"الفصل الأربعون"

728 20 0
                                    

"الفصل الأربعُـون"
"أنى لي بالفرار ألوذُ بهِ، و الحال أني أفرّ منك إليـك"
ترك "يامن" سترتهِ جانبًا عقب أن هبط الدرجات الفاصلة بينهما ليخطو نحوه متسائلًا باستهجان:
- يعني إيه يا أحدب؟ يعني إيه خرجت؟، و انت ازاي تسمحلها بده؟
فبرر لهُ "منصور" قائلًا:
- و الله يا ابني أنا حاولت أسألها أو أمنعها، لكن حالتها كانت غريبة، أول مرة أشوفها كده يا يوسف، دي حتى موقفتش ترد عليا، خدت في وشها و مشيت جري
و ضاقت عيناهُ و قد فَطِن لـ:
- قولي يا يوسف، انتو اتخانقتو؟
تأفف "يامن" بقوة و هو يشيح بأبصاره عنه:
- أوف
أومأ برأسهِ و قد تيقّن من ذلك:
- أه.. يبقى اتخانقتوا
 و عاتبهُ قليلًا و هو يشير بأناملهِ:
- يا ابني أنا مش قايلك بلاش تقسى عليها، دي البنت و الله تتحط على الجرح يطيب
فأردف بلهجة قاتمة و هو يتطلع إليه بعينيهِ المحتقنة قبل أن يتهيّأ للرحيل:
- مش عايز أسمع حاجة يا أحدب
قال " منصور" بلهجة حاسمة:
- لأ.. هتقف و تسمعني، أنا مش هسيبك تعمل كده في نفسك
و تنهد بحرارة معقبًا ذلك بقولهِ الشبه متراخي:
- الفرصة مبتجيش غير مرة واحدة في العمر يا يوسف، و البنت دي فرصتك.. عوضك في الدنيا، متضيعهاش يا ابني، متضيعهاش من إيدك.. لأن لو ضاعت، صدقني هيبقى صعب.. هيبقى صعب أوي ترجعها
و أشار بكفهِ و هو يقول بلهجة جادة:
- عملت فيك إيه البنت عشان تقسى عليها و لا تجرحها؟ أذيتك في إيه؟
فراح يحذره من التمادي و هو يُطبق أسنانهِ:
- كفاية يا أحدب
و لكنهُ لم يكتفِ، فشرع يستأنف حديثهُ المحتد:
- الأذية الوحيدة.. إنها كانت إنسانة معاك، إنها كانت الحسنة الوحيدة في حياتك، إنها حاولت تسامح و حاولت تغفر، هي دي الأذية اللي أذيتهالك يا يوسف، صح؟
فراح يستهجن ذلك اللقب و هو يطيح بإحدى التماثيل الفخمة بركلةٍ من قدمهِ:
- ما كفاية بقى يا أحدب، أنا يامن.. يامن، مش يوسف، أنا مكنتش يوسف في يوم، و لا عمري كنت.. و لا هكون
خطى العجوز مقتربًا منه بتؤدة حتى توقف أمامه، احتلّ كفهُ موضع قلبه و هو يقول بلهجة ثابتة:
- لو انت فضلت تنكر.. أنا هفضل أثبت ده يا يوسف
 و ربت على كتفهِ بقوة و هو يحثّه:
- اتحرك.. واقف ليه؟ اتحرك، رجعها، متقولهاش سامحي.. قولها الحفل اللي بيتجهز ده عشانك.. عشان تفرحي زي ما كل بنت بتفرح باليوم ده، اتحرك يا ابني، رجعها لقلبك و امسك فيها بإيدك و سنانك، الست اللي زي دي يا ابني متتعوضش، و لا عمرك هتلاقي زيها
هز "يامن" رأسهُ احتجاجًا و هو يدفع كفه عنه هادرًا باستنكار:
- انت مش فاهم حاجة يا أحدب، مش فاهم!
أومأ "منصور" و هو يعقد كفيه خلف ظهره أثناء قوله الواثق:
- أنا عارف يا يوسف، عارف إن فيكم حاجة مش طبيعية، و عارف ان جوازكم مش طبيعي، لكن اللي متأكد منه.. إن البنت دي نصيبك من الدنيا، سيبها يا يوسف.. سيبها يمكن تقدر، سيبها تداوي جرحك، سيبها، و متحاولش ترفض!
أطبق "يامن" جفنيهِ بقوة و قد انتفخت أوداجهِ، كوّر قبضتيه بينما تتردد على أذنيه كلمات والدتهِ السامّة، و لم ينتبه أو يُفرق جفنيه لتبرز حُمرة عينيهِ من خلفهما سوى مع دفعة العجوز لكتفهِ و هو يقول مشجعًا:
- يالا يا يوسف، يالا.. اتحرك، بدل ما تضيع من إيدك.. اتحرك بدل ما تخسرها يا ابني!
حينها حدجهُ بنظرة ناريّة مطولة، بينما تهتز عضلات فكيهِ إثر إطبقاهما المُشَدد، حتى أن الأخير كاد يُصيبه القنوط، و لكنهُ و بعد دقائق عدة كان ثابتًا بها گالطود، استدار ليمضي نحو الخارج.. بـ خُطى حثيثة.
و مضى مجتازًا الممر الرخاميّ الطويل، حتى بلغ البوابة الرئيسيّة، انتصب الحارس فور رؤيتهِ، و لكنهُ انتفض حين انقضّ على تلابيبهِ ليجتذبه إليه أثناء قولهِ الهادر:
- انت واقف هنا زينة؟ مشوفتش الهانم و هي بتخرج من هنا؟
ازدرد الأخير ريقه و هو يرفه أنظارهِ المرتبكة نحوه مبررًا:
- و الله يا بيه ما اتحركت من هنا، هي.. هي قالتلي إنك تعرف بخروجها
كزّ أكثر على أسنانهِ و هو يشملهُ بإزدراء واضح، ثم دفعهُ بعنفٍ للخلف و هو يكاد يخطو ليمر من خلال البوابة و لكنهُ كان يحاول تبرير موقفهِ خوفًا من الطرد:
- و الله يا بيه هي كانت راكبة الحصان، و عايزة تخرج بيه و لما حاولت أمنعها.. قالتي إنك تعرف بخروجها، أنا مكنتش..
تيبست قدماهُ بالأرضيّة و هو يلتفت نحوه ليحدجهُ بأنظار قدحت شررًا أثناء سؤالهِ المستهجن:
- كانت إيـــه؟
و قبل أن يجيبه الحارس كان العجوز يهرول محاولًا اللحاق بهِ و هو يقول من بين لهاثهِ:
- الـ..الحق يا يوسف، الواد غانم كلمني.. و بيقولي أشهب مش موجود!
.................................................................
ما يُقارب الخمسة عشر دقيقة و هو يتتبع هاتفها عن طريق أحد البرامج بهاتفهِ،.. فـ هي كما توقع غبية للغاية لدرجة أن تأخذ هاتفها الذي لا تعلم هي بإمكانية تتبعهُ لها في الوقت الذي يريد.
بداخلهِ سكنت مشاعر عِدة مُختلطة.. و أبرزها كان السخط، حتى و أخيرًا تمكن من رؤيتها على بعد، فزاد من سرعة سيارتهِ حتى باتت تلتهم الأرض من أسفلها و قد تحفزت خلاياهُ تمامًا، و تأهب.
كانت تهرول بهِ مُنحية أي شعر للخوف جانبًا، يسوقها فقط إحساس النقم، و أول ما نقمت عليه هو نفسها و سذاجتها التي أشعرتها بأنها ستخلق شخصًا آخر منه، أو أنها ستحاول مداواة جروحهِ كما عقدت العزم، كان الخيل يبتلع الأرض من أسفلهِ بخطواتهِ و حدوتهِ تقرع الأرض، جسدها يترنح من فوقهِ للأمام و الخلف تبعًا لحركة رأسهِ أثناء ركضهِ، الهواء يلطم صفحة وجهها العابسة التي غلب عليها الحُمرة الفاقعة إثر احتباس الدماء بهِ، و عينيها قد احمرّت بها تلك الشعيرات الدموية من خلف الهالة البيضاء المحيطة للزرقة المتقدة بهما فبدت واضحة للعيان، عاقدة حاجبيها، مقوسة شفتيها سخطًا، حتى انتبهت إلى تلك السيارة التي تعرفها جيدًا و هي تسير من جوارها حتى باتت موازية لها تحديدًا، أخفض "يامن" زجاج سيارتهِ و هو يجأر بها باقتضاب:
- انزلي
انحرفت انظارها نحوه لتحدجه بنظراتها القاتمة أثناء قولها المستهجن:
- لما انت مش طايقني أوي كده.. لما أنا مجرد هامش في حياتك سايبني فيها ليه لحد دلوقتي، ما تطلقني؟
فـ زأر بها و هو يوزع أنظارهِ بين الطريق و بينهما:
- بطلي الجنان ده، إنتي عارفة إنك مبتعرفيش تركبي، وقفي و انزلي
حادت بأبصارها عنه لتحدق أمامها و هي تلكز الجواد بساقها بحركة عنيفة، فصهل عدة مرات و هو يُسرع في خطواتهِ، بينما كانت تقول:
- ملكش دعوة بيا، أديني بمحي نفسي بنفسي، يمكن ترتاح!
زجرها بنظرة حامية و هو يقول مجاريًا خطوات الخيل بسيارتهِ:
- بنت حسيـن،.. مش هكرر كلامي، إنزلـي!
فنظرت نحوه مجددًا و استنكرت و هي تلوي شفتيها:
- دلوقتي تهديداتك مش بتفرق معايا، أنا مبقتش أخاف منك يا يامن بيه ده كان زمان، لما كنت تستقوى عليا و تهددني بأبويا، لما استقويت عليا و اتجوزتني تحت التهديد.. و غصب عني، لو أنا كنت نسيت ده ليومين تلاتة فبعتذرلك، و بشكرك في نفس الوقت إنك فكرتني في الوقت المناسب
و باتت لهجتها غامضة عقب أن ابتلعت غصة عالقة في حلقها و هي تنظر أمامها:
- حاجات كتير كان ممكن تتغير، لكن إنت لحقتني في اللحظة الأخيرة، مش عارفة أشكرك على ده إزاي!
- بنت حسيـــن!
هدرت بهِ و أنظارها المتوهجة تتجه نحوه قد برزت عروق جانبي رأسها:
- إيـــه؟ عايز إيه؟ عايز مني إيه تاني؟
و راحت توجه أسئلتها الناقمة:
- يا ترى حساب حضرتك هيتصفى امتى؟..ها؟ هتصفيه امتى عشان ترميني زي الكلبة برا حياتك؟ قــول، هتصفيه امتى عشان تبيعني زي ما بعت أخوك، هتصفيه امتى عشان تمحيني! الانتقام اللي كنت مجرد وسيلة عشان توصل له هتاخده امتى؟
و لمّا وجدتهُ صامتًا أوغر صدرها أكثر، فراحت تهدر بهِ حتى آلمتها حنجرتها:
- اتكلـــم، ما انت من شوية كنت بتتكلم لدرجة فكرتك مش هتسكت، كنت بتتكلم و عرفت إن سكوتك أرحم مليون مرة من كلامك، دلوقتي ساكت ليـه؟ سؤالي صعب؟.. خلاص، أسهل لك سؤالي، قولي هتنتقم منه ازاي؟
نهج صدرها علوًا و هبوطًا و هي تعطف نظراتها لتنظر أمامها بينما تقول بلهجة خالية من المشاعر:
- هتقتله؟.. اقتلته! اقتله، و امحيني، اقتله، و خلصني منك، اقتله!.. اللي مش باقي عليا، أنا مبقاش عليه، اللي مكلفش نفسه يطبطب عليا، اللي مكلفش عنه يدافع عن شرفي و لو بكلمة، اللي اعتبر تضحيتي خيانة و اعتبرني عار!.. مبقاش يفرق معايا
شعرت و كأن قلبها في تلك اللحظة تحديًا قطعة من الجليـد، و على الرغم من ذلك فرّت دمعة حارقة من عينيها و هي تصرخ في احتدامٍ:
- مش عارفة الدنيا عايزة مني إيه أكتر من كده، مش عارفة أنا عملت إيه عشان.. عشان كل ما أحاول أبتسم تاخد مني ابتسامتي، كل ما أحاول أفرح تسرق مني سعادتي، كل ما أحاول أنسى تفكرني و كل ما أحاول أعيش.. تقتلني!
و باتت نبرتها أكثر سخطًا و هي تتابع:
- انتو استحالة تكونوا بشر.. كلكم خونة، كلكم جيتوا عليا و جرحتوني
 و صرخت صرخة كانت مكبوتة في صدرها و هي تستأنف:
- انتو فاكريني إيـه؟.. حشرة كل واحد يعدي يدوس عليها بجزمته زي ما هو عايز، كل واحد يعدى في حياتي يجرحني بسكينة تلمة.. كل واحد يمشي فيها لازم يسيب فيا جرح! مفكريني لعبتكم.. الوقت اللي تحبوا تجرحوها، و في الوقت اللي تحبوا تراضوها! أنا انسانة.. إنسانــة!
انتبهت إلى ما يفعل في اللحظة الأخيرة، فقد تعمّد تركها تخرج ما بجبعتها بينما يدنو منها بالسيارة، بسط كفهُ عبر نافذتهِ و كاد يجتذب كفها الممسك باللجام، و لكنها ابتعدت يسارًا حالما لاحظت ذلك، و راحت تهدر بتمقّط شابهُ البغض:
- سيبني بقى،  أنا بكرهك.. بكرهه، و بكره الرجالة كلهم، بكره أختي، و بكره نفسي، بكره عيلتي، بكره أخوك و عيلتك كلها، أنا بكرهكم كلكم، بكرهكــم!
كشّر عن أنيابهِ و هو يفتح باب السيارة ممسكًا بالمقود ليديره يسارًا فيدنو منها مجددًا، و حالما صار على بعد مناسب منها، كاد يترك السيارة محاولًا الوثوب فوق جوادها، و لكن بيد أنهُ تأخر.. حيثُ أنها صبّت جم تركيزها على محاولة الانفلات منهُ، لم تنتبه لنفسها و هي تسحب اللجام بقوة بحركة متشنجة آلمت فكيّ جوادها حين لاحظت ما يحاول فعلهِ، فتوقف محلهُ و هو يرفع قوائمهُ الأماميّة و يصهل بعنفٍ و قد بدا و كأنهُ اهتاج.. و لكن هياجه كان يختلف عن الجواد السابق، فما كان يكفي منه سوى حركة واحدة للأعلى خلّت توازنها و قد تركت اللجام من كفيها، و أفلتت قدمها من ركاب السرج و قد شعرت بجسدها گالريشة في الهواء، حتى استقرّ جسدها على الأرضية الصلبة و آخر ما تشعر بهِ هو آلمًا مبرحًا.. و آخر ما حل برؤيتها هو ترجلهِ و إقبالهِ عليها بينما الصورة تدور في عينيها و قد شعرت بالأرض تميد بها، و آخر ما اخترق أذنيها صوتهُ الهادر، قبل أن تُطبق جفنيها لتسكُن آلامها النفسيّة.. بشكلٍ مؤقت.
......................................................................
جلست أمام منضدة الزينة_ذات الطراز العتيق_ ساكنة، أشبه بتمثال خاوي من الحياة، مطبقة جفنيها فاستسلمت للمسات والدتها الحانية لوجنتها أثناء صنعها لجديلتها، دقائق مرت لم تنتبه إلى مرورهم، حتى انتهت والدتها فهمست و هي تمسح على جديلتها:
- خلصت يا جميلة
حينئذ فتحت جفنيها لتحدق في انعكاس صورة والدتها بالمرآة، كانت واجمة للغاية و هي تنظر نحوها بعتابٍ، فعبست "سُعاد" و هي تقول باستياء:
- يا بنتي متبصليش كده، قولي إنك مش موافقة و أنا و الله ما هجبرك على حاجة، قولي ده و أنا هحارب الدنيا عشان سعادتك
و خالط نبرتها الشجن بالمرارة و هي تقول و قد ترقرقت العبرات في مقلتيها:
- قولي أي حاجة ، نظرتك دي بتقتلني يا رهيف، و الله يا بنتي أنا هساعدك
ربتت على كتفها و هي تتابع و قد شقّت عبرة أطراف مقلتيها:
- أنا عمري ما كنت ليكي مجرد أم يا رهيف، أنا طول عمري كنت أختك و صاحبتك، احكيلي يا حبيبتي، قولي عملتي كده ليه؟
أجفلت "رهيف" نظراتها للأسفل و هي تعبث بكفيها، تجمعت الدموع في مقلتيها و هي تغمغم بنبرة مكلومة:
- أنا حاسة إني من غير سند يا ماما، حاسة إني وحيدة في الدنيا دي
دارت "سعاد" حولها لتجثو أمامها على ركبتيها و هي تتجول بنظراتها على ملامحها، نزحت عبرتها قبل أن تتشبث بكفيّ ابنتها لتقول بلهجة حانية:
- هو ده السبب اللي خلاكي توافقي على راشد؟
ارتفعت أنظار "رهيف" إليها لتقول بتحسُّر:
- مفيش حد هيقف جمبنا، لو وقعنا مفيش حد يسندنا يا ماما، من بعد بابا.. مفيش حد
تقوست شفتيّ "سعاد" بأسى و هي تردف مؤنبة إياها بلطف:
- و ربنا فين يا حبيتي؟، ربنا وكيلنا و سندنا الوحيد، اللي معاه ربنا عمره ما بيقع يا بنتي!
حادت "رهيف" بأنظارها عنها و هي تقول بقنوط:
- أنا عارفة ده، بس للأسف لازم يكون في شخص جمبنا، و خلاص، طالما الشخص ده حضرتك موافقة عليه، فمفيش لزوم أ....
ضغطة خفيفة احتوت كفيها بينما تنظر "سعاد" مباشرة لعينيها بنظرات دافئة:
- أنا عارفة إنك مبتحبيش راشد، و عارفة إن كان نفسك تتجوزي عن حب، لكن يا بنتي..، صدقيني الوقتي الحب مش مهم، في حاجات أهم بكتير، الاهتمام و المودة بين الزوجين هي اللي بتفضل، الحب بقى بيموت يا بنتي!
حينها انحرفت نظرات "رهيف" نحوها لتعترض قائلة:
- بس حبك انتي و بابا لسه عايش حتى بعد موته!
أحنت "سعاد" أهدابها لتتنهد بحرارة معقبة:
- حكايتنا كانت حاجة نادرة، و صعب تلاقي زيّها يا رهيف، صعب يا بنتي في الزمن ده
حادت "رهيف" بأنظارها بعيدًا لتقول بلهجة خاوية من الحياة:
- عارفة يا ماما، على الأقل.. أنا عارفة راشد و أخلاقه، مش هتجبر إني أتجوز واحد معرفش عنه أي حاجة زي يارا
تنفست "سعاد" بعمق لتقول بلهجة جادة، محاولة حثّها لإعادة التفكير في الأمر:
- رهيـف، فكري تاني يا بنتي، فكري أكتر من مرة، الموضوع ده مش حكاية يوم يومين، الموضوع ده حياتك.. مستقبلك، هتقدري تعيشي عمرك.. تكملي حياتك مع واحد انتي مش قابلاه؟
زفرت "رهيف" أنفاسها بعمق و قد تشوش ذهنها، فأردفت "سعاد" و هي تنهض عن الأرضية:
- ملكيش دعوة بجدتك، ملكيش دعوة بحد، أنا عارضت جدتك قبل كده عشان والدك.. و مستعدة أعارضها تاني عشانك
و احتوت إحدى وجنتيها بكفها لتهتف بحنو:
- انتي و أختك أغلى حاجة في دنيتي يا رهيف، أنا مش عايزة من الدنيا غيركم، و أقسم لك إني مش هسلمك.. إلا للي يستحقك
و تركت قبلة حانية أعلى جبينها، و بكفها ربتت على كتفها بدفء أموميّ، و تحركت لتتركها وحدها قليلًا، ريثما تُعيد حساباتِها.
.................................................................
لمحاتٍ مختلفة فقط كل ما استطاعت التقاطه بعينيها.. وجهه القريب للغاية و أذرعهِ المحيطة لجسدها فتنبأت بأنهُ يحملها.. يستقر جسدها فوق ملمس ناعم مريح.. كلماتٍ مشوشة على مقربة منها لم تكن خالية من صوتهِ.. أحدهم يقترب منها للغاية فالتقطت ملامحهِ المشوشة بعينيها.. و من ثُم لمسة خشنة احتوت كفها، كان جفنيها حينئذ منطبقين و لكن أذنها تلتقط الأصوات و قد تمكنت في تلك اللحظة من تحديد الكلمات التي تخرج من أفواه من حولها:
- اعمل اللي تعمله و أنا هنا، مش هسيبها!
- يا يامن بيه.. مينفعش تكون هنا، اتفضل حضرتك و أنا هتصرف معاه
فالتقطت صوتهُ الشرس و هو يهتف:
- سمعت اللي قولته، شوف شغلك
و سكنت الأصوات تمامًا فباتت غير واعية لما يحدث حولها.
................................................................
- كويسة كويسة كويسة، و الدم ده جه منين، مني؟
كان ذلك صوتهُ الذي اخترق مسامعها مجددًا بينما يضرب بقبضتهِ المتكورة الجدار، فحاول العجوز تهدئتهِ و هو يربت على كتفهِ:
- اهدى شوية يا يوسف، هو أدرى بشغله، و بيقول إن الإشاعات مفيهاش حاجة، و إن مفيش كسور الحمد لله!
و أشار العجوز لجسدها المسجى على الفراش:
- دي كدمة من الخبطة يا يوسف، و الجمجمة سليمة الحمد لله
و عاد ينظر نحوه و هو يعقد حاجبيه مؤنبًا:
- انت يا ابني عايزها تكون مش كويسة بالعافية، احمد ربنا انها جت على قد كده
تسلطت أنظارهِ عليها بينما يهتف مكشرًا عن أسنانهِ بهياج:
- غبية.. واحدة غبية، مش عارف غبائها ده هيوديها لفيـن بعد كده!
و ركل المقعد الخشبيّ أمامه و هو يزفر حانقًا مشيحًا بأنظارهِ الملتهبة بعيدًا عنها، فدنا العجوز منه مجددًا و هو يحتوى كتفهِ بضغطة من كفه:
- معلش يا يوسف، معلش استحملها،.. هي برضو معرفتش تفكر
فراح يُخرج ما بجبعتهِ و هو يتطلع إليه بأنظاره المتأججة:
- كانت قدامي يا أحدب، كنت جمبها و معرفتش ألحقها، كنت جمبها و ممنعتش ده، زي ما شوفته بيموت قدامي و مقدرتش ألحقه!
تنهد العجوز بحرارة و هو يتابعه بأنظاره المعاتبة أثناء قوله الشبه مازح:
- انت هتفوّل على البت، ما هي قدامك أهي، يا ابني بعد الشر، ربنا يخليهالك
تسلطت أنظاره الحانقة على عينيهِ ثم أشاح بوجهه عنه و هو يفرك وجهه بإحدى كفيهِ أثناء تأففهِ القويّ:
- أوف
فعاتبهُ العجوز:
- خلاص بقى، هتفضل تعذب نفسك لامتى
نظر "يامن" نحوهُ و هو يخفض كفه عن وجهه، حتى عنقهِ فشرع يحكّ جلدهِ بعنفٍ بالغ، في حين أردف العجوز و هو يومئ برأسهِ:
- أنا عارف اللي في دماغك كويس، و عارف إنك حاسس إن انت السبب، أنا حافظك صم، ده انت ابني!
و ربت على كتفه بقوة، و هو يتابع قائلًا:
- و عارف إنك رجعت من القاهرة مش طبيعي، أكيد شوفتها، مش كده؟
و قبل أن يجيب "يامن" كان يستطرد بزفرة قوية:
- خليك فاكر يا يوسف، خليك فاكر إنها عمرها ما فكرت في سعادتك، خليك فاكر إنها أنانية.. و آسف في اللفظ لكن دي الحقيقة، حتى لو مكنتش جمبها، فمش عايزاك تكون جمب مراتك!
تحرك "يامن" ليتقدمهُ مبتعدًا عنه أثناء قولهِ الجاف:
- مش ده السبب يا أحدب، السبب في اللي بتحاول تعمله!، السبب في إنها بتحاول تـ..
صمت "يامن" و قد أدرك أن لسانهِ سيلفظ الكثير مما لا يحبّذ أن يُطلعه عليهِ، و لكن "منصور" ردد و هو يعقد حاجبيهِ معاتبًا:
- تغيرك؟
و تابع تأنيبهِ الجاف لهُ:
- و انت عايز تفضل كده باقية حياتك؟ يا ابني البنت استحملت أسلوبك معاها، و أنا شايفك بعيني بتعاملها ازاي، و صبرت عليك، و فوق كده كمان بتحاول معاك.. و يبقى ده جازاتها، عشان عايزاك تبقى أحسن يبقى
فهدر بهِ و كأنهُ سكب ملحًا فوق جراحهِ الغائرة- و مُتأثرًا بتربية والدتهِ-:
- الضعف بتسميه تغيير للأحسن
هز العجوز رأسهُ استنكارًا:
- أنا مقولتش بتضعفك.. و مقولتش أبدًا إنها بتحاول تخليك أضعف، ده مش كلامي يا يوسف
أشار "يامن" نفسه بسبابتهِ و هو يجأر مستهجنًا و قد تشنّجت عضلات عنقهِ و بزغت عروقهِ بوضوحٍ:
- الضعف ده حول حياة أبويا جحيم، و أنا مش هبقى زيه.. أنا يامن يا عجوز، اقتنع بقى، يامن مش يوسف، يا ريت تبطل لأني في ثانية ممكن أنسى إنك في مقام أبويا!
و تركهُ يتنهد بحرارة و انصرف بينما الأخيرة يتابعهِ بأنظاره القانطة، تحولت عينيه حتى ارتكز ببصره على جسدها، ثم لفظ كلماتهِ الثقيلة:
- الطريق طويل يا بنتي.. طويل أوي بعمق الجرح، مش عارف هتقدري تكمليه.. و لا من دلوقتي هتسيبيه!
...............................................................
منذ عودتها البارحة و هي تجلس ملتصقة بها، تلبي احتياجاتها بتلهف، متأثرة بوحدة ابنتها أثناء مرضها.. كما ادعى "فارس"، و عدم تواجدها حينذاك بجوارها، هجدت الليل و قضتهُ بجوارها خوفًا من أن تتدهور حالتها، و اليوم لا تتحرك قيد أنملة من جوارها، بينما "ولاء" سئمت ذلك حقًا، تتأفف كل دقيقة تقريبًا، كادت تزيح عنها الغطاء الثقيل الذي أصابها بالاختناق، لتنهض فتحضر هاتفها الجوال فسارعت "حبيبة" بإعادتها و هي تقول متلهفة:
- رايحة فين؟، قوليلي عايزة إيه و أنا أجيبهولك يا حبيبتي!
جلست "ولاء" و هي تزفر بقوة:
- أوف، انا زهقت يا ماما، انتي خنقتيني!
ابتلعت "حبيبة" غصة عالقة في حلقها و هي تحنى أبصارها يأسًا ثُم قالت:
- يا حبيبتي خايفة عليكي، مش كفاية كنتي ..
فرددت بضجر:
- خلاص يا ماما، أنا دلوقتي كويسة، ينفع تسيبيني في حالي بقى و تشوفي هتعملي إيه؟
نهضت "حبيبة" و قد تهدل كتفيها قنوطًا، ثم ربتت على كتفها برفق و هي تقول بلهجة مستاءة:
- حاضر يا حبيبتي، هسيبك براحتك، و أقوم أحضرلك الغدا ، ناديني لو احتاجتي حاجة
لم تكلف نفسها عناء الإجابة، حتى خرجت "حبيبة" و أوصدت الباب من خلفها، فتنفست الصعداء و هي تزيح تلك الأغطية بالكامل عنها بركلة من قدمها بعنف و هي تردد ساخطة:
- أوف، واحد متخلف أصلًا، أديني في القرف ده بسببك
و نهضت عن جلستها لتسارع بإحضار هاتفها، ثم عادت إلى فراشها لتجلس على طرفهِ و هي تحاول مهاتفة رفيقتها بلهفة عجيبة، و لكنها لم تجب اتصالها، فعبست و هي تحاول مجددًا، و لكن أيضًا تجاهلتهُ، أصابها الوجوم و هي تنظر لهاتفها مغمغمة برجاء:
- ردي يا وداد بقى بليـز، أنا محتاجاكي أوي!
................................................................
تململت في نومتها محاولة الفكاك من ذراعيه المطبقين عليها، و فور أن فعلت بصعوبة استدارت لتسحب هاتفها الذي أصابها رنينهُ بالضجر، نظرت لاسمها و صورتها المنبثقة أمامها فزفرت متأففة، ثم تركت الهاتف جانبًا عقب ان فعّلت الوضع الصامت، و كادت تستسلم لنومها في أحضانه مجددًا، و لكنها انتبهت إلى صوتهِ الحانق المتحشرج:
- ده مين الـ***** اللي بيرن في وقت زي ده؟
انبعجت شفتيها بابتسامة مغرية و هي تقول بخفوت:
- وقت زي ده إيه يا دومي؟.. الساعة 4 العصر يا روحي
فرّق جفنيه لتسقط أنظاره على وجهها، فطبع قبلة عابرة على وجنتها و هو يقول مهمهمًا:
- أيوة يعني مين بردو؟
أجابته بلا اكتراث:
- دي ولاء، سيبك منها
تغضن جبينه و هو يبتعد قليلًا ليسألها باهتمام و بنصف عينٍ:
- و دي عايزة إيه
أشاحت بكفها و هي تهمس بتأفف:
- أكيد هتترجاني عشان تفهمني اللي حصل امبارح!
أومأ برأسه متفهمًا بينما كانت تقول بلهجة ساخطة:
- مفهماني إنها بريئة ملهاش في حاجة و هي ماشية مع واحد زي ده!
ارتفع إحدى حاجبيه استنكارًا و هو يقول:
- طب ما هو قالك خطيبته، سيبك منها
فاعترضت على قولهِ تمامًا:
- لأ، أنا سألتها قبل كده قالتلي مش مرتبطة، دي كذبة منه
و ضاقت عيناها و هي تنظر لنقطة ما بالفراغ لتغمغم بغموض:
- ولاء دي وراها حكاية، لازم أعرف مين ده!
و التفتت مجددًا و قد برق ضوء هاتفها إثر انبثاق صورتها مجددًا باتصال جديد، فدمدمت بظفر:
- خليكي كده على نار، لغاية ما يجيلي مزاج أرد عليكي.
.............................................................
عاونها لتعتدل في جلستها أعلى الفراش و هو يقدم لها كوبًا من الماء عقب أن أعربت لهُ قولًا عن عطشها، حتى أنهت تقريبًا الكوب بأكملهِ، فناولته له ليضعه على الكومود المجاور، بينما هي ظلت بجلستها المستقيمة و هي تعيد رأسها للخلف لتطبق جفنيها مستسلمة لآلام رأسها، حتى استشعرت تلك اللمسة الحانية على كتفها و صوته الدافئ المعاتب:
- يعني ينفع اللي عملتيه ده يا بنتي؟، في واحدة عاقلة تعمل كده؟
فرّت دمعة حارقة من بين جفنيها المنطبقين و هي تغمغم بلهجة بائسة:
- أرجوك يا عم منصور متكلمنيش في حاجة، أنا مش ناقصة
و فتحت عينيها لتنظر نحوه حينما قال:
- يا بنتي.. أنا عايزك متاخديش على خاطرك من جوزك، هو ....
فقاطعتهُ و هي تشيح بأنظارها عنه باستهجان:
- عم منصور.. لو سمحت متبررش حاجة، إنت متعرفش حاجة، و متعرفش هو عمل إيه
استشعر عُسر الموقف، فربت على كفها الرقيق و هو يردف بلهجة صادقة عقب أن أصدر تنهيدة حارة:
- معاكي حق يا بنتي، أنا معرفش هو عمل إيه و لا قالك إيه، بس أنا عارف يوسف كويس، هو ندمان.. لدرجة إنه مقدرش يقف قصادك لما صحيتي
سحبت كفها و هي تحتج بانفعال:
- و يفيد بإيه الندم يا عم منصور؟ ندمه ده هيصلح إيه؟، أنا مش عارفة ليه مبتشوفوش غلطان، ليه دايمًا في نظرك ملاك مبيغلطش، انت متعرفش حاجة عنه يا عم منصور!.. انت تعرف يوسف و بس، عشان كده شايف يامن يوسف، لكن يامن غير يوسف! افهم ده بقى يا عم منصور
هز رأسه معترضًا على قولها و هو يجيبها بلهجة عميقة:
- و الله لو الدنيا كلها أجمعت إن يامن غير يوسف.. أنا مش هصدق يا بنتي
زفرت بضجر ثم أردفت و هي تشيح بأنظارها عنه:
- كفاية بقى وهم يا عم منصور، يمكن يوسف كان انسان لكن ابنه لأ.. لأ
 أحنت أهدابها لتتابع و كفها يتقبض على الملاءة:
- و كنت غبية.. أكبر غبية لما حاولت أقنع نفسي بالعكس!
- انسان.. اللي وقف جمبك طول مرضك إنسان، اللي خاف إنه يخسرك إنسان، اللي مفارقكيش للحظة إنسان، اللي حاول بكل الطرق يصلح غلطه إنسان، اللي حب يبعدك عن الناس كلها من خوفه من أذيتهم ليكي.. انسان
تقوّست شفتيها بسخرية و هي تتشدق:
- أه.. لكن يأذيني هو ، عادي!
ربت "منصور" على كفها و هو يقول بلهجة جادة:
- أنا عارف إن كلامه زي الرصاص، بس متاخديش بيه يا بنتي، هو حس إنك بتضعفيه، عشان كده.. بيحاول يبعدك، و "يامن" يكره حاجة اسمها ضعف، بسبب والدته و عمه، الله يسامحهم!
أشاحت بأنظارها القانطة بعيدًا لتغمغم بلهجة متهكمة:
- خلاص يا عم منصور، الكلام ده ميفرقش معايا،.. أنا هبعد من نفسي، لغاية ما البيه يقرر يمحيني زي ما قال!
تنهد الأخير بيأس بالغ و هو يحني بصرهُ:
- لا حول و لا قوة إلا بالله
فنظرت نحوه من طرف عينها لتقول:
- متحاولش تعاتبني يا عم منصور، أنا مغلطتش.. غلطي الوحيد اني حاولت.. و حقيقي ندمانة على الوقت اللي كنت بحاول فيه!
و عادت برأسها للخلف، صدر من بين شفتيها صرخة مريعة، فنهض العجوز متأهّبًا عن جلستهِ و هو يقول بقلق:
- مالك يا بنتي.. انتي كويسة؟
أحاطت بكفيها رأسها و هي تقول و قد فرّت الدموع من عينيها بعدما استصعبت تحمل الآلام الطاحنة:
- دماغي هتموتني، مش قادرة يا عم منصور
فنظر العجوز في ساعة الحائط و هو يقول حانقًا:
- المفروض في مسكن دلوقتي،.. أنا هروح أشوفلك الدكتور
و خرج.. ليجدهُ يقف مطبقًا جفنيه مستندًا بظهرهِ للجدار من خلفه، و ثانيًا إحدى ركبتيه مستندًا بقدمهِ لهُ، حتى انتبه إلى صوتهِ الذي أخرجه من غياهب شروده و هو يخطو نحوه:
- يوسف.. ادخل شوف مراتك لحد ما أشوف الدكتور فين
تقلصت المسافة بين حاجبيه و هو يستقم في وقفته و قد بدأ القلق يستبد بهِ، و لكن لهجتهِ الصلبة كانت منافية لذلك:
- في إيه؟
فردد العجوز و هو يسير في الاتجاه المعاكس:
- معرفش.. فجأة صدعت جامد، خليك معاها الله يكرمك يا ابني، أنا رايح أشوف المسكن اتأخر ليـه و أجيب الدكتور
فلم ينتظر، راح يخطو نحو الداخل ليجدها بحالتها تلك، أوفض نحوها و هو يسألها بقلق طاف على نبرتهِ:
- مالك.. في إيـه؟
فهدرت بهِ و هي تشيح برأسها المحاوط بكفيها:
- ابعـد.. ابعد عني!
أدار رأسها إليه بقبضتهِ و هو يسألها بلهجة قوية:
- حصلك إيـه، انطقي؟
نظرت نحوهُ بأعينها الدامعة و هي تهدر بهِ بلهجة حارقة بينما الدموع تنساب من بين جفنيها:
- أنا هفضل أتعذب بسببك لحد امتى؟ كفاية بقى، كفايــة!
جلس أمامها مباشرة بينما هي تدفعهُ ليبتعد بأقصى قوة لديها و قد بدأ جسدها بالكامل يتشنج، ازدرد ريقه محاولًا السيطرة على انفعالاتهِ، اجتذب جسدها إليه ليضمها محتويًا تشنجاتها بين ذراعيه، حتى شرعت بالبكاء الحارق و قد جسدها يتشنج بين ذراعيه، ضمّها إليه أكثر و هو يهدئها بصوته الأجشّ:
- بــس، اهدي
و بإبهامهِ رفع ذقنها إليهِ، ليجبرها على النظر لعينيهِ مباشرة، حدجتهُ "يارا" بنظرة مغلولة من بين دموعها المنسكبة و هي تهدر بهِ محاولة دفعهِ من صدره و جسدها لا يفتؤ يتشنج بين ذراعيهِ:
- ابعد عني!.. ابعـد
- قولتلك يا بنت حسيـن، أنا ناري بتحرقك! اتعديتي حدود مكنش لازم تعديها، قربتي.. و القرب مني هلاك
انتقلت أنظارها الحانقة الدامعة بين عينيه و هو تحاول التخلص من حصارهِ:
- يبقى تبعدني انت.. طلقني، طلقنـي!
و تأوهت متألمة و هي تحيط رأسها مجددًا، ارتكز "يامن" ببصرهِ عليها، للحظة همّ بأن يفلت ذراعيه عن جسدها، أشاح بوجههِ بعيدًا عنها، و هو ينطق بفتورٍ منتويًا التخلص من تلك العلاقة التي لا تندرج تحت أي مسمى، و لا تجلب لهُ سوى تشتت قلبهِ و إذهاب عقلهِ:
- انتي طا...
و اقتطع كلماتهِ فتح الباب المفاجئ، فلم ينهض عن جلسته، عاد يُطبق ذراعي على جسدها، ثم التفت نحوهُ محدجًا إياه بنظراتهِ الناريّة و هو يجأر بهِ:
- ساعة عشان تيجي؟
فحاول التبرير بصوت متقطع:
- أنا كنت...
فقاطعه بزمجرة عنيفة:
- انت لسه هتهته! مش شايف حالتها، اتصــرف!
أومأ برأسه و هو يمضي نحوهما تتبعه الممرضة و العجوز يدنو منه متأملًا انهيارها، قطب جبينه و هو يسألهُ بقلق:
- ايه اللي حصل لها يا ابني؟ ده أنا سايبها مكانتش كده؟
فهدر بهِ بنفاذ صبر:
- مش وقته يا عجوز
جهّزت الممرضة الإبرة الطبية التي تحوى مادة مُهدئة، ثم أردف و هو يشير لكفها:
- عايز إيديها عشان تاخد الحقنة في الكانيولا
ضمّ "يامن" جسدها بذراع و هو يسند ذقنه على رأسها محاولًا إيقاف تشنجها، و بكفه الآخر أخذ يحاول أن يحتوى كفها فكانت مطبقة أصابعها و هي تحاول الفكاك منه، رافضة أن تفتح أناملها، فكاد "علاء" يبسط أناملها ليتمكن من غرس الإبرة في "الكانيولا" الطبيّة، و لكنهُ زجره بنظرة من عينيهِ و قوله المستشاط:
- حاسب
ابتعد "علاء" و قد أصابه القنوط، فـ كان عليه محاولة إسعافها، دون أن يتلمس جسدها و "يامن" واقفًا لهُ بالمرصاد، كيف؟ لا يعلم، و لكنه عانى الكثير بذلك اليوم و بوجوده في مشفاه، يومًا عصيب مرّ عليهِ، و تنمى "علاء" لو ينتهى بأسرع وقتٍ كي يتخلص من وجودهِ، تمكن "يامن" من احتواء جسدها بذراعهِ و هو يستخدم كلتا ذراعيه ليبسط كفها، ثم أشار إليه و هو يهدر:
- اخلــص!
حينها و أخيرًا انحنى عليها و هو يضخّ المادة المهدئة في الكانيولا، تنفس الصعداء حين اكتملت مهمته الشاقة، ثم استقام في وقفتهِ و هو يترك الإبرة الطبية للمرضة التي تابعتهما بأعين هائمة، و فور أن انتهى جأر بهم:
- بــرا، كله بــرا!
انسحب أولًا الطبيب و تبعته الممرضة، و من خلفهم العجوز الذي ترك نظرة أخيرة قانطة عليهما، حتى استدار منصرفًا و أوصد الباب من خلفه، اشتدت قبضتها الأخرى على ملابسهِ و قد استشعرت ارتخاء جسدها بين ذراعيه، ثم همست من بين أسنانها المطبقة:
- هنتقم.. هنتقم منك، كل كلمة جرحتني بيها هتدفع تمنها، كل حاجة عملتها فيّا هتدفع تمنها غالي!
ألصق شفتيه بجبيها ليطبع قبلة مطولة عليه، ثم مسح برفقٍ بكفه الخشن على وجنتها و هو يحتوي جسدها أكثر بين ذراعيه، و ما هي إلا دقائق و كان كفها يرتخى عن ملابسهِ تزامنًا مع ارتخاء جسدها بالكامل، فعدّل من وضعهما و هو يستدير ليستند بظهرهِ لظهر الفراش، تاركًا لها بين أحضانهِ، تستند بأذنها على موضع دقات قلبه تحديدًا، استند برأسهِ لظهر الفراش من خلفهِ، و هو يطبق جفنيه بينما كفه يمسح على وجنتها بشرودٍ، إنهُ عالقًا.. عالقًا بين احتياجه لتواجدها و حاجتهِ لإبعادها، عالقًا بين سخطه عليها و حنينهُ إليها، رغبتهِ فيها و رغبتهِ في فرقها، رغبتهِ في حمايتها و رغبتهِ بإقصائها ، ما ذلك التناقض؟، لا يعلم، و لكن ما يعلمه فقط.. أن هنالك شيئًا بداخلهِ، شيئًا لا يعلم كنهه، و لا يسمح حتى لتروس ذهنهِ بالعمل بخصوصهِ لتحاول فك شيفراته، شيئًا عالقًا بقلبهِ الذي هلك قبلًا كما يدعي، و يرفض عقله بالاعتراف بصحوتهِ.. المؤقتة.
...............................................
............................
....................................................................
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now