"الفصل الحادي و العشرون"

1.2K 36 0
                                    


كـادت أن تستسلم لنداء عقلها بالعودة مجددًا الى عالم آخر ، الا أن صـوته القاتم كان كفيلًا بأن ينتشلها من حالتها ، فتحت جفنيها و خفق قلبها بـ عنفٍ في صدرها و هي تراه مقتربًا منها بـ تلك الطريقة ، فـغرت شفتيها بـ صدمةٍ و حملقت بوجهه لـ ثوانٍ بعدم فهم ، نقل بصره بين زرقاوتيها منتظرًا أن تُصدر رد فعل ، بينما رمشـت بعينيها عدة مرات و قد عادت الذكريات تضرب رأسها بقوة ، تسارعت نبضات قلبها و تشكـل الذعـر على لامحها و هـي تهمـس بـ هلع :
_ بابا !
فـ امتقع وجهه على الفور و قسـت نظراته و هـو يبتعـد عنها منتصبًا في وقفته ، و دس كلا كفيه في جيبيه ، فـ استقامت في جلستها فجأة فـ صرخت متألمة و هـي تمد كفها الى ظهرها تتحسسه بأطراف أناملها ، و أطبقت جفنيها متألمة ، تأمل تعبيراتها المتألمة  فـ طرد زفيرًا حارًا ألهب صـدره ، عادت تفتح عينيها و نظـرت له بـ حقدٍ يعكس مشاعرها له :
_ بابا فيـن ؟
و كأنها لم تُدرك إلا الآن أنها بـ ذات المنـزل الذي كلما تخرج منه تعـود اليه و كأنه مصيرها المحتوم الذي لا مفـرّ منه مُطلقًا ، عادت تنظر اليه و عقدت ما بين حاجبيها متمتمة بـ غـل بالرغـم من نبرتها المبحوحة :
_ انت عملت ايه فيـه ؟
قست ملامحه أكثر و قـد أظلمت عيناه بـ درجـة مخيفـة ، و أخرج كفيه و قـد خـرج عـن جمـوده هادرًا باستهجـان :
_ أبــوكى اللى كان هيقتلك !
و كأنها اعتادت على انفعلاته المفاجأة فـ نظرت له بـ استهجـان و رددت بنبرة مختنقة :
_ انـت السبب !
فـ كـز بعنفٍ على أسنانه مشددًا على عضلات فكه ، أشـاح بوجهه بعيدًا و مسـح على وجهه بـ عنفٍ ثـم عاد ينظر لها بـ عينين احتقنتا بالدماء مرددًا باستنكار:
_ عملتـى كده ليـه ؟
تجمعت الدموع في مقلتيها و هي تقبض على شفتيها بقوةٍ ، ثـم تمتمت تردّ على سؤاله بـ سؤال :
_ مسيبتنيش أموت ليه ؟
رفع حاجبه الأيسر استنكارًا و احتقـن وجهه بالكامل بالدمـاء ، فـ نظرت لـ تعبيراته المتشنجة و رفعت نبرتها قليلًا تردد بـ انفعـال :
_ مش ده اللى كنت عايزه ؟ كنت عايز تقتله بالبطئ عن طريقي ، صـح ؟ مسيبتنيش ليه أمـوت ؟
فـ كـور قبضتيه بـ قوة حتى ابيضت مفاصله و زأر بـ استهجـان  :
_ مترديش على السؤال بـ سؤال ، عملتي كده ليـه ؟ كـان المفروض أكون مكانك !
فـ نظرت له مطولًا قبـل أن تجيبه بـ نبرة مبحوحة  و قـد انسدلت الدمـوع على وجنتيها :
_ عشـان .. عشان انت مكنش هيحصلك حاجة ، كنت هتقوم منها و مش هيحصلك حاجة ، ساعتها هتقتله !
ثـم صمتت لـ ثوانٍ متابعة بـ وهـنٍ :
_ هتقتله من غير ما تفكـر !
فـ نظر لها بتوعـد مرددًا بنبرة قوية :
_ و بردو كـده هقتله !
اتسعت عيناها و خفق قلبها بـ عنفٍ في صدرها و هـي تتمتم بـ ذهـول :
_ نعــم !
فـ نظر لها بـ جمـود قبـل أن يستدير متجهًا نحو الباب ، نزعت الإبرة الطبية عـن كفها و تآوهت بتألم خافت ثـم خفضت ساقيها متمتمة بـ تشنجٍ :
_ استنــى ، يعنى ايه هتقتله ؟
مد كفه لـ يديـر المقبض في نفس اللحظة التى لامست قدماها فيها الأرضية فـ حاولت الوقوف تستوقفه و قلبها ينتفض هلعًا على والده ، و لكـن داهمتها آلام قوية جعلت جسدها يتراخى رُغمًا عنها على الفراش و هـي تصـرخ بـ تألم جلي ، فـ التفت لها على الفور وأوفض نحوها مرددًا بـ جديـة :
_ حصل ايـه ؟
فـ تلمست ظهرها بأطراف أناملها و هـي تبكي بـ حرقة ، كتمت شهقاتها بـ كف يدها و هـي مخفضة لرأسها تسيـل الدموع من عينيها بلا توقفٍ ، ليس من آلامها الجسـدية فقط بل من آلامها النفسيـة التي باتت لا تحتمـل ، انها هنا مع أكثـر رجـل تكرهه بالعـالم لا تعلم ما مصير عائلتها بأكملها ، مرغمة على البقاء كلما حاولت الهرب لا تجـد لها مفرًا ، وضع كفه تلقائيًا على كتفها بلا وعي منه ، فـ رفعت رأسها و قـد تشنجت ملامحها ، دفعت كفه بعيدًا و هي تهـدر بـ اشمئزاز :
_ متلمسنيـش !
فـ تصلبت ملامحه و تجمـدت نظراته عليها فـ نقلت بصرها بين عينيه مرددة بـ نبرة امتزجت مع شهقاتها :
_ من يـوم ما دخلت حياتي و انت دمـرت كل حاجة حلوة فيها ، قضيـت على كـل حـاجة ، قضيت على أحلامي و حياتي و سرقت مني كـل حاجة ، حتى أهلى !
ابتلعت غصـة عالقة في حلقها لـتتابع بنبرة أشـد مرارة :
_ اضطريت أقول انى اتجوزتك برضايا ..كرهتهـم فيا باللي قولته !
استعرت النيران أكثـر بـ صدرهِ حتـى وصلت الى عنقه فـ أصابته بـ اختنـاق مُفاجئ نظر لها مُطولًا بنظراتٍ غير مفهومة ثـم أشاح بوجهه بعيدًا عنها ، تعالى صوت شهقاتها و هـي تنظـر له بـ عتابٍ جاف امتزج مع نظرات الحقـد هادرة بـ استهجـان :
_ مسيتنيش أموت ليـه ؟ قــول ؟
فــ أخرج زفيرًا حارًا من صـدره و ردد بنبرة جافة مستديرًا بـ جسده محاولًا التملص من حصارها :
_ هجيب الممرضة تشـوفك
فـ كـزت على أسنانه بـ غيظٍ مرددة بـ احتـدام :
_ عشـان انت بتحب تشوفنى مذلولة قدامك ، صـح ؟ بتفرح لما بتلاقي اللي قدامك أضعف منك ! انت واحـد مريض
تسمـر في مكانه بعد خطوة واحـدة و تنغض جبينه ، كـور قبضتيه بـ قـوةٍ حتى ابيضت مفاصلهِ و بدا و كأنه بركـان سينفجـر في أي لحظـة ، برزت عروق نحره و جبينه ، حاول قـدر المستطاع أن يتحكـم بـ انفعاله ، و ألا يستديـر لها ، فـ تلفتت " يارا" بـ رأسها تبحث عـن شيئًا بـ عينه لـ تجـد ابرة طبية على الكومـود ، فـ التقطتها و جـذبت كفه فـ التفت برأسه لها على الفور ينظـر لها بـ لهيـب ، فـ قربت الإبرة من كفه مرددة بـ نبرة جامدة :
_ اقتلنــى !
تراخت تعبيراته المشدودة لـ يحـل الاستنكار محلها ، حملق بها بـ جمود بينما نظرت لـه بـ احتــدام مرددة :
_ اقتلنــى يالا مستنى ايــه ؟ اقتلنى و ريحنى منك و مـن جحيمـك !
فـ جـذب كفه بـ عنفٍ و قسـت تعبيراته ثم جذب الإبرة الطبية و انحنـى بـ جذعه عليها قليلًا ينظر لها بنظرات تكفـى لـ زرع الرعب في القلوب متمتمًا بنبرة قاسيـة :
_ لو كنت عايز أقتلك كنت سيبتك تموتى على ايد أبوكى !
فـ كـزت على أسنانها بـ عنفٍ هادرة بـ اختنـاق :
_ أومال عايز منى ايـه ؟ أعمل ايه تانى عشـان تسيبنا في حالنـا بقى ؟
فـ انتصب في وقفته و دس كفيه بـ جيبيه متمتمًا بنبرة صلبة :
_ مش هسيبك ، متحلميش انى ممكن أعمل ده !
فـ غلت الدماء في عروقها متمتمة بـ غيظٍ :
_ يبقى تسيــب بابا و عيلتى في حالها !
فـ شدد على عضلات فكه  و صارت عيناه گ جمرتيـن من الجحيـم مرددًا بصـوتٍ جهـوري :
_ مـــش هيحصــل ، مش هسيبه بعد اللى عمله !
انتفض جسدها لوهلة  و تلاحقت أنفساها المتوترة ، نظرت له بـ ذعـر من زاوية عيـن و أخفضت عينيها كـي لا تلتقي مع نظراته ، ازدردت ريقها بـ ذعـر و حاولت أن تستجمع شجاعته المفقودة ، فـ رفعت نظراتها اليه متمتمة بـ صـوت مبحـوح :
_ هـو معملكش حاجـة ، أنا .. أنا اللى اتأذيت مش انت ، أنا مخدتهاش بدالك عشـان تـ…
فـ أظلمت عيناه و هـو يردد بـ شراسـة :
_  و انتى بقيتى تخصينـى ! و أنا مبسامحش في اللي يخصنى !
فـ ارتجفت بدنها و هـي ترى تلك النظرات التى تكفي لـ حرق الأرض و من عليها متمتمة بـ نبرة رُعب :
_ انت .. انت هتعمل ايه فيـه ؟ بابا فيـن ؟
فـ ردد بـ قسـوة متناهيـة :
_ مستنيـين مني مكالمة عشـان يتعلقله حبل المشنقـة !
شهقت بـ ذعـر و قد اتسعت عيناها هلعًا ، انتفض قلبها رعبًا و فرت الدمـاء من عروقها ، هـزت رأسها نفيًا متمتمة بـ هلعٍ :
_ لأ .. لأ مش هيحصـل
فـ نظر لها بـ عينان مُظلمتان ، فـ بدتا و كأنهمـا غابات خضراء اشتعلت بها النيران مرددًا بـ سخطٍ :
_ هيحصـل ، أنا كنت مستني اللحظة دي من زمـان ! كفاية انه هـرب بعـد اللى عمله زمان !
هـزت رأسها تنفي تلك الحقيقـة متمتمة بـ استنكـار:
_ لأ ، مش هتعمل كده ، مـش هتقتلـه ! انت .. انت مش هتقتله !
فـ رفع كتفيه مرددًا بنبرة قاتمة :
_ مش أنا اللى هقتله ، هـو هيتحاسب على جرايمـه اللى عملها !
فـ نظرت له بـ رجـاءٍ  و الدمـوع تنسال من عينيها :
_ لأ
فـ هدر بها بـ نفاذ صبـرٍ :
_ بطلى تنفي الحقايق ، أبوكـي قـاتل و هيتحاسب على جريمته !
فـ رددت بـ نبرة مبحوحة امتزجت بالعتاب :
_ أنا .. أنا عملت اللى انت عايزه ، اتجوزتك ، لو .. لو كنت بتعمل كده عشـ..عشان حاولت أهرب ، فـ.. فـ مش .. مش هحاول أهرب تانى ، متعملش كده أرجـوك !
خفق قلبه بـ عنفٍ في صـدره و اختنق فجأة من توسلاتها ، و لكـن مرّت تلك اللحظـات أمام عينيه ، من أشهر السلاح تجاه والده بـ جمودٍ و كأنه ليس من البشـر ، سحبه للزناد و معه خرجت الرصاصـة التى عرفت طريقها لصدر والده فـ استرقت روحه على الفور ، لفظه أنفاسه الأخيرة أمام عينيه ..لـم يكن سهلًا عليه مُطلقًا ،  كـز على أسنانه بـ عنفٍ و هـو يردد بـ استهجان :
_ و المفروض أعمل كده ليـه ؟  سبعتاشر سنة بستنى اللحظة دي !
فـ انهمرت الدموع على وجنتيها قهرًا و نظرت له بأعين مليئة بالدموع امتزجت مع العتاب ، فـ كاد للحظة أن يتراجع عما ينتوي فعله ، و لكـن قسـت تعبيراته فجأة و تبدلت نظراته للجفاء و الجمـود الزائف و هـو يستدير بـ جسده لـ يسيـر عدة خطوات للأمام ، فـ شهقت شهقات تمـزق نياط القلوب مرددة من بين شهقاتها بـ قهـرٍ :
_ أنا أنقذت حياتك !
تسمـر في مكانه و قـد اهتـز كيانه فجأة ، نظـر أمامه بنظرات غريبة فـ تابعت بـ مرارة :
_ أنا .. انا مشوفتش منك حاجة حلوة من يوم قابلتك ، بالعكس .. انت .. انت أكتر شخص أذيتنى في حياتي كلها ،كنت .. كنت متأكدة انك هتسيبني أموت ، و مع ذلك أنقذت حياتك و مترددتش للحظة !
كـادت دقات قلبه تصـم أذنيه ، شعـور مُريب اجتاحه لا يعلم ما تفسيـره ، شعـر بالاختناق يتملك منه أكثر و أكثر ، و النيران المتقدة استعرت أكثر بـ صدره ، قبض على كفي يده بقوة حتى برزت عروقهما الخضراء ، لأول مـرة يشعـر أن لـ قلبه سُلطة على عقله ، و كأن هناك حـربٌ حامية الوطيس نشبت بيـن كلاهما ، تابعت " يارا" بـ اختناق :
_ و بعد كل ده هتقتله ؟
كـز على أسنانه بـ عنفٍ مشددًا على عضلات فكه ، بينما تهدل كتفيها بـ يأسٍ و رددت بـ قنوط :
_ لـو انت فاكر ان بابا قتل باباك و انه هيتحاسب على جريمته تبقى غلطـان ! بابا .. بابا لو حصل له حاجة مش بس هـو اللى هيمـوت ، انت بتقتلنى معاه ، بتقتـل أربعـة ، عيلة كاملة مش واحـد بس !
أطبق جفنيه بقوة و أخرج زفيرًا حارًا ألهب صـدره ، و كأنه ينفث عـن النيران المتأججة بداخله ، أصابها الوهـن من محاولة اقناعه ، فـ هـزت رأسها نفيًا باستنكار لما ينوى فعله ، و انهمـرت الدموع كـ الشلالات الدافئة على وجنتيها و لكنها و للأسف لـم تحمـل معها ذرة من حرقـة قلبها ، تركته هكـذا بلوعته ، شعـرت بـ شئ يُطبق على صدرها فـ يمنعها من التنفس بـ حرية ، أرادت ألا تبكي مجددًا أمامه و لكـنها في كل مرة تفشـل في ذلك ، كانت تعتقـد أنها قوية و لكنها اكتشفت الحقيقـة المريرة ، انها هشـة للغاية ، نقاط ضعفها تكمـن في عائلتها ، على صوت شهقاتها فجأة فـ دفنت وجهها بين كفيها و هـي تبكـي بـ حرقة ، لـم يتمكـن من تحمـل صـوت شهقاتها لأكثـر من ذلك ، لـم يتردد و هـو يتقـدم بـ خطواته لـ يخرج من الغرفـة  رافضًا اضافة حرف تاركًا لها وسط انهيارها مجددًا .
……………...........................................................................

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن