتر، بينما كان "فارس" يسألها:
- مش عايز أعرف غير حاجة واحدة.. انتي عارفة إن أبوكي اللي حاول يقتل يامن؟
- فارس
صدح صوتهُ المحذر من خلفهِ، فالتفت "فارس" و هو يقول بلهجة جادة:
- أنا مش عايز غير إجابة على سؤالي
ازدردت ريقها و هي تنقل أنظارها بينهما حتى ارتكزت على "فارس"، غمغمت "يارا" بعد أن زفرت أنفاسها المرتبكة:
- مستحيل يكون بابا
 و انتقلت أنظارها نحو "يامن" لتردد مبادرة و هي تهز راسها نفيًا:
- بعيدًا عن ثقتي فيه، بابا..عينه زرقا
و نظرت نحو "فارس" بزرقاوتيها لتقول بلهجة متوترة، حاولت قدر الإمكان أن تكون ثابتة:
- شبه لون عيني، مع اختلاف الدرجة
و أحنت بصرها و هي تعبث بأناملها بارتباك:
- و اللي.. شوفته كانت عينه، سودا!
زفر "فارس" أنفاسهِ الحانقة و هو ينظر نحو "يامن" الذي أشار بعينيه لينهى ذلك الحديث، فأومأ بحركة من رأسه، عاد ينظر نحوها و قد استشعر نوعًا ما صِدقها، و على مضض تحرك ليخطو نحوه مارًا من جواره، ربت تربيتة قوية على كتفهِ، ثم انصرف حاثّا خُطاه، توقفت بمحلها و هي تنظر نحوه، حتى رحل "فارس"، فظلّا وحدهما في البهو، و قبل أن يستدير "يامن" إليها، انسحبت على الفور، و راحت ترتقي الدرجات فرارًا منه و قد بدأ الخوف يتسرب في أوردتها، خفاقتها تعلو..
ضعفها أمام قوتهِ
خوفها أمام ثقتهِ
و توترها.. أمام ثباته
ذلك الثبات الذي أشعرها أن هنالك خطب، راحت تحثّ خطاها و هي تستقل الدرجات، بل بيد أنها تركض، و حين استمعت إلى خطاه من خلفها و قد كانت أنهت الدرجات تقريبًا، انفلتت منها شهقة مرتعدة و هي تهرول في الرواق المؤدي لغرفتها رافعة ذيل ثوبها من خلفها، حتى أوفض و من خلفها، و قبل أن تدلف لغرفتها كان يجتذبها من ساعدها بعنفٍ ليجبرها على الالتفات نحوه، نهج صدرها علوًا و هبوطًا و نبضاتها تكاد تصمّ أذنيها، شحب وجهها و هي تتأمل وجهه المحتدم، و تلك النيران المتأججة في عينيه، شعرت بقلبها يهوي بين قدميها حين أجبرها على التحرك من خلفهِ و هو يستدير قائلًا بلهجة ساخطة:
- امشي
فرّت الدماء من عروقها و هي تدري ذلك الطريق الذي يقودها إليه جيّدًا، لـ..غرفتهِ، احتجت و قد كادت تخرج عينيها عن محجريها من فرط ارتعادها، فراحت تهدر و هي تحاول الفكاك منه:
- ابعد عني يا يامن.. يامــن!
و فور أن فتح باب غرفتهِ و دلف دافعًا لها للداخل كانت تتراجع للخلف و قد بدا أنها ستتخلى عن وعيها في أي لحظة فور أن رأتهُ يوصد الباب بالمفتاح، فهدرت بهِ باستهجان:
- انت قولت.. مفيش حاجة هتتغير، مينفعش ترجع في كلامك
لم يعبأ "يامن" بأفكارها التي تترسخ كلما تمضي ثانية أخرى عليهما، خطى نحوها و هو يجأر بـ:
- تعرفيه منين؟
رمشت عدة مرات و قد شعرت بقلبها يكاد يبلغ حنجرتها، تراجعت خطوة للخلف و هي تزدرد بصعوبة ريقها الذي أضحى كالعلقم المُر، ثم غمغمت و هي تشير نحوهُ بكفها المرتعش، محاولة تحذيره من التمادي و هي ترفع حاجبيها:
- متقربش!
قدح الشرر المستطر من عينيهِ و هو يتمتم من بين أسنانهِ المطبقة، قاصدًا الضغط على أحرف كلماتهِ:
- تعرفيـه.. منين؟
عادت خطوة للخلف لتقابل خطوتهِ التي تقدم بها نحوها، و هي تردد بتلعثمٍ على الرغم من محاولاتها الجمّة لإظهار بأسها:
- ميخصكش!
انحشر جسدها حينها بينهُ و بين الحائط في خطوة أخرى منهُ وازنتها بخطوة منها، فانكمش جسدها حين لكم الجدار من جوار رأسها بحركة مباغتة في انفجارٍ مفاجئ منهُ و هو يجأر باستهجان و قد بدأت الحمرة الفاقعة تصبغ بشرتهِ:
- انتي ليكي عين تتكلمي.. مش كفاية سيباه يفعص في إيدك و يبوس فيها!
على الرغم من خوفها الذي اعتراها، إلا أنها تشبثت بموقفها المتماسك و قد أثارت كلماتهِ حفيظتها، فاتسعت حدقتيها غيظًا و هي تصرخ في المقابل:
- ما تحترم نفسك! إيه يفعص في إيدي دي
و رمقته بازدراء و هي تعقد ساعديها معًا مشيحة بأنظارها بعيدًا:
- و بعدين ده انسان جنتل أصلًا، و دي حركة راقية ، ميفهمهاش اللي زيّك!
تفاجأت من بين امتعاض وجههِ بثغره يفترّ عن ابتسامة قاتمة أكثر مما تحملهُ من تهكمٍ و هي يردد:
- لأ ده مش جنتل.. ده *****
رمقته بأنظارها المحتجة و هي تقول باحتدادٍ شبه متلعثم:
- ما تحترم نفسك، في إيـه؟
أشار بكفه و هو يُطلعها على الأمر بقولهِ القاتم:
- في إنه واحد و** اتمسك في شقة د**** يا هانم
فغرت شفتيها و هي ترمش عدة مرات بعينيها:
- ها؟
نقر بسبابتهِ بقوة على جانب رأسها و هو يحذرها بصوتهِ الأجش:
- بعد كده متنطحيش و انتي غبية و مش فاهمة حاجة، عظيم؟
و كاد يتحرك من أمامها لولا أنها استوقفته بقولها المزدري و هي تتخصر بكفيها:
- ما انتو كلكم نفس العينة
التفت نحوها و هو يرمقها بنظراته المستشاطة، فتقوست شفتيها استحقارًا و هي تهمس:
- صحيح.. الرجالة كلهم عينهم فارغة، و انت زيهم!
فأقبل عليها مجددًا و هو يهدها بقبضتهِ  المكورة مرددًا باحتدام:
- بت انتي.. متخلينيش أتغابى عليكي
عقدت ساعديها أمام صدرها و هي تقول مضيقة عينيها:
- ليـه؟ قولت حاجة غلط!
 و بدت النيران قد أُضرمت في عينيها و هي تحرف النظرات بين عينيهِ المشتعلتين، ثُمّ رددت بلهجة ذات مغزى لتطلعهُ على إدراكها بما يحاول إخفائهِ:
- بأمارة الهانم الشقرا اللي نزلتلها القاهرة مخصوص، و جيت من عندها مش طايق حتى تبص في وشي! صح و لا أنا غلطانة يا يامن بيه الصيّاد؟
قطع "يامن" خطوة أخرى نحوها و قد ضاقت عيناهُ فأضحتا أشدّ قتامة، بزغت خطوط جبينهُ بوضوحٍ و قد تقلصت المسافة بين حاجبيهِ أكثر، ثم ردد باستنكارٍ تام:
- مين؟
تقوست شفتيها ازدراءً و هي تتمتم بلهجة هازئة:
- الهانم اللي كنت في حضنها و جيت من هناك عايز ترميني زي الكلبة من طريقك، مش كده؟
ارتفع حاجبهُ الأيسر استنكارًا و هو يسحب ساعدها إليهِ بحركة عنيفة ليقرب جسدها إليه و هو يزجرها بنظراتهِ الحامية، ثم سأل بلهجتهِ الثاقبة التي لم تخلُ من الاستهجان:
- مين دي اللي كنت في حضنها؟
لم تحاول سحب ساعدها من قبضتهِ، بل نقرت بسبابة كفها الآخر على نقطة ما بصدرهِ و هي تقول بلهجة مُتهمة:
- اللي لاقيت شعراية منها على كتفك يا بيه! تنكر؟
و ضاقت عيناها و هي تضغط على شفتها السُفلى بغيظ:
- شعرها أصفر كمان، مكنتش أعرف و الله انك مبتحبش إلا الشعر الأصفر!
حينها فقط أدرك مقصدها، فارتخت تعبيراتهِ المشدودة قليلًا و قد كاد ثغرهُ ينبعج بابتسامة مستمتعة، و لكنه ظلّ محتفظًا بتعبيرات الصلابة و هو يسألها بامتعاض:
- و لو كنتي عرفتي كنتي عملتي إيه؟، كنتي صبغتي شعرك؟
أطبقت على أسنانها بتمقّط ثم غمغمت بلهجة مُشتدة من بينهم:
- أكيد مش هعمل كده عشان خاطرك يعني!
كان مازال محتفظًا بساعدها، فقرّبها إليه أكثر مقلصًا المسافة، فكانت أنفاسهِ الحارة تلفح وجهه و عنقها، توترت من قربه الملحوظ، و حاولت الابتعاد و لكن أنفاسه كانت تسبق نبرته التي أشبه للفحيح و هو يهمس من بين شفتيه:
- طب و انتي مالك.. أنام في حضن صفرا أنام في حضن سودا، أنام في حضن خضرا حتى، مضايقة ليـه؟
ضمّت شفتيها معًا و هي تحرف أنظارها التي ارتبكت بين عينيها، و حاولت التماسك و هي تردف بينما تحيد بأبصارها بعيدًا:
- و أنا هتضايق ليه؟ ما تولعوا في بعض، أنا مالي!
فأرخى قبضتهِ عنها و هو يردد بسخرية هازئة:
- بتدعي على حماتك!.. ملكيش حق
فغرت شفتيها و قد تعلقت أنظارها المشدوهة به:
- هاه؟
و قبل أن تستفسر منه، كان يسحبها من ذراعها ليدفعها برفق نوعًا ما عدة خطوات للأمام، آمرًا إياها بلهجة قاتمة، و قد تلاشت السخرية عن وجههِ ليظلّ الامتعاض:
- امشي على أوضتك
و لكنها قاومت ذلك، تيبست بمحلها رافضة الحراك و هي تدفع ذراعهِ بعيدًا عنها بتشنج، توهج وجهها بحمرة قانية و بزغت شعيرات أعينها الدموية خلف الهالة البيضاء بهما، أومأت "يارا" بحركة منفعلة برأسها و هي تسأل بسخطٍ تام:
- آه.. عشان كده بقى مكنتش طايقني، ولعتك عليا، مش كده؟
و دنت منه مقلصة المسافة بينهما و هي تقف على أطراف أصابعها محاولة الاستطالة قليلًا لكي تصل إليه و لكنها بالكاد كانت تصل لكتفيهِ أثناء قولها:
- قالتلك إيه بقى عليا خليتك راجع هاين عليك تخنقني؟.. قول!
لربما في وقت آخر كاد يصرخ بها مستهجنًا تماديها و جرأتها في مواجهتهِ، و لكن مع اقترابها منه و بإرادتها جعلت عيناهُ تتعلق بشفتيها المطليتين، بينما كانت تضيّق عينيها و هي تقول بشراسة:
- طبعًا.. قالتك إني هحاول أنصب عليك، زي ما قالت عليا قبل كده!
و عادت تقول من بين أسنانها و هي تنقر بسبابتها على صدره:
- و لعلمك بقى.. اليوم ده، هي اللي حطت العقد في دولابي، تمام؟.. خلي ده في دماغك كويس، و متنساش، عشان لما تشك فيا بعد كده، تمحي الموضوع ده من دماغك
زفرت أنفاسها الملتهبة و هي تحنى بصرها عنهُ قليلًا، ثم دمدمت بسخرية مريرة:
- يمكن إنت معاك حق في اللي قولتهُ، يمكن انا فعلًا وسيلة لانتقامك
و احتلّ الجمود ملامحها، و هي ترفع بصرها إليهِ ، رافعة كلا حاجبيها لتردد مُشددة على كلماتها:
- لكن أنا .. معملتش حاجة أستحق عليها الكلام اللي قولته! معملتش حاجة فيك من يوم ما قابلتك عشان تعمل فيا كده
و أجفلت بصرها عنه و هي تقول باختناق:
- تمام.. عارفة إني حاولت أقتلك
 ثم غرست نظراتها بين عينيهِ لتردد بلهجة ثابتة:
- لكن.. عملت أي حاجة عشان أحاول أصلح بيها ده، عملت كل اللي أقدر عليه عشان أصل غلطي
أطبق "يامن" جفنيه و هو يتشمم عبقها الذي عبث بأوتار قلبهِ، استشعر و كأن زمامهِ سيفلت و هو غير قادرًا على التحكم فيه، و الموازنة بين نداء قلبهِ و عقلهِ و ذلك الصراع الناشب بينهما في هذا الحين، أشاح بوجههِ بعيدًا عنها و هو يردد بجفاءٍ تام حالما فرّق جفونه لتبزغ نظراتهِ الحامية ، ليأمرها بفظاظة:
- اطلعي برا!
كزت على أسنانها بغيظٍ متفاقم، و قد ضيقت عينيها استنكارًا، هزت رأسها ساخطة و هي تمتمتم من بين أسنانها:
- انت حتى مش عايز تسمع مني حاجة تخليك تحس بالذنب يا يامن مش كده؟ إنت.. عارف إنك غلطان، لكن يستحيل تعترف بحاجة زي دي، إنت بجد كائن..
فالتفت نحوها، ليغرس نظراتهِ الملتهبة في عينيها، و هو يسأل مقاطعًا بصوتٍ جهوريّ و كأن بركانه انفجر توّا في وجهها:
- انتي عايزة مني إيـه؟
بزغت عروق نحرهِ و جانبي رأسه بوضوح، تشنجت عضلات عنقهِ، و تفاقمت حُمرة بشرتهِ قتامة، أجفل جسدها من انفعالهِ المفاجئ و الغير متوقع، رمشت ثلاث مرات تقريبًا و هي محملقة بوجههِ، زمت شفتيها بغيظٍ، ثم فرقتهم لتغمغم مستنكرة سؤالهِ:
- أنا اللي عايزة إيه و لا انت!.. أنا اللي مش راضية أسيبك و لا انت اللي مش راضي تسيبني! انت اللي عايز إيه يا يامن؟
فـ أشاح بوجههِ من جديد و هو يردد بزمجرة ساخطة:
- اطلعي برا
ضمّت شفتيها معًا و هي تدجهُ بنظرة قدحت شررًا، ثم حادت ببصرها بزواية قليلة للغاية عنهُ و هي تردد من بين شِفاهها بتعنّد:
- لأ!
غلت دمائهِ في أوردته، مع تحدّيها الجديد لهُ، كور قبضتيه مُشددًا على مفاصل أصابعهِ و هو يتطلع إليها من جديد بنظرة ناريّة فتّاكة، و من بين أسنانه المُلتصقة نطق بـ:
- اطلعي!
عادت تغرس عينيها في عينيهِ بنظرة قوية، و هي تردد دون تراجع:
- لأ
- اطلعي
- لأ
فجأر حينئذ و قد تشنجت عضلات عنقهِ من جديد، و بزغت عروقهِ:
- قولت اطــــلعي!
و يا ليتها تدرك معنى كلمتهِ.. ليتها تدرك مقصدها العميق للغاية، و كأنهُ يأمرها بالظعن عن قلبهِ الذي بدت و كأنها احتلتهُ و اتخذته مستوطنًا لها، و عن عقلهِ الذي أضحى لا يملك سوى التفكير بها، و كأنها وشمًا وُسم بهِ، انتزاع أثرهِ ليس بذلك اليُسر.
انتقلت عينيها بين عينيهِ بنظرة حاسمة، في حين نهج صدرهِ علوًا و هبوطًا و هو يحدجها بنظرة مميتة، و لكنها لم تكترث، و كأنها اعتادت ذلك، قطعت خطوة أخرى نحوهُ، لتسلط ناظريها على خضراويهِ و هي تنطق من بين أسنانها بإصرارٍ لا يقبل النقاش:
- مش هطلع يا يامن.. مش هطلع، مش هسيبك قبل ما تقولي.. تقولي انت عايز مني إيه!
حاد بوجههِ عنها بصعوبة جمّة، و هو يُشدد قبضًا على عضلات فكيهِ، في حين بسطت "يارا" كفها أعلى صدرها، و قد نُسجت الدموع في مقلتيها و هي تردد محاولة التظاهر بالثبات، فشاب الاختناق رغمًا عنها نبرتها و هي تردد:
- أنا استكفيت.. تعبت، استهلكت كل صبري، و برضو مش عارفة إنت عايز إيه مني بالظبط
انحرف بصرهِ نحوها، لتعلق نظراتهِ على عينيها المغرورقتين بالعبرات، حينما كانت هي تتابع عقب أن ابتلعت ريقها:
-  عايز إيه مني يا يامن!
انحنت نظراتهِ قليلًا عن عينيها لتتسلطا تلقائيّا على شفتيها، فرمشت عدة مرات غير مستوعبة، ارتعشت شِفاهها، و هي تردد محذرة إياهُ بلهجة أشد بأسًا، و قد همّت بأن تبتعد خطوة عن محيط خطرهِ:
- إيّـا...!
و قبل أن تُتمّ كلمتها، كان "يامن" يجتذبها من مرفقها إليهِ، أطبق على شفاهها ملتقمًا إياهما بانفعال عاطفي ، تلوت بين ذراعيه رافضة ما يفرضهُ عليها و لكنهُ أحكم إطباقهِ عليها و هو يثبت رأسها بكفهِ الآخر، كمّ المشاعر الغريبة التي ضجّ قلبها بها جعلتها تتوقف عن المقاومة، جعلتها تستسلم لقبلتهِ مُطبقة جفنيها، تركت كل شئ جانبًا و استسلمت لتلك المشاعر الجيّاشة، ابتعد "يامن" قليلًا و هو يستند بجبينه على جبينها لتتقابل أنفاسهما الحارة و ما إن فغرت شفتيها لتتحدث كان يبتلع كلماتها في جوفهِ في قبلة أخرى و قد اندلعت شرارات مشاعرهِ الرجوليّة داخله، حتى أنه خشى ألا يتوقف و هي تعاني حالة رضوخ عجيبة شجعته أكثر لنيل المزيد منها، و لكن..
كلمات والدته نصيّا عادت لأذنيه گاللجام الذي كبح جماحه، والدهِ.. من سلبهُ حق حياتهِ كان والدها، دمائهِ تجري بدمائها، و القتل يسري بفيضهِ في عروقها، ابتعد عنها لتفتح عينيها المطبقتين و هي تتنفس بمعدل سريع بينما تنقل زرقاوتيها بين عينيهِ، حتى تفاجأت بهما تبدلا.. خضرة عينيه اشتعلتا و قد احتقن الدماء فيهما، حتى أرخى "يامن" قبضته و هو يشيح بوجههِ الذي تصلب عنها، مسح بإبهامهِ شفتيه و هو يقول بصوت أجشّ:
- اعتبريه لم يكن!
و تركها و انصرف! تركها فاغرة شفتيها تتابع رحيله و قد اُوغِر صدرها من ناحيته أكثر، تكور كفيها و هي تطبق أناملها حتى تركت أظافرها أثرًا في باطن كفيها، ضربت الأرض بقدمها و هي تلعن نفسها عشرات المرات لاستسلامها الغبيّ ذلك، دفعت بكفها تلك الزهرية و هي تنطق باستهجان:
- سافــل، سافل، و انتي متخلفة
و تلمست شفتيها بأطراف أناملها و هي تقول محتجة:
- ازاي سكتتي كده! ازاي؟
و راحت تجلس على طرف فراشهِ و هي تهز ساقها بانفعال متأجج متحسسة وجنتيها التين بعثا سخونة متوهجة إليها، فكزّت على أسنانها بعنف و هي تقول متوعدة:
- أنا هوريك يا يامن، أنا هوريك ازاي تعمل كده معايا ببساطة!
.............................................................
- ها؟، عملت إيـه؟
قالها "يامن" و هو ينفث بشراهة من دخان سيجارتهِ بينما يقف في غرفة مكتبه في الطابق السُفليّ أمام الواجهة الزجاجيّة، حتى أتاه الرد الساخر:
-
"They think that they can sckape with the girl simply.. they didn’t know that your على الحدود!men
ترك "يامن" صبابة سيجارته أرضًا و شرع يشعل السيجارة الثلاثون تقريبًا حتى املأت الغرفة بسحابة كثيفة من الدخان، بينما يتشدق بقسوة:
- مش ده الغباء، الغباء إنهم فاكرين هيطلعوا بيها من قصر الصياد ببساطة!
«لم يكُن "متولي" يُدرك أن لا يوجد نقطة ما بحديقة القصر لا تحوى كاميرات مراقبة مُخفيّة باحترافٍ شديد، و التي التقطت ما يفعل بيُسر بالغ، خاصةً و أن "يامن" انسحب من الحفل لداخل القصر، حيث تلك الغرفة المكتظة بالشاشات التي يجلس فيها بعض من رجالهِ، تقدم نحو الشاشات و عينيه تمرّان بينهما، انحى قليلًا ليستند لظهر أحد المقاعد الجلدية بذراعهِ، ثم حذرهم بصوتهِ الأجشّ:
- خدو بالكم.. في حاجة هتحصل
 الجميع يجلس في حالة تأهُّب شديدة و أعينهم مسلطة على الشاشات، بينما يقول أحدهم بلهجة ثابتة:
- متقلقش يا يامن باشا، إحنا مستعدين لأي حاجة
دقائق مرّت كاد يهمّ بالخروج و لكنه حدسهُ أنبأنه أن ما سيحدث قريب..، و بالفعل ما هي إلا بضع دقائق و كان يظهر بثلاث شاشات تقريبًا دون غيرهم، التقطوا المشهد من زاويا مختلفة، حتى ضرب "يامن" على طرف المقعد بقبضته و هو يهدر بهم بصوتٍ جهوريّ:
- خليهم يتحركوا
ففعل أحدهم.. أعطى الأمر لرجال "يامن" المنتشرين في الحديقة لتتبعهم متواريون بسياراتهم ، و لكن عينيّ "يامن" التقط أحدهم يعبث بهاتفهِ، و ما هي إلا ثوان و كان يتلقى  اتصالًا منه بينما هو يسير بخطاهُ الحثيثة:
- يامن.. في هاجة لازم تأرفها، في بنت بتتخطف!
و استقل سيارتهِ ليتتبعهم بينما عيني "يامن" تتابعانهِ من الشاشة، مرر "يامن" أنامله بخصلاته و هو يستقيم في وقفته، ثم انسحب من الغرفة و هو يقول محذرًا:
- اطلع منها يا مايكل،.. رجالتي وراهم و الباقي منتشرين على حدود القرية، مش هيقدرو يطلعوا منها
عقد "مايكل" حاجبيه و هو يقول متعجبًا:
- you know that?
تقوست شفتيّ "يامن" بينما يقول مستهجنًا:
- أكيد حاجة زي دي مش هتحصل في قصري و أنا مش عارف يا مايكل
أومأ "مايكل" و هو يبتسم مردفًا بجدية:
- صحيح، لا أظن أن شيئًا كذلك يُناسب "يامن الصياد"
- كويس إنك عارف»
- في هاجة مش قادر ألاقي إجابة ليها، ليه سيبتهم يخرجوا من القصر و انت عارف؟
كانت تلك كلمات "مايكل" المتعجبة، فجاوبهُ "يامن" بفتور:
- خليهم يفرحوا شوية يا مايكل.. بعد كده هيدفعوا تمن فرحتهم
ضيّق "مايكل" عينيه متشككًا:
- أبلغت الشرطة؟ أليس كذلك؟
فكانت نبرته جافة للغاية و هو يترك زفيره المعبأ بالنيكوتين:
- فاتهم على الحدود دلوقتي
سئم الحديث الذي طال و هو يعلم جيّدًا أن "مايكل" لن يتوقف..، فأنهى المكالمة دون حتى كلمة وداع واحدة، ارتفع حاجبيّ "مايكل" و هو يخلع جهاز سماعة البلوتوث و سحب هاتفه الملقى على المقعد، فتأكد من انتهاء المكالمة، فلم يتعجب كثيرًا.. بل التوى ثغره بابتسامة جانبيّة و هو يقول مديرًا المقود لينحرف خلف السيارة لإحدى الطرق الجانبية متنهدًا:
don’t surprise for that - "يامن"..
.................................................................
لم يُلاحظ "راشد" الذي يقتاد السيّارة تتبع السيارتين من خلفهِ له مطلقًا، كل ما علق بذهنهِ هو كيف يفعل والده شيئًا كهذا، ألقى نظرة على جسدها المسجيّ على المقعد الخلفي من المرآة الأمامية، ابتلع لُعابهِ متوترًا و هو يحرف نظراتهِ و هو مازال في نقاشهِ المحتدم مع والده:
- أنا مش عارف ازاي تعمل كده! متعرفش إن كان ممكن تقتلها
فكان صوت الآخر بليدًا و هو يشير بكفهِ:
- ما هي عايشة جدامك أهي و هتننفس كيف الجرد، خلينا نطلعوا من اهنهِ
و انحرفت نظراتهِ القاتمة نحو المرآة و هو يقول متوعدًا:
- و بعدين أشوف هنعملوا إيه معاها بت أختي!
نفخ "راشد" بانزعاج شديد، حتى تغضن جبينه و هو يحاول عبور الحدود الفاصلة بين تلك القرية.. و القرية المجاورة ليتمكن من الخروج نهائيًا، و لكنه تفاجأ بسيارة الشرطة و القوّات المرابطة، فور أن التقط الضابط أرقام السيّارة، أشار إليهم ليتأهبوا جميعًا، ازدرد "متولي" ريقهُ متوترًا و هو يسأل متأملًا:
- إيه اللي بيحصُل عاد يا ولدي؟
ظل جبين "راشد" مجعدًا و قد ارتبك قليلًا، خفف من سرعة السيارة حتى توقف أمام الشرطي الذي صاح و هو يضرب بكفهِ باحتداد على سقف السيارة:
- انزل انت و هو
و نظر للخلف من خلال الزجاج و هو يقول:
- خدهم يا ابني على البوكس، و اطلب الإسعاف للبنت دي
ترجل "راشد" و من خلفهِ "متولي" الذي سارع بمحاولة الشرح:
- ايه اللي هتجوله ده يا حضرة الظابط؟، دي بت أختي و سورجت.. و احنا راجعين بيها على البلد
- liars.. they are liars
كان ذلك صوت "مايكل" الذي أوقف السيّارة و ترجل منها على مقربة، ثم قطع المسافة الفاصلة سيرًا و هو يردد كلماتهِ، تغضن جبين الضابط و هو يرفع أنظاره المتسائلة إليه، فتوقف "مايكل" أمامه مباشرة و هو يوزع نظراته المحتدة بين الاثنين قائلًا:
-They tried to kill her.. I saw them do that, I swear
و تسلطت نظراتهِ القاتمة على "راشد" و هو يردف بازدراء:
- but he was so stupid to think that he can sckape
شملهُ "راشد" بازدراء متأملًا ملامحه الغربية و خصلاته الشقراء، ثم أردف موجهًا حديثه للضابط:
- يا حضرة الظابط انت هتصدق حتة عيل من الأجانب! ده مش عايز غير يولع الدنيا في بعض
تحرك "مايكل" نحوهُ و قد اضطرمت نظراته بينما يهدر بهِ مستهجنًا:
- hey you!
توقف الضابط أمامه فمنعهُ من الوصول إليه و هو يتلفت بينهما هادرًا بصرامة:
- بس انت و هو
و أشار للآخرين و هو يردد بحزمٍ:
- خدولي الاتنين دول على البوكس
فهدر "راشد" و هو يكافح للتخلص من قبضتهم:
- انت هتصدقه يا باشا؟ دي خطيبتي، و الأسبوع الجاي هتبقى مراتي!
أشار الضابط بعينيه و هو يقول:
- متبلغ عنك انت و هو من "يامن الصيّاد"، خـدوهم!
تناقلت النظرات المشدوهة بين "راشد" و "متولي"، حتى أردف "مايكل" و ابتسامة شامتة تتراقص على أطراف شفتيه موقفًا لأفراد الشرطة التي كادت توقفهم:
- one minute please
و دنا من "راشد" بالأخص.. فتبادلت النظرات المتحديّة من "مايكل" مع القاتمة المتوعدة من" راشد" ، فـ حكّ "مايكل" صدغه و:
- رسالة من الصياد.. كان فاكركم متخلفين.. لكن مش لدرجة ترتكبوا جريمة زي دي في بيته!
كزّ "راشد" على أسنانه و قد استفزهُ الأخير للغاية بملامحه الباردة، فحاول الفكاك من بين الشرطيين و هو يقول هادرًا باستنكار:
- آه يا ابن الخواجات
 و قبل أن يقتادوهُ مجددًا كان "مايكل" يُلوح بكفه مودعًا و:
- يبدو أننا سنلتقي مجددًا، لذا سأقول إلى اللقاء و ليس وداعًا!
بينما الابتسامة الساخرة تتراقص على شفتيه، توسط خصره بكفيهِ و هو يرى انسحاب سيارة واحدة من سيارتيّ الشرطة، بينما السيارة الأخرى التي تخص الضابط الذي كان ينتظر سيارة الإسعاف التي ستصحب الفتاة، و من ثُمّ يتمكن من استجوابها.
........................................................
ابنة قاتل والدهِ.. ابنة قاتل والدهِ.. ابنة قاتل والدهِ
للمرة الألف على التوالي.. تتردد و لا تزال تترد على أذنيه، "يارا" ابنة قاتل والدهِ، دمائهِ المُشبعة بالقتل تسري في أوردتها، أليس هذا سببًا كافيّا لعقلهِ قبل قلبهِ، عقلهِ الذي لا يكفّ عن التفكير فيها؟
شبّك "يامن" كفيهِ خلف رأسهِ، محتويًا فيهما إحدى قرطيها و الذي استرقه على حين غفلةٍ منها، و قد مدد ساقيهِ توًا على أريكة مكتبهِ، أطبق جفونه، راغبًا في أن يحظى ببضع دقائق من الهدوء النفسي الذي لا يعثر عليهِ وسط دربه الوعر، أو بالأحرى ودّ لو يصُم ذلك الصـوت الصادح في أذنيهِ، بحقيقة نسبها، و كأن ذلك هو الجدار الوحيد الذي يفصلهما، و كأنهُ فقط ما يمنعه عنها.
و كأن داخلهِ يعجّ بالتناقضات، إذ بصورتها تنبثق وسط الظلمة التي تغمر الغرفة، و تقتحمُ خلوتهِ بعجرفة  عجيبة، تمرّ كالحمامةِ أمام عينيهِ حتى و إن أغلقهما، و كأنها التصقت بجدران ذهنهِ و أضحى انتزاعها شبـه مستحيلًا.
 ضوضاء.. رياح عاصفة تطيح بما أمامها دون تمييز، وسط الظلام الدامس الذي تنعدم فيهِ الرؤية يبزغ البرق بذيولهِ المشعّبة لأطرافٍ رفيعة، فيبدو و كأنهُ يخرق السماء المغلّفة بالغيوم المتراكمة، و يعقبهُ الرعد المدوّي بجأرهِ المريب، فيبعث في النفوس الهلع، و يقذف في القلوب الرعب، إنهُ داخلهِ.
 و إذ بما لا يتوقّعه يبزغ في الوسط.. سفينة تطيحها الرياح، و تقذفها الأمواج و كأنها تحتجّ رافضة تواجدها على سطحها تحديدًا، فـ ستلفظها عمّا قريب، أو تبتلعها في الأعماق، سفينة تشبّعت أشرعتها بالثقوب و قد خرقتها الرياح المتمرّدة، حتى تراءت لهُ.. في زاوية المقدمة، تلوح لهُ بكلا ذراعيها، و كأنها تطلب نجدتهِ، فـ إذ بهِ يجد نفسه وسط الموج بهوجائهِ، و هي من تستغيثُ بهِ، حتى اصطدمت السفينة من جديد، فلم تقوَ على الاحتفاظ بتوازنها، و فور أن اختلّ سقط جسدها، ليلتقمها البحرُ رافضًا تركها.
و هو يسبح.. و يسبح.. و يسبح، و يقطعُ مسافاتٍ لا يعلم قدرها عبورًا لطبقات البحر السفلى، نافذًا تجويفهِ العميق، حتى تجلى أمام عينيهِ ذراعها المبسوط باستسلامٍ و كأنها فقدت وعيها، فـ إذ بهِ يبسط هو الآخر ذراعهِ ليلتقط راحتها، و لكن.. و كأن هنالك ما يبّس جسده، فلم يتمكن من الحراك تلك المسافة التي تفصلهُ عنها، و كأنه ترقّب إجباريّ ريثما تفقد حياتها تمامًا، و بالفعل.. دقائق مرّت عانى فيها من ذلك التحجر الذي أصاب جسده و لسانهِ دون عينيهِ، حتى تمكن من الحركة، فدنا منها ليسحبها من رسغها إليهِ، محتويًا جسدها بين ذراعيهِ، ليتفاجأ بهِ گقِطعة من الثلج المُجمّد و.....
و حتى غفلتهِ اللحظيّة كان لها السبق في وجودها، ببشاعة تفاصيل سترافقهُ طوال يومهِ الذي لم يحظَ به سوى بدقائق تُعد على الأنامل، حرك "يامن" ذراعيه الميبسين و هو يزفر في ضيقٍ، فتفاجأ بتلك القطعة الباردة التي اكتسبت حرارة جسدهِ، تغضن جبينه و هو يبسط كفه نصب عينيه أثناء اعتداله في جلسته على الأريكة، ليجدهُ قرطها و قد غفى دون حتى أن يتخلى عن وجودهِ، تعلقت عيناه بهِ، فاستهجن فعلتهِ، نقم على القرط بالأخص، فكشّر عن أنيابهِ و هو ينهض متشنجًا عن الأريكة.
خطى "يامن" نحو سلة المهملات، و بعنفٍ رمى القرط ليستقرّ فيها، ثم ابتعد ليبرح الغرفة بأكملها دون أن ينظر ورائهِ حتى، و كأنه بذلك يتركها هي، بينما يُتمتم من بين أسنانهِ بسخطٍ:
- اطلعي!
......................................................
انتقلت تاركة غرفتهِ بأكملها لغرفتها، و راحت تبدّل ملابسها و الغيظ يأكل من قلبها، حرد صدرها و قد شعرت أنهُ يتلاعب بها گدُمية يحركها كيفما يشاء.
راحت تخلع أقراطها أولًا لتلقيها بعنف على منضدة الزينة، فتغضّن جبينها حين وجدت إحدى أذنيها فارغة من القرط الآخر، و لكنها لم تكترث كثيرًا و لم تعبأ في ظل ذلك السعير الذي يتنامى و يترعرعُ في داخلها، و ما أثار حفيظتها أكثر هو أن سقط أنظارها على شفتيها المتورمتين قليلًا، فخلعت عقدها الماسيّ و ألقته بتعنف و هي تزمجر بغضب، أطبقت جفنيها و هي تنفخ بانزعاج شديد، ثم راحت تسحب هاتفها أثناء محاولاتها لفتح سحاب ثوبها، ثم راحت تحادثه و فور أنا أجابها كانت تواجههُ بالسباب اللاذع:
- كنت عارفة إنك واطي بس مش للدرجة دي!
مسح "نائف" على فكّه بإبهامه و هو يقول متوعدًا:
- قالك؟ ماشي
 و تغضن جبينه و هو يسألها بعبث:
- المفروض تكوني في حضنه دلوقتي، بتكلميني ازاي
حذرتهُ "يارا" من التمادي و هي تتجول يسارًا و يمينًا:
- احترم نفسك معايا يا نائف، و بعدين  إيه اللي هببته ده؟، إيه اللي جابك النهاردة؟ إزاي تظهر نفسك كده؟
أطلق "نائف" صفيرًا خافتًا و هو يعود بظهره للخلف مستندًا لظهر فراشه الوثير:
- يارو.. اهدي شوية مش كده ليطق لك عرق و لا حاجة يا حبيبتي!
- نائـــف!
نفخ "نائف" بقنوط و هو يعتدل في جلسته، ثم قال بلهجة محتدة:
- في إيه يا يارا!
فأردفت و تدلك جبينها بكفها:
- مكنش لازم تظهر يا نائف! ده غباء منك
فغمغم و هو يترصد لها:
- خايفة عليا؟
نفخت بضيق و هي تحذره من التمادي:
- نائف.. حقيقي انت لو مبطلتش اسلوبك القذر ده معايا أنا هقفل
فـ زفر أنفاسهِ الحانقة و قد بدت الجدية على ملامحه ثم قال:
- ماشي.. نتكلم جد، عايـزة إيه؟
فهدرت من بين أسنانها المطبقة:
- ما تتصرف و تشوف الزفتة الفلاشة أخلص منها ازاي و أوصلهالك، أنا زهقت!
- متقلقيش.. أنا عندي فكرة
سألتهُ "يارا" باهتمام و هي تتوقف بمحلها:
- إيه هي؟
مرر "نائف" أنامله بخصلاته الناعمة و هو يقول بلهجة غامضة:
- لما يحصل ده هتعرفي
فـ احتــدت و:
- يبقى أكيد فكرة غبية!
نفى ما تقول بابتسامة صفراء أبرزت أسنانه:
- لأ.. متقلقيش، خير خير!
ارتفع حاجبيّ "يارا" استنكارًا و هي تتوسط خصرها بكفها، بينما كان يُضيق "نائف" عينيه و هو يقول بلهجة مريبة:
- يارا
توترت إثر تبدل نبرتهِ و سألته:
- إيـه؟، في ايه؟
- جوزك ازاي معرفش؟
ارتفع كتفيها معربة عن عدم معرفتها و هي تقول:
- معرفش
حكّ "نائف" ذقنه الحليقة بإبهامه و هو يدمدم مستشعرًا خطب:
- يارا!، حاجة زي دي كان المفروض يعرفها من تاني يوم
تركت "يارا" انفاسها الحارة و هي تُطلعه على ما استنتجهُ عقلها:
- أعتقد عرف.. لكن مشكش فيا!
تقوست شفتيّ "نائف" ساخرًا و هو يمثل الشفقة:
- تصدقي صعب عليا! ياعيني متخيلش الضربة تيجي من مراته حبيبته!
عضت "يارا" على شفتها السفلى و قد وصل غيظها منهُ أشده، فهدرت بهِ باحتداد:
- نائـف، أنا هقفل، و ياريت مرة تانية تبطل طريقتك السخيفة دي!
و أنهت المكالمة بينما عقلها يضجّ بمئات الأفكار، جلست على طرف فراشها و هي لا توال بثوبها الرقيق، أطبقت جفنيها متنفسة بعمق و هي تعود بظهرها للخلف فلم تجد عيناها ما ترمقهُ سوى سقفية الغرفة،.. على الأقل لم يحدث ما كانت تخشاهُ منه حقًا، و لكنها كانت قانطة للغاية و قنوطها عادل حنقها في تلك اللحظة، فغمغمت و هي تُطبق جفنيها:
- أنا مش لعبة في إيده! شوية يعوزني و شوية يسيبني
و راحت تنظر للهاتف و هي تغمغم و قد تبدلت نظراتها للتحدي:
- أما نشوف بقى هتعمل إيه لما تعرف إن أنا اللي عملت كده يا.. عاقد الحاجبين!
....................................................................
......................................
.................................................................................
 
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن