"الفصل الثالث و العشرون"

760 18 0
                                    

"الفصل الثالث و العشرون"
 توسعت عيناها و هي تحملق بهم و بوضعهم المتقارب و كأنها حبيبين ، فيما انتفضت "يارا" و هي تهب واقفة مبتعدة عنه و قد صار وجهها أشبه بثمرة حمراء اللون، ارتبكت و هي تحني بصرها و أوفضت للخارج مارة من جوار أختها و كأنها تتمنى لو تبتلعها الأرض توًا، فيما كان "يامن" باردًا لأقصى حد، لم يلتفت حتى ليمنحها نظرة واحدة، و كأنها ذرة غبار مضت و عبرت من أمامهِ، استقام واقفًا  و هو يسحب هاتفه و أنامله الأخرى تغلق أزرار قميصه، بينما كانت "حبيبة" تمر من جوار "ولاء" المتجمدة، و فور رؤيتهُ سالمًا، ارتبكت قليلًا.. بل ارتبكت للغاية و قد كان موليًا ظهره لها بينما يمرر أنامله على شاشة هاتفه، خرج صوتها متلعثمًا و هي تقول:
- حـ..حمدلله على السلامة يا ابني
التفت حينئذ نحوها و هو يرمقها بنظرات متصلبة، ثم أشاح بوجهه عنها و هو يرفع الهاتف ليردد بصوتٍ مشتد:
- انت فيـن؟
فـ أتاه صوت "فارس" الحانق:
- أنا اللي فين و لا انت اللي فين يا باشا؟ 3 أيام مش عارف أوصلك ليـه!
أجاب "يامن" سؤالهِ بسؤال و باقتضابٍ تام:
- لاقيته؟
تشدق" فارس" ساخرًا و هو يتوسط خصره بكفه:
- مين فيهم؟.. لو على الواد اللي تقصده فمتقلقش.. مرمي في المخزن، لكن لو حصل زي...
قاطعهُ "يامن" و هو يغضن جبينه:
- اخلص و هات المفيد.. مين اللي زقه عليا؟
رفع "فارس" كتفيه و هو يردد ببرود:
- معرفش.. أنا سايبهولك تستفسر منه بطريقتك
أومأ و قد انتشى من رده ذلك مرددًا بلهجة شبه راضية:
- عظيم، و الكلب التاني
- معتقدش إن ده محتاج حاجة، أنا جايبلك العقل المدبر لليلة كلها
توهجت عيناه و كأن النيران تضطرم بداخلها أثناء قولهِ المحتدم:
- يحتاج ميحتجش دي انا اللي أقررها مش انت
احتقنت الدماء بوجه "فارس" و هو يجيبه بثبات يحسد عليه في مثل موقفه:
- عايزني أعمل إيه؟.. قولى على اللي عايزه
دس "يامن" كفه بجيبه و هو يغمغم بلهجة غامضة:
- سيبك، أنا هتصرف!
زفر "فارس" انفاسه المختنقة معقبًا:
-  براحتك!
ضيق "يامن" عينيه و هو يسأله بلهجة ذات مغزى:
- و الكلام إياه؟
هز "فارس" رأسه بحركة خفيفة و هو يحك مؤخرة رأسه مجيبًا بنبرة هادئة:
- لأ من حيث كده متقلقش.. كله اتمحى، افتح أي موقع مش هتلاقي نفس عن مراتك
- عظيم
و أنهى المكالمة بينما كاد "فارس" يتمتم :
- عايز أقولك حاجة، عـ..ألو.. ألو؟
و حالما استمع إلى تلك الصافرة القصيرة التي تعلن إنهاء المكالمة ارتفع حاجبيه و هو يزيح الهاتف لينظر لشاشتهِ، فتجهم و هو يتركه جانبًا متأففًا:
- أوف!.. الواحد ميعرفش يتكلم كلمتين على بعض معاك؟
- مش هتسمعني يا ابني؟
التفت إثر كلماتها و هو ينقر على شاشة الهاتف، ثم أعاد النظر أمامه غير مباليًا بها، فـ تقدمت نحوه لتقف خلفه مباشرة و هي تردد بصوتها الشجيّ:
- مش عارفة انت بتعاملني كده ليه، و الله أنا ماليش ذنب في حاجة، يا ابني..
تلك المرة استدار بجسده بالكامل و هو يناظرها بنظراته المحتدمة، وبزغ انفعالهِ و هو يقول:
- انتي عايزة مني إيـه؟ ابنك إيه و زفت إيه؟ انتي هتعمليهم عليا؟
ارتجفت نبرتها و هي تقول مستوضحة:
- أنا عملت إيـه بس
زفر حانقًا و هو يردد متأففًا:
- أنا واقف معاكي ليه أصلًا، حاسبي
و كاد يمر من جوارها حتى استوقفته و هي تتشبث بساعده مغمغمة بلا إدراك:
- يا يوسف اسمعني أرجوك، أنا مش فاهمة انت..
تيبست قدماه بالأرضية و هو يحرف نظراته صوبها فـ ابتلعت كلامتها غير مدركة ما تفوهت به، أرخت قبضتها عن ذراعه المعضل، بينما كان يقول بجفاء تام:
- يوسف مات يا حماتي!
و رمقها بنظرة غريبة عليها ثم مضى ساحبًا سترته من أعلى الفراش، و خرج من الغرفة تاركًا لها خلفه، غير مستوعبة مقصده أو قوله المفاجئ.
......................................................................
كانت قد تركت كلاهما أثناء حديثه بالهاتف، و راحت تتجه نحو أختها التي خرجت توًا لغرفة المعيشة، اجتذبت ذراعها بعنفٍ لتدير جسدها إليها مستوقفة إياها، و هي تحدق بها بنظراتٍ نارية أثناء قولها المستهجن:
- ممكن أفهم إيه المنظر اللي شوفته ده؟
اجتذبت "يارا" ذراعها من قبضتها و قد اكتسبت قوتها من فعلة أختها، ثم راحت تردد بنبرة قوية:
- عايزة ايه يا ولاء بالظبط؟
تشنجت "ولاء" و قد ارتفعت نبرتها قليلًا:
- عايزة أفهم اللي بتعمليه!.. مش ده اللي انتي مش طايقاه
ضيقت عينيها و هي تتأمل حالتها المنفعلة، ثم رددت بنبرة جادة و هي تهم بالالتفات:
- مش مضطرة أفهمك أو أشرحلك حاجة، تمام؟
فـ اجتذبتها "ولاء" مجددًا و هي تعتصر ذراعها بقبضتها هادرة بانفعال:
- انتي هتستهبلي؟.. مش المفروض جوازكم عشان سبب معين؟ إيه اللي بتحاولي تعمليه؟ و لا انتي ما صدقتي.. نفوذ و سلطان و فلوس و كل حاجة، شايفة نفسك بقيتي حاجة كبيرة فقولتي بلاش تضيعيها، صحيح إنك كلبة فلوس و لا تسوى
تماسكت باللحظة الأخيرة و هي تكور قبضتها ضاغطة بقوة على أناملها حتى لا تصفعها، تقوست شفتيها باستهجان و هي ترمقها بنظراتٍ مشمئزة، كادت تتحدث و لكن احتبس صوتها في جوفها حين دنا منهما صوت والدتها التي تقدمتهُ و هي تسير بجواره محاولة التبرير:
- أنا مش عايزة منك غير تعرف إني ماليش ذنب في حاجة
كان يمر من جوار غير مباليًا بها، إلا أن تقدمته وسط الغرفة و هي تردد ساحبة كفه إليها:
- يا ابني الله يخليك متعملش كده فيا! و الله ما ليا ذنب في موته، متحسسنيش بالشعور دا، متعيشنيش في ذنب أنا معملتوش! لا أنا و لا بنتي كان لينا ذنب حتى لو كان حسين!
تيبست قداه بالأرضية قد انفجر في وجهها كـ البركان صائحًا:
- انتي عايزة إيه مني؟
ازدردت ريقها و قد تجلى الإصرار على ملامحها، ثم رمشت عدة مرات و هي تردد بصوت ثابت و هي تلقي بقنبلتها في الوسط:
- تطلقها.. تطلق بنتي!
أومأ بحركة خفيفة و هو يردد متشدقًا:
- عشم إبليس في الجنة يا حماتي، حاسبي
و كاد يدفعها عن طريقه و لكنها قالت مستوقفة له:
- يعني بعد اللي عملته فيك هتسيبها على ذمتك؟
 و أشارت بكفها إلى "يارا" المتيبسة على مقربة تتابع ما يجري و هي تقول بشجن:
- شايف بنتي دي يا يامن؟.. مكنتش بتأذي نملة! أنا بنتي..
قاطع قولها و هو يزمجر قائلًا:
- حبيبة.. بنتك مش هطلقها و لو على جثتي، مات الكلام
و مضي نحوها و هو يجتذب عضدها إليها رامقًا شقيقتها بازدراء أثناء قولهِ المحتدم:
- مش هنعد هنا أكتر من كده، يالا
و لم يعطها فرصة للاعتراض، حيث مضى هامًا بالمغادرة، فـ استوقفه "حبيبة" التي ترقرقت الدموع في مقلتيها:
- احنا اتفضحنا يا يامن.. سيرتنا بقت على كل لسان، بنتي اتفضحت و هي ملهاش ذنب في حاجة، حتى.. حتى لو "حسين" اللي قتله، فـ ذنبي إيه أنا و بناتي ندفع تمن ده؟
تيبست قدماه بالأرضية و هو يلتفت نحوها، ترك عضد "يارا" و هو يستدير عائدًا إليها بينما يجأر بصوته:
- و أنا ذنبـي إيـــــه؟
وقف أمامها و هو يرمقها بنظراتهِ النارية و قد تحول وجهه لكتلة من اللهب، تشربت وجهه الحمرة الحانقة و توهجت نظراته و هو يعيـد سؤاله بنبرة أشد انفعالًا:
- أنا ذنبي إيه أتحرم منه في أكتر وقت احتاجتله فيه!.. ها؟
و لم يجد منها غير دموعها التي انسكبت من مقلتيها، و ذلك الألم الذي احتل قسماتها و هي تنظر نحوه بلوعة، في حين أخفض نبرته قليلًا و هو يتشدق متعمدًا سكب الملح على جرحها النازف:
- جربتي الحرمان يا حبيبة؟.. عرفتي طعمه؟
ارتفعت شهقاتها بألم مرير و هي تحني أنظارها عنه، فـ اجتذب "يامن" "يارا" من عضدها ليوقفها بجوارهِ تمامًا و هو يجأر بها بشراسة:
- بنتك أهى يا حبيبة!.. بنتك بتتنفس قدامك أو من غيرك! بنتك في أمان معايا أكتر من مع أبوها!.. عايزك تعرفي دا كويس، بنتك أمانة معايا لغاية ما الحسابات تتصفى، متحسسينيش انتي بالذنب، حسسي جوزك مش أنا يا.. حبيبة، بنتك عايشة، و أظنك متأكدة إني مش هقتلها، لو كنت مشتاق لدم العيلة دي مكنتش حرمته من حبل المشنقة، أحسن ما انتقم من واحدة مكنش ليها ذنب غير إنها بنته!
نقلت "يارا" نظراتها المتصلبة بينهما متلزمة الصمت التام، حتى توقفت أنظارها لدى والدتها، و قد بزغت نظرة مشفقة من أسفل أهدابها على وضعها، بينما كان "يامن" يقول بنبرة ذات مغزى متعمدً الضغط على أحرفه:
- لكن هو مات من زمان، قتلهُ.. قدام عيني و أنا مقدرتش أعمل حاجة
ارتفعت أنظارها إليه و هي تغمغم بنبرة حاولت التحكم بها لتخرج متماسكة:
- و إيه اللي يأكدلك إن هو؟
فـ قابل سؤالها بـ إجابة لا تمّت لهُ بصِلة، و بلهجة أكثر بأسًا بينما نظراته الملتهبة مسلطة عليها:
- متحاوليش تقنعي نفسك بالعكس و انتي نفسك شاكة فيه!
جل الارتباك على ملامحها، و قد توسعت عيناها في ذهولٍ لما ألقاهُ توًا على مسامعها، بينما كان يقرأها هـو گكتابٍ مفتوح:
- عرفتي يا حبيبة جوزك يبقى إيـه و لا لسه؟.. حسيتي إن مش هو اللي اتجوزتيه و لا لأ؟ حسيتي إنه واحد تاني غير اللي تعرفيه و لا لأ يا حبيبة؟
قال كلماتهِ الأخيرة و قد ارتفعت نبرته مجددًا، فـ حملقت بوجهه و هي ترمش عدة مرات مشدوهة، في حين أجابها بصوتٍ واثق اختلط بالنفور من شخص زوجها بينما ينقر بسبابته على صدره:
- أنا فاهمه كويس يا حبيبة، جوزك اللي بتدافعي عنه أنا عارف كويس هو يبقى إيه! جوزك اللي بتدافعي عنه أنا أعرف عنه حجات لو كشفتها هوديه ورا الشمس!
و ألقى نظرة أخيرة متقدة عليها، ثم اجتذب مجددًا عضد "يارا" المتجمدة إليه و هو يستدير ساحبًا لها من خلفه  
فهدر من خلفهِ صوتها الذي استوقفهُ:
- انت عملت إيه فيها يا يامن
تخشب جسده و قد لاحت ابتسامة ساخرة على محياه، تخلى ذراعهِ عن ذراع زوجته، فأطبقت "يارا" جفونها، و كأن حدسها كان يخبرها أن هذا ما سيحدث، كانت تدري أن والدتها لن تتهاون في إدراك ما جعلها ترتكب جريمة كتلك، استدارت "يارا" لتؤنّب والدتها بنظراتها، حينما كان "يامن" يطبق على أصابعهِ، و قد برزت عروق عنقه، ضرب "يامن" بقبضتهِ المتكورة على الجدار و التفت إلى زوجتهِ مرددًا بصوتٍ محتدم:
- قوليلها يا يارا،.. قوليلها أنا عملت إيه فيكي!
و لمّا وجدها صامتة لم تبدِ أي رد فعل، غير أن أهدابها انخفضت و هي تتطلع إلى موضع قدميها، فجأر بهِ بصوتٍ جعل جسدها يرتجف لحظيّا، و قد تسبب صمتها في إثارة غيظهِ:
- انـــطقي!
أطبقت "يارا" جفونها لتنسدل عبرة خانتها و انهمرت، ثم فتحت عيونها و هي تطبق على أسنانها، قابلته بنظرة جعلتهُ يقرأ ما بأسطر عيونها ككتابٍ مفتوح أمامه، و الدموع تغشي بصرها، و قد تكالبت على عيونها، فرمشت كي تزيحهم من جديد و قد سئمت تشوش رؤيتها، نظرت لوالدتها و هي تقرّ بصوتٍ أجوف، مبرئة إياه مما اتهم بهِ:
- معملش حاجة يا ماما
و لكن "حبيبة" لم تقتنع، إذ رددت و كأنها تصر على رأيها:
- استحالة تعملي كدا من غير سبب واضح، انتي بتكذبي
فـ هدرت حينئذ "يارا" و قد فاض كيلها، و تلك المشاهد تتوالى أمام عينيها:
- قولت معملش حاجة يا ماما، هـو...!
ازدردت ريقها، و هي تقضم ما تبقى من كلماتها، حين بزغ صوت أختها الذي بات بغيضًا على مسامعها من خلفها، بينما تعقد ساعديها:
- و احنا نضمن منين!.. ما أكيد هو هددك بحاجة
 نظرت إليه نظرة بدت مستغيثة، ودت لو ينتشلها مما فيه، و من ذلك المأزق الذي حشرت بهِ، لم يتهاون أحدهم في سكب الملح فوق جرحها الناضج، و نكئهِ قبل أن يبرأ، و قد فاقم قول "ولاء" من قلق "حبيبة" فخطت نحوها و هي تردد، و قد بدا الذعر في نبرتها:
- يارا، بالله عليكي ما تسكتي، حصل إيـه؟
لم تحنِ بصرها عنه، بل بدت و كأنها تستنجد به من مخالب كلماتهم، فـ أشاح "يامن" بوجههِ، دون أن يعقّب، فـ إذ بها تنطق بصوتٍ مرتجفٍ مستغيث، ذكّره بنبرتها و هي تستنجد به في تلك الليلة المشئومة:
- صيـاد.. خلينا نمشي!
تعمّق النظر لعينيها، و قد تفاجأ حقًا من كلمتها، فـ إذ بهِ ينطق بثبات و هو يشير إليها لتتحرك أمامهِ:
- يلا
لم تدرِ ما تفعله سوى بعد فوات الأوان، و لكن ما أرادته حقًا أن يكفّوا، و تعلم أنهم لن يكفّوا عن الحديث عما يخص ذلك اليوم، تحركت "يارا" و كأنها تهرب من موتٍ محتم، بينما "يامن" لوى ثغره ببسمة مستخفة ساخرة و هو يتطلّع لـ "حبيبة"، و إذ بملامحهِ تتصلب فجأة و تتلاشى بسمته و كأنها لم تكن، حدجها "يامن" بنظرة بعثت إليها برسالة ضمنية، و انتقل بصره فجأة لتلك الحية الصغيرة، فـ ارتجفت حقًا، و تلقائيًا تلمست عنقها بأطراف بنانها، و لم ينحنِ بصره عنها و هو يخطو نحو "حبيبة"، حتى أضحى على بعد خطوة واحدة منها، فـ حاد ببصره ليوجهه لـ "حبيبة" و قد أحنى رأسه عليها قليلًا:
- سلام يا.. يا حماتي!
تحرك "يامن" نحو الباب، و خرج منه صافقًا إياه بعنفٍ من خلفهِ، ليجد "يارا" تعبث بأظافرها، بيد أنها تخدش جلدها المحاوط لأظافرها بأظافر كفها الآخر و هكذا، برر "يامن" موقفها و تفهّمه جيدًا، إلى أنه غمغم متسائلًا بشكلٍ أثار اندهاشها:
- انتي خايفة مني؟
ازدردت "يارا" ريقها، و هي ترتقي بنظراتها إلى عينيهِ، ثم قالت بشئ من الثبات، و هي تهز رأسها بالنفي:
- للمرة الأولى مبقاش خايفة منك يا صياد
فـ سألها بشئ من الاستنكار و هو يضيق عينيهِ فباتت نظراته أكثر احتدادًا:
- حتى بعد ما عرفتي إني قتلته؟
فـ كانت نبرتها جامدة للغاية و هي تردف بنبرة خاوية من الحياة:
- مش يمكن كان يستاهل؟
حكّ "يامن" بطرف سبابتهِ أنفه و هو يدمدم بصوتهِ الصلد:
- عظيم
و أشار للدرجات أمامهما و هو يهتف بـ:
- يالا؟
أومأت "يارا" طواعية، و هي تدري وجهتهما، تدرك جيّدًا أنها سترافقه، و ليست نادمة، بل أنها رأت في ذلك هروبًا من والدها الذي أضحى كجلادها، نعم.. تواجدها برفقة "يامن" أيسر عليها من تواجدها في نفس المكان مع والدها عقب موقفهِ معها، و الذي لن تنساه ما حييت لهُ، سـ يظل عالقًا في ذاكرتها لن تتمكن من دحرهِ، كانت نظراتها مسلطة على الدرجات دون أن تهبط، و قد شردت في والدها، و دون أن تتوقف عن خدش جلدها، فبزغ صوته من خلفها و هو يقول:
- مترددة؟
فـ لاح على ثغرها بسمة شبه خاوية من الحياة، و هي تلتفت إليه مرددة:
- برضو للمرة الأولى مش مترددة إني آجي معاك، يمكن انت كان معاك حق.. على الأقل معاك مش هتعرض للإيذاء النفسي اللي اتعرضت له على إيد أقرب الناس ليا
أدرك "يامن" أنها واجهت الكثير خلال غيابه، بالطبع على يد والدها، و يتكهن أنها تعرضت للإيذاء من قبل تلك الحية الصغيرة أيضًا، فدنا منها "يامن" و هو يغمغم:
- كويس إنك متأكدة من دا
و اجتازها.. شرع يهبط الدرجات و النيران تلتهب أكثر و أكثر بصدره، و تتبعتهُ "يارا" بإرادتها، فـ فور أن ترائى لمسامعهِ صوت أحدهم يصعد، توقف لثوانٍ حتى صارت "يارا" بجواره تمامًا عقب أن كان يسبقها بسلمة واحدة، و راح يطوق كتفيها بذراعه حتى صعدت إحدى الجارات لتتفاجأ بالمشهـد، جحظت عينيّ "يارا" و هي تحاول إزاحة ذراعه هامسة بحنق:
- ايه اللي بتهببه ده، أنا ناقصـة، حاسب إيدك عني
تظاهر أنهُ يستند عليها بينما يهبط الدرجات، فصاحت الجارة و هي تحرف نظراتها فيما بينهما بترحيب زائف، و ابتسامة صفراء تتقوس بها شفتيها:
- يارا!.. ازيك يا حبيبتي؟
تبسمت "يارا" و هي تلكزه في جانبه بكفها لتحثه على الابتعاد بينما تردد بابتسامتها السخيفة:
- ازيك يا طنط دلال، أخبار حضرتك إيه؟
فنظرت "دلال" نحوه و هي تردد بنبرة ذات مغزى:
- الحمد لله يا حبيبتي، مش تعرفينا؟
حمحمت "يارا" و هي تحنى بصرها خجلًا في حين كان "يامن" يردد بصوتهِ الرجولي:
- جوزها يا حاجة، خيـر في حاجة؟
ازدردت ريقها و هي تلوي ثغرها كاشفة عن ابتسامة صفراء و هي تهمس:
- لا يا ابني.. ده أنا بـ..
التفت "يامن" نحوها و هو يلوى ثغره بابتسام لم ترها مطلقًا على شفتيه، راح يحرف نظراته نحوها ممثلًا دور العاشق الواله و هو يغمغم_ على الرغم من غِلظة صوته التي لا تناسب قولهِ_:
- معلش يا حبيبتي اسنديني لتحت.. مش قادر أمشي
- هاه!
توسعت عيناها و هي تعطف نظراتها الغير مستوعبة بين عينيه، فـ راح يدفعها هو ليحثها على الترجل عن الدرجات و كأنه يستند عليها بينما هو من يدفعها للسير، أثناء تبدل ملامحه للجفاء التام بل الفظاظة و هو وجه حديثه لتلك المتيبسة أمامه:
- مش هتعدينا يا حاجة و لا إيه؟.. بقالنا ساعة واقفين!
تنحنحت الأخيرة و هي تتكوم على نفسها ملتصقة بالجدار مغمغمة بحرج زائف:
- أه يا حبايبي معلش اتفضلوا، ربنا يخليكو لبعض
تخطاها و هو يواصل طريقه للأسفل، فـ كادت"يارا" تنتزع ذراعه عنها محاولة الابتعاد عنه و هي يكاد يقال أنها بأحضانهِ فعليًا، فشدد من قبضته على عنقها و هو يضمها أكثر محذرًا إياها بخفوتٍ صلد:
- شـشـش.. اثبتي عشان بتراقبنا!
فغمغمت حانقة و هو تحاول التملص منه:
- انت عارف دلال دي إيه؟ دي الرويتر بتاع العمارة، يعني المشهد ده خلال ربع ساعة هيكون منتشر على لسان كل ست في العمارة،.. ربع ساعة إيه؟ قول 3 دقائق!
فـ أجابها بتصلب تام، و هو يمنحها نظرة ثابتة من طرفهِ:
- دا اللي عايزه!
و توقف بـ باحة السلم التي تؤدي إلى باب البناية الرئيسي و الذي كان منغلقًا، فـ كادت تبتعد عنه لولا أنه ظل محيطًا لعنقها و هو يديرها إليه لتكون أمامه، فانعقد حاجبيها و هي تتطالب منهُ تفسيرًا:
- مش فاهماك.. هو انت بتفكر في إيه بالظبط؟
 أخذ يصدر صفيرًا خافتًا من بين شفتيها قاصدًا إثارة حنقها و نجح، فكزت على أسنانها بعنف و هي تبتلع كلماتها، حتى تبدل حنقها للذهول حين بلغ معصمها فكشف عن كمّ كنزتها الوردية، و راح يخلع ساعتهِ المطوقة لمعصمها و هو يردد بنبرة ذات مغزى:
- ساعتي!
ضيقت عينيها و هي ترفع حاجبيها، فـ راح يخلع ساعته عن معصمها ، و حالما انتهى نقلها لمعصمه، و أعينهِ الغامضة مسلطة عليها ، و قد بدتا كجذوتين اتقدتا و هو يسترجع كلماتها تِباعًا، و حديثها مع رفيقتها، حينما كانت تعقد ساعديها أمام صدرها و هي تردد ببرة ذات مغزى صريح:
- يعني كنت سامع!
توهجت نظراته بشكلٍ جعل حاجبيها ينعقدان من تبدل حالهِ في أقل من ثانية، تلك النيران التي التهبت في حدقتيه جعلت الشكوك تترسخ أكثر بذهنها، ترقبت أن يعنفها بشأن حديثها مع صديقتها، أو يخرج بها غيظه المكبوت بخصوص كلماتها، و لكنه لم يتفوه بكلمة، حتى أن نيران نظراتهِ خبت، و هو يحك بطرف سبابتهِ أنفه، و قد بدا و كأنه كظم غيظه تمامًا، فقال قبل أن يستدير ليخرج من البناية بأكملها:
- يالا يا.. يارا!
أطبقت جفنيها بقوة، و قد تيبس جسدها لدقائق، و لكنها انتفضت حين أتاها صوته الجهوري من الخارج:
- بنت حسيــن
تقدمت بخطواتها و هي تخطو للخارج ملتزمة الصمت و حديثها يعاد مع "رهيف" على مسامعها، زمت شفتيها بضيق و هي تتابع ما يحدث، حيث اصطفت السيارات الفارهة أمام باب بنايتها، بينما كان واقفًا مع السائق و هو يمرر النظرات بين سيارات الحراسة، حتى هبط منها أحد أفرادها، فـ وجه "يامن" أبصاره صوبه و هو يردد بنبرة محتدة:
- أنا قولت عايز حراسـة؟
أحنى بصره عنه و هو يعقد كفيه معًا مغمغمًا بنبرة ثابتة:
- هدى هانم أمرتنا نـ..
أشار "يامن" للسائق بينما يقاطع حديثه باحتدام:
- ترجع معاهم على القصر
أسلمه السائق المفاتيح و هو يخطو ليستقل أحد السيارات، بينما كان يحتج و هو يرفع أنظاره نحوه قائلًا:
- يا يامن باشا لازم نأمن حياة حضرتك بعد اللي..
انحرفت نظراتهِ المضطرمة نحوه و هو يرد بلهجة مستهجنة:
- أنا مبعيدش كلامي مرتين
زم شفتيه و هو يطأطأ رأسه متراجعًا للخلف، فتح "يامن" باب مقعده ثم التفت ليشير إليها بنظراته هاتفًا:
- اركبي
و استقل مقعده و هو يصفق الباب من خلفه مسلطًا لنظراته التي تجمدت على واجهة السيارة في حين تيبست هي بمحلها، لم تعلم كم مر و هي هكذا، جامدة متسمرة لا تقوَ على الحراك، يعاد أمام عينيها شريط حياتها، و لم تنحرف أنظاره نحوها و هو ينتظر ردة فعلها، حتى و أخيرًا انحلت عقدة ساقيها و تقدمت لتدور حول مقدمة السيارة لتستقل مقعدها بجواره دون أن تنبس ببنت شفة، ضغط "يامن" على دواسة البنزين منطلقًا بالسيارة مخلفًا خلفه سحابة من الغبار، انحرف للطريق الرئيسي فـ شرع يزيد السرعة، لم يتعجب سكونها المطبق، و لكنه اختلس النظرات نحوها محاولًا سبر أغوارها فكانت تعبيراتها غير مقروءة و هي تعقد ساعديها أمام صدرها محدقة بالواجهة الزجاجية، حك "يامن" بطرف سبابتهِ أنفهِ و هو يُهشم حاجز الصمت بسؤالهِ الصلد:
- ندمانة؟
انتبهت إليه، فراحت أنظارها تتجه نحوه و هي تعقد حاجبيها بعدم فهم، فـ أوضح لها سؤاله دون أن يعطف أنظاره نحوها:
- عشان مهربتيش!
رمشت عدة مرات قبل أن تشيح بنظراتها و هي تردد بلهجة ثابتة ظاهريًا:
- يمكن
و نظرت نحوه مجددًا و هي تحل عقدة ساعديها لتسأله بتحيّر:
- تفتكر لو كنت فكرت بعقلي كنت ههرب؟ لو أنا مش غبية فعلًا زي ما بتقولي كنت ههرب؟
نظر لها من زاوية عينه قبل أن يجيبها:
- السؤال ده إجابته عندك إنتي يا بنت حسين
عقدت ساعديها سويًا و هي تعتدل في جلستها قائلة بامتعاض:
- حتى لو فكرت بعقلي.. مكنتش هقدر أسيبك طالما أنا اللي عملت كده!
ساد الصمت المريب.. فقطعتهُ و هي تنظر نحو ملابسه معيدة خصلةً من خصلاتها خلف أذنها:
- ماما كانت هتلبسك من هدوم بابا لما خدت القميص.. لكن أنا مرضيتش!
تقلصت تعبيراته وجهه متأففًا قبل أن يرد بصوتٍ هازئ:
- كتر خيرك
زمت شفتيها و هي تطرد زفيرًا حارًا من بين شفتيها، ثم رددت و هي تلتفت حوه مضيقة عينيها بفضول:
- انت بتعمل كده ليـه؟
هز رأسه بعدم فهم و هو ينظر نحوها مستفسرًا، فـ رددت و هي تعتدل لتواجهه:
-  لأ بجد!انت بتعمل كده ليه بالظبط؟.. أنا مش فاهماك أبدًا
اشتدت قبضتهِ على المقود و قد تفهم مقصدها تقريبًا، و لكنه تظاهر بعد الفهم و قد تصلبت ملامحه و نبرته:
- بنت حسيـن!.. قولي اللي عندك
فـ راحت تلقى بأسئلتها التي تشغل بالها في وجهه تباعًا:
- ليه سحبت البلاغ؟.. ليه مسحت الكلام اللي اتقال عني؟ ليه بتحاول تتظاهر اننا زوجين عاديين قدام الناس؟ طالما عايز تنتقم من بابا مش كان أقرب حل إنك تخليه حاطط راسه في الأرض بسبب بنته، و الفرصة جت لك لحد عندك، ليـه؟.. تقدر تجاوبني؟
تغضن جبينه و قد تفهم أنها أدركت ما يُقال و تلك الشائعات، فـ زفر حانقًا و نظراتهِ متسلطة على الزجاج، بينما كانت تتابع الأسئلة.. و كأنها وجدت الفرصة سنحت لها أخيرًا:
- ليـه مسيبتنيش أموت من الأول؟ ليه رجعت بابا بعد ما كان ممكن تقتله بسهولة؟ ليـه...
قاطع أسئلتها و هو يردد بصوتهِ الرجولي القوي:
- متفكريش في حجات مش هتلاقيلها إجابة يا بنت حسين!
و التفت نحوها و قد توهجت حدقتاه و هو يردد بلهجة شديدة:
- حسابي مع الحديدي مش معاكي!
ضيقت عينيها و هي تستوضح باستنكار:
- و الحديدي يبقى أبويا!.. أومال انت متجوزني ليـه؟ مش عشان تنتقم منه فيا!
التفت لتتسلط أنظاره على الزجاج الأمامي ليتابع الطريق من أمامه بينما يردد بلهجة جامدة:
- لو كنت عايز أنتقم منك كنت عملتها من زمان
توسعت عيناها و هي ترمقه بنظرات مشدوهة، ثم رددت و هي تحيد بنظراتها عنه، مُتّكئة بظهرها للمقعد:
- أومال انت عايز مني إيه؟ أنا زهقت من كتر الأسئلة اللي مش لاقيالها إجابات
انحرف لإحدى الطرق و هو يقول ببرود:
- الفرصة جت لحد عندك عشان تخلصي مني! و انتي ضيعتيها، فرصك خلصت!
نظرت له حانقة من زاوية عينها، ثم نفخت باغتياظٍ، اعتدلت في جلستها و هي تقول بضيق شديد:
- إنت واخدني على فين؟ أنا.. أنا مش عايزة أدخل القصر تاني
اعتقدت أنه سيثور كـ البركان في وجهها، و لكنها تفاجأت بلهجتهِ الغامضة:
- وجودك في القصر كان عشان سبب محدد، مفيش داعي نرجع!
التفتت ثانية و هي تردد عاقدة حاجبيها:
- سبب؟!
راحت تحلل كلمته، ثم رددت و هي تعتدل ثانية لتواجهه بنبرة شبه متحمسة:
- هسألك سؤال و تجاوبني عليه بصراحة!
ردد بصوتهِ الرجولي و قد شرع صبره ينفذ:
- اسألي
عقدت ساعديها أمام صدرها و هي تتأمل ملامحه محاولة سبر أغواره، و لما لم تتمكن راحت تضع سؤالها أمامه:
- انت وديتني القصر عشان والدتك صح..؟ أو على الأقل عشان عيلتك كلها تعرف إنك اتجوزت و تحطهم قدام الأمر الواقع و...
اشتدت لهجتهِ قليلًا و هو ينظر نحوها بعينيهِ المتوهجتين:
- لو قولتلهم هتجوز مكنش في قوة تقدر تمنعني إني أعمل ده!
ارتفع حاجبيها استنكارًا و هي تغمغم:
- انت مغرور أوى على فكرة، بس مش مهم، الأهم تقولي على الأقل انت عملت كده ليه؟ قصدك إن كلامي غلط؟
صمت مطول منه جعلها تهز رأسها استنكارًا و قد استشعرته يود لحالتهِ الشرسة التي يمتنع فيها حتى عن محادثتها، كادت تقنط من إجابته لولا أنه ردد بنبرة شبه مُحتدّة:
- النص الأول من كلامك صح، هدى هانم....
قاطعته بفضول و هي تتأمل تعبيراته محاولة اقتناص ما سيطرأ من تغيير عليه:
- هو انت مش بتقولها ماما خالص؟.. ازاي بتقدر تتحكم في نفسك و انت بتكلمها و مش بتقولها غير هدى؟ عمرك ما غلطت و قولتلها ماما في مرة؟ هو انت طول عمرك كده؟ و لا عشان في سبب لده؟ و لا انت..
تشربت بشرته حمرة غاضبة و قد التهبت خضراوتيه و هو يلتفت إليها، شدد من قبضته على فكيه فـ اهتز صدغيه و هو ينظر نحوها بنظراتٍ متقدة، فـ حرفت نظراتها بين عينيه و هي تزدري ريقها توترًا، حتى تفاجأت بهِ ينطق بشراسة و هو يحيد بنظراتهِ:
- فضولك ده مش هيفيدك يا بنت حسيـن، بلاش تفكري كتير فيا!
و عادت نظراته تنغرس في عينيها و هو يستكمل:
-في حجات لو حاولتي تعرفيها عني.. هتدخلي نفسك في متاهة ملهاش آخر!
و أخفى عينيهِ خلف نظارتهِ القاتمة و هو يبتعد بنظراته:
- و يا ريت تخفي كلامك ده شوية، عشاني مصدع و مش ناقص رغي!
عبست و هي تحتج قائلة:
- أنا مش رغاية!.. أنا بس...
فـ ردد صارمًا:
- بنت حسيــن، مات الكلام!
.....................................................................
جلست على الرصيف تلتقط أنفاسها اللاهثة و هي تضم علب المناديل الورقية في حجرها، فقد لجأت لبيعها حين تعسر عليها أن تجد عملًا غير ذلك، فقد كان لسنها الطاعن السبب في رفض الكثير لعملها گخادمة كما اعتادت طوال سنوات عمرها، و اليوم ها هي تشعر بمذلة أكبر، انحنى كاهليها و قد شعرت بعظم ما تحمله عليهما، دفنت وجهها بين كفيها و هي تكاد تجهش بالبكاء المرير علَّ ما تحملهُ من همٍ ينسال مع عبراتها الحارقة فيخفف عنها قائلة بنبرة مريرة:
- يـا رب!
تماسكت في اللحظة الأخيرة و هي تسحب نفسًا عميقًا زفرته بتمهل قبل أن تنهض لتسير بين السيارات العابرة أمامها، محاولة استكمال عملها في بيع المناديل الورقية، بينما لسان حالها يقول بجمود عجيب:
- الصبر.. الصبر يا سهير، الأيام بتدور، الحق بيرجع لصحابه، و لو بعد ملايين السنين.
.......................................................................
- يعني إيـه يا أفندي..3 أيام غايب عن القصر و انت قاعد مع صاحبك؟ انت اتجننت و لا جرى لعقلك حاجة!
أبعد الهاتف قليلًا عن أذنيه و قد شعر أن صراخها يكاد يصم أذنيه، ثم عاد يقربه ليقول محاولًا تهدئتها:
- نفسيتي تعبت يا ماما،.. مقدرتش أقعد في القصر اللي شوفت أخويا بيتطعن فيه قدام عيني! كنتي عايزاني أعمل إيه يعني
صمتت هنيهة و لكنها عادت تردد بصراخ:
- مش مبرر يا أستاذ!.. مش مبرر لغيابك ده، مش كفاية أخوك عند حماته حبيبة قلبه، أخوك ده عايز يجنني، أنا نهايتي على إيدكم
اعتدل في جلستهِ إثر كلماتها فتأوه بخفوت متألمًا، ثم عقد حاجبيه معًا بصعوبة بسبب ذلك الشاش المحيط بجبينه بأكمله:
- انتي بتقولي إيـه؟ يعني مش راجع القصر؟
توسطت خصرها بكفها و هي تردد حانقة:
- معرفش!
و راحت تسترسل و قد شعرت بجذوتها الانتقامية تضطرم أكثر و أكثر:
- لكن معاه عذره، أكيد لما يفوق هيحل كل حاجة، أكيد وجوده في بيت حبيبة دلوقتي له سبب، أكيـد!
تشدق "عمر" ساخرًا منها:
- لأ واضح!.. بأمارة اللي حصل لعمي "كمال" عشان قدم فيها بلاغ
افتر ثغرها عن ابتسامة شرسة و هي ترفع ذقنها بغطرسة:
- أنا عارفة يامن كويس يا عمر، و عارفة غموضه و تصرفاته الغريبة اللي بيحصل حجات أغرب من وراها، صدقني.. أنا واثقة في يامن و عارفة إنه هيخلص عليهم كلهم!
شعر و كأنها قد جُنّت، و لكنه لم يعارض قولها و هو يقول بعدم اقتناع:
- ان شاء الله
فـ اتاه صوتها الصارم:
- هترجع إمتى؟.. ساعة بالكتير و تكون قدامي يا عمر، خلاص؟
ردد "عمر" بانفعالٍ و هو يكشر عن أنيابه:
- ماما.. أنا قولتلك مش راجع، خلصنا بقى ، أنا زهقـت!
و أغلق المكاملة فـ توسعت عيناها و قد استمعت إلى ذلك الصفير الذي دل على انتهائها، أزاحت الهاتف عن أذنها لتنظر لشاشة الهاتف باحتدام، ثم شددت من قبضتها عليه و هي تهمس متوعدة:
- ماشي.. ماشي يا عمر، أما أشوف انت كمان أخرتك إيه!
....................................................................
تركت الصينيّة التي ارتصّ فوقها أكوابًا من مشروب الشاي الدافئ الذي تتصاعد منهُ الأبخرة و تتمايل، ثم جلست و هي تعقد حاجبيها، مرددة باستيضاح:
- يعني فعلًا جوزها!
فردّت إحدى الجارات و قد أضحى منزلها أشبه بتجمعٍ يشمل جاراتها من الحيّ بأكملهِ:
- و فين الاثبات؟.. و لا هو عشان قال إنه جوزها يبقى خلاص!
فقالت "دلال" حينئذ بخبثٍ التمع في مقلتيها:
- و هيجيلهم الجرأة ينزلوا بالمنظر ده!.. ده لو مكانش جوزها يبقى فُجر
ارتفع حاجب إحداهنّ استهجانًا، و قالت بتبرمٍ ذو مغزى مُبطّن:
- مش أمها عايشة من غير راجل!.. عايزين بناتها يطلعوا إيه!
هزت أخرى رأسها شجبًا على أفكارهنّ، و كأن الشيطان يجلسُ برفقتهنّ، و يُملي عليهنّ ما يقولون، فعبست و هي تقول مُستدركة:
- ليه بس كده يا حاجة إحسان!.. ده احنا عندنا ولايا
و ناصرتها أخرى مُؤيّدة بلهجة جادة:
- تحية عندها حق، و بعدين مش يمكن جوزها فعلًا، ليه الشك ده بس يا حاجة إحسان؟
مصمصت الأخيرة شفتيها في فتور، ثم رددت بلهجة ناقمة:
- و هو لو جوزها أبوها هيطعنها ليه؟.. و لا انتو صدقتوا الكلام اللي قالته حبيبة؟
- لا صدقنا.. و لا مصدقناش، الله أعلم الحق فين، كفاية نمّ على الناس بقى و بلاش نخوض في أعراض الناس أكتر من كده
فعادت "دلال" بظهرها للخلف، و قالت و هي تقوس شفتيها:
- و الله أنا لما شوفت المنظر ده مقدرتش أسكت، انتو لو تشوفه الراجل بيفعص فيها إزاي!.. قال إيه ساند عليها
فـ لوحت أخرى بكفها و هي تقول معربة عن سخطها:
- يا شيخة بلا قلة حيا!
فرددت أخرى و قد ارتفع حابيها:
- طالما بيعمل كده، يعني مش هي اللي طعنته، زي ما الناس بتقول
و أعلمتهنّ أخرى بآخر المُستجدّات:
- ده بيقولوا إنها لعبة من عمّه، و إنه لما فاق بلغ عنه، و دلوقتي هو في الحجز!
فتشبثت "تحيّة" بتلك المعلومة، قائلة بنبرة جادة:
- أهو.. يعني لا هي اللي عملت كده، و لا عشان عشيقها، و لا حاجة، ليه بقى نخوض في الأعراض!
فلوّحت "إحسان" بكفها و هي تقول مُصرّة على موقفها:
- و لو.. مفيش حاجة تثبت إن الراجل اللي هي معاها ده جوزها! البت دي **** من يومها و عايزة اللي يلمّها
طردت "تحيّة" زفيرًا حارًا من صدرها، و قد تعلقت عيناها على "إحسان" التي اشتهرت بحقدها على "يارا"، كونها و ابنتها كانتا في نفس القسم بنفس الكُليّة، و كانت "يارا" تفوق ابنتها جمالًا بمراحل عِدة، فبدت و كأنها تحظى باهتمام كل من تقابل، على عكس ابنتها التي تُثير النفور.. ليس من ملامحها إطلاقًا، بل من أسلوبها الذي يُشابه والدتها، و طِباعها السيّئة التي لا تُحتمل، فغدت "إحسان" أكثر بغضًا على "يارا"، و ما إن سنحت الفرصة لها بأن تطيح بها، اغتنمتها دون ذرة ترددٍ تُذكر.
انحنت "تحيّة" بجذعها قليلًا، لتختطف كوب الشاي، و قرّبته من شفتيها، ثم شرعت ترتشف منه بضع رشفات، قبل أن تحيد ببصرها عن "إحسان"، قائلة بنبرة عميقة:
- كل حاجة هتبان يا إحسان.. متستعجليش
و تطلّعت إليها بنظرة شبه صارمة و هي تستأنف:
- و متظلميش.. ده انتي عندك بنت، خافي عليها!
استُثيرت نزعتها الأموميّة بداخلها، فقوست "إحسان" شفتيها تبرمًا، و قد احتلّ السخط تقاسيمها، ثُم قالت باستهجان:
- بنتي! و هو حد يقدر ييجي جمب بنتي بكلمة، ده أنا كنت قطعتله لسانه
و لاحت ابتسامة شامتة على أطراف شفتيها و هي تغمغم بتفاخرٍ زائف:
- هه.. هو أنا بنتي تتقارن ببنت الـ***** حبيبة، الحمد لله يا اختي، أنا بنتي متربية أحسن تربية و ألف مين يتمناها!
دحرت "تحيّة" بصرها عنها و قد بدا الاستياء على وجهها، عزمت على تجرّع كوبها، و الانسحاب من ذلك الوسط، بينما تدمدم بخفوتٍ مستنكر:
- استغفر الله العظيم و أتوب إليه، ربنا يهدي
.....................................................
عبس وجهها، و قد لاح على صفحتهِ حنقًا باديًا، التفتت إليه و هي تعقد حاجبيهِ في استفسارٍ، ثم قالت و كأنها توجّه إليه اتهام:
- انت قولت مش..
قاطعها "يامن" بخشونة آمرة و هو يعبر البوابة الالكترونيّة التي انفتحت على مصراعيها فور إقترابهِ بالسيارة:
- راجعلك.. متتحركيش من مكانك
و ترك السيارة في منتصف الممر تقريبًا، ترجّل منها و شرع يحثّ الخطى للداخل، حتى وجد إحدى الخادمات تقبل عليه ساحبة حقيبتهِ التي أمر بإعدادها خلف ظهرها، فـ أشار "يامن" لها بعينيهِ كي تخطو بها خارجًا، فيستلمها منها أحد الرجال، أومأت برأسها في حركة متفهمة، و مرّت من جواره دون أن تنطق ببنت شِفّة، انحرفت عيناهُ نحو باب الغرفة الخاصّة بوالدهِ، فمضى نحوها، و لكن تيبّس جسده مع ندائها الصادر من خلفهِ:
- يامـن؟
زفر حانقًا و هو يقبض جفونه بامتعاضٍ، حتى استشعر كفها يتخذّ من كتفه مستوطنًا و هي تهمس بـ:
- انت كويس؟
أشاح بوجههِ متجنبًا أن يراها حين فرّق جفونهِ، و كلمات "حبيبة" تتكرر على أذنيه، فأزاح كفها و همّ بأن يستدير، و لكنها استوقفتهُ بقولها:
- مش هترد عليا؟
تيبست قدماهُ بالأرضية، و هو يزفرُ في حنقٍ، ثم قال بنفورٍ واضح دون أن يستدير:
- عايزة إيه؟
فسألت بشئ من الارتياب:
- انت هتسيب القصر؟ هتيسيبني لوحدي
انحرفت زاوية ثغره بابتسامة ساخرة، و هو يُغمغم هازئًا:
- و أنا من امتى كنت معاكي يا هدى؟
و التفت برأسهِ نحوها و قد تلاشت بسمتهِ ليحل التجهم محلها، و هو يردد باستهجان:
- أنا كنت موجود بس عشـ...
تراخت تعبيراتهِ فاكتسحتها صلابة و هو يحدق في وجهها الذي تراءى لهُ بكدماته و تورّمه المفرط، فسأل باستنكار و قد شعر بدمائهِ تفور في أوردتهِ:
- إيه ده؟
ابتلعت "هُدى" ريقها، و قد تجمعت العبرات في مقلتيها و هي تتلمس تلك الكدمات المشوّهة لوجهها، أحنت بصرها عنه، حتى أجفل جسدها مع صوتهِ الجهوريّ:
- هو اللي عمل فيكي كده؟.. انطقي!
هزّت "هدى" رأسها بإيماءات متتالية، ثُم غمغمت:
- هو
و انخرطت نوبة من البكاء الزائف، في محاولة منها لاستثارة عواطفهِ نحوها، كتمت فاهها بكفها و هي تدمدم من بين نشيجها مُؤكّدة:
- هو يا يامن!
و كأن الحُمم تتقاذف من عينيه الملتهبتين، اشتدّ إطباقه على أسنانه فارتجفت عضلة من عضلات صدغهِ، بينما يُكور كفيه مقبّضًا لهما بجوارهِ حتى ابيضّت مفاصلهما، انتفخت أوداجهِ، و بزغت عروق جانبي رأسهِ بوضوح، همّت بأن تتلمس ذراعه، فتراجع خطوة عن محيطها، و انسحب من الوسط بأكملهِ دون ينبس ببنت شفّة، تابعت "هُدى" ظعنهِ بأعين مُلتمعة بالعبث، ارتفعت رأسها بشموخٍ، ثم أزاحت بأطراف أناملها عبراتها الزائفة، و قد انفرجت شفتيها بابتسامة شرسة، ثُم دمدمت بظفرٍ برق في مقلتيها:
- كنت عارفة إنك مهما عملت، و مهما أنكرتني.. إنك مش هتتحمل تشوفني بالمنظر ده
و اتسعت ابتسامتها حتى برزت من خلفها أسنانها، و هي تغمغم بانتشاء:
- شوف بقى إيه اللي هيجرالك يا كمال!
و تلمست إحدى كدماتها الموجعة، و قد التهبت عيناها و هي تكشر عن أنيابها:
- كان لازم تفكر مليون مرة قبل ما إيدك تتمد عليا!
 بلغ سيّارتهِ، فـ دار حولها، ليبلغ صندوق السيارة الخلفيّ، عقب أن فتحهُ، و بحركة متشنجة سحب سحاب حقيبته، و استهدف صندوقًا دون غيره، فتحهُ "يامن" فتبيّنت لهُ نظاراتهِ الشمسية القاتمة ذات الماركات الشهيرة المتراصّة بإتقانٍ مُنظّم بداخله، فانتقى إحداهنّ ليخفى جذوتيه المتوقدتين من خلفها، ترك الصندوق بالحقيبة و عاد يغلق سحابها، ثم صفع صندوق السيارة بأكملهِ بعنفٍ، حتى استشعر حركة من خلفهِ، التفت نصف التفاتة و هو يبسط كفهُ، فناولهُ الحارس ما طلبهُ منذ بضع دقائق منه، و غاب عنه ليلبي طلبه، سحب "يامن" علبة السجائر و استخرج واحدة منها، و دسّها بين شفتيه، قبل أن يشعلها بقداحتهِ الفضية اللون، ثم دسّ كلاهما في جيب سترته، سحب "يامن" السيجارة بإصبعيّ السبابة و الوسطى و هو يُنفّث دخانًا منها، ثم دار حول السيارة ليستقلّ مقعدهِ، كانت تراقبه متأملة أي حركة تصدر عنه، حتى توسعت عيناها و هي تراهُ يُدخّن للمرة الأولى، و بوضعهِ ذاك، رمشت عدة مرات و هي تحل عقدة ساعديها، حتى صفع "يامن" الباب من خلفهِ، و دسّ مجددًا السيجارة بين شفتيه ، بينما يخرج هاتفه من جيب سترته، و شرع يجري اتصالًا بأحدهم، و ما إن أتاهُ الردّ حتى سحب السيجارة عقب أن سحب نفسًا عميقًا منها، و ردد و تلك السحابة الرماديّة تنبعثُ من بين شفتيهِ مع كلماتهِ الصارمة:
- عايزك توجّب معاه
و التوى شدقيه بابتسامة شرسة و هو يتابع:
- مهمًا كان ده عمّ يامن الصياد
و صمت هنهه حالما يستمع لردّه، ثم قال و ابتسامتهِ المريبة تزداد اتساعًا حتى برزت أنيابه من خلفها:
- عظيم، بلّغه سلامي!
و أنهى المكالمة، ترك هاتفهِ و هو ينفث مجددًا من سيجارته، فسعلت "يارا" عدة مرات و هي تلوح بكفها محاولة نزح الدخان عنها، بينما تقول استنكارًا:
- انت بتدخن!
أدار "يامن" المحرك، و شرع يقتاد السيارة للخارج عقب أن ضغط على دواسة البنزين، فاستأنفت تأنيبها المُحتجّ:
- و في حالتك دي!.. انت مش طبيعي أكيد
فكان جوابهُ باردًا، يناقضُ الألسنة التي تتأجج اشتعالًا في داخله:
- خليكي في حالك
و التفت ليمنحها نظرة من خلف زجاج نظارتهِ الحالكة، فتبيّنتها بصعوبة، حينما كان يردد و هو يسحب سيجارتهِ من بين شفتيه بإصبعيه، ثُم أردف بلهجة بدت مهددة:
- أحسن لك
ازدردت "يارا" ريقها و هي تحنى بصرها عنه، ثم اعتدلت في جلستها مقوسة شفتيها بفتورٍ، محاولة ألا تبدى تأثّرها بحالة السخط المتفاقمة التي بدت عليه، ثم غمغمت بفتورٍ:
- زي ما تحب!
.............................................................
صدر صوتًا مرتفعًا إثر  فتحهِ للباب، فـ انحرفت الأنظار جميعًا نحوه، و قد خفتت الأصوات فجأة، حتى دلف العسكريّ و هو ينادي بصوتٍ جهوريّ:
- كمال الصيّاد
نهض "كمال" من فورهِ، و هو يُنفّض الأتربة عن ملابسه، ثم نطق بنفور:
- أيوة أنا
و خطى نحوهُ و هو يشملهُ بازدراء، ضبط هندامهِ، و ياقته و هو يغمغم ازدراءً:
- كل ده عشان تخرجوني!
تقوست شفتيّ الأخير بابتسامة هازئة، ثم دفعهُ بشئ من العنف من كتفهِ و هو يردد:
- امشي يا مسجون معايا!
........................................................
............................
..................................................................

في مرفأ عينيكِ الأزرق حيث تعيش القصص. اكتشف الآن