"الفصل الثالث عشر"

805 16 0
                                    


" الفصل الثالث عشر"
- انت بتقول إيه؟
حرف "كمال" بصره إليها و هو يجيبها مستنكرًا و قد نهض عن جلسته:
- دي باينة زي الشمس!.. قتل الواد عشان بنت حسين! لما ييجي يقتل يقتل عشان بنت حسين؟
- انت بتقول إيـه يا كمال ؟
جلس مجددًا و هو يعيد قراءة تلك الكلمات مجددًا ، كانت المسافة منكمشة بين حاجبيه و وجهه متجهمًا ، أخذ يتنقل بين المواقع الإخبارية محاولًا بلوغ خبرًا استهدفهُ بعينهِ دونًا عن غيره و قد تناسى ذلك الخبر الذي أثار صدمته منذ ثوانٍ ، و باءت محاولاتهِ بالفشل ، فزفر حانقًا و قد تفاقم القلق بداخله من احتمالية كونه على قيد الحياة ، ترك الهاتف أعلى الطاولة متأففًا فـ أردفت بنبرة ذات مغزى و هي تسحب هاتفها بينما تتأمل ملامحه:
- فيك حاجة غريبة يا كمال
فوارى ذلك و هو يضم شفتيه قليلًا ثم استطرد:
- ولا حاجة
ثم سحب الهاتف من كفها و بنبرة ماكرة محاولًا دفن مشاعر السخط بداخله كان يردد:
- هوريكي حاجة!.. شكلك لغاية دلوقتي مشوفتيهاش
ضيقت عينيها و هي تدنو منه أكثر مسلطة بصرها على الهاتف :
- إيه هي؟
فبلغ ذلك المقطع المرئي المسجل لـ " عمر" ثم ردد بنبرة لئيمة:
- شوفي ابنك!
اتسعت ابتسامتها الخبيثة و هي تُصغي لكلمات "عُمر" المترددة للمرة الألف على آذانها، و لكنها لم تُبدي له كونها هي من تسببت بذلك، و من بثّت السموم في أذني ابنها كي تحظى بانتقامٍ يُبرّد جذوات الحقد بداخلها من ابنة "حبيبة، حينما كان "كمال" يوضّح إليها بنبرة ظافرة:
- ابنك هو اللي أكد اللي اتقال عليها انها بت شمال و ×××× ، أنا معملتش حاجة غير إني بلغت عنها!.. و هو أكد كل اللي اتقال!
اتسعت ابتسامتها و هي تنطق بانتشاء و كأنها كانت عن ذلك الخبر عميّة:
- برافو يا عمر!.. مكنتش متخيلة انك تعمل كده
ضبط وضعية ياقة سُترته أثناء قوله المُتغطرس:
- شكله طلع لعمه
تنفست الصعداء و قد نظرت للأفق البعيد.. تذكرت ما افتعله أمس أمام عينيها فـ استشعرت نجاحها بزرع الحقد في نفسهِ "عمر" لمن حوله.. " فارس" أولًا و من خلفهِ "يارا" ، تلك الفتاة التي شعرت و كأنها ستقف كـ الشوكة في حلقها ، و ها هي بفضل ابنها الأصغر و زوجها تتبعثر كـ ذرات الغبار التي نغصت حياتها ، و عمّا قريب سـ تتخلص منها تمامًا و عائلتها فلا يبقى لأحدهم أثرًا.. شردت و هي تدمدم :
- يومك قرب يا حبيبة انتي و بناتك
استجمعت شتاتها لتحرف نظراتها إليه مجددًا فوجدته شاردًا هو الآخر و قد تبدلت نظراته للارتباك، تغضن جبينها و هي تتحدث بشراسة و قد توهجت حدقتيها:
- كمال!..زي ما خلصت من بنت حسين تخلص من ابنك! أنا مش طايقة قعدته هنا معايا في نفس المكان ، لما بشوفه بتخنق ، خصوصًا إنه شبه ريم!
انتشلته من أوج روده فرفع حاجبه الأيسر استنكارًا و هو ينظر نحوها مجيبًا بشجب:
- يعني إيه يا هدى؟..عايزاني أطرد ابني!
فـ تأففت و هي تتمتم ساخطة:
- و فيها إيه يعني يا كمال؟ ده لا بيتك و لا بيته!
فـ احتقن وجهه بالدماء و قد التهب وجهه گكتلة نارية قد أن يهدر بامتعاض:
- جرى إيه يا هدى ناقص تقوليلي انت ملكش مكان في القصر!
ازدردت ريقها قبل أن تتمتم على مضض محاولة امتصاص غضبه:
- سوري يا حبيبي مقصدش ، ده بيتك و أي حاجة ليا هي ليك ، بس ابنك لأ يا كمال ، تخيل إنه مرضيش يخليني حتى أشوف ابني!.. طردني من المستشفى و لا كأنها بتاعته
نهض عن جلسته دافعًا المقعد للخلف قليلًا ساحبًا سترته عن ظهره ، و امتعض و هو يجيبها متهكمًا بنبرة ذات مغزى:
- أي حاجة ليكي إيه يا هدى؟.. انتي ناسية و لا إيه ان جوزك مكتبش ليكي مليم واحد! و كل حاجة لابنك
التهبت بشرتها الصافية فـ باتت مشربة بحمرة فاقعة ، اجتزّت أسنانها بقوة، ثم دمدمت من بينهم باغتياظٍ متفاقِم:
- خلاص يا كمال مكنتش كلمة يعني! مش لازم تفكرني بـ القرف ده
فـ غيّر دفة الحديث و هو يرتدى سترته:
- طيب خلاص، المهم.. بنت حسين خلاص هتروح في داهية ، الطريق بقى سهل لحسيـ..
فـ غيّر ذهنها التفكير ، عقدت حاجبيها و هي تفرك جبينها بطرف إصبعها متمتمة بشرود:
- أنا عايزة أفهم حاجة واحدة ، إزاي واحد اتجرأ يدخل القصر ، و ازاي أصلًا نجح إنه يدخل و الحراسة دي كلها موجودة ، في حاجة مش..
فقاطعها متهكمًا و هو يطرق بسبابتهِ على جانب جبينها:
- ما تشغلي ده شوية يا هدهد!.. كل ده مش فاهمة ان البت فعلًا هي اللي قتلته!
اندفعت الدماء الغاضبة حتى وجنتيها فـ هدرت ساخطة:
- إيــه! يعني فعلًا بنت حبيبة حاولت تقتل ابني!
فـ أوضح لها مقصده ساردًا:
- السكينة كانت سكينة الأكل اللي الخدامة طلعتها لها ، و صينية الأكل باللي عليها.. كل حاجة كانت فوق!.. مش محتاجة مفهومية يعني! البت مش طايقة ابنك و أول ما شافت السكينة قدامها ، ما صدقت
كورت قبضتها و هي تنطق بنبرة قاتمة :
- كنت عارفة ان هي اللي ورا كده!.. بس فكرتها متفقة مع حد يعمل كده، ازاي اتجرأت تعمل حركة زي دي!
فـ أغلق زر سترته و هو يردد حانقًا:
- لأ و مسحت البصمات من عليها! البت طالعة لأبوها في كل حاجة
فـ أظهرت نزعتها الانتقامية و هي تتمتم بتوعد شرس:
- معلش، ابني بس يرجع و يوريها شغلها!
رفع حاجبه الأيسر بـ استنكار و هو يرمقها بنظراتٍ مستهجنة أثناء نطقهِ بـ:
- انتي مش واعية للي حصل و لا إيه؟ انتي محسساني ان ابنك ده خالد مش هيموت
مطت شفتيها للأمام و هي ترفع نظراتها الواثقة إليه :
- تـؤ!.. مش يامن اللي يموت بـ السهولة دي ، يامن هيرجع
اندفعت الدماء في أوردتهِ فـ شعر بها تكاد تنفجر و قد استشاط غضبًا بينما استندت بمرفقيها أعلى الطاولة و شبكت كفيها معًا و ابتسامةً ماكرة تعلو شفتيها :
- هيرجع!.. و هينتقم منها بنت حبيبة هي و عيلتها ، يامن مش هيسيب حقه بالسهولة دي
ازدرد ريقه الذي صار جافًا گالعلقم المر بصعوبة ، حرر رابطة عنقه قليلًا و قد شعر بصعوبة في التنفس للحظات ، و سريعًا ما قطب حاجبيه و هو يتمتم مغتاظًا:
- أنا ماشي
- مش هتفطر؟
- نفسي اتسدت!
قالها بفتور جلي و برح محله و قد صاحب التشنج خطواته ، تابعته بنظراتٍ غير مكترثة ثم عادت تتوعد تلك الفتاة في داخلها ، و هي تسحب قدح القهوة الساخنة و التي لم تعد كذلك ، كادت ترتشف و لكنها تفاجأت بهِ باردًا كـ الثلج ، فـ عبست و هي تترك القدح جانبًا و قد أصدر صوتًا إثر ارتطامهِ بالطاولة ، و هدرت بأعلى صوتها على إحدى الخادمات التي حضرت بعد ما يقارب الدقيقتين و هي تتمتم بهدوء:
- أيوة يا هانم؟
فـ أجابتها بصوتٍ آمر:
- حضري الفطار ليا و هاتيه على هنا ، الباشا كمال مش هيفطر معايا
كاد حاجبها أن يرتفع استنكارًا لبرودها ، و لكنها ضمّت شفتيها مسيطرة على تعبيرات وجهها بصعوبة قبل أن تنفرج شفتيها عن ابتسامة زائفة:
- حاضر يا هانم
و برحت محلها و لسان حالها لا يكفّ عن استهجان حال تلك السيدة الباردة المتبلدة المشاعر.
.......................................................................
التقطت أنفاسها اللاهثة بصعوبة و هي محدقة بهِ و قد استشعرت دقات قلبها كالدفوف مستمعة إلى دويها في أذنيها ، هي تعلم تلك الشخصية التي لا يفصلها عنها سوى سنتيمترات معدودة ، و تعلم جيدًا تجبرهِ و طغيانه و قد اشتهر بكلاهما ، و لكنها لم تعلم كيف توافدت الكلمات على أطراف لسانها ، و كيف أنها انتقتهُ دونًا عن غيره لتبلغه بمحل زوجته ، لامت نفسها مئات المرات على فعلتها الهوجاء ، ابتلعت ريقها بصعوبةٍ فشعرت به كالعلقم، مرت الثواني گالسنون بينما هو متيبسًا لم يصدر أدني رد فعل ، توسعت عيناها هلعًا حين استدار ليرمقها بنظراته القاتمة فشعرت بها كـ شواظٍ يقذفها بهِ ، و بخطوات بطيئة دنا منها و قد أمال رأسهِ للجانب قليلًا متمتمًا بنبرة شبّهتها بـ الفحيح:
- سمعيني كده قولتي إيه؟.!
اصطكت أسنانها من فرط ارتعادها و هي تتابع اقترابه منها بأعين زائغة شعرت بقلبها يهوي بين قدميها حين رأتهُ قلّص المسافات بينهما ، ضمّت شفتيها معًا محاولة التحكم بارتعاشتهما ، فلم يشعر بحالهِ و هو يقبض على ذراعها ليجأر بشراسة مجتذبًا لجسدها إليه :
- انطقـــي!
شهقت بهلعٍ و هي تحني بصرها عنه ، استشعرت قبضته تكاد تخترق لحمها و تكاد تصل لعِظامها ، ارتجفت نبرتها و قد فرّقت شفتيها لتردد بخفوت:
- أنا أنا..مـ..آآمش!
تبعثرت الكلمات على أطراف لسانها فـ تفاجأت بهِ يلكم بقبضتهِ المتكورة الجدار بجوار رأسها و هو يزأر بـصوتٍ جهوري:
- انتي لسه هتتهتهي!.. اخلصي!
فـ وجدت نفسها تطبق جفنيها لتمحو صورتهِ التي اقتحمت حتى الظلام بينما لسانها قد نسج تلك الكلمات بديلًا عنها علّها تجد لنفسها مفرًا من حصاره:
- أنا أعرف مكان مراتك
- هي فيــــن ؟
تجمعت الدموع في مقلتيها قهرًا و هي تستشعر قبضتهِ على ذراعها كأنها قبضةٍ نارية طوّقت روحها ، فـ حاولت سحبهِ من قبضتهِ و هي تتمتم متشبثة بحجابها :
- سيب ايدي لو سمحت! أنا مش فاهمة عملت إيه عشان حضرتك تعاملني بالشكل ده ، ده أنا بقول لحضـ...
سئم حديثها المتواصل و كأن عُقدة لسانِها قد حُلّت فلم يتخلَ عن ذراعها و هو يدفعها بعنفٍ لتسير أمامه مخرجًا إياها من محيط المنزل هادرًا بنبرة آمرة:
- امشى قدامي و انتي ساكتة
اتسعت عيناها ارتعادًا و هي تهمس بوجل:
- انت واخدني على فين يا حضرت؟ سيبني لو سمحت ! كده كتيـر أوي!
فـ مضى نحو سيارته و فتح بابها الأمامي و هو يدفعها بعنفٍ للداخل و صفق الباب بعنفٍ خلفها غير مكترث لكلماتها المُحتجة ، كاد أن يدور حول مقدمة السيارة لولا أن استوقفهُ صوتٍ مهلل قادم من خلفهِ:
- يامن بيـه ؟ حمدلله على السلامة يا يامن بيه! مش عارف أوصف لحضرتك فرحتي برجوعـ...
التفت "يامن" على حين غرة ليجتذبهُ من ياقتهِ بعنفٍ و رطم جسدهُ بالسيارة ليحشرهُ بينه و بينها ، و بينما كانت " رهيف" تحاول الاحتجاج أو الصراخ اتسعت عيناها هلعًا و قد تراءى لها ذلك الجسد العريض ملتصقًا بزجاج نافذتها ، كتمت شهقاتها الهلعة بكفها و هي تحدق بـ كلاهما بنظراتٍ مرتابة فلم تتمكن من رؤية ذلك المتجبر و قد حجب عنها الأخير ذلك، اتسعت عينا "ماجد" و قد ابتلع كلماتهِ فبقت أسيرة لجوفه بينما كان يردد بصوتٍ حالك:
- الحديدي راح فين امبارح بعد اللي حصل لي؟
رمش بعينيهِ عدة مرات و قد شعر ببرودة تسرى بأوصاله ، فـ هدر بهِ بنفاذ صبر و هو يضرب على سطح السيارة براحتهِ و بشراسة زأر :
- اخلص!
أحنى بصره عنه ليتفادى ذلك الشرر الذي أطلقتهُ عيناه و استجمع كلماتهِ المبعثرة بصعوبة ليتمتم بصوتٍ متقطع:
- راح..راح مطعم الـ"...." اللي في"....."
فسخر من قولهِ و هو يدمدم ساخطًا:
- مطعم ، قولتلي بقى!
ترك ياقتهِ ليتظاهر بأنه يربت على كتفيه و هو في الحقيقة يضرب عليهما ضرباتٍ عنيفة بينما كان يقول بصوتٍ شيطاني:
- عظيـم!.. عظيم أوي، خليك بقى محتفظ بكلامك ده ، عشان لو اكتشفت حاجة غير كده!
و بثانية كانت تعبيراته تقسو و هو يحدجه بنظراتٍ قاتمة هادرًا بتوعد بصوتٍ أجفله:
- تقول على نفسك يا رحمن يا رحيم!
اجتذبهُ من تلابيبهِ ليدفعهُ بعيدًا عن محيط السيارة ، و التفت ليُبصر طرف مقدمة السيارة التابعة له، و عاد ينظر إليه مردفًا بنبرة حالكة:
- آخر يوم ليكم هنا، خمس دقايق بالكتير و ميبقاش ليكو أثر!
جحظت عيني الأخير و هو يردف بصوتٍ متلعثم:
- ليـ..ليه يا باشا!. صدقني أنا مقولتش حاجة غلط ، حسين كان ...
قاطعهُ زائرًا بنفاذ صبر:
- مينفعش انتو الاتنين تفضلوا هنا، حسين مش غبي للدرجة دي ، انتو اللي بهايم!
دار حول مقدمة السيارة و فتح بابها و هو يلقي نظرةً للخلف على البناية ، ثم انتقل بنظراتهِ القاتمة نحو " ماجد" الذي تنفس الصعداء اثر قوله، و قد ظنّ أنه طردهُ من عمله للحظة، انحنى "يامن" بجسده ليستقل مقعده صافقًا الباب بعنفٍ خلفه ، غير مباليًا بتلك التي انفلتت منها صرخةً مرتاعة ، و فور أن رأتهُ يدير المحرك و يضغط على دوّاسة البنزين انتفضت هلعة و هي تراقب ابتعادها من خلف الزجاج ، ثم التفتت نحوه و هي تردف بتوسل و قد تجمعت الدموع في مقلتيها:
- أرجوك تسيبني أمشي!. أرجوك ، انت عايز مني ايه؟
فـ هدر راعدًا و قد انتفخت أوداجه:
- هكون عايز منك ايه؟.. عايز مراتي
ازدردت ريقها بتخوفٍ و هي تتمتم متوسلة:
- أرجوك يا حضرت ، صدقني يارا مش ممكن تعمل كده ، لولا اللي حصل لها و اللي اتعرضت له صدقني مكنتش هتفكر تأذيك ، دي مش بتأذ...آآه
ضغط "يامن" بشكلٍ مفاجئ على المكابح فارتد جسدها للأمام ، شدد " يامن" من قبضتهِ على المقود محاولًا كبت غضبهِ ، التفت ينظر نحوها من عينيهِ المتوهجتين أثناء قولهِ المهدد:
- بقولك ايـه!..انتي رغاية و أنا مبحبش الكلام الكتير، و رحمة أبويا.. لو مقولتيش حالًا على مكانها لهتشوفي اللي عمرك ما شوفتيه!
شحب لون وجهها و هي تواجه نظراتهِ التي أطلقت شررًا، و كلماتهِ المهددة جعلت هلعها يتفاقم ، دبّت ارتعاشةً قوية في جسدها اصطكت أسنانها ببعضها البعض اثرها ، استشاط أكثر من صمتها فبرزت عروق جانبيّ رأسهِ بوضوح و هو يلكم بقبضتهِ المتكورة المقبض هادرًا:
- فهمتـــي؟
انتفض جسدها و انفلتت منها صرخةً مرتعبة اثر ذلك الضغط و الهلع الذي تعايشه للمرة الأولي في حياتها ، و تلقائيًا اهتزت رأسها بعدة ايماءات متتالية و هي تحتضن نفسها بذراعيها متجنبة النظر إليه ، و لمّا تأكد من وصول رسالتهِ أصرف بصرهُ عنها ضاغطًا على دوّاسة البنزين مجددًا و هو ينطق بـصوتٍ محتد:
- اخلصي
.....................................................................
كان يقطع غرفة مكتبهِ ذهابًا و إيابًا بينما يقبض على هاتفهِ بقوةٍ و كأنهُ يقبل على تهشيمه ، احتقن وجهه بالدماء الغاضبة و قد شعر بالدماء تتصاعد إلى رأسه ، أبعد الهاتف لينقر زر الاتصال للمرة الثالثة عشر تقريبًا و هدر بدون سابق إنذار محتجًا:
- مش وقت رخامتك دي!.. ردي بقى
كانت قد أنهت لتوّها قدح قهوتها ، فـ مالت بجذعها قليلًا لتتركه أعلى المنضدة المستطيلة ذات الزخارف و النقوش المُبهرة ، و أثناء ذلك التقطت بـ طرف عينها انبثاق شاشة الهاتف بـ اتصالٍ متتالي منهُ ، فـ اتسعت ابتسامتها المتسلية و هي تعود بظهرها للخلف ساحبة الهاتف ، رفعت ساقًا فوق الأخرى فـ برزت ساقِها المكشوفة من أسفل ثوبها الذي يصل حتى أعلى ركبتيها بقليل ، و نقرت زر الإجابة و هي تعبث بـ أظافرها المطليّة بـ اللون الرماديّ و ببرود تمتمت:
- أهلًا يا فارس! وحشك صوتي و لا إيه
احتدمت نبرته و هو يهدر بـ:
- ساعتيـن عشان تردي ليه؟.. الهانم كان وراها إيه؟ هـا؟!
زمّت شفتيها، ثم قالت بنبرة مثيرة للاستفزاز:
- سوري يا روحي!.. كان عندي شوية مشاغل كده
زفر حانقًا من وضعهِ بأكملهِ، مسح بكفهِ الآخر بعنفٍ على وجهه حتى التهبت بشرتهِ ، ثم قال بصوتٍ فاض بالجدية:
- هدى، سيبك من أي مشاكل بيننا و خلينا نتكلم جد شوية
قطبت جبينها و هي تردف بصوتٍ ساخط:
- عايز ايـه ؟ و بسرعة عشان مش فاضيالك
فتمتم مغتاظًا:
- استغفر الله العظيم يا رب
فـ سخرت من قولهِ و ابتسامة جانبية تلوح على أطراف شفتيها:
- انت متصل عشان تتوب و لا ايه؟
لم يتحمّل مزيدًا من ألاعيبها فـ هدر مقتطعًا تلك الحرب التي كادت تنشب بينهما:
- عمر فين؟
حلّت عقدة حاجبيها ليرتفع احداهما باستنكار :
- عمر!
فـ أومأ قائلًا بصوتٍ ثابت:
- أيوة عمر!. و متقوليش متعرفيش ، أنا متأكد انه اتصل بيكي ، بما انك نجحتي انك تضحكي على عقله و تلعبي عليه دور المظلومة
تشربت بشرتيها بـ الحمرة الغاضبة و هي تردف باستهجان:
- نعم!
فـ قال بنفاذ صبر:
- ابنك فين يا هدى؟.. انطقي
زمّت شفتيها بضيق جلي قائلة:
- معرفش
استشاط غضبًا و هو يضيق عينيهِ قائلًا بشجب:
- هدى ، الموضوع مش مستحمل و أنا روحي في مناخيري ، عمر محدش لاقيه ، و الله أعلم حصل له ايه ، فـ اخلصي و قولي!
زفرت ضائقة مطولًا ثم قالت بنفاذ صبر:
- و أنا قولتلك معرفش ، هو مش كان معاك؟ يعني انت المسؤول
حرد صدره فـ امتقع وجههُ أكثر و هو يردف بصوتٍ حانق:
- أقولك!.. أنا اصلًا غلطان اني اتصلت بيكي ، و عمر هلاقيه بمعرفتي
و أغلق المكالمة فـ أوغر صدرها ، أبعدت الهاتف عن أذنها و هي تصر بعنفٍ على أسنانه ، ثم تمتمت ساخطة و هي تلقي بالهاتف أعلى الطاولة :
- و أنا غلطانة اني رديت أصلًا كان المفروض أسيبك تتذللي شوية، أوف ، كنت ناقصة رجوعك انت كمان!
و صمتت هنيهة، ثم تابعت و قد شرع القلق يستبدّ بها:
- يا ترى انت فين يا عمر!
دلفت" مي " عقب أن أذِن لها بالدخول، كانت_ ذات الشعر الغجريّ الكستنائي و القوام الممشوق ، و العنينين الصافيتين العسليتين ، و حبات النمش المتناثرة على وجنتيها من خلف بشرتها البيضاء گ الحليب الصافي_ تحتضن مُفكرةً للملاحظات بين ذراعيها، و بينما القلق مرتسمًا على ملامحها كانت تتمتم بصوتٍ مُضطرب رقيق:
- مستر فارس!
التفت و هو يمضي نحوها متسائلًا بلهفةٍ على الرغم من غِلظة لهجته:
- ها يا مي؟.. عملتي إيه
حررت زفيرًا حارًا عن صدرها و هي تحني بصرها عنهُ زامة شفتيها معًا ، لم تعلم كيف تُبغله بـ ذلك الخبر الغير سار بالمرة ، استثارت غضبهِ المستشاط بتجمدها ، فـ صاح بها محتدًا:
- ما تتكلمي يا مي في ايه؟.. أنا مش ناقص
ازدردت ريقها و هي ترفع بصرها إليه ، و سحبت شهيقًا عميقًا لفظتهُ متعجلة و هي تُلقى ما بجبعتها:
- عمر عمل حادثة يا مستر فارس ، و حاليًا هو في مستشفى".......".!
....................................................................
كانت تتابع تلك الرسوم المتحركة التي تعتبر ثاني مُفضلاتها، حيث تلك الإسفنجة الصفراء اللون " سبونج بوب"،.. و فجأة وسط ذلك الصمت الذي يعمّ المكان عدا صوت التلفاز صدر صوت ضحكاتها البريئة عقب ذلك المشهد المُضحك بالنسبة لها، و لكن سريعًا ما تلاشت ضحكاتها حين استمعت إلى صوت طرقاتٍ على باب منزلها، قطبت جبينها و هي تنظر نحوه ، و تناست كليًا نصائح شقيقتها،.. فتزحزحت بجسدها للأسفل لتهبط عن الأريكة و ركضت نحو الباب ، بينما على الجانب الآخر..
كان يقف جوارها تحديدًا ، لا يبعد عنها سوى بمسافةٍ بسيطة و نظراته الثاقبة تسبر أغوارها ، ارتفع حاجبه استنكارًا حين لاحظ ذلك التوتر الذي غزا صفحة وجههِا ، و كأنها تحاول أن تجد لرفيقتها مخرجًا ، نفذ صبره من طرقاتها الخافتة فـ جأر حينئذ:
- انتي بتعملي إيه؟
انتفضت و قد انفلتت صرخة مرتعدة اثر انفعالهِ المفاجئ عقب سكون طال، فـ التفتت نحوه و هي تبتعد خطوتين متمتمة بهلع:
- في ايـه؟
أمرها بنظراتهِ لتعود للخلف:
- حاسبي
ازدردت ريقها و هي تبتعد عفويًا مستجيبة لأمرهِ و هي تتمتم بحيرة:
- هو حضرتك هتعمل إيـه؟
تأهّب و هو يصرف بصره عنها مرددًا بصوتٍ حاسم:
- مش لسه هستنى أما حد يحن عليكي و يفتح لك ، أنا عفاريت الدنيا بتتنطط في وشي
عاد للخلف قليلًا و قبل أن يصطدم كتفه بالباب كانت تتمتم مبادرة بصوتٍ متردد:
- لا لا ، انت بتعمل ايه؟ استنى
انتصب في وقفتهِ و هوم ينظر نحوها مستهجنًا فـ ازدردت ريقها و هي تتمتم بخفوتٍ منحنية بصرها:
- أنا.. أنا معايا المفتاح
فـ خرج صوته ساخرًا و هو يقول بجفاء تام:
- ما كان من الأول!
راقب حركة أناملها المرتعشة و هي تندس في حقيبتها فـ استشعر سخطهِ ينمو بداخله من بُطء تحركاتها و تبلدها ذاك بينما هو كمن تغلي الدماء في عروقهِ أعلى موقد ، فـ جأر آمرًا إياها :
- ما تخلصي!
اضطرت أن تخرج سلسلة مفاتيحها من حقيبتها الرقيقة و قد علمت ألا مفر منه ، ضغطت على شفتها السفلى بتوتر جم و هي تدس المفتاح بالثقب و قبل أن تفتحهُ كانت تستمع لصوت الصغيرة تهتف و قد ألصقت أذنها بالباب:
- عمو البوليس؟ انت جيبت
ارتفع حاجبي "رهيف" مستنكرة مخالفتها لوصاياها و هي تدير المفتاح:
- رهف!. و ده اللي قولتلك عليه
و فور أن فتحت الباب وثبت الصغيرة عدة مرات بمحلها مهللة :
- رهف! ييس ييس ، رهف جت ، رهف جت
دلفت " رهيف" ثم انحنت لتجلس أمامها على ركبتيها و هي تحاول تثبيتها متمتمة بابتسامة مغتصبة:
- خلاص يا روفي، قوليلي ، يارا صحيت
هزت الصغيرة رأسها عدة مرات نافية و هي تحاول التقاط أنفاسِها:
- يارا!. لأ ، بس أنا روحت أقعد معاها شوية عما " سبونج بوب" ييجي ، و تعرفي عملت إيه؟. نيمت معاها " سارة" و خليتها تحضنها!
رفعت " رهف" أنظارها نحو ذلك الضخم حتى وصلت إلى وجههِ ، فعقدت حاجبيها و هي تعيد نظراتها نحو " رهيف" متسائلة:
- مين ده يا رهف؟
كان يقف متسمرًا،. يبحث عنها بعينيهِ و قد تواثب قلبه الثائر بين أضلعهِ ، يود لو أنهُ يقتطع المسافات الفاصلة بينهما ، و لكنهُ وجد نفسهُ متيبسًا أمام باب الفتاة " الباردة"
كما لقبها ، زفر حانقًا و هو يحاول السيطرة على نفسهِ قبل أن يثور بركانهِ بها ، و لكنهُ انتبه و تحفّزت خلاياه حين استمع إلى اسمها يُنطق ، فـ صبّ جم تركيزهُ و هو يخفض نظراتهِ نحوهما ، حتى نفذ صبرهُ بالكامل ، فـ طرق على الباب المفتوح بعنفٍ و كأنهُ ينبهها لوجوده ، حتى ازدردت ريقها و هي تنتصب في وقفتها ملتفتة ، لفّت ذراعيها حول الطفلة و هي تضم جسدها إليها و كأنها تحاول حمايتها من بطشهِ حتى ردد بصوتٍ خالي من المشاعر:
- هي فيـن؟
ارتعشت شِفاها و تبعثرت الحروف أعلى لسانها فتلعثمت قليلًا حتى كوّنت جملة مفيدة و هي تشير بـ أصابعها المرتعشة:
- جـ...جو..جوا!
شملها بنظرات مزدرية هي و تلك الطفلة بجوارها ، حتى مرق من أمامهم ، فـ استوقفتهُ قائلة:
- طب.. طب أنا هصحيها عشان .. عشان متتخضش !
ارتفع حاجبهُ استنكارًا و قد تيبست قدماه بمنتصف الطريق ، التفت نصف التفاتة لينظر نحوها من أعلى كتفيهِ فـ بادرت بتصحيح فكرتها بتوتر رهيب:
- أ..أقصد يعني إنها، إنها فكرتك متت!
جابها من رأسها حتى أخمص قدميها بـ نظراتٍ حالكة ، ثم نفض خصلاتهِ بحركةٍ منفعلة و هو يلتفت ليستكمل خطواته نحو الغرفة التي أشارت إليها ، بينما تابعتهُ الصغيرة بأعين متسعة ، و فور أن دلف اجتذبت ثوب شقيقتها للأسفل و هي تبادر مشدوهة:
- رهف مين ده؟
...........................................................................
اقتاد سيارتهِ بأقصى سرعةٍ ممكنة مقتطعًا المسافة التي تفصل بينهما ، تناسى كليًا ذلك الشجار الذي نشب بينهما ، و اعتبرهُ لم يكن ، سجل أكثر من مخالفة مرورية و سُجلت له و لكنه لم يكترث لذلك ، فـ شاغلهُ الأكبر هو " عمر" و فقط ، ذلك الذي يعتبرهُ بـ مقام أخيهِ الأصغر ، بالرغم من ذلك التشتت العائلي إلا أنه لم ينتقص حبهِ له ، انحرف نحو احدى الطرق الجانبية بينما ذلك الصداع يكاد يفتك برأسهِ و قد شعر به ينهش منها رويدًا رويدًا ، فمنذ سويعات تُعد على الأنامل كان رفيقهِ " يامن" على شفى حفرة من الموت ، و الآن أخيه!. لم يكن بحال تسمح لهُ بالإجابة على اتصالاتها المتوالية ، حتى أصابهُ الضجر من ذلك ، فـ أجاب عبر جهاز سماعة البلوتوث:
- انتي عايزة ايه مني ؟ و لا انتي غبية مش بتفهمي ، شايفاني مرديتش على اتصالك و برضو نازلة رن !
اتسعت عيناها عن آخرهما و هي تستمع إلى كلماتهِ القاسية ثم علّقت مستنكرة:
- نعم!
فـ أجابها ساخطًا و هو يشيح بكفهِ قبل أن يعاود الامساك بالمقود:
- أنا مش فاهم انتي ايـه ، معندكيش كرامة ، مش كفاية اللي أختك هببته!
فـ حاولت "ولاء" التبرير لهُ بتلعثم:
- ما أنا اتصلت عشان أآ..
- انتي تخرسي خالص ، أنا لا طايق أسمع صوتها و لا صوتك و لا صوت حد من عيلتكم أصلًا ، كنت غلطان ، و يامن كان صح ، كنت غلطان لما فكرتكم مظلومين ، انتو متستاهلوش إلا الحرق!
و أغلق المكالمة بوجهها فـ أزاحت الهاتف عن أذنها لتحدق بهِ بصدمة امتزجت بعدم استيعاب ما حدث توًا ، فهي اعتقدتهُ كما عهدته دومًا ، لَبِقًا.. سيحاول ايجاد حلًا لمشكلة أختها و يتفهم وضعها و الضغط النفسيّ الذي وقع عليها مما أدى بها إلى محاولة قتل زوجها ، و لكنها شُدهت بل صدمت تمامًا من رد فعلهِ المتخاذل معها ، تهالك جسدها على طرف الفراش و ما انفكت نظراتها معلقة بالهاتف حتى رمشت بعينيها عدة مرات و هي تتمتم بصوتٍ حائر:
و بعدين؟ كده العيلة كلها عليها ، كده مش هتطلع منها !
....................................................................
اختلط صوت نبضاتهِ المدوية في أذنيهِ مع صوت نقرات حذائهِ و هو يخطو نحوها متأملًا لها حتى وصل إليها فـ انحنى أمامها جاثيًا على احدى ركبتيهِ ، تأملها عن كثب بذلك الشغف المريب، رؤيتهُ لها سالمة قضت على حنقهِ على هيئتها تلك، بشرتهِا الشاحبة و جفونها المنتفخة ، و خصلاتها المشعثة ، تلك الكآبة التي اتخذت من وجهها مستوطنًا لها ، تجاهل كل ذلك أمام رؤيتها سالمة ، انتظام أنفاسها أجج مشاعرهُ نحوها ، حتى تقلبت على الفراش لتكون في مواجهتهِ فـ أعطته الفرصة لتأملها بشكلٍ أدق ، أنفها المعقوف، و استدارة وجهها الرقيقة ، شفتيها المكتنزتين ، و تلك الكدمة التي ما انفكت تترك أثرًا في وجهها ، كانت ملامحهُ قد ارتخت بدرجةٍ كبيرة ، حتى استشعرت النيران تضطرم بداخلهِ مع رؤيتهِ لتلك الكدمة متضح أمام عينيه ، أطبق جفنيهِ مستنكرًا ما يعتمل في صدرهِ ، و محاولًا أن يقاوم ذلك السيل الملتهب من المشاعر الغريبة ، قست تعبيراتهُ ، فقد بدا أنها تجابه كابوسًا ما ، حيث ارتعش جفنيها قليلًا ، و تشنجت عضلات وجهها .. أرادها أن تستفيق ، فلم يجد سوى طريقتهِ تلك ، و أتتهُ الفرصة على طبق من ذهب حين التفت ليبحث عن مرادهِ أعلى الكومود ، سحب " يامن" المنبّه ، و أداره ليضبط عقاربهِ ، ثم ضبط وضعهُ و هو يقربه من أُذنها ، و ما هي إلا ثوانٍ و صدح صوته في الغرفة بأكملها ، فـ انتفضت " يارا" فزعة من نومتها جالسة بوضع مستقيم و هي تصرخ مرتعدة من ذلك الصوت الذي تزامن مع احدى المشاهد المرعبة بكابوسها ، فـ أغلق "يامن" المنبه و جلس أعلى الفراش مقابلًا لها ، مرتكزًا بأبصارهِ الثاقبة على وجهها ، فلم تلفت إليه بعد ، بل كانت تعاني من حالة ما بين الوعي و اللاوعي غير قادرة على التفريق ما بين الحلم و الحقيقة ، حتى لفت انتباهها ذلك السواد القابع جوارها و قد تبيّن إليها بسبب ضوء الشمس الضئيل المتسلل على استحياء من أسفل الستائر ، فـ التفتت لتحدق بوجههِ ، انعقد ما بين حاجبيها بقهرٍ و قد امتزج ارتعادها مع مرارتها ، توافدت دموعها بغزارةٍ لعينيها حتى تشوشت الرؤية لديها ، فـ أطبقت جفنيها لينسال ذلك الخيط من الدموع ليشق طريقهُ على وجنتيها ، هزت رأسها بعنفٍ و هي تحاول أن تنفي تلك الحقيقة المُرة:
- انا مقتلتكش!.. مقتلتكش ، أنا مقتلتش حد
تلك النظرات القوية التي تنحرف ما بين عينيها_ و قد انعكس شعاع الشمس الباهت على عينيهِ، فتبيّن لها لون عينيهِ الذي يجمع ما بين الرماديّ و الأخضر_ جعلتها تستشعر تلك الغصة بقلبها ، فكرة أن يأتيها دومًا لينغص عليها أحلامها بعد مماتهِ ليُشعرها بـ الذنب كانت مميتة بالنسبة إليها ، يئست من أن يجيبها بإجابة شافية لجروح روحها ، فـ دفنت وجهها بين كفيها و هي تقول بصوتٍ امتزج مع نشيجها و قد انفجرت باكية:
- ارحمني بقى ارحمني!.. أنا مقتلتكش ، معملتش كده ، حتى في موتك بتعذبني
أزجت كفيها عن وجها لتهز رأسها نفيًا و هي تدمدم بقهر يُدمي القلوب:
- مش هقدر أستحمل.. مش هقدر أستحمل أشوفك كل شوية ، مش هقدر أستحمل تعذيبك ليا بإنك تجيلي كل شوية
و لم تتمكن من منع شهقاتها من التصاعد و هي تقول بتحسرٍ:
- كلهم فاكريني قتلتك ، منكرش اني بكرهك ، يمكن أكون حاولت أقتلك ، بس مش أنا.. أنا ندمانة ، أنا.. لو الزمن رجع بيا مش هعمل كده أبدًا ، مش هعمل كده ، أرجوك تصدقني
ضمّت ركبتيها لصدرها مستندة بمرفقيها عليهما لتدفن وجهها بين كفيها و هي تتمتم بصوتٍ حارق محاولة التعبير عن اكتواء روحها:
- انا تعبت أوي ، مش عارفة ليه الدنيا جاية عليا أوي كده ، بس أنا تعبت ، تعبت أوي ، مش عارفة أنا بعمل إيه !، مش عارفة ازاي عملت كده
ضمّت شفتيها معًا محاولة الصمت ، و لكن ما لبثتا أن انفرجتا و قد تركت لصرخاتها العنان لتنفلت منها:
_ آآآه !
مالت جسدها للجانب و هي تزيح كفيها عن وجهها دافنة رأسها في الوسادة محاولة أن تكتم صوتها و شهقاتها محتضنة ركبتيها إلى صدرها:
- آآآه
كان يحاول جاهدًا التحكم بذاتهِ و منع نفسه عنها ، أو عن محاولة تهدئتها ، مستسلمًا بذلك لنداء عقلهِ المتحجر ، و لكن .. غلب القلب العقل ، و أطاح بكلماتهِ الصارمة و ضرب بها عرض الحائط ، انحنى " يامن" قليلًا نحوها ليلتقط أناملها الرقيقة بين أناملهِ و مرر ابهامهُ عليها و هو يردف بصوتٍ هادئ على الرغم من صرامتهِ:
- شـشـش.. اهدي!
فاشل كليًا بلغة الحديث ، و لكنهُ ماهرًا بلغة الجسد ، اذ امتدت أنامل كفهِ الآخر ليلتقط دموعها المنسكبة بـ أطراف بنانه و هو يردف بصوتٍ جامد:
- محصلش حاجة
هزت رأسها نفيًا ، و كأنها لم تقتنع.. بل لم يأتي ببالها مطلقًا أن يكون الجالس قبالتها حقيقة ملموسة ، و ليس مجرد خيالًا ابتكرهُ عقلها و نسجه ببراعة عجيبة ، ثم أردفت بصوتٍ اختلط مع نشيجها المستمر:
- أنا كذابة ، أنا قتلتك و بحاول أقنع نفسي بالعكس ، قتلتك و بحاول أقنع نفسي اني مرتكبتش الجريمة دي ، أنا قتلتك!
عقد حاجبيها مستهجنًا و بنفاذ صبر استطرد :
- أنا هنا يا غبية انتي!
لم ترفع نظراتها إليه ، بل ظلت دافنة لوجهها في الوسادة و هي تحتج على قولهِ قائلة بوهن تجلي في نبرتها:
- انت مجرد خيال هتفضل تجيلي عشان تعذبني ، انت مش حقيقة
ارتفع حاجبيهِ مستنكرًا خيالها الواسع ، فسحب كفه و بالآخر كان يحثها على الاستقامة حيث لكز بشئ من الرفق كتفها أثناء انتصابهِ و هو يقول بصوتٍ متهكم:
- انتي شكلك بتشوفي رعب كتير ، قومي يا بنت حسيـن ، ضيعنا وقت كتير ، لسه ورانا حاجات هنعملها!
عقدت حاجبيها و قد تحجّرت الدموع بمقلتيها ، رمشت عدة مرات محاولة أن تنزح الدموع العالقة بهما و التي حجبت الرؤية ، ثم استقامت بجلستها مستشعرة لمسة كفهِ الخشن على كتفها فسرت قشعريرة بجسدها ، تأملتهُ بدقةٍ و هي محملقة بهِ كالبلهاء ، تواثب قلبها بين أضلعها و دوّت دقاتهِ في أذنيها كالطبول الصادحة ، هزت رأسها عدة مرات نفيًا و هي تردد غير مستوعبة:
- لا لا لا ، أنا .. أنا أكيد بحلم
كان قد سحب جهاز المنبه مجددًا فـ أشهرهُ أمام عينيها و هو يردد بصوتٍ جامد اختلطت نبرته بالتهكم الظاهريّ متعمدًا بفعلتيهِ أن يثبت لها وجوده:
- للأسف انتي مش بتحلمي!
.......................................................
...............................
.........................................................................


في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now