"الفصل التاسع و الستون"

689 13 0
                                    

"الفصل التاسع و الستون"
و إذ بي أُؤمن.. أننا لم نعد لنقطة الصفر، لقد عُدنا لما قبلهِ بمراحل عِدة.
_____________________________________________
الظلمة القاتمة احتلت المدينة بأكملها.. و لكنها لم تشعُر سوى بأنها احتلّت قلبها
لم يعُد سوى بحلول الآن.. خلع عنهُ سترته متأففًا و راح يخطو نحو الغرفة، كادت تثور ثائرته و قد تلاعبت الأفكار السوداويّة برأسهِ حين لم يجدها بالفراش، و لكنهُ أخيرًا وجدها أعلى أريكتهِ، تقوست شفتيه فتورًا و هو يخطو نحوها حت أقبل عليها، فلكزها بذراعها بشئ من العنف و هو يردد آمرًا بـ:
- قومي
و راقب حركة جفنيها المرتجفين و كأنها تغلقهما قسرًا، فأشاح بوجهه و هو يزفر متأففًا ثم عاد ينظر نحوها و هو يردد بلهجة محتدة:
- بنت حسيـن، مش انا اللي يخيل عليا لعب العيال دا، قومي نامي مكانك
فنهضت بالفعل لتجلس بوضع مستقيم و هي تنظر نحوه مرددة بتشنج:
- أفنـدم؟ عايز إيه؟
أشار بعينيه و هو يلقى الأمر عليها مجددًا:
- قومي نامي على سريرك
ضغطت على شفتيها بغيظٍ، ثم رددت و قد شعرت برأسها يحتدم من فرط غضبها:
- أنا سيبتلك السرير كله و قمت.. و بردو مش سايبني في حالي
- مبحبش أكرر كلامي مرتين.. قــومي!
نهضت عن جلستها لتستقيم بوقفتها و هي تهدر بصوتٍ ارتفع فجأة:
- و لو مقومتش؟ هتعمل إيه؟ هتصوب عليا بالسلاح و تقتلني؟.. ما هو خلاص بقى سهل، طلقة واحدة و ينتهي الموضوع، مش كدا؟
فنطق من بين شفتيه بخفوتٍ مهدد مثير لأعصابها:
- شـشـش.. صوتك ميعلاش و انتي بتكلميني، لأن هتلاقي رد فعل مش هيعجبك
فرددت بتحدى و هي تتخصر بكفها:
- و إيه رد الفعل دا يا يامن بيه؟ قولي إيه هو؟.. هتخلص عليا
و أشاحت بوجهها و هي تردد متشدقة بـ:
- أوه.. نسيت إن أنا حامل في ابنك اللي عايز تحميه مني
و عادت تنظر نحوهُ مجددًا و هي تردد عاقدة لساعديها أمام صدرها و غارسة نظراتها القوية في عينيهِ:
- رد الفعل ده يكون إيه بقى؟ هتستني أما أولده و بعدين تقتلني، صح كدا؟
أطبق بأناملهِ على عضدها و هو يجتذب جسدها إليه و قد توهجت عيناه بنذير غير مبشر و هو يهتف:
- انتي هتعدي ليلتك و لا لأ؟
فسحبت بعنفٍ ذراعها و هي تجأر بهِ و قد شعرت بصبرها ينفذ تمامًا:
- حاسب، انت ناسي إني حامل؟.. يعني متقدرش تزقني من هنا لهنا براحتك
و وضعت كفها على رحمها تحديدًا و هي تنظر نحوه بنظرة قاتمة، ثم رددت بانفعال و قد التهب وجهها:
- يمكن انت متعرفش.. لكن حياة ابنك في خطر بسببك، الحامل لازم متحسش باكتئاب و لا بحزن، الحامل لو اتقهرت ابنها بيموت في بطنها لأنه بيتأثر بانفعالاتها و خصوصًا لو كان ولد لأن روحه بتكون ضعيفة و أضعف من البنت
و أشارت بعينيها بازدراء و هي تقوس شفتيها مدمدمة:
- حركة زي حركتك معايا الصبح و كلامك ليا كان ممكن يقتل ابني في بطني.. انت فاهمني كويس؟ و لا في حاجة قولتها صعب عليك تفهمها
دنت منهُ خطوة لتقلص المسافة بينهما لتتابع بنبرة أشد بأسًا:
- يعني أنا اللي أخاف على ابني منك يا يامن بيه مش انت تخاف عليه مني
و باتت نبرتها أكثر إصرارًا و هي تردد ناقلة نظراتها بين عينيهِ:
- صدقني يا يامن، بعيدًا عن القتل و الدم و السلاح.. أنا مش هسامحك.. مش هسامحك لو حصل لابني حاجة بسبب تهورك و عصبيتك الزايدة
كان ثابتًا ملتزمًا الصمت.. و لكن وجههُ المتجهم و عيناهُ الملتهبتانِ فاضتا بالقول، في حين كانت تتابع و هي تشير لنفسها رافعة ذقنها:
- لا هفتكر لك يوم و لا لحظة حلوة عيشتها معاك.. مع العلم إنهم يتعدوا على الصوابع، هنسى كل حاجة و مش هفتكر غير اللحظة اللي هيتأذى فيها ابني بسببك.. ساعتها مش هتشوف يارا لا الحديدي.. و لا الصيّاد، ساعتها هتشوف يارا هتخلي حياتك جحيم
و مرّت من جوارهِ و قد تلامس ذراها مع ذراعهِ.. ظلّ هو متماسكًا موليًا ظهرهُ لها.. فقط يُشدد من قبضته على أسنانه و هو يكبت انفعالاتهِ الجمة حتى شعر و كأنها ستتهشم، حينما مضت "يارا" نحو الفراش، أزاحت الغطاء و همّت بالاستلقاء و الاستعداد للنوم، و لكنها توقفت و هي تنظر نحوهُ نظرة ساخرة، و لم تمنع نفسها من القول:
- ارتحت يا يامن؟ ارتحت و نارك بردت لما قتلتهُ بإيدك؟.. ارتحت؟
و تركت الغطاء بانفعال و هي تخطو نحوهُ مجددًا حتى وقفت أمامهُ و أثناء ذلك كانت تردد باستنكار عاقدة حاجبيها:
- عملت إيه؟ عملت إيه لما وسخت إيدك بدم واحد زي ده؟ عملت إيه لما بقيت قاتل؟ رجعت أبوك اللي مات؟.. رجعتهُ لحياته تاني؟ ريحت روحه؟ و مين قالك إنها هترتاح؟ مين قالك إنها هرتاح و ابنه بقى بشع كدا؟.. ها؟ هيرتاح لما ابنه يرجع له حقه؟ و هو حقه رجع إزاي أصلًا؟.. بموته؟
و صمتت هنيهة تناظره باشتداد، و لن مستوى نظرهِ كان معلقًا على نقطة ما فوقها دون أن يخفض رأسهُ نحوها.. و كأنهُ متسمرًا و رأسهُ لا تلتفت، حتى رددت هي استنكارًا و هي تضيق عينيها:
- كان لازم تعرف إن روح أبوك مش هترتاح.. إنت عذبته.. عذبته أكتر و أكتر و خليت موته جحيم زي حياته
فحينها فقط التفتت نظراتهِ المتأججة نحوها و هو يجأر و قد بزغت عروق نحرهِ و جانبيّ رأسهِ:
- اخرســـي
فناطحتهُ بالرأس غير مكترثة بالعواقب:
- لأ مش هخرس.. مش هخــرس
و أشارت بسبابتها جوارها و كأنها تشير لوالده أقناء قولها المحتدم:
- أبوك مكانش مستنى واحد زيك يجيبله حقه.. أبوك مكنش مستنى انسان زيه يجيبله حقه، أبوك استنى حقه من اللي خلقه، استنى حقه من أخواته الاتنين من عند ربنا مش من عندك إنت.. و حقه هيرجع.. هيرجع أضعاف مضاعفة منهم هما الاتنين، لسـه.. لسه هيرجع، مرجعش.. انت مرجعتوش و مريحتوش.. انت عذبته أكتر بحسرته عليك و على الحال اللي وصلتلته!
تحرك من أمامها و هو يشيح بوجههِ عنها لئلا تطالها تلك اللكمة من قبضتهِ المكورة، فكان مصيرها الجدار و هو يزجرها بقولهِ:
- بـــس بقى، بــــــس
و لكنها لم تكتفِ، راحت تردد استهجانًا و قد انكمشت المسافة بين حاجبيها:
- تعرف أنا عيشت ازاي من غيرك الاسبوعين دول؟ تعرف أنا عيشت بفكر فيك ازاي؟ في ليلي و نهاري و نومي و صحوتي، في كل ثانية مرت عليا مكنش شاغلني غيرك، كل دقيقة عدت كانت بتعدي كأنها سنة في بعدك، كنت عايزة أكون جمبك.. كنت عايزة أمنعك.. كنت عايزة أحاول أفهمك إنك غلطان.. إنك ارتكبت جريمة من أكبر الكبائر، و شايفاك فخور و انت بتقول إنك قتلك أكتر من انسان و أكتر من روح!
و تقوست شفتيها بسخرية و هي تتشدق بـ:
- يا ترى بقى انت فكرت فيا؟.. من وسط كل الثواني اللي فكرت فيك فيها، انت فكرت فيا في ثانية واحدة منهم؟ ثانية واحدة بس؟
و هزت رأسها نفيًا و هي تجيب على سؤالها:
- تـؤ، مفكرتش، عارف ليه؟ لأن الانتقام بس هو اللي كان في دماغك و هو اللي فكرت فيه في كل لحظة مرت عليك.. سواء من كمال أو حتى من نائف
و ضاقت عيناها و هي تردد و كأنها تحاول سكب الملح فوق جراحهِ التي لن تبرأ:
- يا ترى بقى الانتقام اللي خدتهُ دا.. خلاك ترتاح؟ روحك ارتاحت زي ما فاكر إن روح أبوك ارتاحت، و لا عذابك زاد، نارك بردت و لا اتضاعفت يا يامن، جحيمك هدى و لا حرقك أكتر و أكتر؟
 استند بساعدهِ على الجدار و ارتكن برأسه إليه و هو يُطبق أسنانهِ أكثر، قبض جفونه و هو يمنع تلك العبرة  المتمردة من أن تخطو أعتاب عينيهِ، فرفعت "يارا" رأسها تحديًا و هي تجيب نيابة عنهُ:
- انت مقتلتش كمال يا يامن.. انت قتلت نفسك، اللحظة اللي صوبت فيها سلاحك على كمال انت صوبته على نفسك، انت قتلت نفسك بنفسك.. و جرحتك نفسك بنفسك..  لسه للحظة دي.. بتحرق نفسك بنفسك
و دنت منهُ قليلًا.. تحديدًا خطوتين و هي تقول بنبرة نضحت بالقسوة محيطة بطنها بذراعها:
- و أنا.. أنا مشيت معاك في طريق كله شوك.. قبلت إني أمشي معاك خطوة بخطوة، حاولت بكل الطرق إني أغير حياتك للأحسن، حاولت بكل الطرق أداوي جروحك، حاولت بكل الطرق أكون ميا تخمد نارك، حاولت أحييك من جديد، لكن الحال إني كنت بقتل نفسي.. و كنت عارفة دا، و كنت متأكدة منه، كنت عارفة إن السفينة اللي ركبتني فيها غصب عني و سمحتلي أسيبها في لحظة و أنا رفضت.. اللحظة اللي رفضت فيها إني أنجو بحياتي منك كنت عارفة فيها إن السفينة فيها شرخ، كنت عارفة كويس إنها مش هتوصل المرسى.. و مع ذلك فضلت معاك فيها و أنا عارفة إني هغرق! و كنت موافقة على أي حاجة طالما إنها معاك، كنت موافقة حتى لو كان في قربي منك حرقي أو حتى موتي، وافقت.. لآخر لحظة، حتى و انت واقف قدامي بإيدك اللي لوثتها بالدم، و لو كنت لوحدي كنت وافقت
و ارتفعت رأسها لتردد بنبرة أكثر جفاءً مشددة على كلامتها:
- لكن ابني لأ.. ابني لأ يا يامن، مش هسمح لك تجرحه زي ما جرحتني مش هسمح لك تحرقه زي ما حرقتني، مش هسمحلك.. تقتله زي ما قتلتني
و صمتت هنيهة لتلتقط أنفاسها المتهدجة، ثم غمغمت متابعة:
- مش هسمح لك تسحبه لجحيمك زي ما سحبتني يا يامن
و أنهت حديثها متأملة إياه و لكنه لم يمنحها نظرة واحدة، و لم يتغير وضعهُ.. و ظل فقط متخشبًا على وضعيته تلك، حتى مرّت من خلفه لتخطو نحو الباب، أدارت المقبض، و أثناء ذلك منحتهُ نظرة أخيرة و هي تستكمل كلمة ظلّت عالقة في جوفها:
- أنا آسفة.. أنا حاولت معاك لكن فشلت، كان ممكن أنجح، لكن انت كتبت الفشل بإيدك، انت كتبت النهاية و رفضت حتى إني أكتب منها كلمة واحدة.. مسحت كل حاجة كتبتها بقلمي و كتبت كل حاجة بقلمك انت!
و أشارت بسبابتها و هي تتابع بتيبس أصاب نبرتها:
- السفينة اللي كان فيها شرخ كان ممكن يوصلها.. إنت غرقتها بإيدك، و غرقتني معاك
و خرجت صافقة الباب من خلفها لتوفض نحو الأريكة الخارجية التي تضمها.. و كأنها ستجد للنوم طعم عقب ما أفرغتهُ، و تاركة لهُ هو وسط جحيمهِ الذي أجج نيرانه بنفسه، تاركة إياهُ يسمح لعبراته الحارقة بالهبوط بذلك الكمّ الغزير رغم محاولاتهِ الجمّة لكبتها منذ ذلك اليوم المشؤوم الذي أنهى بهِ حياته بنفسه، لم يبكِ.. و لم يصدر عنهُ انتحاب، فقط دموعًا دافئة تمنى لو أنها حملت و لو مقدار حبة من خردل من لهيبهِ المتوقد، تمنى لو أن ذلك الدفء الذي صاحبها كان منفذًا لحرقتهِ، و لكنه على العكس.. كان گبنزينًا سُكب فوق نيرانه فأجج اضطرامها، لم يحتمل كونهُ يقف دامعًا.. استفزتهُ تلك الدموع اللعينة أكثر فراح يضرب بقبضته المتكورة الجدار عدة مرات و هو يبعد رأسه عن ساعده، حتى آلمته مفاصل أصابعه و ارتخت عضلاته تمامًا، استدار ليستند بظهرهِ للجدار من خلفه و ترك ساقيه يقودانهِ للأرضية، جلس مستندًا بظهرهِ لهُ و هو يعود بظهره للخلف قابضًا جفنيه بقوة عسى أن تتوقف تلك الدموع من الهبوط، و لكن و كأنها أقسمت أن تقضى على ما تبقى منهُ، ثنى إحدى ركبتيهِ قليلًا ليستند بساعده المبسوط عليها، مستسلمًا لذلك العذاب الذي كتبهُ على نفسهِ.
.................................................................
مسحت أنفها بمنديل ورقيّ و هي تتهيأ لمحاولتها لكسب ود شقيقتها من جديد و استمالتها لها عقب جفاء طالتهُ تلك الرقيقة المرهفة الحِس منها طوال الفترة الماضية، و فور أن خطت لداخل الغرفة تهدل كتفيها حين وجدتها غطّت في سباتٍ عميق أمام شاشة التلفاز المُشعل بتلك الرسومات المتحركة ، سحبت جهاز التحكم و أطفأتهُ أولًا، ثم همت بحملها.. و لكنها وجدتها متشبثة بالصحن الخالي من حبات الفشار، عبست و تقوست شفتيها للأسفل بحزن جثُم على صدرها، و رغمًا عنها انهمرت الدموع مجددًا و قد شعرت و كأنها حرمتها مما أرادت.. و لم يخطر ببالها حتى أن تعدّ لها هي غيرهُ كتعويض عما بدر منها في حقها، سحبت الصحن من بين أناملها، و تركته جانبًا، ثم حملتها برفقٍ بين ذراعيها و هي تمسد على ظهرها، دارت حول الأريكة التي تقع أمام الفراش لتصل إليه، ثم تركت جسدها أعلاهُ و راحت تلثُم وجهها بقبلاتها العديدة و هي تتشمم رائحتها المميزة، و لكن.. تغضن جبينها و هي ترفع نظراتها نحوها، عاد مجددًا تقرب أنفها منها و من ثيابها لتغمغم فجأة:
- مايكـل!
تلفتت حولها و كأنها تتأكد من عدم وجودهِ ثم عادت تنظر نحوها من جديد، و قد تيقنت أن عبقهِ الرجوليّ الأمريكي الفريد علق بثيابها، تنهدت بضيق أطبق على صدرها، ثم نهضت عن الفراش و هي تدثرها جيدًا، و خطت خارج الغرفة، دلفت تلك التي استيقظت بها، فتغضن جبينها حين لاحظت تلك الحقائب المتعددة للغاية في زاوية الغرفة، و لكنها لم تكترث لها، و كأنها شعرت أنها بالتأكيد تخصه و لا يحق لها أن ترى محتوياتها، لربما تناساها هنا و ستضطر لرؤيتهِ مجددًا حين يستعيدهم، تلك الفكرة كانت أشدُ عسرًا لها، لفظت أنفاسها الحارة بصعوبة و هي تخطو نحو النافذة التي تقع في غرفتها، فتحتها و طلّت منها مستقبلة تلك النسمة التي لفحت وجهها برفقٍ و كأنها تنزح عبراتها، أطبقت جفونها في استمتاع لحظيّ محاولة أن تحظى ببعض السكينة، و لكن.. اخترق أنفها تلك الرائحة التي تكرهها، ففتحت جفنيها و قد تفلّص وجهها، التفتت يسارًا قليلًا فارتخت تعبيراتها و هي تردد متعجبة:
- مايكـل!
انتبه إلى صوتها الرقيق الذي نطق باسمهِ و إن كان دون قصد منها، فنظر نحوها و هو يغضن جبينه، لم ينتبه إلى تلك النقطة.. أو إلى أن نافذتيهما ستكون ملتصقة بتلك الطريقة فيراها و كأنها تقف جوارهِ، استدار جسده نحوها و هو يسحب سيجارته من بين شفتيه، فنظرت نحوها نظرة مشيرة لها و هي تردد مستنكرة:
- انت كمان بتدخن؟ مش كفاية بتشرب؟
 تقوست شفتيه بفتور و هو يُنفث دخان سيجارته مغمغمًا:
- أتمانعين؟
ارتفع كتفيها و هي تردد بجديّة حادة:
- طبعًا، الخمرة حرام عشانها بتذهب العقل و....
فقاطعها بلا اكتراث لما ستلقيه على مسامعهِ:
- أعلم أن الخمر محرم في دينكم.. و لكن لا أعتقد أن التدخين أيضًا ممنوع، على أي حال لستُ منكم، و لستِ إله لتحاسبينني، فليفعل كلٌ ما يشاء
و كأنهُ صدمها برده الـ"جاحد" من وجهة نظرها، حملقت به بضيق، ثم حاولت أن توضح لهُ بطريقة أكتر تريثًا:
- استغفر الله طبعًا أنا مقصدش دا، لكن....
فنظر نحوها نظرة متيبسة و هو يقول مقتطعًا حديثها المتلعثم:
- لا تنصبي نفسكِ قاضيًا لمحاكمتي و لا تفكري في أن تفعلي رهيف
زفرت بانزعاج شديد، ثم غمغمت بجدية:
- أنا آسفة.. مكنش في نيتي غير إني أنصحك
حاد ببصره عنها ليردد بلهجة مُشتدة:
- احتفظي بالنصائح لنفسك، انني واعٍ بما فيه الكفاية لأتخذ السبيل الذي أريد، و أفعل ما يحلو لي
ثم نظر نحوها مجددًا.. ألقى نظرة على حجاب رأسها و هو يقول بإيجاز جعلها تتيبس محلها:
- أنتِ مثلًا ترتدين ذلك الذي تعقدونهُ حول رؤوسكم و كأن شعركم إن تبين منهُ فسوف يضيع شرفكم، تلك ترّهات لا تعقل، و مع ذلك لم أنصحكِ يومًا بخلعه، لذلك لا توجهي لي النصائح رجاءً
تلمست بأطراف أناملها حجاب رأسها الذي تعتزّ به و تعتبره مصدرًا لفخرها، ثم نظرت نحوهُ نظرة قاتمة و هي تردد محتجة:
- أنا مسمحلكش تتكلم بالطريقة دي أبدًا ، و احب أقولك ان كمان المسيحيين المفروض ليهم حجاب، يعني ده مش بس متعلق بالاسلام، و لو حتى انت مسيحي فلازم تحترم الإسلام زي ما احنا بنحترمكم بالظبط
 فتأهب في وقفتهِ و هو يلقي بعقب سيارته من النافذة مرددًا:
- أنتِ من تعاملينني و كأنني كائن فضائي أتيت من كوكب آخر لا أدرك شيئًا حولكم أيها المسلمون
فارتفع كتفيها و هي تردد نافية ذلك:
- أبـدًا.. لو أنا حاسة إنك غريب فده بسبب معاملتك ليا و الشخصية اللي انت على حد كلامك كنت بتجسدها، و غير كدا كونك مش مصري.. من بلد أمريكي عمري ما روحته و لا فكرت فيه، لكن ملوش علاقة أبدًا بديانتك، انت اللي بتحسسني إني أول مرة أشوف انسان من ديانة تانية!
و صمتت هنيهة ثم تابعت بنبرة جادة:
- مش عشان أنا مسلمة يبقى عمري ما قابلت مسيحيين مثلًا.. أنا أساسًا صاحبتي مسيحية.. و معايا من طفولتي و في مدرستي، و كانت جمبي في كل الصفوف، و إيه الغريب في دا أصلًا؟
و كأنه ضجر من ذلك الحديث، فردد معربًا عن ذلك:
- دعينا من ذلك الحديث الذي لن يقودنا سوى لطريق مسدود رجاءً
- تمام
و صمتت و هي تحنى بصرها جبرًا متنهدة بحرارة، تأمل وجهها مليًا، حينما كانت هي تستدير متهيأة للدلوف و الانسحاب، و لكنها توقفت أخيرًا و قد تذكرت:
- آه كنت هنسى.. في شنط انت ناسيها هنا
تغضن جبينه و هو ينظر نحوها بعدم فهم، فأوضحت لهُ مقصدها:
- قصدي في شنط كتيرة انت سايبها في أوضتي، أكيد نسيتها
فردد متسائلًا دون لأن يحل عقدة حاجبيهِ:
- ألم تري ما بداخلهما
فشجبت ذلك و هي ترفع كتفيها:
- و أشوفهم ليه؟ هما بتوعي؟
- yes
تغضن جبينها و هي تردد مستوضحة:
- بتوعي؟
أومأ برأسه و هو يشير إلى حجابها و:
- نعم.. إنها ثياب اقتنيتهم بنفسي عن طريق الانترنت، و لكي تعلمي أنني أحترم ما أنتِ عليه و أحترم دينكم أيضًا و إن أخطأت دون قصد مني، انظري بهم فستجدين الكثير من تلك الأوشحة.. و الكثير من ثيابك التي حاولت بها أن تكون أقرب إلى طريقتك
حملقت بوجههِ متعجبة ما قام بهِ، حينما كان يتابع بلهجة جادة موضحًا:
- فـ أنتِ دومًا ما ترتدين ثيابًا مشابهة.. فضفاضة و لكنها تناسبك و تضاعف من جمالك
توهجت وجنتيها بحمرة الخجل و هي ترى تعبيراته الجادة على عكس العابثة التي اعتادتها دومًا..و كأنهُ لم يوجه لها إطراءً توًا، ثم استأذنتهُ للانسحاب من فورها و قد استحت منهُ:
- شكرًا.. عن إذنك
و دلفت.. أوصدت زجاج نافذتها الجرار، و راحت توفض نحو الحقائب من فورها و قد أصابها شئٌ من الفضول الممزوج بالشغف.
 و طفقت تفرغ الحقائب واحدة تلو الأخرى أعلى الفراش، بالفعل إنها جميعًا نفس "الفساتين" التي تتماشى مع الموضة.. فتجمع بين المعاصرة و الأناقة و الاحتشام، و لكنهم غير الذي اعتادت ارتدائهم، يبدو عليهم أهم أبهظُ ثمنًا و أكثر أناقة مع ألوانهم الهادئة و المريحة للأعين و التي تليق بأميرة و ليست فتاة عاديّة، الكثير و الكثير منهم بتفاصيل دقيقة مختلفة و تجذب أنفاسها أكثر، و لكنها في النهاية نفس طريقة الثياب، أنهتهم جميعًا فصارت الغرفة بحالة من الفوضى، وراحت تبحث في باقي الحقائب فوجدت عِدة علب كرتونيّة أنيقة مغلفة، فراحت تزيح الغلاف عن إحداهم و هي تتفحصها لتجد ما لم تتوقعهُ.. حجابات رقيقة للغاية من كافة الألون و تدرجاتهم الدقيقة واحدًا تلو الآخر و من أفضل ما قد تتمناها فتاة محجبة على الإطلاق، انبعج ثغرها بابتسامة واسعة و هي تنظر حولها لحال الغرفة غير مصدقة أنها تملك كل ما يحيط بها من حدبٍ و صوب، تركت العلبة و شرعت تبحث مجددًا فوجدت ثيابًا عدة لـ "رهف" مختلفة الأشكال و التفصيلات، حيث البناطيل و الكنزات المتعددة
............................................................
گيف لها أن تشعر و كأن دماها تغلى هكذا في عروقها و هي تتذكر ذلك المشهد الذي لا يغيب عن مخيلتها أبدًا منذ أن التقطتهم عيناها؟.. و لمَ؟ هل بينهما رابطة أو شئ من هذا القبيل فتشعر و كأنه قد خانهُ؟ ما ذلك التفكير المريب الذي تنحدرُ إليه حقًا؟.. لا تعلم.
و اغتياظها يزداد.. لم لا تعلم؟ لمَ لا تجد إجابة لكل سؤالٍ تسألهُ و يظل عالقًا هكذا في الهواء يلوح أمام عينيها ببهاء و كأنهُ أحرز انتصارًا لعدم عثورها على إجابة له؟
زفرت بحنق و هي تتلفت حولها.. و لمَ تلجأ دومًا للشرفة؟ فتجيب على ذلك السؤال مبادرة.. لأنها تعشق المنظر الذي يطل عليه و شوارع تلك المدينة العجيبة و..و..و..، أسباب واهية و لا علاقة لها بالصحـة، هي تعشق الوقوف هنا، تنتظرهُ هنا، و تناديه هنا، و كأنها تعلم جيّدًا أنه يحب الوقوف هكذا فسيتحادثا حتمًا و إن كانت لا تجد ما تقول، و إن كان هو نفسهُ لا يجد ما يقول.
و من فرط انزعاجها ما تفعلهُ تركت قدحها الذي كانت تحتسي منه و سارت بالدلوف، و لكنهُ كان الأسرع حيث ناداها:
- ولاء
تيبست محلها و هي تلتفت نحو الجدار، ثم أجابته و هي تقبض جفونها:
- نعم؟
فسألها عاقدًا حاجبيه بجديّة:
- لسه منمتيش ليـه؟.. الوقت اتأخر
فراحت تجلس بين أحضان أريكتها، حررت زفيرًا عميقًا من أسر صدرها، ثم أتبعتهُ بقولها المنزعج:
- مش جايلي نوم.. و انت؟
صمت.. و طال صمتهُ فأجابت نيابة عنه بسخرية شابتها المرارة:
- أكيد بتفكر في حبيبتك.. مش كدا؟
تغضن جبينه و هو يكرر مستنكرًا:
- حبيبتي؟
أومأت برأسها و هي تلوى شفتيها فتورًا و:
- أيوة.. البنت اللي شوفناها النهاردة
فردد مستدركًا:
- آآه.. بس دي مش حبيبتي، دي صاحبتي
انحرفت نظرة قاتمة منها للجدار و كأنها تودّ لو تخترقه وصولًا إليهِ، و هي تردد بزمجرة:
- و انت متعود بتبوس اصحابك كلهم كدا؟
ارتفع حاجبهُ استنكارًا و هو يسألها:
- دا تحقيق بقى و لا إيه؟
فحادت ببصرها و هي تردد بنقم:
- لأ.. و أنا هحقق معاك ليه؟
فسألهها غامزًا:
- طب و لو قولتلك آه هتعملي إيه
أطبقت أسنانها و كأنها تود لو تهشمهم، و بصعوبة فرقت فكيها لتغمغم من بينهما بتمقّط:
- و هعمل إيه يعني... كنت ولية أمرك مثلًا؟
- اسألي نفسك
فنهضت بتشنج عن جلستها و هي تردد باحتدام:
- مش عارفة ليه الجو كتم فجأة.. أنا داخلة، عن إذنك
فلم يحاول أن يستبقيها كما تخيلت أنهُ سيفعل و:
- اتفضلي!
ضربت الأرض بساقها و هي تسير بخطى منفعلة للداخل و غابت هناك، ثم رددت و هي تحدب شفتيها باستنكار:
- قليل الأدب.. هقول إيه غير كدا!
............................................................
فاضت دموعها حتى أغرقت مصليتها و قد خرّت ساجدة باحتياج شديد تولّد في نفسها فلم تقاوم، نهضت من فورها و توضأت و راحت تقف بين يدي المولى عز وجل، حتى سجدت أرضًا فلم تعلم كم مضى من الوقت و هي تهمس بالأدعية العديدة التي تحتضنها باطن الأرض فتُبعث إلى من بالسماء.
 انتحبت و اختلطت كلماتها مع نحيبها فلم تعد تُفهم.. و لم يفهمها سواه، دعتهُ كثيرًا.. أن تنجح من التحرر من أسر عشق لم يسبب لها سوى المتاعب، و أنا يجتثّ جذورهُ العالقة في قلبها، أن تذبل أوراق أينعت في قلبها من أجلهِ، و تتساقط كما تتساقط أوراق الخريف، أن تكفّ عن حبٍ تسبب في التعاسة و التيه لها، نُبذت من أرضها و تخلت عن أملاكها، و هي اليوم تشعر و كأنها ذليلة لذلك الأجنبيّ الذي يتعطف عليها، شعرت و كأنهُ أذلها.. حطمها.. و هشم كبريائها أمام نفسها أولًا و أمام غيرها من بعدها، و سؤال واحد فقط يدور في خلدها.. أأحبها بحق؟ أخفق قلبهُ من أجلها مرة واحدة؟ أم أنه كان مجرد حب امتلاك لها، أم أنهُ كان يخطط لإسقاطها في فخاخهِ فيتمكن من إقناعها بأن تعيد الأرض إليهِ هُـو، أم تراه كان سيشوه سمعتها فتلجأ إليه في النهاية؟..
بماذا كان يخطط تحديدًا ذلك الانسان الذي حمل قلبُ شيطانيًا؟.. تلبّس عباءة الملائكة أمامها و إذ به فور أن خلعها تبيّنت هويته الحقيقية، كم شعرت بالخذلان للمرة الثانية على التوالي، و هي التي أودعت ثقتها فيه من جديد، و لكنها لم تكن تعلم أنها تسكبها في كأسٍ مشروخ.. كأس أراق ما سكبتهُ كاملًا دون انتقاص ذرة واحدة، و ها هي اليوم تلجأ لبشريّ لا تعلم أهو آهلًا بالثقة أيضًا.. أم أنه كغيرهِ، و كيف تثق من جديد؟ كيف يصل قلبها للحياة عقب أن أنهكهُ الحب؟ كيف يصلح للمتابعة في طريقهِ و هي تشعر به قد تيبس في منتصفه رافضًا السير.
و أخيرًا.. رفعت وجهها عن المصلاة لتنهى صلاتها بالتشهد الأخير.. ثم التفتت يمينًا و يسارًا لتلقى بالسلام:
- السلام عليكم و رحمة الله.. السلام عليكم و رحمة الله
و لكنها لم تنهض.. استثقلت أن تنهض من محلها و هي لا تزال لم ترضِ احتاجها، و لا يزال في جوفها الأكثير و الكثير لتشكُوه إليهِ، و من غيره تشكو إليه ما تشعر به و ما حطّ على نفسها الضعيفة، حتى زحف النوم إلى جفنيها و انقضّ عليها و كأن الراحة لم تعرف الطريق إليها سوى الآن، فانتهى بها الأمر غافلة على سجادة الصلاة و هي متقوقعة على نفسها كالجنين بإزار الصلاة.
...........................................................
خاصم النوم جفنيها.. فلم يزحف إليهما سوى بعد أن أشرقت الشمس، و ها هي مستيقظة منذ البكور تعبث في خصلاتها، فتعقدها حينًا و تحلها حينًا آخر و تعبث في رابطتها حينًا.. حتى سئمت تلك الجلسة التي لن تفيد، جلست ظهرها مستقيمًا و قد أخفضت ساقيها لتلامسا الأرضية، نظرت نحو بطنها الذي يضمّ طفلهما و راحت تحسس عليها و هي تلوي ثغرها بابتسامة صغيرة باهتة، و كأنها تتفقدهُ و تود لو تتلمسه بدلًا عن جسدها الذي يحول دون ذلك، تنهدت بضيق و هي تقول:
- مش عارفة أفرح بيك يا روحي
و نظرت نحوهُ مجددًا، و هي تعدهُ بـ:
- بس متقلقش.. أنا هحميك، مش هسيب حاجة تحصل لك أبدًا!
نهضت.. تركت غطائها جانبًا و هي تمسح جفنيها، حتى التفتت على حين غرة حين رأتهُ يعبر لخارج الغرفة، ضاقت عيناها و هي تشمله بنظراتها ثم سألتهُ باحتداد:
- رايح فين؟
و سدت الطريق أمامهُ.. فهم بالعبور من جوارها دون اكتراث لها، و لكنها عادت تقف أمامه و هي تردد باشتداد:
- رايح فين يا يامن؟.. متتهربش!
تيبس محله و هو يرمقها بنظرة قاتمة أتبعها بأمرهِ:
- ابعدي عن طريقي
فتأهبت في وقفتها و كأنها ستنقض عليهِ أثناء ترديدها المتعند:
- يبقى راجع تاني.. مش كدا؟
فجأر بها و قد ارتفع صوتهُ:
- قولتلك حاسبي
أشارت بعينيها لوجههِ غير مبالية بانفعاله و راحت تردد باستهجان:
- المرة دي رجعتلي بالمنظر دا، المرة الجاية هترجع إزاي؟.. جُثة! 
زفر متأففًا.. ثم أزاحها عن طريقه بعنف ليمضي نحو الباب و لكنها صرخت بهِ و هي تهرع لتقف أمام الباب:
- مش هتمشي و تسيبني تاني انت فاهم!
توقف و هو يمنحها نظرة حالكة، ثم قال مستنكرًا:
- انتي عايزة إيه؟
ارتفع حاجبيها و هي تنطق مشددة على كلماتها:
- مش هسيبك ترجع تاني لوحدك.. المرة دي رجلي على رجلك، تمـام؟
أطبق على ساعدها و اجتذبها ليبعدها عن طريقهِ، فتح الاب و فور أن ترك ذراعها كانت تغمغم بصوتٍ أصابهُ الوهن:
- مش هسيبك.. مش هتسيبني و تـ..و تمشي
شعرت بالأرض تميد بها بشكلٍ مباغت، التفت "يامن" نحوها و قد تعجب خفوت صوتها، تشبثت "يارا" بقميصه و هي تدمدم مستنجدة بهِ:
- يامـ..يامن، الحقني
 و فور أن رآها و كأن توازنها قد اختل و تترنح أمامهُ هدر بـ:
- يـــارا
كادت ساقيها تقتادن جسدها الخائر للأرضية، لولا ذراعيه اللذان أطبقا عليها فحال دون سقوطها، على الفور مرر ذراعه الآخر خلف ركبتيها و حملها بين ذراعيه، غادر الغرفة فسار "جاسم" من خلفه و هو يردد متعجبًا:
- يامن بيه؟
فردد دون أن يلتفت:
- خليك هنا يا جاسم
و مضى متابعًا طريقه للأسفل و هو مرتكز بأبصاره عليها حينًا و هو يدمدم باسمها عسى أن تستفيق من إغمائتها المفاجأة و حينًا يضطر لأن يحرف نظراته عنها، حتى و أخيرًا ترك جسدها بالمقعد الأمامي للسيارة و وضع لها حزم الأمان، أوصد الباب و هو ينتصب و راح يدور حولها مستوفضًا ليحتل مقعده خلف المقود، و شرع يقتاد السيارة ليخرج بها عن مصفّ السيارات الخاص بالفندق، و أخيرًا تمكن من أن يضاعف السرعة حين وصل للطريق الرئيسي، كانت مستكينة تمامًا و قد ارتكنت برأسها للمقعد ليكن وجهها موجهًا للزجاج المجاور لها و هي تحاول بشتى الطرق أن تسيطر على ابتسامتها التي كادت تنبثقُ على محياها، آلمتها عيناها فشعرت و كأنها تريد أن تفتحهما، و لكنها ظلت تغلقهما قسرًا فأدى ذلك لارتعاش جفنيها، و حينما كان يوزع نظراته بينها و بين الطريق لاحظ أن وجهها ليس شاحبًا.. تلك النقطة التي لم يلحظها و هو في أوج ارتعادهِ لما يمكن أن يصيب طفله، استشعر أن هنالك خطبًا ما، فراح يتفحص عيناها من فوره و التي تبعدهما عنهُ، و لكنه لمح طرف جفنها يرتجف، فـ أطبق أسنانه باغتياظ شديد و قد شعر و كأنهُ أبلهًا، تقبض كفيه على المقود.. و من ثم بهدوء يناقض عواصفهِ أوقف السيارة على جانب الطريق، و فتح الباب و كأنهُ ترجل و ترك السيارة و عاد يغلقه من جديد و هو مرتكزًا بنظراته الحالكة عليها، تغضن جبينها حين استمعت إلى صوت فتح و إيصاد الباب.. فتكهنت أنه هبط من السيارة، و لم تغالب فضولها، ففتحت عيناها لتنظر بطرفها من خلال الزجاج المجاور لها و لكنها لم تجدهُ بالخارج، فالتفتت لتبحث عنه من خلال زجاجهِ فأجفل جسدها حين رأتهُ متيبسًا جوارها و يحدجها بنظراته، حمحمت و هي تخفض بصرها و:
- أهلًا!
أشاح بوجهه عنها و هو يزفر متأففًا و بصوت اخترق مسامعها بقوة، فرددت محاولة التبرير:
- كنت عايزني أعمل إيه يعني؟.. ما انت مش... حاســـب!
انتفض جسد السيارة بأكملها إثر تلك الدفعة القوية التي نالتهما من سيارة مجاورة لهما، تقلصت المسافة بين حاجبيه و قد ازداد وجههُ تجهمًا و هو يضغط على دواسة البنزين،.. و تفادى باحترافيّة رطمة عنيفة كادت تصيب السيارة مجددًا منتويين بذلك أن يبعدونهُ بالسيارة عن الطريق الرئيسي، و تمكن من أن يتقدمها و قد ضاعف من معدل السرعة، و لكن تلك السيارة ارتطمت بعنفٍ بصندوق سيارتهما فارتدت للأمام قليلًا، سبّ "يامن" بصوتٍ خفيض، في حين أنها لم تكن تكفّ عن الصراخ المرتعد، أحاطت بطنها بتخوف جمّ من أن يصيب طفلها مكروه و هي تنظر من خلال المرآة المجاورة لها، فتوسعت عيناها و هي تردد بصوت مرتاع:
- يـ..يامن، دي مش عربية واحدة
نظر "يامن" من خلال المرآة للخلف ليجد ما يقارب الأربع سيارات تتبعهُ بإصرار شديد، كاد يتلقى دفعة أخرى من إحداهم و لكنهُ تنحى لجانب الطريق مفسحًا لها المجال لتعبر، و من فورهِ أخرج سلاحهُ من ملابسه و هو يترك المقود لها آمرًا إياها بـ:
- امسكي الدريكسيون
شحب لون وجهها أكثر و قد شعرت بنبضاتها ستكاد تصم أذنيها، و هدرت من فورها بجزع:
- مبعرفش أسوق.. مش بعرف أسوق!
رمقها بنظرة ناريّة ثم جأر باحتدام:
- قولت امسكي الزفـت
فـ استجابت لأمره من فورها، أومأت عدة مرات و قد شعرت بارتجافة جسدها، مالت قليلًا بجسدها عليه لتتمكن من إحكام قبضتها على المقود، في حين أخفض "يامن" الزجاج المجاور له.. و ابتدأ بتلك السيارة المجاورة لهُ..
 أطلق رصاصته باحترافيّة حادت السيارة عن الطريق و ما هي إلا ثوانٍ و كانت تنفجر و تتنثر منها الشظايا و النيران المتراقصة قد تولّدت بها، استشعر تلك الذبذبة التي أصابت السيارة من جديد إثر ارتطام إحداهن مجددًا بها من الخلف، فاعتدل في جلسته ليضع كفهُ فوق كفها منحيًا السيارة للجانب قليلًا و هو يستمع لصوت تنفسها المتهدج و قد التمعت حبات العرق على جبينها.
 و من ثم عاد يخرج ذراعهُ ليُطلق رصاصته التالية ففشل في التصويب في البداية نظرًا لحركة سيارتهُ يمينًا و يسارًا بفضل زوجتهِ.. حتى تمكن من أن يطلق رصاصته التي ينشُدها و التي اخترقت الزجاج الأمامي و هشمتهُ وصولًا لرأس السائق فلقى حتفهِ من فوره، و من ثم أطلق بإطار سيارتهِ فحادت عن المسار لتقطع الطريق على السيارة التابعة لها من خلفها فاصطدم كلاهما ببعضهما اصطدامًا عنيفًا، فلم يتبقَ إلا سيارة واحدة.. عبرت سيارته خلال الطريق المتقاطع فحالت شاحنة ما بينهما، مما منحهُ بعض الوقت ليغير الذخيرة، و فور أن سحب ذراعه و اعتدل في جلستهِ وجدها تصرخ باهتياج مرتعد و هي تردد:
- مبعرفش أسوق.. مبعرفـــش!
فجأر بها مستهجنًا ما تفعل:
- بتهببي إيـه.. حاسبي!
أفلتت المقود من فورها و هي ترتد إلى مقعدها منكمشة على نفسها وسط صراخها عقب أن وضعت السيارة أمام شاحنة أخرى ضخمة أمامها كانا قاب قوسين أو أدنى من الاصطدام بها، لولا أنهُ سارع بالتحكم في المقود و أدارهُ للجانب من فورهِ..
 فنظرًا لضيق الوقت احتكّ جسم السيارة بالشاحنة مما أصدر صوتًا و اهتزازة بها فتعالى صوت صياحها، نظر من خلال مرآتهِ ليجد السيارة قد توصلت إليهم، و كادت تصدم سيارته مجددًا فتنحى للجانب قليلًا حينما كانت هي تحلّ عنها حزام الأمان، فردد و هو يوزع النظرات بينهما و بين السيارة من خلال المرآة:
- بتهببي إيه انتي كمان.. اتنيلي حطي الحزام
و بسط ذراعه الذي يحمل السلاح بينما يتحكم في المقود بالآخر، كاد يعيد  ربطهِ حولها، و لكنها دفعت ذراعه بنفور فور رؤيتها للسلاح الذي فاقم ما بها من هلع و هي تهدر بهِ:
- حاســب!
و راحت تجلس بالأسفل و هي تضم ساقيها إلى صدرها منكمشة على نفسها و قد شمل جسدها بأكملهِ ارتجافة قوية و أنفاسها المتهدجة يصل صوتها إليه، راقب وضعها لثوانٍ و انشغل بما تفعل حتى بدا أنهُ ضيع تلك السيارة اللعينة، بحث بعينيه سريعًا ليجدها صارت أمامهُ.. وذراع ذلك المجاور للسائق و الحامل للسلاح خارجًا عبر زجاجها الجانبيّ، انطلقت الرصاصة المصوبة باحترافيّة لتسكُن جسدهِ و قد تهشّم الزجاج الأماميّ و ..........
......................................................
......................
...............................................................
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Hikayelerin yaşadığı yer. Şimdi keşfedin