"الفصل الثالث و الثمانون"

1K 22 11
                                    

"الفصل الثالث و الثمانُون"

شهقةً مسموعة عالية ندت عنها و هي تستقيم في نومتها على الأريكة منتفضة هلعًا متبعة إياها بصرخة مرتاعة، نهج صدرها علوًا و هبوطًا من فرط هلعها المتفاقِم، و بفزعٍ تلفتت حولها لتتيقن أن ما رأتهُ ليس سوى مجرد كابوسًا بغيض لا يمتّ لواقعها الحالي بصِلة..
سحبت "يارا" هاتفها من جوارها لتنظر خلال شاشتهِ، فوجدت الساعة تتعدى الثانية صباحًا بعد منتصف الليل، ابتلعت ريقها بشئ من الريبة، ثم تركتهُ جانبًا و أنفاسها لا تزال تتهدج إثر ما عايشتهُ قبل دقائق معدودة، نهضت "يارا" عن جلستها و راحت تتجول في البهو محاولة البحث عنهُ، فلم يتبيّن لها سوى الظلال المنعكسة لدى سقوط أشعة القمر و تسللها عبر النوافذ، تفاقم ما بها من ارتياع حين لم تجده، خشت أن يكونه ما تفكّر بهِ صحيحًا..
 حينها توالت الذكريات على رأسها و هي تحاول التفكير كيف آل بها الحال للنوم العميق لدى الأريكة، حيثُ ودّعت والدتها و "رهيف"، و جلست على الأريكة و قد تناطحت الأفكار في ذهنها، محاولة ترتيب أفكارها، و لم تشعر بسلطان النوم حين أقبل يداهم جفنيها فارتخا و استسلمت لسبات لم يتعدى الساعة، إلا أنها شعرت بندمٍ يجتاحها، كونها تأخرت لذلك الحدّ، و ما جعلها تتوجس خيفة ذلك الكابوس، أو الكوابيس المريعة.
 أجفل جسدها و سرت رعشة فيهِ حين استمعت لصوت رنين الهاتف يصدح، ابتلعت ريقها في محاولة منها للسيطرة على رعبها، وضعت كفها على صدرها الذي ينهجُ في ارتياع، ثم سحبت الهاتف، تغضّن جبينها حين وجدته رقمًا غير مسجل لديها، و لكن حدسها أنبأها أنها مكالمة عليها أن تجيبها، و ما إن نقرت زرّ الإجابة حتى أتاها صوتهُ البغيض:
- نفسك تشوفي جوزك لآخر مرة؟.. و لا تشوفي جُثته؟
.................................................................
مناوراتٍ عِدة، كان "نائف" المبادر بها، و كأن "يامن" تفهّم ما يدور بخلد رفيقًا سابق أضحى ألدّ أعدائهِ، إذ لم يكن مبتغى "نائف" تضليل "يامن"، كان مرادهُ أن يُزدجاه لذلك المكان الذي حمل ذكرياتٍ تخصّهم.. ثلاثتهم.
ترجل "نائف" من سيّارتهِ عقب أن أوقفها قرب حافّة المنحدر، فأصغى سمعه لصوت احتكاك إطارات سيّارة بالأرض الصخريّة  لدى إيقافها بشكل مفاجئ، ترجل "يامن" عنها، فما كان من "نائف" إلا أن استدار إليه بكامل جسده و هو يُشهر سلاحه في وجههِ مجددًا، و قد عقد عزمهِ على ألا يمرّ اليوم إلا و مقبرة تضُمّ جسد "يامن"، أو روحهِ على الأصح، و إن كان سيخسر حياتهِ لدى ذلك.
بعث القمر بصيص من الضوء و ظلل بهِ عليهم و هما يقفان في مواجهة بعضهما البعض، ملامحٌ داكنة عمّت وجه "يامن" ببشرتهِ القمحيّة، فمهِ المستقيم بشِفاههِ المتقبّضة، و عيناهُ اللتان تشبهان عينيّ الصقر الثاقبة و قد تولّدت فيها جذواتٌ متوقدة، أسنانهِ المطبقة و تلك الرجفة التي تصيب عضلات صدغيه  من آن لآخر فتنبأك أنهُ يُشدد على عضلات فكيه و كأنهُ سيحطمها، و تلك النظرة القاتمة المنبعثة من مقلتيهِ، و هو يُشهر سلاحهُ في وجهِ "نائف"، صمتٌ مهيـب ساد عليهم بالظاهر، حينما كانت أنفسهم تعُمّ بالضجيج المدوي، و ألسنتهم تكبح ما يدور بخلدهم، فقط النظرات المتبادلة تبوح بالكثير، تحت ضوء القمر المعتم، الذي بالكاد يتبيّن ملامح كل منهما للآخر من أسفلهِ، و قد غممّت السحب صفحة السماء فأضفت لونًا بنفسجيّا غريبًا لها.
و كان "يامن" المبادر بتهشيم ذلك الحاجز الفولاذيّ من الصمت، حيثُ قال بندمٍ قطّر من نبرتهِ الحالكة:
- أنا مندمتش على حاجة في حياتي أكتر من ندمي في اللحظة دي!.. يا ريتني قتلتك من زمان
فقابل "نائف" قولهُ بالترديد الجافّ:
- و أنا مندمتش على حاجة في حياتي غير إني عرفتك يا يامن!
و افترّت شفتيه الغليظتين عن ابتسامة أكثر اسودادًا و هو يقول بظفر التمع بهِ عينيه الداكنتين:
- بس ملحوقة يا مينو!.. اتشاهد
و اتسعت ابتسامتهِ و هو يردد بزهوّ متعمدًا أن يلوح المشهد أمام أعينهما:
- و لا أقولك.. بلاش، أشوفك في جهنم
- يامــــن
التفت رغمًا عنهُ و قد تشوش ذهنهُ للحظة و هو يراها تهرع نحوهُ فور أن ترجلت من السيارة، التقطت أذنيهِ صوت "نائف" الناقم و هو يقول بضحكة ظافرة:
- يا ترى هتزعل على مين أكتر؟.. أمك اللي معترفتش بيها؟ و لا مراتك و ابنك اللي في بطنها!
حادت عيناهُ بلحظة واحدة نحو سلاح "نائف" الذي انحرف قليلًا لجانبهِ، تحديدًا نحوها و هي لا تزال قيد ركضها إليه و قد كانت تعبيراتها تنُم عن ارتياعها، و فور أن صدح صوت الرصاصة ، كانت "يارا" قد وقفت خلفهُ مباشرة و قد توقفت رغمًا عنها عن الركض، و تيبست قدماها بالأرضية حدّقت عيناها فيه و قد اتخذ محلهُ أمامها مباشرة ليحول دون أن تصيبها الرصاصة، فـ أصابت جسده هو، صدرهِ.. الجانب الايسر منهُ تحديدًا، غاص قلبها في صدرها، و بهت وجهها أكثر فـ أكثر عن ذي قبل، شعرت بأنفاسها المتلاحقة تخبو رويدًا رويدًا، و كأن روحها تنساب ببطءٍ مميت من جنبيها، رغبة حثّتها على الفرار عن الواقع الذي لم تتقبلهُ مطلقًا، قاومتها بما تبقى لديها من رباطة جأش استجمعتها، و هي تراهُ متيبسًا أمامها و كأن شيئًا لم يكن، أرغمت ساقيها على الحراك و قد ارتفعت وتيرة أنفاسها مجددًا، تلاحقت نبضاتها الخافقة فدوّت كالدفوف في أذنيها، صرخةً مدوية ندت عنها و هي تخطو نحوهُ:
- يامــــن!
توقفت أمامه مباشرة، غير مبالية بـ "نائف" الذي يتربّص بها، حينما كانت ساقيه تخذلانهِ، فرغمًا عنهُ خرّ على ركبتيه، انحنت "يارا" لتجثو أمامهُ على ركبتيها و هي تضُم وجهه بين كفيها، نهج صدرها علوًا و هبوطًا، و انحدرت الدموع الحارقة على وجنتيها و هي ترجوهُ بصوتٍ مرير:
- لـــأ، متمشيش يا يامن، متسيبنيش أرجوك، يامـن، يامــــن!
و لكنهُ لم يحرف نظراتهِ إليها، حيث ظلّت عالقة على "نائف" من خلفها و قد اتسعت ابتسامتهِ المنتشية فيهما، حتى ردد بصوتٍ بارد:
- تؤ..تؤ، للأسف، كان نفسي إنت اللي تتعذب بموتها، لكن معلش.. ساعات القدر بيخبي حاجات أحسن لينا
و انحرفت نظراتهِ السوداويّة نحو "يارا" و قد تبددت بسمتهِ فحلّ محلها ملامح متجهمة و هو يرشقها بأسهم نظراتهِ:
- لكن عشان تعرفي أنا بحبك قد إيه يا يارو، مش هسيبك تتعذبي بفراقه، هتقابليـه حالًا!
لم تكترث، و لم تُصغي حتى إلى قولهِ، بل حررت وجههُ و هي تحيط جذعه دونًا عن ذلك، مرّغت وجهها في صدره و هي تهمس توسلة إياهُ من بين نشيجها المقهور:
- متسيبنيش يا يامن.. متسيبنيش لوحدي، يامــن!
و قبل أن يُطلق "نائف" رصاصتهِ التالية، كان "يامن" يُصوّب سلاحه الذي لا يزال في كفهِ نحوهُ، برصاصة أطلقها على الرغم من التشوش الذي بدأ يصيب رؤيتهِ نحو منتصف عنقهِ مباشرة، و لكونهُ مشتتًا، غير واعيًا تقريبًا و قد اخترقت الرصاصة موضعًا حيويّا، انحرفت الرصاصة قليلًا لتصيب كتفهِ دونًا عن عنقهِ فيتخلّص منه مباشرة، صرخ "نائف" متأوهًا و قد أسقط سلاحهُ رغمًا عنه، ارتدّ للخلف و قد شعر و كأنهُ فقد اتزانهِ قليلًا، تلمّس "نائف" موضع إصابته بأعين جاحظة، ثم بسط كفهُ أمام عينيه لتبيّن له السائل المتدفق عن جرحه، نشبت النيران بين عينيه و هو يسبّ عاليًا بأقذع الألفاظ، همّ بالانحناء ليلتقط سلاحه و قد ترك كفه الآخر أعلى كتفهِ المصاب، و لكنهُ لم يُمنح الفرصة لتحقيق مبتغاهُ، حيث فاجأهُ "يامن" برصاصة أخرى اخترقت جسده، فانفلتت منهُ صرخة أخرى متألمة، و هو يرتدّ خطوة أخرى للخلف إثر تألمهِ و صدره يعلو و يهبط في اهتياجٍ مُنفعل، مُطبقًا على أسنانهِ و هو ينظر نحوهم من جديد، و لم ينتبه كونهُ يقف على الحافّة، فانفلتت قدمهُ رغمًا عنه و اختلّ توازنه بالكامل، صدحت صرخات "نائف" التي أخذت تتباعد و تتباعد لدى انحدار جسده عن ذلك الارتفاع حتى سكنت تمامًا، التفتت "يارا" لتحدق في جسده الذي تهاوى أمامها بأعين جاحظة غير مستوعبة ما يجري أمام ناظريها، حتى انفلتت من "يامن" أنّة متأوهة و هو يُرخى كفهُ عن السلاح محررًا له و قد ارتخى ذراعه بالكامل، التفتت نحوهُ كالملسوعة و قد عادت تبكي بحرقة مغمغمة بآسى هامس:
- يامن!
ندائها جمع بين الكثير، اللهفة، الألم، العشق، الحرقة، المرارة، الجزع، الهلع،.. كلمة واحدة.. همسة واحدة خلطت بين المشاعر أجمع، مسحت "يارا" بكفها برفقٍ على وجههِ المتبين لها، المحتفظ بصرامتهِ رغم أي شئ و هي تردد بلهفة وجلة:
 يامن، خليك معايا، خليك معايا يا يامن
حينها فقط أحاد بعينيه عن طيف "نائف" الذي تبدد، إليها.. إلى وجهها، شاملًا تفاصيلها بأعينهُ الشبه مشوشة، دارسًا خلجاتها بدقّة، حتى انحنت زرقاوتها المظللتين بأهدابها الكثيفة التي تشبثت العبرات الدافئة بها لجرحهِ، جحظت عيناها و ارتفعت وتيرة أنفاسها التي اختلطت بشهقتها المرتاعة حين رأت ذلك الكمّ المتدفق من الدماء، غطت فاهها بكفها و هي ترفع أنظارها إليه مباشرة، نقلت نظراتها بين عينيه و هي تهمس بتحشرجٍ مرتعد:
- يامن!
احتوى "يامن" وجنتها بكفهِ، ممرًا إبهامهِ على وجنتها برفقٍ يناقض خشونة بشرته، ثم همس من بين شفتيه و هو يحنى رأسه ليستند بها على جبينها:
- شـشـش
رفضت أن تصمت، فرددت من بين أنفاسها المتهدجة:
- جرحك.. بيـ..بينزف، يامن، احنا.. احنا لازم..
همت بالانفلات منهُ و التملّص، و لكنهُ أحكم من حصارهِ لها و هو يردد بخفوت من بين أسنانه المطبقة ألمًا:
- خليكي معايا
و ابتعد بجبينهُ عنها قليلًا فلفحت أنفاسهِ الدافئة جسدها كنفحاتٍ تعذبها أكثر برؤيتها تلك النظرة الهادئة التي فاقمت من ارتجاف جسدها خوفًا، بينما يُغمغم بصوت خفيض:
- عايز تكوني آخر واحدة أشوفها
اهتزّ كتفيها و قد انهارت في نوبة بكاء حارقة، هزت "يارا" رأسها نفيًا و هي تردد من بين شهقتها:
- لـأ..لـــأ!
و اهتاجت و هي تُطبق بكفيها على حافتيّ سترته، مرددة باستهجان و قد تلوّن وجهها بالحمرة:
- انت وعدتني مش هتسيبني، و عدتني إنك هتفضل معايا!..انت وعدتني
انحرف "يامن" بكفه قليلًا، ليتلمس خصلاتها القصيرة، بأناملهِ عابثًا بها، حينما كانت هي تتابع باحتدام و هي تحرر ثيابهِ لتضُم وجهه بين كفيها بتملك متلهف:
- انت هتعيش، سامــع! هتعيش، مش من حقك تسيبني، مش من حقك تسيبني بعد كل حاجة
و أخفضت كفها لتحتوى كفهُ الآخر، و أسكنتهُ على بطنها و هي تردد مضيقة عينيها اللامعتين بالعبرات:
- و ابنك؟.. مفكرتش فيه للحظة؟
انحنت نظرات "يامن" قليلًا لبطنها، نظرة انبثقت من عينيهِ الحادتين و لاحت فيهما، نظرة فسّرتها بيسر، و لكنهُ سريعًا ما محاها و هو يتأوّه تألمًا بخفوت و قد تقلصت تعبيراته، مستشعرًا ألمهِ يتفاقم، قلبها يكاد يبلغ حنجرتها، و هي تحملق فيه بهلعٍ واضح، حاولت أن تنهض مجددًا، و لكنهُ منعها بكفهِ الذي لا يزال يحتوى خصلاتها و جزء من وجنتها، آمرًا بصوتٍ خفيض متحشرج:
- خليكي
فرددت مستنكرة تخاذلهِ:
- سيبني أقوم، سيبني أطلب الإسعاف
نظر "يامن" لعينيها مباشرة، و قد انعكس ضوء القمر الخافت عليها فبدا كحجر عتيق يضوي بالعبرات البارقة، انحرفت نظراتهِ المتبينة لها من بين خُضرة عينيه المُشبّعة بنيران لم تُخمد.
و على أطراف لسانهِ سكنت الكلمات، و تبعثرت الحروف، و خفتت أنفاسهِ، تفاقمت آلامهِ، و تشوشت رُؤياه، و مع ذلك لا يزال يُصارع الآلام، يقاتل اللاوعي الذي يودّ انتشاله من تلك اللحظة، يحارب ليجمع غنائمهِ من الحروب، ليستجمع الأحرف التائهة، ليكوّن لها جملة ودّت استماعها، لتكون الأخيرة في تاريخهما، نهاية قِصة كتب لها الممات، و الوأد قبل أن تبدأ بعد:
- عـ..عايز أقول حاجة، خليكي!
وضعت سبابتها على شفتيه و هي تهمس بتوسلٍ من بين نشيجها المسموع:
- متـ..متتكلمش يا يامن، صدقني كل حاجة هتكون كويسة، إنت مش هتسيبني، مش هتكتب النهاية زي ما كنت متخيلها، النهاية مش هتكون كده يا يامن!
و مسحت برفقٍ على صدغه و هي تتابع بتلهفٍ بإيماءة متعهدة من رأسها:
- أنا اللي هكتبها.. أنا اللي هكتب النهاية يا يامن، بقلمي أنا.. أنا هكتبها بأحسن شكل، أنا يا يامن
انحدرت عيناهُ لبطنها مجددًا و قد تلجلجت حروفهُ مجددًا، فأوصاها بابنهما متعمدًا أنا يضغط على الضمير:
- خدي بالك منه.. من ابننا يا يارا
و رنا بخضراويهِ بنظرة مطولة لأنهر حزنها العميقة التي تجرى منهما العبرات في أودية وجنتيها، ثم قال بإيماءة لا تكاد تلحظ:
- أنا واثق فيكي!
شهقة.. تليها أخرى و أخرى انفلتت منها رغمًا عنها و هي تقبض جفونها لتسمح للعبرات بالهبوط بغزارة، و لكنهُ مرر إبهامهِ على خدها و هو يغمغم بخفوت:
- شـشـش.. افتحي عينك، متحرمينيش من إني أشوفهم
فرّقت أهدابها لتُطل أحجارهما العتيقة من بينهما و هي تتشبث بسرتهِ و برجاء قالت:
- هتربيه معايا، مش هعرف أعمل حاجة لوحدي، إن هتكون معايا، هنربيه سوا، هنشوفه بيكبر قدامنها إحنا الاتنين و ...
قاطعها "يامن" بقولهِ الآمر:
- متعيطيش يا يارا، خليكي.. أقوى، عايزك أقوي دايمًا
و خفت صوته على الرغم من حزم نبرته و هو يقول:
- انتي مرات يامن الصياد.. مينفعش تبقى ضعيفة
فعاتبتهُ من بين شهقاتها:
- يامن
سحب "يامن" كفها المتشبث بهِ و قرّبه من شفتيه ليلثُم باطنهِ و نظراته نحوها قد تفوّهت بما لم يقوَ لسانهُ على الرغم من تعسّر الموقف على ترديده، كلمة واحدة.. واحدة فقط لم يتمكن من أن يلفظها، و كأن عضلات لسانهِ تُشل فور أن يحاول، و لم يعبأ بذلك، يكفيه أنها جواره، تثاقلت عليه الآلام، و شعر بالخور المقيت يشمل جسده، و بالظلمة الحالكة تعيق رؤيتهِ لها، و التمعّن بذلك للحظة إضافية، فساد الظلام رؤيتهِ و ابتلع ما يحيطه، انطبق جفنيه و قد ارتخى كفيهِ عنها، محررًا كفها الذي لثمهُ توًا، و سقطت رأسهِ لدى كتفها في ارتخاء تام، و قد فقد "يامن" آخر ذرات وعيه الذي ظلّ يصارع كي يحتفظ به، فكان آخر ما اخترق مسمعهُ صوتها الهادر بجـزع:
- يامـــــــن
...........................................................
كانت مُمتنة لتفكيرها الذي جعلها من فور أن حادثها البغيض لتحادث "فارس"، الذي وصل للموقع الذي بعثتهُ له عقب أن بعثهُ إليها "نائف"، و قد انتقى "فارس" أن يتجه لموقع "يامن" دونًا عن "سهير" الذي اكتفى بأن بعث بسيارة تسعفها و تقلّها للمشفى، عقب أن حادثهُ "يامن" أيضًا فور أن تركها ليحظى بانتقامهِ من "نائف".
و ها هو.. ينتهي بهِ الحال في غرفة بالعناية الفائقة عقب أن تمّ استخراج الرصاصة من جسده، و قد مُنعت عنه الزيارة حتى، جلس "عمر" جوارهِ.. مستندًا بمرفقيه لركبتيه و قد انفلتت منهُ شهقة من حين لآخر فبدا لها يبكي أخيه خشية من فقدانهِ، بينما هو يقف مستندًا للجدار من خلفه بظهره، حرر "فارس" زفيرًا ملتهبًا و هو يحلّ عقدة ساعديه، ثم برفقٍ ربّت على كتفه و هو يُطمئنه بقولهِ الغير مقنع:
- هيبقى كويس يا عمر
هزّ "عمر" رأسهُ بالسلب أسفًا، و رفع وجهه عن كفيه ليردد بصوتٍ ممشوج:
- كان في كلام كتير عايز أقولهوله، كان في حجات كتير كان لازم نتكلم فيها
و انخفضت نبرتهِ و هو يقول باستياء نادم:
- كان لازم أقوله إني بحبه، و إني مكرهتوش في يوم، كان لازم أعتذرله عن كل كلمة قولتها جرحته، و عن كل مرة إيدي اتمدّت عليه في ساعة غضب، كان لازم أعمل حجات كتير أوي يا فارس
تنهيدة حارة خرجت من أعماق صدرهِ و هو يتابع حالة ابن عمّهِ، ثم ردد بلهجة واثقة و هو يحتوى كتفهِ بضغطة خفيفة:
- هيعيش يا عمر، و هتعمل كل اللي نفسك فيه، و هتقوله كل حاجة
و لكنهُ لم يفلح في التخفيف عنهُ، و لا حتى عن نفسهِ ببضع كلمات، أمل كاذب كما كان يُسميه "يامن" تمامًا، لم يمنحهم الأطباء أيّا منهُ حتى، أيّا من ذلك الأمل الكاذب الذي تمنى جميعهم لو حظوا بهِ، و لكن أحيانًا تكون المواجهة بالحقيقة المرة هي الأعذب للنفس كي لا تلطمهم مستقبلًا، إذ أبلغهم رئيس الأطبّاء أن حالتهِ لا تتحسن، بل تتفاقم سوءً و تدهورًا، و الساعات القلائل القادمة هي التي ستتحدد مصيره..
 حتى "يوسف" حضر توًا ليكن مُؤازرًا لـ "فارس"، و عقب أن تبادلا أطراف الحديث التي كان بها "فارس" في أقصى درجات البؤس و قد ابتعد قليلًا عن محيط "عمر" و هو يُنبئه بسوء حالة "يامن"، و اختتم "فارس" حديثه معه بقولهِ القانط و هو يدس كفيه بجيبيه:
- الـ24 ساعة الجايين هيحددوا حالته، لغاية دلوقتي مفيش أي تحسن
زفر "يوسف" أنفاسه الحارة و هو يربت برفقٍ على كتفهِ، و شدّ من أزره بقوله:
- he’ll be fine إنه يامن رغم أي شئ!
انبثقت نظرة يائسة من عينيّ "فارس" نحو "يوسف"، ثم أحنى أهدابه و هو يقول محتجّا:
- و يامن ده مش انسان يا مايكل؟.. مش انسان زينا و ممكن الموت ياخده مننا!
لم يكن الموقف مناسبًا ليُصحح "يوسف" له خطأه في لفظ اسمه، بل و تغاضى عن ذلك تمامًا و هو يضغط ضغطة خفيفة على كتفه قائلًا بتكسّر:
- خلينا نصلي يا فارس، و ندأي له " ندعي"
نظر "فارس" لعينيّ رفيقه فـ أومأ و هو يبادله بإشاراتٍ هادئة، و كأن "فارس" تربّص تلك اللحظة ليحظى بسجدة يتوسل اللهُ فيها أن يعيده بينهم، أومأ من فوره و هو يلفظ أنفاسه الحارقة، أحنى أهدابه عنه و قد أصابه شعور قاتل، ثم سأل بسخرية قطّرت من نبرته المريرة:
- تفتكر.. تفتكر حتى لو دعينا هيستجيب؟
- I’m sure faries!
فارتفعت عينيه إليه مجددًا و هو يسأل مستوضحًا بتهكمٍ غلّف لهجته:
- و إيه اللي يخليك متأكد من ده؟.. ده.. ده أنا عمري ما ركعتها غير امبارح
و زفر متبعًا قولهُ بـ:
- و لما أكون محتاج ده.. أروح أصلي، ده أنا مكسوف أصلي!.. مكسوف من ربنا، مكسوف أقف بين إيديه و أنا بلجأ له بس عشان محتاجه
عمد "يوسف" أن يحادثهُ بلهجتهِ، فخرجت أحرفه شبه متبعثرة و هو يقول:
 - اللي خلاني أقول الشهادة.. قالي جزء من آية مُش هنساها فارس، قرأتها قبل كده، و نسيتها، لكن لما قالهالي، مقدرتش أنساها تاني
و أحنى "يوسف" أهدابهِ و هو يردف، على الرغم من تعسّر بعض الأحرف على لسانهِ:
 "لَا تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ ٱللَّهِ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغْفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلْغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ"
نظر "فارس" نحوهُ بأعين مشدوهة، ثم قال و هو يعقد حاجبيه:
- انت.. بقيت حتى أحسن مني يا مايكل، و أنا اللي اتولدت على الاسلام، مش..
انزوت شفتيّ "يوسف" بابتسامة لباهتة و هو يقاطعه:
- لم يعد "مايكل" يناسبني فارس
و أمسك بذراعه و هو يحثّه على الحراك:
- تآلى  "تعالى"
أومأ "فارس" بامتثالٍ لهُ، و لكنه ردد و هو يشير لـ "عمر" بعينيه بحركة جادة:
- طب لحظة
و مضى نحو "عمر" الذي رفع أنظاره إليه حين ناداهُ "فارس" منبّهًا:
- عُمر
- نعم؟
و حملق بهِ بترقّب، فقال "فارس" بتريّث عقب أن زفر بحرارة:
- هنروح نصلي أنا و يوسف الفجر، و ركعتين لله عشان يامن، تيجي معانا؟
ابتلع "عُمر" ريقه و هو ينظر نحوه، ثم أومأ في خضوع و هو ينهض عن جلستهِ:
- لو ده ممكن يفرق معاه، ماشي
تنهد "فارس" تنيهدة مطولة و هو يربت على كتفهِ برفق، ثم قال قبل أن يغيّر وجهتهِ لابنة عمه:
- هشوف يارا و راجعلك
و برح محلهِ ليخطو صوبها..
 كانت تقف متسمرة أمام الحاجز الزجاجيّ الذي يبين جسده المسجي بصدره العاريّ إلا من الشاش الذي غلّف موضع إصابته، و تلك الأنابيب الطبيّة المريبة تخرج من فمه و أنفهِ، و الأجهزة الطبيّة العديدة تحيطه من كل حدبٍ و صوب، دقات قلبهِ تنبعُ عن جهاز النبضات فتصلها بعُسر، إلا أنها تُرهف السمع لتحظى بالتنعّم بتلك اللحظة، لا يزال قيد الحياة، و يكفيها ذلك فقط.
اكتسبت من صفاتهِ الكثير.. و أولهم التماسُك و الثبات و إن كان داخلها مجرد رُفاتًا لا يُجمع، و كانت كذلك، متظاهرة بالثبات و قد كانت خلجاتها متصلّبة، إلا من تلك العبرات التي لم تطالها سيطرتها، فتمرّدت على تجبّرها و راحت تزحف عبورًا من أعتاب أهدابها لتشقّ سبيلًا تائهًا على خديها، شمل "فارس" جانب وجهها بنظرة خاطفة، ليجدها مُسلطة لأعينها الماسيّة على الزجاج، و كأنها تخشى لو تلتفت أو ترمش عيونها فتفرّق أهدابها.. فلا تجدهُ أمامها، بل لا تجدهُ بينهم، و لا تجدهُ على وجه الأرض.
تنهد "فارس"، ثم تمتم:
- يارا
تنبّهت إليه، فكما تكهّن.. لم تلتفت، و لم تحد بعينيها، فقط أجابتهُ و هي تنزح عبراتها المنحدرة، بجمود لا يتناسب مع الموقف:
- نعم؟
- أنا نازل شوية و هاخد عمر، عايزة مني حاجة؟
فـ أجابتهُ "يارا" بجفاء:
- تؤ.. شكرًا
أومأ "فارس" بإيماءة خفيفة، ثم قال متعاطفًا مع وضعها:
- طب.. اقعدي شوية، انتي حامل و مينفعش تـ...
اقتطع صوتها الحاسم صوتهُ قبل أن تسمح لهُ بالمتابعة:
- شكرًا يا فارس، أنا مرتاحة كده
و كأنهُ تيقّن أنه لن يتمكن من إقناعها، فهي ذات رأس متحجّر، و تقريبًا تلك الخصلة تشاركا بها منذ البداية، أومأ "فارس" و هو يُعطي الحرية لزفرة حارة، ثم ردد بضيق:
- زي ما تحبي
و برحها.. مضى "فارس" برفقة "يوسف" و "عمر"، حتى خلى الرواق إلا منها، تلفتت "يارا" حولها، للمرة الأولى تقريبًا و رغمًا عنها، شمالًا و يمينًا لتتيقن من خلوّ المكان، فخطت دون تردد و قد أضناها الشوق المُستعر لأن تنعم بالتواجد قربهِ، بلمسة من كفها لكفه تشفي عليل روحها، و بهمسة تهمسُ له بها علّها تكون منجيته، و بأن تظلّ في محيطهِ.. يكفيها حقًا أن تقع عيناها عليه فتتأمل قسماته عن كثب.
 أدارت "يارا" المقبض.. غير عابئة بمخالفتها القواعد، و خطت للداخل..
 و كأن الأرض تُزلزل من تحت أقدامها، و هي تراهُ للمرة الثانية على فراش الموت، مضى وقت طويل.. و أحداثٌ عِدة على تلك اللحظات التي كادت تودى بها بحياتهِ، حينها لم تكن تريد له العيش سوى لأنها أنانيّة للغاية، و أبت أن يظل شعور الذنب يلاحقها في صحوها و نومتها، و اليوم تودّ أن يعود لأنها أكثر أنانيّة عن ذي قبل..
 تريده أن يعود لتحيا.. فقط لتحيا و تتمكن من أن تستأنف حياتها، للحظة أصابها الخور المفاجئ، و ترنّح جسدها و قد شعرت بساقيها تتخاذلان عن حمل ثقل جسدها، و لكنها تشبثت بالجدار لتحول دون ذلك، و ما إن استعادت توازنها، و تبددت تلك الظلمة التي ضربت رؤيتها، استقامت في وقفتها، و شرعت تخطو نحوه، تقدم ساقًا.. و تؤخر الأخرى، و كلما اقتربت خطوة تشعر بصدرها يتوغّر أكثر و أكثر، كذبح لقلبها بسكين تَلِم، توقفت "يارا" أمام فراشهِ مباشرة، لم تتعجب للحظة.. حين وجدت قسماتهِ لا تزال محتفظة بالصلابة و الصرامة، كما اعتاد دومًا، و كأن عضلات وجهه لم تتراخَ دومًا، على الرغم من تلك الأنابيب الطبيّة التي بدت لها مُشوّهة لوجهه، و شحوب وجهه المثير للفزع.
و لم تقو على الوقوف أكثر، خرّت على ركبتيها أمامهُ و قد ضُرب بأمرهِ عرض الحائط، إنها أضعف من أن تتحمل رؤيتهِ هكذا، و لا يصدر عنها أي ردّ فعل، لا تصرخ، و لا تبكي، و لا تنتحب، و لا تأنّ، هي إنسانة في النهاية، و ليست مجرد إنسانة، إنها عاشقة متيّمة.. تحمل في ربوع قلبها مشاعرٌ جيّاشة حملتها لهُ.
 أنى لها برؤيتهِ هكذا، لا يتحدث، و لا يراها، و لا يُلقي أوامرًا عليها، لا يفرض سيطرتهِ، لا يمنحها نظرات من بين غابات عينيه القاتمة.. لا تداعبهُ، لا تناغشه، لا تحاول إثارة أعصابه و استفزازهِ بشتى الطرق، لا تعانده، و لا ترفض أوامره و تحتجّ عليها، لا تعنفه، و لا تحتويه، أنى؟
إنهُ الهـلاك.. الهلاك بعينهِ، أن تراهُ ساكنًا هكذا أمامها، و ليتهُ ساكنًا.. كم تمنت حقًا لو كان ساكنًا متسمرًا، و لكن للأسف.. إنهُ يرحل، ترحل يداه، ترحل نظراتهِ، يرحل صوته، يرحل هُـو.. يفنى.
 و هي.. عاجزة حتى أن تساعده، تعجز عن التشبثّ بهِ، و كأن عضلات ساعديها تُصاب بالشلل كلما حاولت بسط كفيها إليه لتحثّه على البقاء.
تقف.. على أطلالهما، على أرض الحياد، على أرض الرفات، على حُطام السفينة التي لم ترسُ، سفينة حطّمتها الأهوال، و صدمتها جبال الجلود، سفينة قاست، شُرخت، رُتقت، و تحمّلت، و كانت لا تفتؤ تنقّب عن مرفأها هنا و هناك دون تخاذل، و لكن ذرتها الرياح العاتية في يومٍ حالك تكالبت الغيوم به على السماء، تكاد تُصغي لصوت الأمواج المتلاطمة في صلف، و فحيح الرياح التي تعبثُ بالأشرعة في كبرياء كحية تسعى لتدميرها، و هي تقاوم.. و تقاوم.. و تقاوم، حتى وهنت، فكفّت المحاولة، و ارتضت بقدرها المحتوم حين ادركت ألا مفرّ لها منه، إنها تلك السفينة التي صعدت قسرًا على متنها، و ها هو قد منحها وسيلة الإنقاذ الوحيدة، و ألقى بها في غياهب البحر العميق لا يملك أدنى فكرة عما ستقاسيه وحدها و ظلّ هو ليكن الهلاك مصيرهُ.
نهاية كتبها "يامن" لهما منذ زمن بعيد، و حذّرها منها لأكثر من مرة، و هي عاندت برأسها المتصلّب، و وثقت أن قصة كتلك.. يستحيل أن تكون هذه نهايتها، بتلك البشاعة، و لكنهُ قدرًا كانت تحاول بشتى الطرق تغييره، متناسية.. أن المكتوب لا يتغيّر، و أن ما قُدر لها ستعايشهُ ارتضت أم أبت، رغمًا عن أنفها.
شهقةً مسموعة انفلتت منها عقب أن فشلت في كبحها و هي تحدق في وجههِ، و بلا تردد.. بسطت كفها لتتلمس أنامله الخشنة مرددة بصوتٍ مسموع:
- متشميش يا يامن، متمشيش، معرفش أعيش من بعدك، معرفش أكمل من بعدك
و أحنت رأسها على كفهِ الموازي لها تقريبًا بوضعها، لتلثُم ظاهرهِ، ثم استندت بخدها عليه و هي تعاود التطلّع لوجهه برجاء ملتاعٍ:
- متسيبنيش أرجوك، متعملش كده فيا يا يامن، و الله ما غلطت في حاجة عشان تعاقبني بالشكل ده يا يامن، أنا حبيتك، و الله حبيتك
و أحنت أهدابها قليلًا و هي تنتحب بصوتٍ خفيض مغمغمة من بين أنّاتها المسموعة:
- متسيبنيش للعذاب ده، متسيبنيش، أنا أضعف من إني أعيش من غيرك
عبراتها الملتاعة انحدرت على وجنتيها حتى بلغت بشرتهِ و سكنت هناك، بينما هي تتابع بآسى:
- ارجع يا يامن، ارجع.. لو مش عشاني فعشان ابننا، عشان ابننا اللي محتاجك، أرجوك متسيبناش
 و كأن هنالك خطب ما.. توسعت عيناها و هي تعتدل في جلستها على الأرضيّة، محتفظة بكفه الخشن بين كفيها المحتويين لهُ، و هي تلتفت عنهُ لتحدق في جهاز نبضات القلب، حملقت عيناها بعدم استيعاب، و بهلعٍ تفاقم انحدرت نظراتها نحوه و هي تتردد بحرقة متلهفة:
- لا لا لا.. يامن.. يامن، إياك، إياك تفكر في ده، يامــن!
و سحبت كفه العالق به مشبك طبيّ إليها لتلثمهُ بشفتيها، ثم ضمته لصدرها و هي تردد بتوسل مرتاع:
- يامن، متسيبنيش أنا بحبك، أنا بحبك يا يامن، متسيبنيش لوحدي
و عادت نظراتها الهلعة تنحرف نحو الجهاز، ثم نقلت نظرها إليه مجددًا و هي تقول من بين نحيبها:
- عشان ابننا، عشان حبي ليك متسيبنيش، ارحمني يا يامن و متعملش كده فيا، أرجوك.. أرجـوك
خُيّل إليها أنها ترى.. عبرة حارقة دافئة انسابت من بين أهدابهِ المطبقة، لتسرى عموديًا على بشرته فتشقّ طريقها، حتى سكنت الوسادة أسفل رأسه، فانخرطت في نوبة حارقة من البكاء الملتاع و هي تنظر للجهاز مجددًا..
 حتى شعرت بأن صدرها لا يكاد يتسع لقلبها الخافق بعنفٍ بين أضلعه، تحجرت الدموع في مقلتيها، و تيبس وجهها الذي غلب عليه اللون الأحمر، و هي تسلط عيناها المتوسعتين في صدمة على الجهاز الذي أصدر صفيرًا مُطوّلًا، و قد تبدد صوت النبضات التي تباطأت، ضاقت عليها الأرض بما رحُبت، و قد شعرت و كأن روحها تُجتثّ برفقته، انتقلت "يارا" بنظراتها نحوه لتحملق به دون أن يرفّ لها جفنًا، و بعدم استيعاب همست بـ:
- يامن؟
و ملأت فراغات كفهِ بكفها و ابتسامة بلهاء ترتسم على ثغرها متابعة:
- يامن.. انت، انت مموتش صح، يامن انت لسه معايا، انت مسيبتنيش
و مدت أناملها لتمسح برفق على وجنته الباردة كقطعة من الثلج:
- انت موجود يا يامن، انت.. انت استحالة تكون سيبتني
و فجأة اقتحم الغرفة أحد الأطباء، فصاح فيها من فورهِ عقب أن استمع لصوت الجهاز:
- انتي بتعملي إيه هنا يا مدام، اتفضلي اطلعي برا
و حاولت الممرضات المصاحبات لهُ بإخراجها من الغرفة، و لكنها اهتاجت و هي تحاول التملّص منهم:
- محدش هيبعدني عنه، سيبوني، يامـن خليهم يسيبوني، يامـن، يا يامــــن
بحالة الارتباك المسيطرة عليهِ، لم يكن يشغله وجودها في الغرفة في تلك اللحظة تحديدًا، فأمر الممرضات بتركها جانبًا، و المضي قدمًا لمساعدتهِ.
 سحب الطبيب قطبيّ جهاز الصعق الكهربائيّ، و شرع يُلصقه بجلد صدره، ثم ينتزعهُ عنه، فيرتد جسده للأعلى ثم يعود لموضعهِ، أمام ناظريها، و كأنهُ البارحة فقط.. نفس المشهد، نفس الصفير، لم تعد ترى غيرهُ، و كأن من حولها أطياف بملابسهم البيضاء، أطياف مشوشة فلم يتضح لها سواه، مرة تليها أخرى.. بلا أي جدوى، حتى تهدل كتفي الطبيب حينما ارتدّ جسده للمرة الأخيرة، حاد بنظره عنه ليناول الممرضة القطبين، ثم قال بلهجة جادة، خالية من التعاطف:
- للأسف.. فقدنا المريض!
خفقة تليها خفقة تدوّي في أذنيها، و كأن صاعقة مسّتها، تراجعت "يارا" خطوة للخلف و نظراتها محملقة بـ "يامن"، و قد شعرت أن جسدها سيخذلها و يقتادها للأرضية في أي لحظة، تهدجت أنفاسها، و تلاحقت نبضاتها فلم تعد تصغى لأي أحاديث جانبية عابرة، و بعفوية شديدة..أحاطت بطنها بذراعها و هي تهمس بعدم استيعاب:
- لأ!
إمارات الصدمة قد استقرّت على وجهها، أهدابها تباعدت إثر اتساع عينيها بارتياع، فتجلّت من خلفهما مقلتين زرقاوين كالحجر العقيق، أُحيطتا بالشعيرات الدموية البارزة، و قد تنبّهت خلاياها تامّة حين رأت الممرضة تسحب الملاءة البيضاء لتُخفي وجهه خلفها، فزأرت و هي تنفي برأسها:
- لــــــأ!
و حثّت خُطاها، دفعت تلك الفتاة من كتفها و هي تحول دون أن تصل الملاءة لوجهه، ثم انحنت عليه مائلة بجذعها و هي تتلمس بشرة صدغه برفق، مدمدمة برجاء:
- يامن.. قولهم إن كل اللي بيقولوه كذب، قوم و قولهم إنك عايش
اهتاجت الممرضة و قد ارتدّ جسدها إثر تلك الدفعة التي تلقّتها، و كادت تشن هجومًا عليها لولا الطبيب الذي استوقفها بحركة من كفه، مردفًا بلا مبالاة:
- سيبيها!
ارتفعت نظرات "يارا" نحو جهاز النبضات، و كأنها تود لو تتيقن من عودتهِ، ثم أخفضت نظرها نحوهُ، و هي تجهشُ بالبكاء قائلة:
- يامن.. أرجوك متعملش كده، قوم و كلمني، قوم يا يامن
و امتدت أناملها لتختطف كفهُ البارد من أسفل الملاءة، ثم قربتهُ من شفتيها لتلثم ظاهره و قد انحدرت الدموع الحارقة من عينيها فبللتهُ بها، ثم مررت أناملها عليه بلهفة و هي تردد بتوسل:
- صدقني مش هضايقك تاني، مش هحاول استفزك، مش هجرحك بكلامي تاني، هعمل أي حاجة انت عايزها يا يامن، هعمل أي حاجة تطلبها مني، لكن متسيبناش أرجوك يا يامن
تعالت شهقاتها الملتاعة و قد انعقد حاجبيها في قهر، غشت الدموع بصرها و قد غزت مقليها بغزارة و تسابقت للدحور عنهما، خارت قواها تمامًا، فخرّت على ركبتيها و لا يزال كفهُ في كفها، انخرطت في نوبة من البكاء المرير و هي تهتف بصوت ممشوج:
- يامـن!.. آآآآه!
تعاطفت مع حالتها إحدى الممرضات، فدنت منها و هي تربت على كتفها قائلة:
- البقاء لله يا مدام، ربنا يصبرك
انفلتت شهقة أخرى منها و هي تحدق في وجهه بلوعة أضنت روحها، لم تقوَ على استيعاب ما يحدث حين بسطت الممرضة كفها، فانحرفت لتتبع ذلك الكف الرقيق الذي غزا مرآها فجأة، حتى رأتها تسحب الملاءة لتغطى وجههُ تمامًا فغاب عن عينيها، تشبثت "يارا" أكثر بكفه و كأنهُ ملاذها و قد انصرفت ببصرها عنها إليهِ، فصرخت صرخة مُدوّية من بين شهقاتها:
- يامـــــن، لــــــأ
فـ اجتذبتها إحدى الممرضات ذات البنية القوية حين حاولت أن تكشف وجههُ من جديد، و أبعدتها عن محيطهُ قسرًا على الرغم من محاولاتها الجمّة لئلّا تبتعد..
صرخت و صرخت و صرخت حتى بحّ صوتها و ضجّت الغرفة باسمهِ الذي ينفلت من بين صرخاتها المستهجنة.
هاجت و ماجت و تحوّلت طاقتها لطاقة غضب هائلة، حاولت أن تفرغها في الممرضة التي دفعتها دون أدنى تأثير بها، و شرعت تضرب كتفيها بقبضتيها الضعيفتين، بينما تزأر بـ:
- ليـه كذبت عليا؟.. ليــــه؟ لما انت عارف إنك هتسيبني وعدتني ليه؟ وعدتني ليــه؟
اهتاجت أكثر و هي تصرخ بصوتٍ بدى كزأير متوجّع:
- مكنتش توعدني!.. مكنتش تحببني فيك، مكنتش تقربني منك، يا ريتني فضلت أكرهـك، يا ريتني ما حبيتك أبدًا
و خرجت منها صيحةً أخرى أتبعتها بسؤالها المقيت الذي لم تجد لهُ إجابة شافية لها:
- ليــــه؟
سواد حالك ساد بتجبّر على أي لون أحاط بها، ظلمة شرعت تلتهم رؤيتها بسرعة رهيبة، حتى شعرت بتقطّع أنفاسها، و قد تيقنت أن ملك الموت الذي حام من حولهم اختطف روحهُ، فكانت رؤيتها لهُ خلف تلك الملاءة المريبة ما يجعلها تشعر بأن الروح فأغرقت جسدها هي.. و ليس هُو، و ما هي إلا ثوانٍ و لم تعد ترى أي شئ، غفلة إجباريّة استرقتها و ابتلعت روحها، و لكنها لم تلتقم آلامها و أوجاعها التي ظلت ملتصقة بها، آبيـة أن تتركها، إباءً لم ترَ مثيله.. و بيد أنها لن ترى!
.............................................................
أن تفقد عزيزًا عليك.. أصعب شعور تُجبر رغمًا عن إرادتك على مواجهتهِ.
في ذلك المكان المهيب، حيثُ تشعر أن عبق الموت يفوح فيُفاقم ما بهِ من مهابة، كان الجميع يصطفّ بهِ، منهم من يبكي فعليّا، حينًا لصرخات تلك المسكينة التي بحّ صوتها من فرطها، و حينًا من أجلهِ، و ماذا إن كان ذلك المتجبّر الطاغي؟.. فـ قد ساهم في حياة كلّ منهم بشكلٍ مختلف رغمًا عن ذلك، يبقى في النهاية إنسانًا واجه حياة بشعة، و نهاية أكثر بشاعة.
 و من الرجال من يقف متصلبًا.. يواري خلف تماسكه انهيارًا محتمًا، سيحظى به حتمًا، و سينقشع ذلك الثبات الزائف..
 دلف "فارس" حاملًا النعش برفقة " عمر"، و تعاون "يوسُف" في حملهِ أيضًا عقب أن استُخرج من السيارة التي حملتهُ لهنا، و من خلفهم كانت تسير هي، بوجهها المُصطبغ بالحمرة القانية و قد تفاقمت حمرة أنفها بالأخص و أسفل عينيها، جفنيها قد انتفخا بشكلٍ ملحوظ، فتُنبأك أنهما لم تجفّا لثانية واحدة، تساندها والدتها و شقيقتها "ولاء"، و قد تبتعهم "يورا"، متعاطفة رغمًا عن أنفها مع توأمتها من فرط ما تُعانيه، حتى بلغوا مقبرتهِ التي ستضُم جثمانه بين جدرانها الصقيعيّة، توقف "فارس" للحظة محملقًا بالمقبرة و قد شعر بقلبهِ يكاد يُجتثّ من محله، و لم يكن "عمر" أقلّ منه، بل أن العبرات الحارقة تسابقت للهبوط عن مقلتيه رغمًا عنه، حتى تحرك "فارس"، فتحرك "عمر" و "يوسف" أيضًا برفقتهِ، حتى مثواهُ الأخير.
تركت "يارا" ساقيها تقتادانها للأرضيّة و قد انهارت مقاومتها تمامًا، أفلتت زمام صرخاتها المكبوتة و هي تنادي باسمهِ حتى آلمتها أحبالها الصوتية، و رغم ذلك لم تكفّ، حتى خرجوا من مقبرتهِ، و هموا بإيصادها، حينها صرخت فيهم اهتياجًا:
- بتعملوا إيه!.. انتو هتسيبوه كدا!.. هتسيبوه لوحده
و استندت بكلتا كفيها للأرضيّة، لتحاول النهوض عن جلستها، حتى وقفت على قدميها، همّت بالحراك نحوهم، و لكن كبّلت "حبيبة" حركتها و تعاونت "ولاء" معها، حاولت "يارا" التملّص منهم، و هي تهدر باستهجان:
- سيبوني.. سيبوني أروحله، مش هسيبه لوحده
و انخفضت نبرتها و هي تردد بقهرٍ من بين شهقاتها المبحوحة:
- طول عمره عاش لوحده، طول عمره كان لوحده، خليني أروحله، سيبوني، مش هسيبه لوحده تاني!.. سيبــوني!
ربتت "حبيبة" على كتفها برفقٍ و هي تردد بنبرة ممشوجة:
- كفاية يا بنتي، كفاية، لا حول و لا قوة إلا بالله
فوجّهت "يارا" بصرها نحو "فارس" و هي تقول:
- طلعه يا فارس، طلعه الله يخليك، متسيبوش لوحده، متبعدوش عني
تألم قلبهُ الملتاع أكثر لدى كلمتها، فأخفض "فارس" رأسه و هو يتنهد بحرارة، حتى شعرت بتخاذلهن فراحت تردد بسخط:
- انت واقف تعمل إيه!.. عملك إيه عشان تعمل كده فيه، عملك إيه عشان تسيبه كده؟
و نظرت صوب مقبرتهِ، ثم رددت و هي تحاول جاهدة التملّص من الأيدي المتشبثة بجسدها:
- يامـــــن.. آآآه
احتوتها "حبيبة" بصعوبة، فضمتها لصدرها و هي تمسد برفقٍ على ظهرها، ثم قالت و هي تهز رأسها في آسى:
- كفاية يا بنتي، اللي بتعمليه ده حرام، متعترضيش على قضاء ربنا
هزت "يارا" رأسها في مرارة بالسلب، ثم قالت بشجنٍ ملتاع أضنى روحها:
- ملحقتش أعيش معاه، ملحقتش أشبع منه، ملحقتش.. آآه!
قكان قوْل "حبيبة" معذّبًا لروحها أكثر:
- ده قدره يا بنتي، محدش يقدر يغيره، إنا لله و إنا إليه راجعون
.................................................................
 صرخت.. و صرخت.. و صرخت، حتى بحّ صوتها و ودّ لو يتلاشى ليُعفي أحبالها الصوتية من الألم، و لم تنقطع صرخاتها و هي تدفن وجهها في وسادتهما التي علقت رائحتهِ فيها، تضُم مقتنياتهِ إليها، ساعته القاتمة الضخمة، نظارتهِ الحالكة التي لم تعِدها إليه، ثيابه متشممة عبقهِ العالق بها، ارتكنت بجسدها للفراش عقب أن تركتها والدتها أعلاه و هي تستأنف صرخاتها المكلمومة، إنها النهاية الأقسى و الأبشع على الإطلاق، و كأنهُ كان يستشعر أن النهاية لن تكون سوى هكذا، و هي بسذاجتها المفرطة ظنّت أن النهاية ستكون سعيدة، كباقي قصص الحب و الروايات التي داومت على قرائتها، دثّرتها "حبيبة" جيّدًا و هي تردد و قد أدمعت عيناها تأثرًا:
- كفاية يا بنتي.. حرام عليكي اللي بتعمليه في نفسك ده
فرددت "يارا" بتوسلٍ المكلوم من بين صرخاتها:
- أنا عايزة يامـن، هاتولي يامــن، يا يامـــن!
ربتت "حبيبة" على كتفها و هي تهو رأسها بآسى مغمغمة:
- اللي راح مبيرجعش يا بنتي، اللي راح مبيرجعش
فلم تتلقَ سوى صرخة أخرى و كأن سكينًا يبقر عنقها فيجتثّ الروح عن جسدها، فتابعت "حبيبة" برجاء:
- كفاية يا بنتي، لو مش عشانك فعشان ابنه اللي في بطنك، كفاية يا حبيبتي بالله عليكي، ذنبه إيه هو تعذبيه معاكي بالشكل ده؟
تقوقعت "يارا" على نفسها تضُم بطنها بذراعيها بجانب ملابسه، ثم صرخت بنبرة أشدّ ألمًا:
- أنا عايزة يامن.. هاتيلي يامن يا ماما، يامــن، آآه
..............................................................
انتفضت من غفلتها فزعًا و قد نهج صدرها علوًا و هبوطًا و تفصّد جبينها بحبات العرق اللامعة، رائحتهِ التي اخترقت أنفها أيقنت لها أن ما رأتهُ كان مجرد كابوس، كابوس لا يمتّ لواقعها بصِلة ابتعلت ريقها و هي تعتدل في جلستها، بسطت كفها الذي يتخبّط في أشياء لا تدركها بسبب انعدام الإضاءة، كما يحبّ "يامن" تمامًا، ارتعادها تفاقم حين تفاجأت بالفراش فارغًا منه عكس ما اعتادت بالأيام السالفة، و بالصقيع يتلقاهُ كفها،   تلفتت "يارا" حولها هلعًا لتجد نفسها لا تزال قيد جلستها على الفراش، بسطت كفها الآخر لتفتح المصباح الكهربيّ فصدح الضوء الشبه الخافت منهُ و هي تعتدل في جلستها، انخفضت نظراتها الغير مستوعبة لتجد حاجياتهِ في أحضانها، أنفاسها تتهدج في ارتياعٍ، هزّت رأسها نفيًا و الدموع تتسابق للهبوط عن مقلتيها و هي تردد محاولة إقناع نفسها:
- لأ.. ده كابوس! كان كابـوس، كابوس مش حقيقة
نزحت الغطاء المُدثّر لجسدها عنهُ فجحظت عيناها و تلاحقت أنفاسها و نبضاتها تقرعُ في أذنيها، تكاد تخرجان عن محجريهما زرقاويها اللتان ترنوان بنظرة غير مستوعبة لملابسها المخضّبة بلون السائل الأحمر القاتم الذي نبع من زوجها، و لم تشعر بنفسها سوى و هي تصرخ بأعلى صوتٍ لديها مستهجنة تلك الحقيقة الفعليّة:
- يامــن لــــــــأ!
.............................................................
كم ودّت لو احتوتهُ في أحضانها، لو ربتت على كتفيه، لو منحتهُ كلمة تخفف عنهُ ما بهِ من حزن لفقدان ابن عمّه، و لكن على العكس.. كان "فارس" هو المحتضن لـ ابن عمّه الآخر "عمر"، محاولًا التخفيف عنه، و هي تراقبهما  عن مسافة ليست بالبعيدة، في بهو القصر، تدرك أنهُ لم يكن مجرد ابن عمّ بالنسبة إليه، و تردك جيدًا أنه يكبت بشقّ الأنفس انهياره، و هو يحاول أن يواسي الأخير، نزحت "ولاء" عبرة أخرى سقطت منها سهوًا و هي محملقة بهما، حتى تنبهت لقول "يورا" عقب أن حررت تنهيدة حارة:
- حاسة إنك بتعيطي عشان فارس، مش عشان يامن
نظرت "ولاء" نحوها بأعينها الدامعة، ثم أخفضتهما عنها و هي تردّ بلا مراوغة:
- معاكي حق يا يورا، قلبي واجعني عليه أوي
و زفرت أنفاسها مستثقلة ما ستقول:
- يا ريته حتى بيبكي أو بيظهر جزنه، لكن اللي مخوفني إنه كاتم كل حاجة جواه
شردت "يورا" قليلًا، ثم بدأت تبحث عن والدتها بعينيها، محاولة إيجادها دون أن تضطر للسؤال عنها، و لكن "ولاء" لاحظت ذلك، فنظرت لها من طرفها قائلة:
- ماما طلعت ليارا فوق يا يورا، بتحاول تدخل أوضتها مع إنها رافضة
حمحمت "يورا" محاولة مواراة ارتباكها الزائد لدى قولها المفاجئ، ثم رددت مراوغة:
- هي.. يارا مش ناوية تحضر أيام العزاء؟.. تاني يوم خلص و هي لسه مخرجتش من الأأوضة
تمزق نياط قلبها و قد لاح أمام عينيها ما لم تحبذهُ، حيث وضعت نفسها مكان شقيقتها لثانية، فتخيّلت أنها فقدت "فارس"، و حرمتها الحياة القاسية نعمة وجوده في حياتها، أجفلت لدى ذلك الشعور، و أحنت أهدابها و هي تردد بشجن مفزوع:
- ربنا معاها، شعور صعب أوي
ارتفعت نظرات "يورا" تدريجيّا لدى تلك السيدة التي تقدمت منها، فوقفت على قدميها بتلكؤ و هي تحدق بها، انفرجت شفتاها بابتسامة متسعة تبيّنت أسنانها اللؤلؤيّة من خلفها، فمن فورها هتفت مهللة:
- ماما!
و ركضت نحوها لترتمي في أحضانها و هي تردد بحبور:
- ماما.. وحشتيني أوي
ابتعد "عمر" تدريجيّا عن "فارس" و هو يستخدم منديله الورقي لينزح عبراته، ثم رمق تلك السيدة بنظرة خاطفة، و سأل بازدراء:
- مين دي؟
وقف "فارس" على قدميه و قد اشتدّت تعبيراته، ثم ردد:
- خليك هنا يا عمر
و خطى نحو تلك السيدة، حتى ابتعدت "يورا" عنها، و قد تلاشت بسمتها، ازدردت ريقها بتوتر حين رأت تلك الشرارت المتبادلة بين عينيّ "هوليا"، و "فارس"، حتى رددت "يورا" مبادرة:
- فارس، ماما آ...
فـ بزغ صوت "ولاء" المهتاج من خلفهما و قد توقفت على قدميها:
- انتي إيه اللي جابك هنا!.. مش شايفة الظروف اللي احنا فيها؟ و لا انتي ما صدقتي يامن مات و مفكرة إنك هتعرفي تاخديها!
عاتبتها "يورا" لحديثها الجاف، قائلة:
- ولاء.. لو سمحتي مـ..
فقاطع "فارس" حديثها بصرامة و هو يحدج "ولاء" بنظرة محذرة:
-متدخليش يا ولاء، الموضوع ميخصكيش
نظرت "ولاء" لهُ معاتبة موقفه الجاف معها، ثم عاندت في قولها:
- لأ يخصني يا فارس، دي أختي
فصرخ فيها دون وعي:
- قولت متتدخليش، خلصنا!
توسعت عينا "ولاء" غيظًا و قد فغرت شفتيها في ذهول، و رغمًا عن أنفها التزمت الصمت، و لكنها بادلته نظرة معاتبة بضيق، سحبت "ولاء" عكازها، و شرعت تخطو منصرفة لغرفتها التي أُعدت لها، تابعتها نظرات "فارس" المتوهجة حتى اختفت، فالتفت لـ "هوليا" و هو يردد عاقدًا ساعديه أمام صدره:
- جاية تعملي إيه يا هوليا هانم؟.. تشمتي في موت ابن عمي!
شملتهُ "هوليا" بازدراء، ثم التفتت لابنتها و هي تمسح برفق على وجنتها متساءلة:
- انتي كويسة يا يورا؟.. حصلك حاجة؟
و قبا أن تهمّ "يورا" بإجابتها، كان "فارس" بزأر باهتياج:
- انطقي، جاية تهببي هنا إيه
وبّختهُ "يورا" لتصرفه اللاذع مع والدتها و هي ترمقه بانزعاج:
- فارس لو سمحت، ماما أكيد مش قصدها تـ...
قاطعتها "هوليا" غير عابئة بهِ:
- سيبك منه يا يورا، يالا بينا عشان هنمشي من هنا!
فهمست "يورا" و هي تعقد حاجبيها:
- نمشي!
حينها جأر "فارس" بصوتهِ باستهجانٍ تام:
- ده في أحلامك يا هوليا، مش عشان يامن مات خلاص هتسوقي فيها
·     و بسط كفهُ ليغرس أناملهُ في عضد "يورا" ليجتذبها لجوارهِ، ثم ردد بإصرار عنيد و قد بدت لهجتهِ حالكة:
- بنت عمي مش هتتحرك من هنا غير مع أمها الحقيقة يا هوليا، سامعة!
اندفعت الدماء الغاضبة في عروق "هوليا" حتى كادت تتفجر، ثم صرخت بشجب:
- أنا أمها
- بأمارة إيه يا هوليا!
انحرفت نظرات "هوليا" نحو الدرجات، لتجد "حبيبة" تستقلهم للأسفل، حتى أقبلت بخطاها الواثقة عليها، بدت أكثر شموخًا على الرغم من ذلك الذبول، و تلك التجاعيد التي شرعت تغزو بشرتها، توقفت "حبيبة" أمامها مباشرة و هي تسأل برأس مرفوع:
- تقدري تقوليلي بأمارة إيه أمها؟
تلجلجت قليلًا، و بهت وجهها، و لكنها ادّعت الاثبات التام و هي تبرر موقفها بتصميم:
- أنا اللي ربيتها و كبرتها و ....
قاطعتها "حبيبة" بضجر أبدتهُ في نبرتها:
- و علمتها و سهرت جمبها، كل ده معروف يا هوليا
و أشارت بسبابتها لنفسها و هي تردد من بين أسنانها:
- أنا بقى اللي حملتها في بطني تسع شهور، و اتحرمت من إني أشوفها مرة واحدة، اللي اتحرمت من لمستها، من حضنها، اتحرمت من حنانها عليا، اتحرمت من وقفتها جمبي، اتحرمت من إني حتى أسمع كلمة ماما على لسانها!
 فأعربت "هوليا" عن سخطها و هي تغمغم:
- مش ذنبي، اللي حصل مكنش ذنبي
فتابعت "حبيبة" و كأنها لا تصغي إليها و هي تنقر بسبابتها على كتف "هوليا" عد مرات:
- لكن انتي اللي شبعتي منها طول السنين دي، و أنا اللي خلفتها اتحرمت من كل ده!
و تلوت شفتيّ "حبيبة" استهزاءً و هي تقول:
- يمكن اللي حصل مكنش ذنبك، لكن انتي واحدة أنانية و مش عايزة غير البنت تكون معاكي و بس
فصرخت "هوليا" و قد اصطبغ وجهها بالحمرة القانية:
- معتش في حد هيمنعني عن بنتي، أنا هاخدها و هنمشي من هنا
التفتت "حبيبة" و قد بدى بريق العبرات في عينيها، لتسلط نظراتها على ابنتها، ثم رددت من بين أسنانها:
- لو انتي مكانش ذنبك.. فأنا كمان مكنش ليا ذنب يا هوليا، أنا اتحرمت من بنتي من غير أي ذنب، اتعاقبت بحرماني منها طول السنين دي، حتى في اليومين اللي كانت معايا فيهم، اتحرمت حتى من إني أخدها في حضني و أشبع منها
و تنهدت "حبيبة" بحرارة، مستثقلة ما ستقول، أطبقت جفونها و قد عقدت العزم على القول:
- شوفي يا بنتي.. كلمة مش عايزاكي تنسيها، أنا لا ظلمتك و لا جيت عليكي، و لا ارتكبت ذنب تعاقبيني عليه، أنا لو عارفة إنك عايشة كنت حاربت الدنيا عشان أوصلك
و فرّقت جفونها و هي تحيد عنها متابعة:
- و بس، مقدرش أقول حاجة زيادة
و بسطت كفها نحو "هوليا" مستأنفة بجفاء تام:
- عايزة تمشي.. اتفضلي امشي، مش هسيبك تقضي باقي عمرك معايا غصب
و ارتكزت بعينيها على مقلتيّ ابنتها مباشرة:
- و ده مش عشان مبحبكيش، ده عشان حب الأم بيجبرني أدوس على قلبي تاني و أخسرك، عشان بس تكملي حياتك سعيدة، مع الست اللي انتي اختارتيها، و مفكرتيش للحظة، في أمك الحقيقة.. اللي يمكن مش باقي من عمرها كتير!
تراجعت "حبيبة" خطوة للخلف عن محيطهم، و كأنها تترك لها فرصة الاختيار، ضامة كفيها معًا، موارية توترها و مُبدية فقط ثباتها التام، و هي تشيح بوجهها عن الجميع، في حين نظر لها "فارس" من زاوية عينه بانزعاج، زفر في حنقٍ من موقفها المتخاذل، ثم حاد بنظراته المستشاطة ليواجه بها "هوليا" التي اتسعت ابتسامتها الظافرة و هي تبسط ذراعيها لابنتها، ثم قالت تحثّها على الحراك:
- تعالي يا يورا، تعالي يا حبيبتي، خلينا نمشي من هنا
أومأت "يورا" في امتثالٍ لها، ثم خطت خطوة ناحيتها، و لكنها توقفت بينهما، من خلفها "حبيبة"، و "هوليا" أمامها، و هي في المنتصف، و كأنها علقت بالكامل، و تم حشرها بين المطرقة و السندان، حانت منها التفاتة أخيرة نحو "حبيبة"، محاولة ردع تلك الخفقات المتتالية التي تدوي في أذنيها، ابتلعت "يورا" ريقها و قد لاحت لها نظرات الآسى و الالتياع في مقلتيّ "حبيبة" على الرغم من محاولاتها الجمّة لإخفائها، نحّت "يورا" عينيها عنها، محنية أهدابها في ضيق لما يعتمل في نفسها تلقاء تلك المرأة التي لم تعايش معها سوى بضع أيام لم تكن تكفي، و لكن.. و كأن القلب يميل إليها رغم أي شئ، كونها جزءً منها تجري دمائها في أوردتها، أطلقت "يورا" زفيرًا ملتهبًا حين أصغت لصوت "هوليا" التي انعقد حاجبيها في وجلٍ لترددها، و قالت تشجعها من جديد:
- تعالي يا يورا، وقفتي ليه!
 التفتت "يورا" نحو "فارس" فقبّض كفيه حين واجه نظراتها المستنجدة، و كأنها تطالبهُ برأيهِ، و تستشيره عما يمكن أن تفعل، و لكنه رمقها بنظرة غامضة لم تتفهمها، ثم أشاح بوجهه عنها و هو يزفر متأففًا..
ضمّت "يورا" شفتيها و هي تصرف البصر لـ "هوليا"، ارتكز بؤبؤيها في مقلتيها، فتجسّد طيفهُ أمامها، في لحظاتٍ ماضية لاحت أمام عينيها، لقد واراهُ التراب، و لكن كلماتهِ لا تزال عالقة في أذنيها متشبثة بمسامعها، فعادت تتردد عليهما و كأنهُ يقف أمامها، بكامل صرامتهِ و هيبتهِ و تجبّره، لربما حقدت عليه.. و لكن للحق يقال أنه لم يخطئ، محلّها الفعلي و موطنها كان لزامًا أن يكون بين ذراعيّ "حبيبة"و "ولاء".. "يارا".. توأمتها التي شاركتها موطنهما قبل أن يولدا، توأمتها التي تواجه حدث بشع بكل تفاصيله، و كأنها تواجه الموت بنفسهِ، و لا تتمكن من أن تحصل عليهِ،.. لا هي تتمكن من أن تخسر حروبها معه، أو حتى تنتصر و تجمع غنائمها،.. لا "هوليا"..
 "هوليا" على الرغم من أي شئ، على الرغم من كونها أحبتها كابنة من رحمها، إلا أنها لم تتناسى بيُسر بالغ أنها أخفت عنها حقيقة كتلك، تلك اللحظة التي أدركت فيها الحقيقة و واجهتها بها مرّت أمام عينيها، فالتصقت تلك الفكرة بجدران ذهنها، من تقف أمامها ليست سوى مجرد خاطفة.. اختطفتها من والدتها الحقيقيّة، فقط لتظل دومًا معها.
اشتدت ملامح "يورا"، و عبست تقاسيمها فجأة، متذكرة أنها حرمتها على الأقل من ذلك الحق، كان عليها أن تمنحها فرصة الاختيار، كما منحتها إياها "حبيبة" رغم أنها لم تحيا برفقتها سوى أيام معدودة، و لم تكتفِ بعد من بقائها في حياتها، بل و للحق يُقال أنها لم تحيَ معها قبلًا، تلك الأيام الماضية لم تقضِ برفقتها سوى القليل، و حينها لم تعاملها سوى بمنتهى الجفاء و القسوة، و كأنها أجرمت و اقترفت ذنبًا لا يغتفر، على الرغم من كونها لم ترتكب في حقها أية خطيئة.
قطعت "يورا" خطوة للخلف، متجاهلة ذراعيّ "هوليا" الممتدتين نحوها، فتوسعت عينا "هوليا" في عدم استيعاب لفعلتها، رمت عدة مرات و هي تردد بتوجّس لاح على تقاسيمها:
- بتعملي إيه يا يورا؟.. تعالي يا بنتي، تعالي!
رفعت "يورا" رأسها عقب أن حانت منها التفاتة نحو "حبيبة" التي نظرت نحوها أخيرًا من جديد، متطلعة إليها في شدوهٍ و قلبها يخفقُ في عدم تصديق، حادت "يورا" عنها لترتكز بمقلتيها على عيني "هوليا"، ثم أجابت أخيرًا بلهجة قوية:
- لأ!
- إيـه!
كلمة مستنكرة خرجت من "هوليا" و قد تقلصت المسافة بين حاجبيها، و تجلت تلك النظرة المستهجنة في عينيها، فرددت "يورا" و هي تحرك رأسها بإيماءة خفيفة مؤكّدة:
- زي ما بقول يا ماما هوليا، أنا من حقي أختار، من حقي أعرف عيلتي الحقيقة
ارتخت تعبيرات "فارس" المشدودة قليلًا، و هو يتطلّع لـ "يورا" بنظرة جادة لاح الرضا فيها، في حين أردفت "يورا"، دون أن تحيد عن "هوليا":
- من حقي أفضل مع توأمي المنهارة بسبب موت جوزها، و من حقي أفضل مع أختي اللي بتمشي بعكاز و أسندها
و لاحت في مقلتيها نظرة متعاطفة و هي تلتفت نحو "حبيبة"، لتمنحها نظرة مطولة لامعة، جعلت عينيّ "حبيبة" تذرف الدموع الغزيرة تلقائيًا، فاستأنفت "يورا" بلهجة متراخية:
- من حقي.. أفضل مع أمي الحقيقة اللي مرتكبتش ذنب واحد في حقي أقدر أحاسبها عليه ببعدي عنها!
و حادت بعسر بالغٍ عنها و قد برقت الدموع في حدقتيها، و هي ترمق "هوليا" بنظرة جادة، فلم يكن من العسير عليها ملاحظة تلك الحمرة التي تشبّعت عينيها بها، و قد تشربت وجنتيها بحمرة غاضبة و هي تخطو خطوة نحوها، ساحبة ساعدها إليها مرددة باستهجان:
- و أنا!.. مش من حقي عليكي إني آخدك من هنا؟.. مش من حقي أجبرك تيجي معايا بعد كل حاجة عملتها عشانك!
اجتذبت "يورا" ذراعها منها بشئ من العصبية و هي تردد بسخط:
- لأ مش من حقك، مش من حقك تحرميني من عيلتي الحقيقة، مش من حقك تفضلي تحرميني منهم طول العمر، كفاية أوي انك عرفتي الحقيقة و سكتتي، و رفضتي حتى تعرفيني مين أمي و مين عيلتي!
فقالت "هوليا" و هي تشير لنفسها بكفيها، بإصرار قاتم:
- أنا أمك.. أنا عيلتك، أنا كل حاجة بالنسبة لك!
فصرخت "يورا" حينئذ و هي تتخذ خطوة أخرى للخلف بنفاذ صبر:
- كفاية بقى يا هوليا، كفاية كذب بقى، أنا حياتي كلها كانت كذب
و التفتت لتنظر لـ "حبيبة" و قد تهدجت أنفاسها، ثم خطت نحوها حتى توقفت أمامها مباشرة، ثم رددت بلهجة مُشتدة:
- أنا عيشت كذب كتير، و جه الوقت اللي هعيش فيه الحقيقة
و حانت منها التفاتة نحو "هوليا" التي استشاطت و توسعت عيناها في امتعاض، ثم قالت ضاغطة على كلماتها:
- حقيقتي يا هوليا، حكايتي و حقيقتي، مش كذبة تانية هرغم نفسي أكمل باقي حياتي
و انحرفت نظراتها ذات المغزى الواضح لـ "فارس"، و قد تسلطت مقلتيها على عينيه العسليتين، فمنحها "فارس" إيماءة لا تكاد تلحظ، معربًا عن تأييده لتلك الخطوة التي خطتها في حياتها، فقالت "يورا":
- عشان.. عشان ميجيش الوقت اللي هندم فيه عن اللحظة دي، لو جيت معاكي.. فأنا عارفة، لأ.. متأكدة إني هندم، إني مديتش لنفسي الفرصة حتى!
فصاحت "هوليا" استنكارًا:
- أنا حقيقتك.. أنا أمك، أنا حكايتك، أنا يا يورا، كل حاجة كذب، أنا الحقيقة الوحيدة
حادت "يورا" عنها غير عابئة بكلماتها، لتنظر نحو" حبيبة" التي تقلصت تعبيراتها في تأثر، و قد فاضت الدموع من عينيها، لاح على ثغر "يورا" ابتسامة باهتة، و هي تردد موجّهة لها حديثًا للمرة الأولى، مُستأذنة:
- ممكن تديني الفرصة و تسامحيني؟
كتمت "حبيبة" شهقة متأثرة انفلتت منها بكفها، و بذراعها الآخر كانت تلفّه حول عنق ابنتها لتجتذبها إليها فأحاطتها "يورا" بذراعيها مستسلمة لها، في عناقٍ اعتصرتها فيه "حبيبة" و قد تركت عنان شهقاتها العالية، دفنت "يورا" وجهها في كتف "حبيبة" و قد هبطت العبرات الحارقة على وجنتيها، مستشعرة إحكام ذراعيّ "حبيبة" حولها، و كأنها تحاول روي تعطّشها للحظي بتلك اللحظة، التي ظنتها بعيدة المنال، كبُعد النجوم البرّاقة، دون أن تعقب بحرفٍ واحد، فبادرت "يورا" بالترديد الهامس جوار أذنها:
- مش عايزة غير إنك تديني الفرصة دي، و أنا هحاول صدقيني.. هحاول أتقبل كل حاجة!
تنهيدة ملتاعة صدرت عن فاه "حبيبة" و هي تقبض جفونها بعنفٍ، تاركة لرائحة ابنتها التسلل لمراكز الحسّ و الإدراك بذهنها، ثم قالت من بين النحيب المكتوم:
- قلبي مفتوحلك يا ضنايا، آه يا بنتي لو تعرفي أنا استنيت اللحظة دي إزاي، آه
مسدت "يورا" برفقٍ على ظهرها، ثم تراجعت.. تحرم نفسها من التلذذ بذلك الدفء الرهيب، و الحنان النابع من تلك المرأة، لتلقي نظرة إلى وجهها، و بأطراف أناملها المرتعشة نزحت عبرة تليها أخرى تنحدر على وجنتيّ "حبيبة"، أثناء قولها و هي تلوى ثغرها بابتسامة مرتجفة بتأثر:
- سامحيني، أنا كنت غبية أوي معاكي
سارعت "حبيبة" بلهفةٍ مشتاقة، بالمسح برفقٍ تام على وجنتها، و هي تقول نافية قولها:
- متقوليش كده يا حبيبتي، انتي ملكيش ذنب في حاجة
 و انفلتت منها شهقة أتبعتها بترديدها:
- كفاية إنك رجعتيلي بعد كل حاجة يا بنتي
بزغ صوت "هوليا" الغير مستوعب من خلفهما:
- يعني إيه يا يورا؟.. هتسيبيني؟ بالسهولة دي؟ هتسيبيني عشان واحدة مكنتش تعرف حتى بوجودك؟
تنهدت "يورا" بضيق، و هي تحنى أهدابها في إنزعاجٍ شديد، ثم تملصت من ذراعيّ "حبيبة" لتخطو نحو "هوليا"، و بلطفٍ شديد مسحت على وجنتها، و هي تقول محاولة رسم الابتسامة على ثغرها:
- أنا عمري ما هسيبك يا ماما هوليا، هفضل جمبك دايمًا، و عمري ما هنسى كل حاجة عملتيها عشاني، في النهاية انتي الست اللي مقدرش أنكر جميلها ناحيتي
و أحنت رأسها في استياء و هي تغمغم بـ:
- لكن.. من حقي أكمل حياتي مع الست اللي معاشتش معايا و لا...
تراجعت "هوليا" للخلف و هي تنزع كفها عنها منفضة له، ثم قالت في امتعاضٍ مستنكر:
- يعني هتعيشي معاها بردو؟ هتسيبيني عشانها؟
فاستدركت "يورا" بقولها المتعهد لها:
- هاجي أزورك من وقت للتاني، و مش هبطل أكلمك، هتفضلي الام اللي ربيتني و ...
قاطعتها "هوليا" و هي تشير بسبابتها نحو "حبيبة" بازدراء:
- و تكملي حياتك معاها هي؟.. فاكرة إنها هتحبك و لا هتقبلك!
و تلوت شفتيها في سخطٍ و هي تردد:
- انسي.. الست دي مش هتعتبرك بنتها في يوم، الست دي معندهاش غير بنتين، و انتي ملكيش وجود!
ففالت "حبيبة"  مُحتجّة و هي تعقد حاجبيها:
- مش من حقك تحكمي عليا و تحاولي تكرهي بنتي فيا بأي شكل يا هوليا
نكّست "يورا" رأسها في حنق، ثم قالت بشئ من الاحتداد الطفيف:
- ماما هوليا، لو سمحتي بلاش تـ..
قاطعتها "هوليا" من جديد باستشاط، رافضة أن تصغي للمزيد من ذلك الهراء:
- انتي كمان هتدافعي عنها!.. في لحظة واحدة محيتيني من حياتك!
فرددت "يورا" و قد تغضن جبينها معاتية بلطف:
- ماما!
تراجعت "هوليا" خطوة و هي تمنحها نظرة جافّة ثم رددت و كأنها تتوعد لها:
- اسمعي يا يورا، لو مفكرة إنها هتحبك تبقي غلطانة
و أشارت بسبابتها لنفسها و هي تتابع بقسوة:
- محدش في الدنيا هيحبك قدي يا يورا
و ارتفع ذقنها في كبرياءٍ، قائلة بلهجة قاتمة و قد اسودّت ملامحها:
- و بكرة أفكرك يا يورا!
مررت "هوليا" النظرات الحالكة بينهم، ثم رمقت ابنتها بنظرة أخيرة، و استدارت لتبرح مكانها بخطى متشنجة، منصرفة من ذلك المكان الذي أطبق على صدرها، و هي تغمغم بكلمات تنُم عن تمقّطها التام، استشعرت "يورا" ذلك الألم المباغت بقلبها و كأن "هوليا" دعسته و مضت..
 راقبت رحيلها بأعين فاضت بالالتياع، كونها فقدت توًا شخصًا كـ "هوليا"، و لكنها أقنعت نفسها أنها لم تخطئ، و أنها فقط اختارت الصواب لها، أحنت نظرها لتحدق في موضع قدميها قابضة على شفتيها، حتى استشعرت تلك التربيتة على كتفها، فرفعت أنظارها نحو "فارس" الذي منحها نظرة مؤازرة، ثم قال:
- متقلقيش يا يورا، دي لحظة غضب، لو عايزة تحاولي تكلميها محدش هيمنك من ده
دارت "حبيبة" حتى وقفت أمامها مباشرة، فسحبت كفيها إليها لتمرر إبهامها عليه و هي تضُمهما بكف واحد، ثم بكفها الآخر مسحت على وجنتها برفقٍ مغمغمة بتعهّد:
- و الله يا بنتي ما همنعك عنها، اللي انتي عايزاه هعملهولك
و رفعت كفيها لتلثُم ظاهرهما، ثم قالت و كأنها تتوسلها و قد عادت العبرات تستقرّ على خديها:
- لكن متسيبينيش يا بنتي، ده أنا ما صدقت إنك معايا!
سحبت "يورا" كفيها على الفور، ثم ارتمت في أحضانها، تلفّ ذراعيها حول عنقها قائلة بلهجة عذبة:
- متخافيش يا حبيبة، مش هسيبك.. صدقيني!
لاحظت "حبيبة" انها لم تناديها بلقبها كأمها، فـ أدركت أن الطريق لا يزال طويلًا حتى تصل لتلك المرحلة، و لكن.. تكون طماعة إن طمحت بالمزيد، يكفيها فقط أن ابنتها تقبعُ في أحضانها بكامل إرادتها، يكفي أن ابنتها اعترفت بها في داخلها، رغم أن لسانها لم ينطقها بعد.
..............................................................
الأيام تتفاوت.. و الكل يعود لحياتهِ مرغمًا، فهي هكذا، لن تتوقف على أحدهم، و إن كان ذلك الشخص هو ابن عمّه الذي اعتبرهُ في مقام أخيه، و لكنها الحياة للأسف، عليه أن يتظاهر بأنه تعدى تلك المرحلة، و أنه تجاوز ذلك الجرح الذي لم و لن يبرأ في داخلهِ.
ترك "فارس" فنجان قهوتهِ جانبًا، فأشارت إليهِ لتلح عليه كي يتناول ما ترك أمامه من حلوى منزلية الصنع:
- اتفضل يا ابني
فرفض "فارس" بجديّة تامة، و قد أضحت ملامحهِ في عبوس دائم و تجهّم صارم:
- شكرًا ليكي
انحرفت نظراتهِ لدى الباب الذي دلفت "رهيف" بإزار الصلاة منهُ توًا، غير عابئًا بنظرات "سعاد" التي تتفحصهُ في فضول، ضمت "رهيف" كفيها معًا و هي تنظر نحوه من طرفها، فنهض "فارس" ليرحب بها بخشونة:
- أخبارك إيه يا آنسة رهيف
أومأت "رهيف" في ارتباك و هي تدمدم:
- الحمد لله يابشمهندس، إزي حضرتك؟
فأجابها "فارس" بإيجاز:
- تمام
مضت" رهيف" نحو أحد الأرائك لتعتليها، متجاهلة نظرة والدتها المستوضحة، و التي انحرفت نحو "فارس" و هي تعقد حاجبيها حين قال مستأذنًا إياها بصلابة:
- أستأذنك يا مدام، معلش محتاج أتكلم مع رهيف على انفراد!
ضاقت عينا "سعاد" استنكارًا، و استغرقت دقائق حتى اضطرت أن تنهض عن مقعدها مرغمة، قائلة بتذمر متوارٍ:
- طبعًا يا بشمنهدس
و انصرفت من الغرفة، تتابعها نظراتهِ ليتيقن من دحورها، زفر "فارس" زفيرًا عميقًا و هو يحرف نظراته نحو "رهيف"، ثم بادر حديثهُ دون أن يراوغ كثيرًا:
- شوفي يا آنسة رهيف، أنا جايلك عشان أفهمك حاجة واحدة
رمشت "رهيف" عدة مرات بتوتر، و هي تعبث في أكفيّها، حينما قال "فارس" مردفًا، و هو يتعمد أن يخطئ في الاسم ثُم يصححهُ:
- مايكل.. أقصد يوسف
خفقة متمردة طغت على باقي خفقاتها مع ذكر اسمهِ أمامها، و رغمًا عنها كانت تنحي عينيها لتتلاقي مع عينيه و قد التمعتا في شوقٍ مستعرّ لدى نطق اسمه، و من فورها أحنت أهدابها و هي توارى التردد البادي في نبرتها المتلعثمة:
- يا.. بشمنهدس، مش فاهمة إيه اللي يخلي حضرتك تيجي لهنا عشان..
- عشان بيحبّك!
قاطعها " فارس" مباغتًا بنبرة جامدة، فحملقت عيناها و قد فغرت شفتيها و كأنه سكب دلوًا من الثلج فوق رأسها، أصرفت "رهيف" بصرها تلقاء وجههِ، و قد كادت عيناها تخرج عن محجريهما، و هي تحبس أنفاسها في صدرها، فأومأ "فارس" مؤكّدًا بثبات:
- يوسف بيحبك.. لكن مقدرش يعترف لك بده حتى!
نهضت "رهيف" عن جلستها و هي تشيح بوجهها عنهُ، ثم قالت مُحتجة بضيق:
- لو سمحت يا بشمهندس، انا مش شايفة ان الكلام ده ليه لزوم دلوقتي و ...
- ليـه؟.. عشانه كان مسيحي؟
أطبقت "رهيف" جفونها في تألمٍ بادي، ثم قالت _عقب أن حررت زفيرًا حارًا من صدرها_ بخفوت:
- مش.. مش ده الموضوع، لكن..
و صمتت مبتلعة كلماتها، غير قادرة على التعبير عن وجهة نظرها، فأردفت باضطراب محاولة التبرير:
- احنا.. عكس بعض، من عالمين محتلفين يا بشمهندس، أنا آسفة لكن...
قاطعها "فارس" إينذاك آمرًا إياها و هو يشير لأريكتها:
- اقعدي يا آنسة رهيف، خلينا نتكلم بهدوء
جلست "رهيف" راضخة له و هي تستأنف عبثها في أنامل كفيها، فمال "فارس" بجذعه، مستندًا بمرفقيه لركبيته و هو يشمل تقاسيمها بنظرة ثاقبة، ثم قال:
- الكلام ده كله ميفرقش معايا، يوسف بيحبك، لكن خايف.. خايف حتى إنه يعترف لك بالحب ده تتهميه بالكذب أو الاستخفاف بالدين!
عضت "رهيف" شفتها السفلى، ثم قالت محاولة إنهاء الجدال:
- يا بشمهندس أنا بعتذر، أنا مش عايزة إني....
قاطعها "فارس" بلهجة ثاقبة:
- متحاوليش تنكري إن ده مش أول حاجة جت في دماغك أول ما قولت إنهُ بيحبك، طبعًا هتقولي إنه أسلم عشان يقدر يتجوزك
فلم تكن لتراوغ حينئذ، و قالت باستهجان:
- و دي الحقيقة يا بشمنهدس، واحد زينه عمره ما اهتم بدينه، مكانش صعب عليه أبدًا أنه يغيره بس عشان ينول غرضه!
ارتفع كتفيّ "فارس" و هو يقول ببرود:
- حقك.. حقك تفكري كده، لكن قوليلي
و ضاقت عيناهُ و هو يردد:
- لو كان أسلم عشان بس يتجوزك، ليه لغاية دلوقتي محاولش يكلمك في الموضوع ده، و محاولش حتى إنهُ يتقدملك؟
ارتبكت "رهيف" أكثر، فعبست في وجهه و هي تقول بتبرم:
- معرفش، و مش عايزة أعرف
و نظرت نحوه من طرفها و هي تقول بلهجة ذات مغزى:
- لكن وجودك قدامي و انت بتحاول تقنعني بيه كافي إنه...
فـ اقتطع "فارس" صوتها و جعلها تبتلع كلماتها في جوفها بقولهِ الصارم متعمدًا التشديد على مقصده:
- يوسف.. ميعرفش أي حاجة عن وجودي هنا، و معتقدش إن في سبب يخليني أكذب يا.. رهيف!
تفاقم ما بها من اضطراب و هي تتهرب بنظراتها منه في وجل، تلاحقت أنفاسها نوعًا ما، و دقاتها تكاد تصُم أذنيها، فقال "فارس" و هو يقف مستقيمًا:
- شوفي يا رهيف، أنا مش طالب منك غير تفهمي حاجة واحدة، يوسف أسلم.. بسببك انتي، مش عشانك!
توسعت عيناها حين أدركت مقصده و هيتطلع إليه في شدوه، فتابع "فارس" بإيماءة مُؤكدة:
- وجودك في حياته خلاه يفكر في الاسلام أكتر، خلاه يبحث و يدور و يغير نفسه بنفسه، خطوة بخطوة، لغاية ما قرر إنه ياخد الخطوة دي، بعد اقتناع تام بيها
و صمت هنيه، ثم تابع بلهجة ذات مغزى و هو يحكّ صدغه:
- تعرفي.. يوسف لما سألته عن سبب الاسم قال إنه مقتنع إنه بيشبه يوسف، لأنه كان في قاع البير، و السيارة ساعدوه، و لو إنهم سابوه بعدها!.. تفتكري مين اللي ممكن يكون نجاه؟
كلماتهِ العميقة جعلت تلك اللحظة العابرة تمرّ أمام عينيها، حين أصغى "مايكل" لآيات من سورة "يوسف" قبلًا، ظلت نظراتها المذهولة عالقة عليه، حتى قال "فارس" و هو يتهيّأ للانصراف:
- آخر حاجة حابب أقولهالك، فترة الخطوبة كافية بالنسبة لك عشان تتأكدي إن يوسف غير مايكل، و لو بس حسيتي إن كلامي غلط، ليكي كل الحق إنك تفسخيها، عن إذنـك
و انصرف من غُرفة استقبال الضيوف تاركًا لها محلها متيبسة تعصف بها الرياح العاتية و تتناطح أفكارها، فتغرقُ في غياهب بحور من التيه، في معكرة ناشبة بين القلب المُؤيد و العقل المُحتج بضراوة و لكنها تعلمُ جيّدًا أن رغبات القلب، ستنتصر و تحظى بظفرٍ غير مسبوق.
...............................................................
الرياح العاتية تعبثُ في وشاحها الحريريّ الأسود الذي أحاطت به خصلاتها، و هي تحدّق في شاهد قبرهِ، أضحت أكثر ثباتًا، و تماسكًا،..و إن كان ذلك زائف
 و لكنها بدت تحاول جاهدة الامتثال لأمرهِ السابق و هي تقف أمامه، أنهت "يارا" قراءة سورة الفاتحة، ثم مسحت على وجهها بكفيها، لم تقوَ على الوقوف أكثر، جلست "يارا" أرضًا، ثانية ساقيها أسفل منها، و قد بسطت كفيها أمامها، و كأنها تترقّب أن يحتويهما كفيه، وجهها الذابل أخفت معظم ملامحهِ بسبب نظارتهِ الشمسيّة التي ارتدتها، ابتسامة باهتة لاحت على ثغرها، ناقضت ما يعتملُ في صدرها، متعمدة أن تبدو أمامه بأفضل حال.
يقولون حينما يموت عزيز عليك.. تشتعل أربعون شعلة في القلب، يمر يومًا و يجرّ الآخر، فتنطفأ شُعلة تلو الأخرى، حتى يحين اليوم الأربعون، تكاد الشعلة تُخمد، تتراقص نيرانها إثر الهبوب الذي يحاول إطفائها، و دون سابق إنذار، يحيط الشعلة كفين يحولان دون إطفائها، كفين محمّلين بالذكريات، فتأبى تلك الشعلة أن تنطفأ، و تظلّ مضطرمة بالقلب المسكين لا يخمدها أي كائن كان.
و لم تقوَ.. شبح ابتسامتها، تزامن مع تلك العبرة الملتاعة التي شقّت الطريق على سواحل خديها من خلف زجاج النظارة، عبرة جرت عبرة أخرى، حتى تحولت تقويسة شفتيها للابتسام للحزن، فانفرجتا للأسفل و هي تخفض رأسها في آسى، و انفلت منها الزمام رغمًا عنها، فـ أجهشت بالبكاء، علّه يزيح عن قلبها تلك الأكوام المتحجرة من الوصب و اللوعة، عل تلك الدموع المنهمرة، أن تخمد تلك الشعلة، و إن كانت "يارا" تدرك جيّدًا، أن لا مجال لها للإخماد.
إنها.. عاجزة حتى عن تغيير النهاية، تعجز عن التشبثّ بهِ، و كأن عضلات ساعديها تُصاب بالشلل كلما حاولت بسط كفيها إليه لتحثّه على البقاء.
 تقف.. على أطلالهما، على أرض الحياد، على أرض الرفات، على حُطام السفينة التي لم ترسو، سفينة حطّمتها الأهوال، و صدمتها جبال الجلود، سفينة قاست، شُرخت، رُتقت، و تحمّلت، و كانت لا تفتؤ تنقّب عن مرفأها هنا و هناك دون تخاذل، و لكن ذرتها الرياح العاتية في يومٍ حالك تكالبت الغيوم به على السماء، تكاد تُصغي لصوت الأمواج المتلاطمة في صلف، و فحيح الرياح التي تعبثُ بالأشرعة في كبرياء كحية تسعى لتدميرها، و هي تقاوم.. و تقاوم.. و تقاوم، حتى وهنت، فكفّت المحاولة، و ارتضت بقدرها المحتوم حين ادركت ألا مفرّ لها منه، إنها تلك السفينة التي صعدت قسرًا على متنها، و ها هو قد منحها وسيلة الإنقاذ الوحيدة، و ألقى بها في غياهب البحر العميق لا يملك أدنى فكرة عما ستقاسيه وحدها و ظلّ هو ليكن الهلاك مصيرهُ.

-تمّت بحمد الله-
.

............................................................
..................
..................................................

في مرفأ عينيكِ الأزرق Where stories live. Discover now