"الفصل الثاني و الستون"2

676 16 0
                                    

"الفصل الثاني و الستون"2
 
كانت تجلس بفتور شديد و قد استصعبت أن تحظى ببضع سويعات من النوم، تجاهلت السبب الرئيسيّ لقدومها و ودّت لو بإمكانها الاستمتاع بجمال تلك المدينة الساحرة، وقفت في شرفة غرفتها مستندة بكتفها للزاوية تراقب بعينيها المظهر الذي سلب لُبّها من أسفلها، محتضنة قدح من مشروب القهوة التي أعدتها بيسر مستعينة بآلة صنع القهوة، أطبقت عينيها ثوانٍ مستقبلة ذلك النسيم الذي صفع صفحة وجهها، ضمّت "ولاء" الوشاح الثقيل الذي استعاضت به عن ثياب ثقيلة لم تحضرها كونها لم تكن تعلم ذلك الفارق في الجو، ثم تلذذت بمشروب قهوتها الساخنة على أطراف شفتيها، أصابتها صدمة شديدة يبّستها بمحلها و قد كادت تسقط قدحها من فرط الدهشة حين استعمت إلى صوتهِ الصادح:
- عملت إيه؟.. طب كويس، انت مش في الفندق؟ ليه؟ واضح انك بتتهرب من الإجابة، انتو اتخانقتوا؟ مش مرتاحلك، خلاص يا عم عرفت إن ميخصنيش، بس متنساش إن نائف ممكن يوصل لهنا.. خد بالك متسيبهاش
و انفعل قليلًا و هو يردف:
- طب انت بتزعق ليه دلوقتي، أنا بحذرك، طب خلـ.. ألو
ارتفع حاجبهُ الأيسر استنكارًا و هو يقذف بالهاتف أعلى الطاولة الدائرية التي يحيطها أريكتين مريحتين ذو تصميم غريب، و لكنهُ آثر الوقوف هكذا و هو ينطق متذمرًا:
- هو أنا الملطشة بتاعتك يا يامن.. ده إيه حرق الدم ده!
تبددت صدمتها و قد شعرت و كأنها تشاركه غرفتهِ لا يفصل بينهما سوى جدارًا واحدًا، ضمّت شفتيها معًا و هي تضُم القدح بكفيها، منتوية التسلل قبل أن يمسك بها و يعلم بتواجدها، و لكنها دقّقت السمع حين استمعت إلى صوتهِ:
- يا ترى بتعملي إيه دلوقتي؟
كان قد استند بمرفقيهِ لسور الشرفة و قد شرد بتلك التي تستحوذ على تفكيره بشكل مريب، أعينه مسلطة على صفحة السماء الصافية و تلك النجوم التي تبرق بها بشكل يخطف الناظر إليها، و كأنها إحداهنّ تبدو قريبة و لكنها بعيـدة للغاية، تعبد عنه مسافات شاسعة لا تُقدر، حينها لفظ أنفاسهِ و هو يسأل بشغف طاف حول نبرتهِ:
- يا ترى بتعملي إيه دلوقتي؟
عضت "ولاء" شفتيها السفلى بضيق لا تعلم مصدره، قررت الانسحاب تمامًا و قد أصابها الامتعاض، فخطت بحذر للخارج.. خطوة واحدة تفصلها عن الولوج داخل غرفتها، و كادت تفعل لولا أن حدث ما لم تتوقعهُ.. تعثرت قدمها رغمًا عنها بمسند الأريكة، فحاولت أن تستند على شئ كي تحافظ على توازنها بشكلٍ تلقائيّ و قد ارتخت كفيها رغمًا عنها عن القدح فسقط أرضًا متهشمًا و تناثر محتواه الذي كانت قد أنهت منتصفهِ فقط، و لم تجد سوى المنضدة لتستند عليها، و لكنها بدلًا من أن تسندها أسقطتها و سقط كل ما فوقها متهشمًا و مصدرًا دوي مزعج صاخب، و سقطت هي أرضًا في النهاية فصرخت متأوهة من ذلك الألم الذي أحاط بظهرها إثر سقطتها العنيفة، فانتفض "فارس" محله و هو يستمع لتلك الضوضاء المدوية.. دنا من الجدار الفاصل بين الشرفتين و سألها بقلق:
- ولاء.. انتي بتهدي البلكونة و لا إيه؟
تأوهت بصوت مرتفع و هي تستقيم في جلستها على الأرضية متحسسة ظهرها ثم قالت بتذمر:
- آآه منك لله.. اتشخرمت على إيدك
تغضن جبينه و هو يكرر كلمتها بتعجب:
- اتشخرمتي؟.. انتي بتجيبي الكلام ده منين؟
فهدرت بهِ مغتاظة و هي تنظر نحو صوتهِ:
- تصدق إنك فايق و رايق.. آآه
و تحسست ظهرها مجددًا.. ثم حاولت النهوض و هي تنظر للوسط من حولها فرددت باشتداد:
- كل ده عشان أطلع من البلكونة! أنا لو كنت بعدي خط بارليف كان أسهل لي
فقال بلهجة جادة و قد جل اهتمامهِ على وجهه:
- طب اهدي بس و قوليلي حصل لك حاجة؟
فرددت بتبرم و هي تقوس شفتيها:
- لأ.. دي ناموسة قرصتني، انت مش سامع يا بني آدم!
و هدرت بكلماتها المستهجنة الأخيرة و قد تعالى صوتها، فردد متسائلًا بتردد:
- أجيلك؟
أومأت و هي تتلفت حولها:
- يا ريت.. لأني مش عارفة هعمل إيه بصراحة في اللي حصل ده
و استدارت.. همّت بالخطو خارجًا لكي تفتح باب الغرفة لهُ و لكنها تيبست بمحلها و قد شعرت بالدماء تفرّ من أوردتها حين انعكس ظِل شخص يثب من فوق سور شرفتها متمثلًا على الجدار أمامها، فصرخت و هي تطبق جفنيها ملتفتة لتضربه بعشوائيّة أثناء صياحها المتعالي:
- حرامــــي.. حرامي، الحقني يا فــــارس
كبّل "فارس" حركة كفيها عن طريق الإطباق على رسغيها و هو يقول مستهجنًا:
- حرامي إيه يا بت انتي مجنونة؟ ما أنا قدامك أهو!
رفرفت بعينيها عدة مرات حتى استقرت على وجههِ القريب، فالتقطت أنفاسها اللاهثة بصعوبة و هي تسألهُ بتهدج مرتعد:
- فارس.. انت هنا؟ انت جيت ازاي؟
فأشار  للخلف بعينيهِ و هو يردد بغيظ دون أن يحررها:
- تصدقي إحنا بينا بلاد؟ ده هي حتة حيطة اللي فاصلة بيننا!
توسعت عيناها عن أخرهما و هي تنظر إلى الخلف حتى كادتا تخرجان عن محجريهما، ثم عادت تنظر نحوه و هي تسألهُ بعدم استعياب:
- إنت.. نطيت من بلكونتك هنا؟
ثم صرخت به مستنكرة ذلك و هي تحسب كفيها بعنف:
- انت أكيد مجنون.. ده احنا في الدور الـ 14!
فرفع كتفيه و هو يردد بلا اكتراث:
- طب و إيه يعني؟
فرددت و هي تشير بسبابتها متشدقة بـ:
- لا و لا حاجة.. يعني لو وقعت مش هتنزل تحت، انت هتطلع فوق على طول كـ اختصار للرحلة
فأشار بعينيهِ غامزًا بعبث:
- ميوقعش إلا الشاطر.. يا شاطرة
و التفت ليتأمل الوسط من حولهِ فانعقد حاجبيهِ و قد تلاشت بسمته و هو يسألها متعجبًا:
- ده إيه ده؟.. انتي كنتي بتلعبي مصارعة؟
و ضحك ساخرًا منها فرددت باستهزاء و هي تقوس شفتيها:
- لأ يا خفيف.. كنت بلعب كاراتيه
و أشارت بكفيها و هي تقف في وضع الاستعداد و كأنها ستلاكمه:
- تحب أوريك؟
تجمدت تعبيراتهِ و هو يشيح لها بلا اكتراث:
- حاسبي يا شاطرة.. العبي بعيد، العبي بعيد
فرددت محذرة إياه و هي ترفع حاجبيها:
- على فكرة مش بهزر.. أنا كنت بلعب كاراتيه
تقوست شفتيه متهكمًا و هو يقول:
- لأ خفت حقيقي!
فرددت بحنق و هي تناظره بحدة:
- متستفزنيش أحسنلك
عقد حاجبيه و هو يقول باستنكار:
- أحسن لي؟.. انتي بتهدديني؟
فأومأت برأسها و هي تقول بتحدٍ:
- أيوة
فكور قبضته و قد أثارت أعصابهِ قائلًا باغتياظ:
- بت انتي.. أنا لو سيبت نفسي عليكي مش هتطلعي من تحت إيدي سليمة، اعدي بقى على جمب و متستفزينيش!
ضاقت عيناها و هي تستنكر قوله:
- نعم يا روحي.. هي مين دي اللي مش هتطلع سليمة، طب جرّب كده
فدفعها بخفّة بقبضتهِ المكورة منتويًا العبور، فلم تحتمل دفعتهِ و ارتد جسدها للخلف، كادت تسقط و لكنها تمالكت نفسها في اللحظة الأخيرة، رمشت عدة مرات و قد تفاقم غيظها حين وجدتهُ ينظر نحوها متعجبًا، و ما لبث أن جلجل صوت ضحكاته المستشفية بها و هو يردد من بينهما بتهكم بيّن:
- لأ بس شكلك بقى وحش أوي يعني
فرددت و هي تضرب الأرض بعصبية جليّة:
- و الله انت ما عندك ريحة الدم
و أشارت حولها و هي تأمرهُ بصوت ارتفع فجأة:
- اتفضل بقى اتصرف لي في المهرجان اللي اتسببت لي فيه و بطل تستفزني عشان أنا لو دمي اتحرق هـ..
فقاطعها مستطردًا كلمتها عنها من بين كركرتهِ المستمرة:
- هقع!
أطبق أسنانها بغضب جمّ و هي ترمقه بتوعد، ثم نطقت بـ:
- ماشي يا فارس.. ماشي
فخبى صوت ضحكاتهِ و لكنه ظلّ محتفظًا بابتسامة الواسعة التي أضاءت وجهه و هو يسد الطريق عنها بذراعه قبل أن تلج للخارج:
- خلاص متلويش بوزك.. خليني أشوف حد يطلع يلم اللي حصل ده
و همّ بتسلق سور الشرفة مجددًا فشهقت و قد جلّ الهلع على تعبيراتها و هي تتشبث بقميصهِ محاولة ردعه و هي تقول:
- انت بتعمل إيه يا مجنون؟
فهدر بها مستهجنًا و هو يتشبث بالسور بكف واحد و بالآخر حاول أن يخلص قميصه من بين أناملها المحكمة:
- يخربيتك هتوقعيني.. سيبي التي شيرت!
هزت رأسها نفيًا و هي تقول باحتداد:
- انت متعرفش إن في حاجة اسمها باب و لا إيه؟
و نظرت للأسفل بتخوّف ثم قالت بارتياب:
- و بعدين لو عايز تنتحر فانتحر بعيد عني.. لو وقعت من بلكونتي هيقولوا ان أنا اللي قتلتك و هيعلقولي حبل المشنقة!
تقوست شفتيهِ إزدراءً و هو يلتفت برأسه نحوها مكررًا:
- مشنقـة! يخربيت الأنانية.. يعني مش هامك إلا نفسك؟
فرددت بلا إكتراث لهُ:
- sure أومال فاكر نفسك هتهمني مثلًا؟
خلّص نفسه منها بصعوبة و استغل الفرصة ليثب من أمامها عابرًا الجزء البارز الواقع بين الشرفتين فهدرت و قد اتسعت عيناها ذُعرًا:
- فـــارس
و شبّت على أطراف قدميها ماطّة عنقها لتنظر لشرفتهِ فرأته و هو يثب للداخل أثناء قولهِ الفاتر:
- أنا غلطان أساسًا إني قولت آجي أساعدك.. حلي بقى مشكلتك مع نفسك يا سبع رجالة في بعض
تنفست الصعداء و هي تضع كفها على قلبها و قد تلاحقت نبضاته:
- حرام عليك وقفت قلبي
فوجدت فجأة وجههُ يطل عليها بسهولة بسبب طولهِ الفارع و هو يسألها بابتسامة تراقصت على أطراف شفتيه:
- بجد؟.. أومال انتي لسه عايشة إزاي؟
فشهقت بفزع و هي تتراجع للخلف هادرة:
- خضيتني!
فغمزها مشاكسًا:
- سلامتك من الخضة يا شاطرة
و نظر خلفها مشيرًا بعينيهِ و هو يدمدم بعبث:
- خدي بالك بقى عشان هتقعي تاني و انتي بترجعي كده.. سلام
و تراجع للخلف هو يردد بالإيطاليّة:
- ciao
تيبست محلها غير مصدقة ما حدث توًا و هي محملقة في الجدار الفاصل بينهما، أصابها الحنق أكثر منهُ فضربت الأرض بقدمها بعصبيّة حتى آلمتها أثناء ترديدها:
- و الله إنت أكتر إنسان مستفز شوفته في حياتي.. آي
...............................................................
توقف بالسيارة التي استأجرها في مكانٍ نائي عن الأعين، ترجل عنها و هو يتلفت حوله متعجبًا ذلك المكان الذي بعثهُ إليهِ ، ثم استند بجسده لمقدمة السيارة و هو يهاتفهُ متلفتًا حوله:
- أيوة، لأ لسه؟ هو فيـن؟
ارتفع حاجبه الأيسر استنكارًا و هو ينظر في ساعة يدهِ ثم نطق مقوسًا شفتيه بإزدراء:
- إزاي يعني مبيردش؟.. اتصرف، أيوة جاي لوحدي هو عامل فيها زعيم عصابة ، خلاص خلصنا جرب و كلمني
و أنهى المكالمة و هو يتأفف بنفاذ صبر، دس الهاتف في جيب بنطاله ثم خلف عنه سترتهِ و تركها جانبًا، عقد ساعديه أمام صدره و هو يمط عنقه للجانبين فصدر عنهما صوت طقطقة عظامهِ، لا يعلم من ذلك الغامض الإيطالي الذي يعتبر رفيقًا لجدّه، و الذي يرفض حتى أن يتواصل مباشرة معه و ظل يتواصل عن طريق "إليچاه" صديق والدهِ، حتى أخبرهُ أنه سيلتقيهِ هنا في تلك الساعة من الليل و بعث بذلك الموقع إليه، حتى انتبه إلى ضوء صادح من خلفهِ فاستنبط حضورهُ، التفت فتغضن جبينه حين رآها تهبط عن سيارة الأجرة التي استقلتها من خلفهِ، و قد تتبعهُ سائقها ببراعة فلم يلحظهُ، حدجها بنظرات مستهجنة و ما لبث أن أقبل عليها و هو يسألها بشراسة:
- انتي اتجننتي.. ازاي تنزلي لوحدك في وقت زي ده؟
أشارت من خلفها لرجل حراستهِ الذي ترجل من السيارة، هو لا يثق الثقة المطلقة بأحدهم، و لكنهُ للحق نجح في مواقف عدة بأن يظهر ولائهِ له ، هو نفسهُ الذي أحرق شركة "نائف"، و نفسهُ الذي أصرّ على مرافقتهِ يوم الحريق، و الوحيد الذي بجسارة منه دلف الاسطبل إينذاك ليحرر الخيول، و الذي لم يُحضر غيرهُ هنا و كان قد تركه أمام بابه لحراستهاِ، فعنفه و هو يطبق أسنانهِ:
- عارف يا جاسم لو حد غيرك كان عمل كده.. أنا كنت هنسفهُ، حسابك معايا بعدين
فأحنى الأخير ناظريه عنه و هو يهتف معتذرًا منه بخشونة عاقدًا كفيه خلف ظهره:
- آسف يا باشا.. الهانم قالتلي إن حياتك في خطر
انحنت نظراته المستنكرة نحوها ثم نطق من بين أسنانه المطبقة:
- مش كفاية كذب على رجالتي بقى يا هانم و لا إيه؟
و أطبق بأناملهِ على ذراعها و هو يدفعها في اتجاههِ:
- امشي من هنا.. حالًا
و لكنها تيبست بمحلها رافضة الحراك قيد أنملة و هي تردد باغتياظ متحدٍ:
- مش همشي.. هتعمل إيه؟ هتبطحني تاني؟.. يالا إعمل كده
زفر معربًا عن امتعاضهِ و هو يردد حانقًا:
- مش وقت غباوتك دي.. اتنيلي غوري من هنا
فنظرت حولها و هي تقول بتعنّد واضح:
- مش همشي قبل ما أعرف بتعمل إيه في مكان زي ده!.. تمام؟
فعقد حاجبيه استنكارًا و هو يقول باحتدام:
- و عايزة تعرفي ليـه؟ مش خلاص هنطلق و نخلص، عايزة إيه بقى
عضت على شفتها السفلى بغيظٍ جمّ، ثم نطقت من بين أسنانها و هي ترفع ذقنها بشموخ:
- و دلوقتي أنا لسه مراتك.. يبقى لازم أعرف جاي تعمل إيه هنا!
فنطق متشدقًا بسخرية قاتمة و هو يعود خطوة للخلف:
- جاي أتأمل في الطبيعة
فرددت بجديّة شابها الغضب و هي تعقد ساعديها:
- يامن.. متحاولش، أنا مش هسيبك لو عملت إيه، لأني متأكدة إنك جاي تعمل مصيبة
فعاد يقبض على عضدها و هو يجبرها على التحرك:
- بقولك إيه.. أنا جبت أخري معاكي، امشي معايا
و سحبها و هي تعصف من خلفه يمينًا و يسارًا، ثم أشار بعينيهِ لـ"جاسم" ليتسقل السيارة في المقعد المجاور للسائق، ففعل متفهمًا إشارته من فورهِ و أوصد الباب خلفه، في حين اقتادها "يامن" للمقعد الخلفي و فتح الباب.. كاد يدفعها للداخل و لكنها تملّصت من قبضته لتصفع الباب صفعة عنيفة و حشرت نفسها بينها و بينهُ و هي تقول بتعند مفرط:
- مش هسيبك يا يامن.. مش هسيبك غير لما أعرف إيه اللي بتعمله هنا، و مش هتقدر تمشيني
فضرب على سقفية السيارة براحتهِ و هو يقول منفعلًا:
- انتي عايزة إيه بالظبط؟ عايزة تطلقي قولتلك هطلقك، إيـه تاني؟
فرددت باستهجان و هي تعقد حاجبيها:
- هو ده بس اللي فهمته؟ انت بجد مفهمتش غير إني عايزة أتطلق منك؟ أنا أول مرة أحس إنك مش بتفهم للدرجة دي
- عايزانـــي أفهم إيــه؟
- قولتلك بحبـــك!
و تهدجت أنفاسها.. نهج صدرها علوًا و هبوطًا و هي تحرف نظراتها بين عينيهِ المتيبستين و كأن ما قالتهُ لا يعنيه، ثم أومأت و هي تقول بلهجة أشد بأسًا:
- ده مقدرش تشوفه؟ مقدرتش تفهمه؟
و نقرت بسبابتها على موضع قلبه و هي تردف معاتبة إياه بجفاف:
- قلبك محسش بيا؟ محسش بحبي؟ محسش إني مش قادرة أبعد
نزح سبابتها عنه بجفاء و هو يردد بصوت خالي من الحياة:
- و أنا قولتهالك قبل كده.. أنا قلبي مات من زمان
و أشاح بسبابتهِ و هو يجأر و قد برزت عروق جبينه:
- قولتلك متستنيش مني غير الحماية و بس، قولتلك.. لكن انتي اللي معيشة نفسك في الأوهام!
احتضنت وجههُ بإحدى كفيها و هي تشبّ على أطراف قدميها لتكون أقرب إليه مغمغمة:
- و أنا مش عايزة منك غيرك.. مش عايزة غير وجودك معايا، انت جمبي، لكن المسافات بيننا متتقاسش، مش بتكون جمبي غير في حزني، مبتقفش جمبي غير في انهياري و بعدها بتبعد عني، أنا عايزة وجودك انت
و استندت بجبينها على جبينه و هي تطبق جفنيها متابعة بأسى مرير:
- أنا معتش في حياتي غيرك، انت الوحيد اللي باقي لي، أرجوك متسيبنيش.. أرجوك
تقابلت أنفاسهما المهتاجة، فأطبق "يامن" أكثر على أسنانهِ، و هو يتلمس وجنتها بإبهامهِ فشعرت و كأنه سيلين.. و لكن على عكس توقعها، ابتعد عنها و هو يشمل وجهها بعينيهِ ليردف بجفاء تام:
- مش هتلاقي في وجودي غير جحيم هتضطري تعيشي فيه، الموضوع منتهى، زي ما قولتلك.. أول ما نرجع مصر هطلقك
نقلت نظراتها المغتاظة بين عينيهِ، ثم أردفت محاولة التبرير:
- انت مش فاهم حاجة أنا بحاول أبعد عشان... آآآه!
و صرخت بهلع حين صدح صوت طلقة مفاجأة، استند "يامن" بكلتا كفيه بجوارها ليحيط بجسدها مشكلًا درعًا واقيًا لها، حينما صدح الصوت التالي و قد هدر صوت من خلفهِ:
- بــاشــا!
التفت "يامن" ليجده متسطحًا على الأرضية و قد هبط من فوره من السيارة لحماية ربّ عملهِ و زوجته، فتلقى تلك الطلقة بدلًا عنه و:
- جاســم
 .....................................................................
بمكانٍ شبه مهجـور، بالكاد يرى كلٍ منهما الآخر وسط الظلام الدامس إلا من بصيص الضوء القادم من إحدى النوافذ المرتفعة للغاية و الذي قدمه القمر.. رفع ساقًا فوق الأخرى و هو يجلس منتصبًا بكتفيهِ حينما كانت هي تلتقطهُ من طرفها، التفتت نحوه متعجبة فعلته فهمست لنفسها متبرمة:
- إيه الألاطة دي؟ أومال لو مكوناش مخطوفيـن
- بتبرطمي بتقولي إيه؟
فالتفتت لتنظر نحوه مستنكرة تصرفاته:
- انت محسسني إنك قاعد في شركتك يا يامن.. مش منظر واحد مخطوف أبدًا
گانا يجلسان على مقعدين متجاورين تمامًا.. كلتا كفيهما معقودين خلف ظهر المقعد، و لكنهُ كان باردًا إلى حد كبير مما أثار اغتياظها، نظر "يامن" نحوها من طرفهِ ثم تشدق ساخرًا:
- و أنا شايفك رافعة راسك في السما.. خير؟
بالفعل كانت شامخة بذقنها و قد تبدد أي شعور للخوف من ذلك الموقف المهيب، ثم أردفت و هي تشيح بوجهها عنه بلهجة ذات مغزى:
- ده لإنك معايا.. عشان كده مش خايفة
التفت لينظر نحوها بتعمّق جاف من عدستيهِ اللتان برقا في الظلام، حينما التفتت نحوه لتسألهُ بحنق للمرة الألف:
- مين دول يا يامن؟.. إيه اللي ورطك معاهم بالظبط؟ عايزين منك إيه؟
تقوست شفتيه بفتور و هو يحيد بنظراتهِ عنها مردفًا بصوته القاتم:
- قولتلك فضولك ده هيوديكي في داهية
فهدرت و قد توسعت عيناها حنقًا و فرغ مخزونها من الصبر:
- فضول!.. فضول إيه بالظبط؟ إحنا مخطوفين من مافيا إيطالي و لسه بتقول فضول!
فتشدق بقسوة و هو ينظر نحوها من زاوية عينه بامتعاض:
- مافيا!.. خفي أفلام أجنبي شوية عشان أثرت على دماغك
اجتزّت أسنانها بكمدٍ شديد من برودهِ، فراحت تقلده محاكية حركتهِ، رفعت ساقًا فوق الأخرى و هي تنظر أمامها ببرود شديد و ذقنها لا ينحني، فعقد حاجبيه و هو يلتفت نحوها، تقوست شفتيه و هو يردد استخفافًا:
- ده إيه ده بقى؟
فقالت باقتضاب موجز و هي تلتفت نحوه:
- بقلـدك
و ضاقت عيناها و هي تنظر نحوه بعبث ثم قالت غامزة بطرفها:
- مع إن محدش يقدر يقلد الصياد أبدًا!
ارتفع حاجبه الأيسر استنكارًا و قد تقوست زاوية ثغره بابتسامة رغمًا عنه من فعلتها الغير متوقعة إطلاقًا، أشاح بوجهه عنها و هو يردف بغطرسة:
- كويس إنك عارفة ده
فمالت برأسها نحوه قليلًا لتردد رافعة حاجبيها لإغاظتهِ:
- مغرور!
فغمغم هامسًا باستخفاف دون أن ينظر نحوها:
- إنتي مجنونة أكيد!.. مش طبيعية
 حاولت تحرير كفيها من تلك الحبال السميكة، و لكنها تأوهت بخفوت و قد شعرت و كأنها تزيد من آلامهمها، فنفخت بقنوط و هي تحرك عنقها الذي استشعرت تيبّسه، فقال ببرود و هو ينظر نحوها من زاوية عينهِ:
- بطلي.. مش هتستفيدي حاجة
فنظرت نحوه و هي تضيق عينيها متشككة بـ:
- انت مش عايز تفكه صح؟ لأنك كان ممكن تحاول و تنجح، معتقدش إنها صعبة عليك!
فكان غامضًا للغاية و هي تنظر نحوه ففشلت في سبر أغوارهِ، انتظرت أن يمنحها تفسيرًا و لكنه لم يفعل أيضًا و احتفظ بما يدور في خلدهِ لنفسه، تجمدت تعبيراتهِ حين انفتح الباب على مصراعيه فغزى جزء ضئيل من الإنارة عينيهما، حتى انغلق من بعدهِ عقب أن دلف محاطًا بكوكبتهِ، و سار بتلكؤ شديد نحوهما بكرسيّه المدولب دون أن يسمح لأحد رجالهِ بدفعه و اقتياده، تيبست تعبيرات "يارا" بدورها و قد شعرت و كأنها لم تتأثر، و لم يغزُ الرعب قلبها بعد في وجودهِ جوارها و إن كان مقيّدًا مثلها، حتى توقف مباشرة أمامها فتبيّنت لهما ملامحهُ بصعوبة، تيبست أنظار "يامن" عليهِ، ثم نطق من بين أسنانه التي أطبقها:
- Where is Jasim?
ارتفع ذقن الكهل للأعلى و هو يتأمل ملامحه متشككًا، ثم أومأ و هو يجيبهُ بالإيطاليّة التي يتقنها:
- لا تقلق.. لم تكن طلقة ناريّة، إنها فقط طلقة تخدر الجسد
و نظر نحو الضخم الذي يقف يمينهُ باستفهام تفهمهُ، فأومأ الأخير و هو يعقد كفيه خلف ظهرهِ، التفت نحو "يامن" مجددًا و هو يهز رأسه بحركة خفيفة تكاد لا تلحظ:
- حتى أنه لربما يكون قد استفاق الآن
لم ترتخِ عضلة واحدة من وجه "يامن" و هو يسألهُ بامتعاض قاتم، بالإيطاليّة:
- ما الذي فعلته؟ لم يكن ذاك اتفاقنا؟
فأشار الكهل نحو زوجتهِ و هو يقول بمكر:
- و لم يكن هذا أيضًا اتفاقنا، لقد نقضت العهد أولًا.. و إن خلف به طرف فعليه تحمل مخالفة الطرف الآخر!
حينها انحرفت نظرات "يامن" المتهمة نحوها، فتفاجأ بها تنطق بالإيطاليّة بثبات شديد يُلائم تعبيراتها الواثقة:
- إن كنت تقصد وجودي فأعتذر.. لم أعتقد أن زوجي كان يعلم بتتبعي له
و انحرفت نظراتها نحوه لتناظرهُ بعمقٍ شديد ثم استطرد محاولة بعث كلماتها لقلبهِ اليابس:
- و لكنني لم أطق الجلوس ساكنًا حينما استيقظت فلم أجدهُ حولي.. إذ أن القلق قد استبدّ بي إلى حد لا يمكنك تصوره
و نقلت نظراتها الصادقة بين عينيهِ فقابلتها نظراته الجامدة، حتى اقتطع مجال التواصل البصريّ الرجل الذي أخذ يُصفق بتروٍ و بإعجاب ساخر و هو يقول:
- أشعر أن قلبي سيذوب من فرط تلك المشاعر الصادقة.. و لكن أعتذر عليّ مقاطعتكما
و نظر صوب "يامن" الذي حدجهُ بنظرات صلبة، تلاشت الابتسامة المتهكمة عن ثغره الكهل، بل و تبدلت ملامحهِ للظلمة الحالكة.. بسط كفهُ لذراعهِ الأيمن فأسلمهُ سلاحًا معدنيّا صوب فوهتهِ نحو "يامن" الذي لم يتحرك يد أنملة، حتى أنهُ لم يخفض ساقه المرفوعة، و ظلّ ثابتًا إلى حد جعل الأخير يُمعن النظر فيهِ، ثم نطق من بين شفتيهِ بلهجة جافة:
- بل و أعتذر سيدتي.. سأقاطعكما نهائيًا!
 فأخفضت ساقها و قد حملقت عيناها بذعر شديد:
- يامـــن
على عكس ما توقّع الرجل تمامًا، حرك "يامن" عنقهِ الذي تيبّس للجانبي فصدر عنهُ صوت طقطقطة عظام عنقهِ حتى تيبس مجددًا و هو ينظر نحوه بلا إكتراث:
- إن كنت تريد قتلي فلا أمانع
نظر صوبها من طرفهِ ثم نطق بجفاء:
- و لكن إن مسّ زوجتي مكروه.. فصدقني، سأُعلمك حينها من يكون يامن الصياد!
تأملهُ مطولًا.. كل رد فعل صدر عنه، و كل كلمة قالها، جسارتهِ الشديد، و تيبس قلبهِ، و حتى طقطقة عظام عنقهِ، أخفض سلاحهِ و قد افترّ ثغره عن ابتسامة واسعة أظهرت تجاعيد وجهه بوضوح و هو ينطق بحبور:
- إذًا هذا صحيح.. إنك حفيد يعقوب الصياد، لست مجرد مخادع؟
تقوست شفتيّ "يامن" إزدراءً و هو يشمله باستخفاف:
- يبدو لي أنك المخادع.. إن كان صديقك فكنت ستعرفني حتمًا من النظرة الأولى
ضحك الرجل ضحكة متثاقلة جلجل صداها في الأرجاء حينما كانت "يارا" تنقل النظرات الغير مصدقة بينهما، حتى خبى صوت ضحكاتهِ فأردف:
- أعتذر أيها الشاب الوسيم.. بيد أن السنون قد محت ملامحهِ من ذهني
و أشار إلى من حولهِ من فوره:
- إنه حفيد الصياد و زوجتهِ ماذا تنتظرون؟.. حلوا وثاقهم
...........................................................
طقطقة الأخشاب الصادرة عن المدفئة ذات الطراز الحديث و المظهر الأنيق، و الرياح العاتية التي تصفع النوافذ، سربٌ من الهواء البارد طاف حولهما على الرغم من أن المدفئة تعمل، ارتشف "يامن" رشفة من قدح قهوتهِ و هو يتلفت من حينٍ لآخر لدرجات السلم ينتظر هبوطها من الأعلى و قد أصابهُ الضجر، حتى تنبّه إلى قولهِ:
- لا تقلق كثيرًا عليها.. ستهبط برفقة حفيدتي بعد قليل
فحاد بنظراتهِ نحوه، تأملهُ تلك المرة عن كثب في ظلّ الإنارة الصادحة هُنا فشعر و كأنهُ يجلس أمام "يعقوب" بشحمهِ و لحمهِ و تجبرهِ و شموخهِ، و أفضى بذلك القول إليه عقب أن تجرع رشفة من مشروب قهوتهِ:
- أشعر أنني أجلس أمام يعقوب.. إنك تشبههُ في الصفات أكثر من والدك يوسف
فسألهُ بلهجة ثاقبة و هو يعقد حاجبيهِ:
- أتعرفه.. معرفة شخصية؟
أومأ من فوره و هو يقول مؤكدُا:
- حق المعرفة.. تقابلت معهُ العديد من المرات، حتى صار صديقًا لي
و أخفض نبرته و هو يقول معربًا عن ضيقهِ:
- أتعلم؟.. كان والدك خير الابن، يرافق والده أينما ذهب
و تنهد بحرارة ثم قال:
- و كان يعقوب يثق بهِ و كأنه لم يملك غيره من الأبناء.. لم يكن يثق بتوأم والدك قطّ
أطبق "يامن" أسنانه بحق واضح و هو يشيح بنظراته عنه، فتنهد  بحرارة و هو يدقق في تقاسيمهِ، ثم قال و هو يهز راسه تعجبًا:
- كل انفعال يصدر عنك يذكرني بهِ.. لقد أحييت اشتياقي من جديد و ذكراه تعاد نصب عينيّ
فضجر "يامن" من ذلك الحديث الذي لن يجدي، فانحنى ليخفض ساقهِ أرضًا مائلًا بجذعه للأمام و ترك القدح أعلى الطاولة و هو ينظر نحوهُ بصلابة ثم قال معربًا عن ضجرهِ:
- لا أعتقد أنني أتيت إليك كي نتحدث عن "يعقُـوب".. دعنا من ذلك
أومأ و هو يرتشف رشفة أخرى.. ابتلعها ثم نطق مستوضحًا:
- ما الذي تودّ معرفتهِ أيها الشاب؟
فقال "يامن" بصراحة مطلقة و هو يعود بظهرهِ للخلف مستندًا بذراعه المبسوط على ظهر الأريكة:
- هنالك فرع لشركات جدي هنا لم أكن أدرك عنه شيئًا، أخبرني"إليچاه" عنهُ، و أود أن أعلم من ورّث جدي أسهمهِ
فارتفع حاجبيه بتعجب.. تراءى لـ "يامن" ذلك الشحوب الذي حلّ بصفحة وجهه المجعدة، و قد بدت لكلماتهِ تأثيرًا عجيبًا عليه، ترك قدح القهوة جانبًا و هو ينظر نحوه بذهول، ثم حاد ببصره عنه و هو يردد منزعجًا:
- ذلك الـ*****، لم يكن عليه أن يفعل
فسألهُ "يامن" بإيجاز و هو يضيق عينيهِ فصارتا أكثر احتدادًا:
- لمَ؟
و هز رأسهُ و قد شعر و كأن هنالك ما يحاك من خلف ظهرهِ فقال بوضوح:
- ما الذي تخفيه أيها الكهل؟
نظر نحوهُ  نظرة فاترة من عينيه، ثم حاد ببصره عنه و هو يحاول تغيير دفة الحديث أثناء فركهِ لشعيرات لحيته البيضاء:
- أخبرني.. ما اسم زوجتك
مال "يامن" ليستند بمرفقيه لركبتيه فبات أكثر منه و هو يحدجه بنظرات صارمة قائلًا:
- لا تغير الموضوع.. ما الذي تحيكه بالضبط؟
فتشبّث الكهل بسؤاله و هو ينظر نحوه مجددًا، سحب قدحه مجددًا ليرتشف رشفة منه مجددًا أتبعها بـ:
- أخبرني أيها الشاب.. لربما أكون على معرفة مسبقة بوالدها
تقوست شفتيهِ ضجرًا و هو ينفخ في انزعاج شديد، ثم قال باقتضاب:
- لا أعتقد ذلك.. زوجتي ليست من أبناء الطبقة المخمليّة
و حاد ببصره قليلًا و هو يطبق أنظارهِ حالما تذكر أنها تعتبر الآن ابنة واحدة من أثرى رجال الأعمال الذي يملك فروعًا باسمهِ في أنحاء العالم على حساب زوجتهِ التركيّة، أطبق الانزعاج على صدرهِ فقال:
- يارا.. اسمها يارا
و نظر نحوهُ فطالبه باسمها كاملًا و:
- و ما إلى ذلك؟ أريد اسم والدها
فقال و هو ينفض خصلاته بعصبيّة بحركة كان جدّه فقط من يفعلها:
- حسين الحديديّ
ارتجف كفيه المتمسكتان بالقدح و هو يرفعهُ إلى ثغره فأسقطهُ رغمًا عنه أرضًا، تقلصت المسافة ما بين حاجبيّ "يامن" و هو يرى تلك الفوضى التي أحدثها فاستشعر خطبًا ما.. حتمًا ذلك الرجل يعلم شيئًا عنه، حملقت عينا "يامن" به و قد ارتفعت عن بقايا محتوى القدح الذي انسكب حين نطق الكهل و قد زُل لسانهِ:
- حسين الصياد؟
...........................................................
.........................
..................................................................................
 

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now